logo
زحلة: من رسالة العودة (1860) إلى تشييد تمثال سيدة النجاة

زحلة: من رسالة العودة (1860) إلى تشييد تمثال سيدة النجاة

النشرةمنذ 3 أيام
بالـ"عَونة"، عمر الزحليون منازلهم المحروقة على يد العُثمانيين وحُلفائهم، في أحداث العام 1860. ولذا يُقال إن الزحليين تسودهم روح المحبة، إذ إنهُم تعاوَنوا في إعادة بناء منازلهم...
ولكن "في ما بعد، فقد أفسَدت السياسة كُل شيء" على ما يُؤكد الأرشمندريت الدكتور إيلي بو شعيا، في حديثه إلى وفد من مُدرسي "مدرسة المُخلص" - بدارو وإدارييها، زاره في زحلة في حزيران الفائت.
أضاف بو شعيا: "رسالة العذراء مريم، في هذا الإطار، يفهمها الزحليون، على اعتِبار أن نجاة كنيسة السيدة من الحرائق الشاملة والكاملة التي لم يسلم منها منزل، أو دار عبادة، أوكنيسة في زحلة... رسالة من السماء تدعو الزحليين إلى العودة إلى بلدتهم، سريعا ومن دون أي تردُد"...
لقد تيَقن الزحلييون أن السيدة العذراء تنتظر بنيها في "كنيسة النجاة" الناجية من الرماد... وأكثر من ذلك، نشأَت لدى الزحليين فكرة تشييد تمثال لسيدة النجاة، على أرض مُطلة من بلدتهم.
وفي العام 1958، زمن "الثورة" في لبنان، بقيت زحلة عصية على امتِداد الأحداث إليها، على رُغم انسحاب تلك الأحداث على كُل البلدات والمناطق اللُبنانية... ما دفع بالمطران أفتيموس يواكيم، إلى جمع الشبيبة لتقديم الشكر إلى العذراء التي لم تدع الحوادث الأمنية تصل إلى زحلة.
إن الشُكر بالنسبة إلى سيادته لم يكُن مُقتصرا على زمن الحُروب، بل وينسحب أيضا على "النجاة" من ويلاتها...
وكذلك بدأَت تنضج فكرة تكريم سيدة النجاة بإشادة تمثال لها في رُبوع مُطلة من بلدة زحلة.
ولاحقا، وقع الاختيار على قطعة أرض تعود ملكيتها إلى آل "سرور"، غير أن هؤلاء قد هجروا زحلة إلى "أميركا". وهُنا أخذ المطران على عاتقه السفر لمُقابلة أصحاب الأرض والتفاوض معهم... وبعد نيف وشهر من السفر بحرا، وصل المطران يواكيم إلى منزل آل سرور هُناك.
في البداية طالب أصحاب الأرض ببدل مالي لقاء منح أرضهم لتشييد تمثال العذراء عليها. ومن ثم، تم التوصُل إلى اقتراح يقضي بشراء أبناء زحلة الأراضي الواقِعة في مُحيط المكان المُختار لتكريم العذراء، في مُقابل أن تمنح عائلة سرور أربعة آلاف متر أرضا، لرفع التمثال ضمنها. وهذا ما تم فِعلا...
المرحلة التالية كانت صناعة تمثال السيدة العذراء، على يد الفنان الإيطالي الشهير آنذاك، بيروني.
ومرة جديدة تابع المطران يُواكيم شخصيا هذه المهمة، وسافر بحرا إلى إيطاليا... ولكن هذه المرة، كان برفقته مطران صيدا باسيليوس الخوري الذي ذهب بمهمة "التوصية" على تمثال آخر للسيدة ليُنصب في مغدوشة (سيدة المنطرة)!.
المطران يواكيم أراد أن تحمِل عذراء زحلة ملامح شرقية. وقد كان سيادته يتمَتع بموهبة التواصُل المُؤثر مع الآخرين، والحديث الشيق، ما دفع بالفنان الإيطالي إلى طلب زيارة زحلة، لفرط الإعجاب بما سمعه من المطران!. وقد تم ذلك بالفعل.
ويُذكر في هذا الإطار أن الشاعر الزحلي الكبير سعيد عقل، اجتمع ببيروني في بردونة زحلة. كما وحضر اللقاء أيضا الفنان نجيب حنكش.
وبعد جُهود مُضنية، وصل تمثال سيدة النجاة إلى زحلة: وزنُه سبعة أطنان ونصف الطن، طولُه تسعة أمتار، وأما قاعدتُه فترتفِع عن الأرض خمسة وسبعين مترا.
لقد باتت المهمة الآن رفع التمثال وتثبيته... فيما عجزت عن ذلك طائرة مروحية، بسبب ثقل الوزن وعدم إمكان التحكم بنقل التمثال الضخم.
لذا، فقد استُعين بونش ممهور باسم الـ "عيتاني"، استُقدم من مرفإ بيروت. والونش يعمل –كما هو معلوم- على البَكَرَة (POULINE). وكُلما تحركت البَكَرَة، ارتفع التمثال.
راح الناس ينظرون إلى ما يُجرى في دهشة، في حين أن التمثال ما كاد يصل إلى الارتفاع المطلوب، ولم يبقَ أمامه إلا حوالي خمسة وعشرين سنتمترا، حتى توقف فجأة عن الارتفاع.
وعبثا حاول العُمال رفع التمثال أكثر، ومن دون جدوى.
وقد طُلبت حينئذ مشورة المطران يواكيم الذي أوعز إلى المُؤمنين بأن يركعوا، في أماكنهم، ويُصلوا...
وحين بدأت الصلوات... حدثت المُعجزة، وانتقل التمثال تلقائيا، إلى قاعدته، بطريقة عجائبية!...
وفي هذا الإطار قال الأرشمندريت بو شعيا: "أكثر من مئتي شخص، أدلوا أمامي (خلال خدمته الكهنوتية)، بشهاداتهم عن تلك الأُعجوبة. وأحدهم يُدعى جورج ماروني".
ونقل بو شعيا عن ماروني قوله: "رأيت السيدة العذراء وكأنها قطعة خشبية تم إنزالها إلى أسفل المياه، ومن ثم عادت وطفت على السطح"...
سأله بو شعيا: "لماذا أعطيتني هذا التشبيه تحديدا؟"...
-"عبرت على هذا النحو كوني نجارا"!.
وبالعودة إلى الأُعجوبة، فقد أمسك الفنان نجيب حنكش بمكبر الصوت وأخذ يقول: "في عجيبة... كتر خيرِك يا عدرا"...
ومن ثم راح المُنادي يُنادي: "بدنا نبلش نجمع مصاري حتى نبلش نعمرو (للمقام)، ونكبرو"...
وتابع: "... بطرس 200 ألف تبرُع؟... 200 ألف... حنا 500 ألف... طانيوس 400 ألف"...
وفجأة صرخ المُنادي: "عجيبة أُخرى سيادة المطران... عجيبة ثانية: نجيب حنكش (المشهود له ببُخله) تبرع بليرتين اثنتَين"...
أخرج الأرشمندريت بو شعيا، في ختام لقائه زائريه من "مدرسة المُخلص" – بدارو، إحدى هاتين الليرتين قائلا: "عمرنا بليرة وهيدي الليرة التانية... عجيبة"!.
وبروح النكتة اختُتمت سيرة ناصعة من تاريخ زحلة الإيماني الكاثوليكي الملكي!.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

زحلة: من رسالة العودة (1860) إلى تشييد تمثال سيدة النجاة
زحلة: من رسالة العودة (1860) إلى تشييد تمثال سيدة النجاة

النشرة

timeمنذ 3 أيام

  • النشرة

زحلة: من رسالة العودة (1860) إلى تشييد تمثال سيدة النجاة

بالـ"عَونة"، عمر الزحليون منازلهم المحروقة على يد العُثمانيين وحُلفائهم، في أحداث العام 1860. ولذا يُقال إن الزحليين تسودهم روح المحبة، إذ إنهُم تعاوَنوا في إعادة بناء منازلهم... ولكن "في ما بعد، فقد أفسَدت السياسة كُل شيء" على ما يُؤكد الأرشمندريت الدكتور إيلي بو شعيا، في حديثه إلى وفد من مُدرسي "مدرسة المُخلص" - بدارو وإدارييها، زاره في زحلة في حزيران الفائت. أضاف بو شعيا: "رسالة العذراء مريم، في هذا الإطار، يفهمها الزحليون، على اعتِبار أن نجاة كنيسة السيدة من الحرائق الشاملة والكاملة التي لم يسلم منها منزل، أو دار عبادة، أوكنيسة في زحلة... رسالة من السماء تدعو الزحليين إلى العودة إلى بلدتهم، سريعا ومن دون أي تردُد"... لقد تيَقن الزحلييون أن السيدة العذراء تنتظر بنيها في "كنيسة النجاة" الناجية من الرماد... وأكثر من ذلك، نشأَت لدى الزحليين فكرة تشييد تمثال لسيدة النجاة، على أرض مُطلة من بلدتهم. وفي العام 1958، زمن "الثورة" في لبنان، بقيت زحلة عصية على امتِداد الأحداث إليها، على رُغم انسحاب تلك الأحداث على كُل البلدات والمناطق اللُبنانية... ما دفع بالمطران أفتيموس يواكيم، إلى جمع الشبيبة لتقديم الشكر إلى العذراء التي لم تدع الحوادث الأمنية تصل إلى زحلة. إن الشُكر بالنسبة إلى سيادته لم يكُن مُقتصرا على زمن الحُروب، بل وينسحب أيضا على "النجاة" من ويلاتها... وكذلك بدأَت تنضج فكرة تكريم سيدة النجاة بإشادة تمثال لها في رُبوع مُطلة من بلدة زحلة. ولاحقا، وقع الاختيار على قطعة أرض تعود ملكيتها إلى آل "سرور"، غير أن هؤلاء قد هجروا زحلة إلى "أميركا". وهُنا أخذ المطران على عاتقه السفر لمُقابلة أصحاب الأرض والتفاوض معهم... وبعد نيف وشهر من السفر بحرا، وصل المطران يواكيم إلى منزل آل سرور هُناك. في البداية طالب أصحاب الأرض ببدل مالي لقاء منح أرضهم لتشييد تمثال العذراء عليها. ومن ثم، تم التوصُل إلى اقتراح يقضي بشراء أبناء زحلة الأراضي الواقِعة في مُحيط المكان المُختار لتكريم العذراء، في مُقابل أن تمنح عائلة سرور أربعة آلاف متر أرضا، لرفع التمثال ضمنها. وهذا ما تم فِعلا... المرحلة التالية كانت صناعة تمثال السيدة العذراء، على يد الفنان الإيطالي الشهير آنذاك، بيروني. ومرة جديدة تابع المطران يُواكيم شخصيا هذه المهمة، وسافر بحرا إلى إيطاليا... ولكن هذه المرة، كان برفقته مطران صيدا باسيليوس الخوري الذي ذهب بمهمة "التوصية" على تمثال آخر للسيدة ليُنصب في مغدوشة (سيدة المنطرة)!. المطران يواكيم أراد أن تحمِل عذراء زحلة ملامح شرقية. وقد كان سيادته يتمَتع بموهبة التواصُل المُؤثر مع الآخرين، والحديث الشيق، ما دفع بالفنان الإيطالي إلى طلب زيارة زحلة، لفرط الإعجاب بما سمعه من المطران!. وقد تم ذلك بالفعل. ويُذكر في هذا الإطار أن الشاعر الزحلي الكبير سعيد عقل، اجتمع ببيروني في بردونة زحلة. كما وحضر اللقاء أيضا الفنان نجيب حنكش. وبعد جُهود مُضنية، وصل تمثال سيدة النجاة إلى زحلة: وزنُه سبعة أطنان ونصف الطن، طولُه تسعة أمتار، وأما قاعدتُه فترتفِع عن الأرض خمسة وسبعين مترا. لقد باتت المهمة الآن رفع التمثال وتثبيته... فيما عجزت عن ذلك طائرة مروحية، بسبب ثقل الوزن وعدم إمكان التحكم بنقل التمثال الضخم. لذا، فقد استُعين بونش ممهور باسم الـ "عيتاني"، استُقدم من مرفإ بيروت. والونش يعمل –كما هو معلوم- على البَكَرَة (POULINE). وكُلما تحركت البَكَرَة، ارتفع التمثال. راح الناس ينظرون إلى ما يُجرى في دهشة، في حين أن التمثال ما كاد يصل إلى الارتفاع المطلوب، ولم يبقَ أمامه إلا حوالي خمسة وعشرين سنتمترا، حتى توقف فجأة عن الارتفاع. وعبثا حاول العُمال رفع التمثال أكثر، ومن دون جدوى. وقد طُلبت حينئذ مشورة المطران يواكيم الذي أوعز إلى المُؤمنين بأن يركعوا، في أماكنهم، ويُصلوا... وحين بدأت الصلوات... حدثت المُعجزة، وانتقل التمثال تلقائيا، إلى قاعدته، بطريقة عجائبية!... وفي هذا الإطار قال الأرشمندريت بو شعيا: "أكثر من مئتي شخص، أدلوا أمامي (خلال خدمته الكهنوتية)، بشهاداتهم عن تلك الأُعجوبة. وأحدهم يُدعى جورج ماروني". ونقل بو شعيا عن ماروني قوله: "رأيت السيدة العذراء وكأنها قطعة خشبية تم إنزالها إلى أسفل المياه، ومن ثم عادت وطفت على السطح"... سأله بو شعيا: "لماذا أعطيتني هذا التشبيه تحديدا؟"... -"عبرت على هذا النحو كوني نجارا"!. وبالعودة إلى الأُعجوبة، فقد أمسك الفنان نجيب حنكش بمكبر الصوت وأخذ يقول: "في عجيبة... كتر خيرِك يا عدرا"... ومن ثم راح المُنادي يُنادي: "بدنا نبلش نجمع مصاري حتى نبلش نعمرو (للمقام)، ونكبرو"... وتابع: "... بطرس 200 ألف تبرُع؟... 200 ألف... حنا 500 ألف... طانيوس 400 ألف"... وفجأة صرخ المُنادي: "عجيبة أُخرى سيادة المطران... عجيبة ثانية: نجيب حنكش (المشهود له ببُخله) تبرع بليرتين اثنتَين"... أخرج الأرشمندريت بو شعيا، في ختام لقائه زائريه من "مدرسة المُخلص" – بدارو، إحدى هاتين الليرتين قائلا: "عمرنا بليرة وهيدي الليرة التانية... عجيبة"!. وبروح النكتة اختُتمت سيرة ناصعة من تاريخ زحلة الإيماني الكاثوليكي الملكي!.

يواكيم وحنَّة الصدِّيقان
يواكيم وحنَّة الصدِّيقان

النشرة

time٢٦-٠٧-٢٠٢٥

  • النشرة

يواكيم وحنَّة الصدِّيقان

يُذكَرُ القدِّيسان الصدِّيقان ​ يواكيم وحنَّة ​، جَدَّا المسيح الإله، في خِتام القدَّاس الإلهيِّ وفي صلوات الغروب والسَحَر. فلماذا تُشدِّد الكنيسة الأرثوذكسيَّة على ذكرهما، وما هي أهمِّيَّة ذلك؟ للإجابة، لا بدَّ من الإحاطة بمفهوم التدبير الإلهيِّ الخلاصيِّ للبشريَّة، الَّذي أَتمَّه الربُّ يسوع المسيح بتجسُّده وصلبه وقيامته وصعوده بالجسد الممجَّد إلى السموات، وإرساله ​ الروح القدس ​، المنبثق من الآب، إلى الكنيسة. هذا كلُّه تمَّ بمشيئة إلهيَّة واحدة للثالوث القدُّوس: الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد في الجوهر. يُذكر في إنجيل يعقوب المنحول (حوالي منتصف القرن الثاني للميلاد) أنَّ يواكيم وحنَّة هما والدا ​ مريم العذراء ​، والدة الإله. وعلى الرغم من أنَّ هذا الإنجيل ليس قانونيًّا، إلَّا أنَّ آباء الكنيسة استقوا منه العديد من التفاصيل الَّتي تتعلَّق بحياة والدة الإله ووالديها وأعيادها، لأنَّ فيه عناصر مقبولة ولا تُرفض كلُّها. تركِّز الكنيسة على أنَّ لكلِّ إنسان دورًا في التدبير الخلاصيِّ، وهو مدعوٌّ ليشترك فيه بحرِّيَّته الكاملة ونقاوة قلبه. تكريم يواكيم وحنَّة بدأ في القرون الأولى، إذ اعتُبرا شخصين بارَّين، استجاب الله لصلاتهما الحارَّة، فرزقَهُما الطفلة مريم، الَّتي قدَّماها للهيكل، فصارت والدة الإله. تميَّزت مريم بتواضعها العظيم، فعندما أرسل الله إليها الملاك جبرائيل ليُبشِّرها بتجسُّد الكلمة منها، استؤذنت، وبعد أن تأكَّدت أنَّ الحبل هو من الروح القدس، قالت: «هوذا أنا أمَة الربِّ، ليكُنْ لي كقولك» (لوقا 1: 38). يا لهذه العظمة! الخالق يستأذن مخلوقه ليتجسَّد منه! نعم، هذه هي محبَّة الله اللامحدودة، الَّتي لا تُفهم إلَّا من خلال المحبَّة الإلهيَّة، لا بمنطق الإنسان المحدود. نحن مدعوُّون إلى أن نتمثَّل بيواكيم وحنَّة في نقاوة قلبَيهما، وسيرة حياتهما، واحتمالهما الصعاب بثقة بالله. فقد كانا عاقرَين ومُهانَين في نظر المجتمع، ومرفوضَين من قِبَل الكهنة، لاعتقادهم أنَّ العقر علامة غضب إلهيٍّ. حتَّى لم يكن يُسمح لهما بتقديم ذبيحة في الهيكل. ومع ذلك، لم ييأسا، بل ثابرا على الصلاة بإيمان كبير، فكافأهما الله بأن حبلت حنَّة، رغم تقدُّمهما في السنِّ. هكذا تُبنى البيوت والعائلات، وتسكن فيها النعمة الإلهيَّة. ثمرة صلاتهما كانت مريم العذراء، «أمَّ الحياة»، الَّتي قدَّماها إلى الهيكل في عمر الثلاث سنوات، كما نذرا. ويعلِّماننا أمرًا آخر مهمًّا: أولادنا هم أولاد المسيح، ومسؤوليَّتنا أمام الله أن نربِّيهم على تعاليم الإنجيل، ليكونوا هيكلاً حيًّا للربِّ، لأنَّ هدف وجودنا هو القداسة. لذلك، يُعيَّد للقدِّيسَين يواكيم وحنَّة في اليوم التالي لميلاد العذراء (9 أيلول)، وتُقام ذكرى رقاد حنَّة في 25 تموز. نقول رقادها لا موتها، لأنَّ الموت هو الانفصال عن الله، أمَّا الرقاد فهو انتقال. الصلوات الليتورجيَّة الَّتي تُقام لهذين الصدِّيقين، كما لوالدة الإله، غنيَّة بالنصوص اللاهوتيَّة الَّتي تحاكي سرَّ الخلاص. نقرأ مثلاً في إحداها: «إنَّ فرح العالم بأسره قد أشرق لنا من الصدِّيقَين يواكيم وحنَّة، أعني به العذراء الكلِّيَّة المديح، الَّتي، لفرط طهارتها، صارت هيكلاً للَّه حيًّا، وعُرفت أنَّها وحدها والدة الإله بالحقيقة. فبطلباتها، أيُّها المسيح الإله، أسبِغْ على العالم السلام، وعلى نفوسنا عظيم الرحمة» (عيد ميلاد العذراء). نرى يواكيم وحنَّة في الفنِّ الإيقونوغرافيِّ في أيقونات ميلاد العذراء وتقديمها إلى الهيكل، كما في أيقونات تُظهرُهما واقفَين أو جالسَين، وبينهما مريم طفلة. وفي أخرى يظهران في مشهد اللقاء أمام الهيكل المرسوم على شكل كنيسة، في وسطها «الباب الملوكيُّ»، كأنَّهما في قدس الأقداس. من خصائص لاهوت الأيقونة أنَّها لا تُقيِّد المشهد ببُعدٍ ثالث (العمق)، بل تُظهِره في فضاءٍ مفتوح، لا في حَيِّزٍ مغلق، لأنّها نافذةٌ مفتوحة على الملكوت السماوي، وإن كانت الأحداث المصوّرة تجري داخل مكان ما. أحيانًا يُصوَّر يواكيم وحنَّة واقفَين بشكل منفصل. هذه ​ الأيقونات ​ ظهرت بعد الألف الأوَّل للميلاد. من أقدم الفسيفساء عنهما، نجد مجموعة تعود إلى بداية القرن الرابع عشر الميلاديِّ (حوالي 1320م) في كنيسة خورا (Chora Church) في القسطنطينيَّة (إسطنبول حاليًّا)، حيث نرى زكريَّا الكاهن يرفض تقدمة يواكيم وحنَّة بسبب عقرهما، ويواكيم يجلس يصلّي، والملاك جبرائيل يبشّر حنّة، وميلاد العذراء. كما توجد أيقونتان بديعتان للفنَّان الكريتيِّ Angelos Akotantos (1390-1457م). تظهر في الأولى مريم الطفلة في حضن أمِّها حنَّة، تقدِّم لها زهرة ترمز إلى العفَّة والطهارة. وفي الثانية، تظهر العذراء البالغة، تحمل الربَّ يسوع المسيح، وهي بدورها في حضن أمِّها حنَّة. غالبًا ما يُصوَّر يواكيم كشيخ، ذي لحية بيضاء أو رماديَّة طويلة، بشعر خفيف أو أصلع، ويرتدي himation[1] وkhiton[2] بألوان ترابيَّة (بنِّيّ، ذهبيّ، أحمر، أخضر). وجهه يُظهر اللطف والتواضع والصلاة. ونجد في دير Nea Moni في جزيرة Chios اليونانية، فسيفساء تعود إلى الفترة ما بين 1042 و1056م، تُصوّر يواكيم شابًّا، وأخرى تُظهر القديسة حنّة وهي تحمل صليبًا، إذ يُعدّ الصليب رمزًا للشهادة والاستشهاد. ورغم أن القديسة حنّة لم تكن شهيدة بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا أنها شهدت للمسيح بثباتها، وإيمانها العميق، وأمانتها، وصبرها في مواجهة الصعاب، فكان لها دورٌ روحي في تاريخ الخلاص. كما نُشير إلى أنه، منذ القرن الحادي عشر، أصبح من الشائع أن تُصوَّر القدّيسات والقدّيسون غير الشهداء وهم يحملون صلبانًا في الكنائس الكبرى، كعلامة على المجد والقوة التي يمنحها الصليب. الخلاصة، "من يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ" (متى 24: 13). والخطوة الأولى في مسيرتنا نحو القداسة هي التسليم الكامل لمشيئة الله. إلى الربِّ نطلب. [1]. Himation: قطعة لباس شهيرة في العالم اليوناني والروماني القديم. هو رداء خارجي كان يُلبَس فوق الثوب الداخلي (كـ الـ"خيتون" أو "تونك")، ويُشبه إلى حد ما العباءة أو الشال الكبير، وكان يُلفّ حول الجسد بطريقة أنيقة تُغطي الكتف أو تُترك على واحدة فقط، حسب الوضع والمقام. [2]. Khiton: هي نوع من الملابس الأساسية في العالم اليوناني القديم، وكانت تُرتدى تحت ال himation، وهو ثوب طويل من قماش خفيف (عادة من الكتان أو الصوف)، يُلبس مباشرة على الجسد، ويكون في الغالب بلا أكمام أو بأكمام قصيرة، يُثبت على الكتفين بدبابيس (fibulae) أو خيوط.

لندخلْ معها ونتقدَّسْ
لندخلْ معها ونتقدَّسْ

النشرة

time٢٣-١١-٢٠٢٤

  • النشرة

لندخلْ معها ونتقدَّسْ

أقمنا في الحادي والعشرين من الشهر الحالي عيد دخول السيِّدة العذراء والدة الإله إلى الهيكل الَّذي نجد مصدره في إنجيل يعقوب المنحول. ليست الأناجيل المنحولة كلّها مرفوضة، وقد استشهد ببعضها آباء قدِّيسون كثُر وقاموا بعظات حول أعياد أخذوها منها مثل ميلاد العذراء ورقادها. ليتورجيًّا، يشكِّل العيد محطَّة مهمَّة جدًّا في الفترة الميلاديَّة، فهو يأتي بعد أسبوع من بدء صوم الميلاد المجيد، وفيه نبدأ بترتيل كاطافاسيَّات الميلاد، منها: «المسيح وُلِدَ فمجِّدوه، المسيح أتى من السموات فاستقبِلوه، المسيح على الأرض، فارتفِعوا. رتِّلي للربِّ أيَّتها الأرض كلُّها، ويا شعوب سبِّحوه بابتهاج، لأنَّه قد تمجَّد». بهذا يصبح عيد دخول العذراء إلى الهيكل عيد دخولنا إلى ميلاد السيِّد، فنولَد معه من جديد. قطع صلاة غروب العيد وسحره والقدَّاس الإلهيِّ الخاصَّة بالعيد تعطينا المعنى اللاهوتيَّ له. هذه هي أهمِّيَّة الليتورجيا، فهي تساعدنا لنعرف إيماننا، وهذا هو عملنا الأوَّل لكي نتنقَّى ونتوب ونتقدَّس. أيقونة العيد غنيَّة جدًّا بمعانيها. غالبًا ما تجمع مشهدين: الأوَّل موجود في القسم السفليِّ، ويحمل الكثير من التفاصيل، وتتنوَّع بين أيقونة وأخرى. الأمر الأوّل الذي يلفت نظرنا هو صغر حجم العذراء، إشارة إلى عمرها البالغ ثلاث سنوات عندما قدَّمها والداها يواكيم وحنَّة إلى الهيكل إيفاء بوعدهما للربِّ. ولكن نلاحظ أنَّ وجهها بالغ، إشارة إلى الحكمة الإلهيَّة والروح القدس المرافق لها. الطفلة تتقدَّم بفرح لأنَّها تشعر بالأمان. زكريَّا الشيخ والد القدِّيس يوحنَّا المعمدان بلباسه الكهنوتيِّ يستقبل العذراء وسط الترانيم. فهو رئيس كهنة ونبيٌّ في الوقت نفسه. علامة النبوءة ظاهرة على رأسه، وهي كناية عن مكعَّب بداخله أسفار من الشريعة. كما نلاحظ وجود هالة القداسة حول رأس العذراء ووالديها وزكريَّا الشيخ. وقوف زكريَّا على منصَّة له علاقة بالحدث الإلهيّ وأقسام الهيكل الثلاثة، القسم الخارجيِّ والقدس وقدس الأقداس. القسم الخارجيُّ مخصص للعموم، والقدس يقيم فيه الكهنة الاحتفالات الليتورجيَّة، وقدس الأقداس المكان الأكثر قدسيّة حيث تابوت العهد، ولا يدخله أحد إلَّا رئيس الكهنة مرَّة واحدة في السنة في يوم الغفران ويلفظ اسم الله. فلم يكن مسموحًا لفظ اسم الله إلَّا بعد التوبة والغفران. كما كان يتمُّ الصعود إلى القسم العلويِّ من الهيكل بصعود درج من خمس عشرة درجة، ويُصار إلى ترنيم مزمورٍ على كلّ درجة. أدخل الشيخ زكريّا العذراء قدسَ الأقداس. هكذا تدخل العذراء هيكل أورشليم الأرضيّة لتجعله هيكل أورشليم السماويّة وتنقله استباقيًّا من هيكل العهد القديم إلى هيكل العهد الجديد. العذارى يتبعنها حاملاتٍ المصابيح، كيف لا وهنَّ يتبعن الملكة أمَّ النور، ويرتِّلن مرتدياتٍ أجمل ثيابهنَّ: «بملابس مطرَّزة تُحضَرُ إلى الملِك. في إثْرِها عذارى صاحباتُها. مقدَّماتٌ إليك» (مزمور 45: 14). كما تشير العذارى إلى العفَّة والطهارة. وكنَّ يكرِّسن وقتهنَّ للصلاة، ولهنَّ دور في الهيكل بالقيام بأعمال يدويَّة والحرص على نظافة المكان. عادة يبلغ عددهنَّ في أيقونات العيد سبعًا أو ثمانٍ والأغلب سبعًا. تقارب القراءة الثانية في غروب العيد (1 ملوك 8: 1-11) بين دخول تابوت العهد إلى الهيكل ودخول والدة الإله إلى الهيكل، كأنْ بذلك تكون العذراء تابوت العهد الجديد الَّتي ستلد معطي الشريعة. بقيت العذراء في الهيكل إلى الخامسة عشرة من عمرها، ومن ثمَّ عُهِدَ بها إلى يوسف البارِّ ليحفظها وتكون على اسمه اجتماعيًّا. كانت العذراء تمضي وقتها في الصلاة والترنيم وقراءة الأسفار المقدَّسة والتأمُّل، بالإضافة إلى أعمال يدويَّة. وقد برزت مريم منذ صغرها بمواهبها ورصانتها وجدِّيَّتها. وكانت تحرص على أن يكون ما يوكل إليها كلّه مرتَّبًا ونظيفًا. وهذا ما تفعله في الكنيسة مع الجماعة على الدوام. فكما هي الكلِّيَّة القداسة هكذا هو عملها مقدَّس. في أثناء وجودها في الهيكل، اتُّخذ قرار بتغيير الحجاب الَّذي يفصل الجناح المسمَّى القدس عن قدس الأقداس لأنَّه عتق. ويذكر أنَّ ثلاثمئة كاهنًا عملوا على خياطة الحجاب، وكان طوله وعرضه يبلغان تسعة أمتار. كما تم اختيار سبع عذارى من نسل داود ليعملن أيضًا على تطريزه، وكانت مريم من بينهنَّ وأبدعت في ذلك. حياكتها للحجاب شكَّل إشارة مسبقة على إعطائها جسدًا للربِّ، كأنَّها بذلك تصوِّر أيقونة له. وقد استعملت خيطًا ذهبيًّا وأرجوانيًّا. اللونان الذهبيُّ والأرجوانيُّ لهما دلالتهما اللاهوتيَّة، يدل الأوَّل على الملوكيَّة والثاني على آلام السيّد المسيح على الصليب وعلى مجده في آن. وعندما انشقَّ الحجاب إلى قسمين من فوق إلى أسفل لحظة أسلم الربُّ الروح على الصليب، لم يعد هناك أيُّ حاجز بين القدس وقدس الأقداس إشارة إلى اتِّحاد السماء بالأرض بتجسُّد الربِّ وخلاصه لنا بقيامته من بين الأموات. وهكذا تمجَّدت المسكونة وأصبح الخلاص شاملًا للجميع، فتمزُّق الحجاب رمزًا إلى موت المسيح بالجسد كما أشار بولس الرسول. المشهد الثاني موجود في أعلى الأيقونة، ونشاهد فيه العذراء جالسة والملاك يأتيها بالطعام السماويِّ إشارة إلى جسد الربِّ الَّذي ستحمله في أحشائها. تجلس العذراء على ثالث درجة إشارة إلى الدرجات الروحيّة الثلاث: الأولى هي التطهير أي تنقية الأهواء، والثانية هي الاستنارة، والثالثة هي التألُّه بالاتِّحاد بالكلمة المتجسّد. المبنيان في الخلف يرمزان إلى العهد القديم والجديد، والإثنان يلفُّهما المجد الإلهيُّ لأنَّ الربَّ هو المكمِّل والمحور، ويجب أن يُقرَأ العهد القديم على ضوء العهد الجديد. نشاهد في بعض الأيقونات شجرة، إشارة إلى نسب المسيح ابن داود: «ويخرج قضيب من جذع يسَّى، وينبُت غصن من أُصوله» (إشعياء 11: 1). صحيح أنَّ الأحداث تجري داخل الهيكل إنَّما الأيقونة تظهرها في مكان مفتوح. هذا الأمر من خصوصيَّة الفنِّ الإيقونغرافيِّ. لندخل مع العذراء ونحمل المسيح في قلوبنا. إلى الربِّ نطلب.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store