logo
"سابا سابا" حراك كينيا المتجدد

"سابا سابا" حراك كينيا المتجدد

الجزيرة٠٧-٠٧-٢٠٢٥
حراك "سابا سابا" ويعني "7/7" باللغة السواحلية، في إشارة لليوم السابع من يوليو/تموز، والذي يحمل دلالات رمزية بالتاريخ السياسي الكيني، إذ يمثل بداية التحول من الحكم السلطوي للتعددية السياسية والانفتاح على الحكم الديمقراطي. يوم خرج آلاف الكينيين عام 1990 في حراك شعبي واحتجاجات حاشدة أجبرت الحكومة على تبني نظام سياسي متعدد الأحزاب بعد فترة طويلة من الحكم الاستبدادي.
وفي السابع من يوليو/تموز من كل عام يحيي الكينيون هذه الذكرى التي يعتبرونها رمزا للمقاومة المدنية والانتقال الديمقراطي. وقد حافظ الحراك على جذوته مشتعلة على مدى أكثر من 3 عقود، ليظهر مع كل ذكرى سنوية بمطالب شعبية متجددة تعكس طبيعة الصراع السياسي والاجتماعي في هذا البلد.
سياق النشأة
أثناء اندلاع أحداث 1990 كانت كينيا تخضع لحكم الرئيس الراحل دانيال أراب موي الذي ترأس نظاما سياسيا يهيمن عليه حزب وحيد هو الاتحاد الوطني الأفريقي، فشهدت معه البلاد قمعا سياسيا وتضييقا واسعا على المعارضة وتقييدا للحريات العامة، إلى جانب تفاقم الأوضاع الاقتصادية والتهميش الاجتماعي، مما ولّد حالة من الغضب والاستياء الشعبي العارم.
وتحت وطأة الوضع السائد آنذاك، جاءت الدعوة إلى التظاهر من قادة المعارضة كينيث ماتبيا وتشارلز روبيا وجاراموجي أودينغا، الذين طالبوا بتنظيم تجّمع جماهيري في ساحة كاموكنجي بالعاصمة نيروبي، للمطالبة بإرساء نظام سياسي تعددي.
ورغم الحظر الذي فرضته السلطات الأمنية آنذاك، تحدى المواطنون القرار ونزلوا بكثافة إلى الشارع، مما أدى إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن، أسفرت عن اعتقالات واسعة، وسقوط أكثر من 20 قتيلا، علاوة على تسجيل انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وتحولت أحداث ذلك اليوم إلى محطة مفصلية في تاريخ النضال الديمقراطي في كينيا، وأسهمت في تسريع الضغط الشعبي والسياسي باتجاه الإصلاح، لتصبح "سابا سابا" رمزا للنضال من أجل الحقوق المدنية، والعدالة الاجتماعية، والمساءلة السياسية.
أبرز رموز الحراك
أدى عدد من القادة دورا بارزا في تنظيم احتجاجات 1990، من بينهم كينيث ماتبيا وتشارلز روبيا، اللذان اعتقلا على خلفية الدعوة للتظاهر.
كما شارك الزعيم السياسي المخضرم أودينغا في دعم الحراك، وأيده باعتباره أحد رموز الدولة، كما برز كذلك جيمس أورينغو وكوغي وا وامويري ضمن الأصوات البارزة في الدفاع عن الحريات المدنية إبان الانتفاضة.
وشهدت ساحة النضال السياسي في كينيا، مع مطلع العقد الثالث من القرن الـ21، بروز عدد من النشطاء المؤثرين، من بينهم الناشطتان السياسيتان وانغاري ماثاي وجيروتيتش سيي، والمحامي بول مويتي، والمصور الصحفي بونيفيس موانغي، إضافة إلى عدد من الناشطين الشباب الذين أسهموا في إحياء رمزية "سابا سابا".
مطالب متعددة
شكلت احتجاجات "سابا سابا" عام 1990 محطة محورية في مسيرة الديمقراطية الكينية، إذ كانت الشرارة التي أطلقت موجة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية، فقد أدت إلى فرض تعديلات على بعض مواد الدستور عام 1991، وفتح الباب بموجبها أمام التعددية الحزبية والتنافس السياسي.
كما شكلت هذه الانتفاضة دافعا حفّز الشباب على الانخراط في الحياة السياسية، ومكنت مؤسسات المجتمع المدني من المشاركة في قضايا الحكم والإصلاح، كما اعتبرها طيف واسع من المجتمع انعكاسا لقوة الإرادة الشعبية وقدرتها على تحدي الأنظمة الاستبدادية.
ومع مرور السنين، تطورت المفاهيم الرمزية المرتبطة بحراك "سابا سابا" لتواكب تطورات عدة شهدها المشهد السياسي والاجتماعي الكيني.
وبعدما انطلق عنوانا لانتفاضة شعبية ضد حكم الحزب الواحد ودكتاتورية الرئيس موي عام 1990، بدأ حراك "سابا سابا" -مع مطلع العقد الأول من القرن الـ21- يتجاوز مطلب التعددية الحزبية، ليصبح منبرا للمطالبة بإصلاحات دستورية جوهرية، خصوصا ما يتعلق بالعدالة في توزيع الأراضي التي يعتبرها الكينيون مسألة مركزية على مر تاريخهم.
كما اتخذ الحراك طابعا حقوقيا مع بداية العقد الثاني من القرن نفسه، حين صارت المطالب الشعبية مركزة على محاسبة الأجهزة الأمنية في ظل تنامي القتل خارج القانون والانتهاكات المتكررة من الشرطة، وتزامنا مع هذه المطالب ظهرت أصوات أخرى تطالب بعدالة اقتصادية، مستنكرة اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية وتدهور مستوى المعيشة.
"جيل زد" يقود الحراك
وظهر تحول لافت في قيادة حراك "سابا سابا" مع بداية العقد الثالث من القرن ذاته، فقد بدأت مجموعات شبابية وعلى رأسها حركة "جيل زد" تتصدر المشهد مستخدمة الفضاء الرقمي للتعبير والتعبئة الجماهيرية مطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية.
وفي عام 2024 اندلعت احتجاجات كبرى ضد حكومة الرئيس وليام روتو، عقب طرح مشروع قانون المالية الذي تضمن زيادات ضريبية أثارت غضبا شعبيا واسعا.
وفي يونيو/حزيران 2025، اعتقلت الشرطة المدون والمعلم ألبرت أوموندي أوجوانغ بتهمة "نشر معلومات كاذبة" إثر تغريدة انتقد فيها نائب المفتش العام للشرطة على منصة إكس.
وتوفي أوجوانغ أثناء فترة احتجازه، وبرّرت الشرطة وفاته بإصابته "بجروح في الرأس نتيجة اصطدامه بجدار الزنزانة".
وأثارت وفاته موجة احتجاجات عمت البلاد بأسرها، انطلقت في 9 يونيو/حزيران 2025، وقادها شباب عبر وسائل التواصل، واستعرت جذوة الاحتجاج أكثر بسبب تزامنها مع تصاعد الغضب الشعبي من الفساد وتذمر الكينيين من غلاء المعيشة.
وتميز الحراك الافتراضي بعدم وجود قيادة رسمية أو هيكل تنظيمي واضح، ويرى بعض مؤيدي حركة "جيل زد" أن غياب القيادة المركزية يمثل مصدر قوة يضمن استقلالية الحراك، بينما يعتبر آخرون أن وجود قيادة جماعية ضروري لتحويل هذه الموجة إلى قوة سياسية مؤثرة ودائمة.
وشهدت العاصمة نيروبي يوم الاثنين 7 يوليو/تموز 2025 شللا تاما وانتشارا مكثفا للقوات العسكرية ضمن إجراءات استباقية في ظل دعوات متزايدة لتنظيم مظاهرات حاشدة في ذكرى "سابا سابا" احتجاجا على ما وصفته حركة "جيل زد" بـ"الانتهاكات الأمنية والفساد السياسي".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

أفريقيا الوسطى تستعد لخوض غمار 3 استحقاقات انتخابية
أفريقيا الوسطى تستعد لخوض غمار 3 استحقاقات انتخابية

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

أفريقيا الوسطى تستعد لخوض غمار 3 استحقاقات انتخابية

تستعد جمهورية أفريقيا الوسطى لخوض غمار 3 استحقاقات انتخابية حاسمة في ديسمبر/كانون الأول المقبل، تشمل الانتخابات التشريعية والمحلية والرئاسية، وذلك بعد سلسلة تأجيلات متكررة عزتها السلطات إلى تحديات مالية وإدارية. وكان من المفترض أن تُجرى الانتخابات البرلمانية في الثالث من يونيو/حزيران، تليها المحلية والبلدية في نهاية أغسطس/آب، غير أن الحكومة أعلنت تعديل الجدول الزمني وسط اعتراضات من المعارضة التي تطالب بإصلاحات هيكلية تضمن "نزاهة العملية الانتخابية"، بما في ذلك مراجعة أداء الهيئة الوطنية للانتخابات. وفي تطور لافت، أكدت حركة "قلوب موحدة" الحاكمة ترشيح الرئيس الحالي فاوستين أرشانج تواديرا لخوض الانتخابات الرئاسية. إلا أن هذا الإعلان أثار جدلا في الأوساط السياسية بشأن إمكانية ترشحه لولاية ثالثة، خاصة بعد تقارير تحدثت عن خضوعه لفحوصات طبية في العاصمة البلجيكية بروكسل أواخر يونيو/حزيران، ما أثار تساؤلات حول وضعه الصحي. من جانبها، تواصل المعارضة المتمثلة في "الكتلة الجمهورية للدفاع عن الدستور" ضغوطها من أجل إدخال تعديلات جوهرية على النظام الانتخابي، بما يضمن تنظيم انتخابات "شفافة وذات مصداقية"، وسط تصاعد التوترات السياسية مع اقتراب موعد الاقتراع الحاسم.

أميركا قد ترحل مهاجرين إلى "بلدان ثالثة" بعد 6 ساعات من إخطارهم
أميركا قد ترحل مهاجرين إلى "بلدان ثالثة" بعد 6 ساعات من إخطارهم

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

أميركا قد ترحل مهاجرين إلى "بلدان ثالثة" بعد 6 ساعات من إخطارهم

قال مسؤول كبير في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مذكرة نشرتها صحيفة واشنطن بوست إن مسؤولي الهجرة قد يرحّلون المهاجرين غير النظاميين إلى دول أخرى غير بلدانهم الأصلية بعد إخطارهم بمدة لا تتجاوز 6 ساعات. ونقلت وكالة رويترز أنه ورد في المذكرة اسم تود ليونز القائم بأعمال مدير إدارة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك الأميركية، والذي قال إن الإدارة ستنتظر 24 ساعة على الأقل قبل نقل شخص بعد إبلاغه بترحيله إلى "دولة ثالثة". ومع ذلك، جاء في المذكرة أن الإدارة بوسعها ترحيلهم بإشعار لا يتجاوز 6 ساعات "في ظروف مُلحّة"، إذا ما تم منح الشخص فرصة التحدث مع محام. وتنص المذكرة على أنه يمكن إرسال المهاجرين غير النظاميين إلى الدول التي "تتعهد بعدم اضطهادهم أو تعذيبهم". وتشير سياسة وكالة الهجرة والجمارك الجديدة إلى أن إدارة ترامب قد تتحرك بسرعة لإرسال المهاجرين غير النظاميين إلى دول مختلفة حول العالم. وكانت المحكمة العليا ألغت في يونيو/حزيران أمرا صادرا عن محكمة أدنى يحد من عمليات الترحيل هذه من دون فحص قضية الخوف من الاضطهاد في تلك الدول الثالثة. وبعد صدور قرار المحكمة العليا، أرسلت إدارة ترامب 8 مهاجرين ينحدرون من بلدان مختلفة إلى جنوب السودان. ولم يتم تحديد "الدولة الثالثة" التي سيتم ترحيل المهاجرين لها في المذكّرة، لكن رويترز ذكرت أن إدارة ترامب ضغطت الأسبوع الماضي على المسؤولين في 5 دول أفريقية، وهي ليبيريا والسنغال وغينيا بيساو وموريتانيا والغابون، لقبول المُرّحلين ممن يحملون جنسيات أخرى. وتعد قضية ترحيل المهاجرين غير النظاميين من أبرز الملفات التي روجها ترامب في حملته الانتخابية لولايته الرئاسية الثانية، وهو ما لاقى معارضة واسعة في الداخل الأميركي، آخرها الاحتجاجات التي اندلعت في لوس أنجلوس رفضا للسياسة التي تنفذها وكالة الهجرة والجمارك.

أهداف ترامب في أفريقيا
أهداف ترامب في أفريقيا

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

أهداف ترامب في أفريقيا

للوهلة الأولى قد يبدو للمهتّمين بدراسة النزاعات أن اتفاق السلام الذي تم التوقيع عليه في العاصمة واشنطن بين رواندا والكونغو الديمقراطية- أواخر يونيو/حزيران 2025 سعيًا لإنهاء واحدة من أطول الحروب في القارة الأفريقية- وكأنه امتداد للنهج الذي أعلن الرئيس ترامب تبنيه في تصفية النزاعات حول العالم وإحلال السلام. ودون التقليل من أهمية هذا الاتفاق على المستوى الأمني والإنساني، ومع تثبيت الجهود القطرية الكبيرة التي بُذلت للتوصل إليه، ولكن التعمق في واقع السياسة الأميركية تجاه القارة، وفي تتبع قصة الوصول لنقطة التوقيع بين البلدين سيُبيّن أن الأمر معقد أكثر مما يبدو عليه في الظاهر، وأن الدوافع والأسباب التي تقف وراء استضافة الولايات المتحدة الأميركية حفل التوقيع تلخص جوهر الاهتمام الأميركي بالقارة الأفريقية في عهد الرئيس ترامب في دورته الجديدة. فجمهورية الكونغو وجارتها زامبيا تمثلان نقطة التقاء التنافس الأميركي الصيني على الموارد والمعادن النادرة، إذ إن الكونغو وحدها تنتج 75% من معدن الكوبالت الذي يُستخدم في صناعة السيارات الكهربائية، بجانب موارد أخرى لا تقل أهمية كالنحاس واليورانيوم، وقد كان لافتًا ما ورد على لسان الرئيس ترامب بعد التوقيع على الاتفاقية حين قال: (ستحصل الولايات المتحدة على الكثير من حقوق المعادن في الكونغو). والأسئلة التي تُطرح هنا هل سينجح الاتفاق الحالي في نشر السلام وطي صفحة حرب الثلاثين عامًا، خاصة أن أكثر من 10 اتفاقيات سابقة انتهت إلى الفشل، ولماذا يسود التفاؤل بنجاح هذه المحاولة؟ والإجابة المباشرة عن هذا السؤال تتعلق بتدخل الولايات المتحدة بثقلها الكبير في هذا الملف مدفوعة بنظرة الرئيس ترامب لأفريقيا حيث تحكم سياسته فيها ثلاثة عوامل هي: تحويل العلاقة بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية من بند المساعدات إلى بند التجارة. التركيز على المصالح المباشرة التي تعود على الولايات المتحدة بالنفع السريع، ولا سيما المواد الخام والمعادن ثم محاصرة النفوذ الروسي والصيني، والذي تمدد في القارة في السنوات الأخيرة. أخيرًا الانشغالات الأميركية الخاصة بمحاربة الجماعات الإرهابية وخاصة في الصومال ودول الساحل الأفريقي بجانب تأمين مسارات الهجرة غير الشرعية وغلق منافذها في القارة الأفريقية. ترامب وأفريقيا: هل من جديد؟ لفهم أكثر عمقًا وواقعية للعلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأفريقية خلال إدارة ترامب الحالية يجب النظر إلى عاملين رئيسين هما تجربة ترامب مع أفريقيا إبان ولايته الأولى، ومشروعه الانتخابي الذي يمكن اختصاره في ثلاث نقاط رئيسية هي: التركيز على جعل الولايات المتحدة عظيمة مرة أخرى، والانحياز إلى تيار العزلة النسبية مع التنازل عن نزوع التوسع والهيمنة الذي تتبناه تيارات أخرى داخل الحزب الجمهوري. كما أن ترامب وأنصاره غير متحمسين تمامًا لمشاريع الجمهوريين التي تسعى (لنشر الديمقراطية) والقيم الأميركية الأخرى حول العالم. فقد ورد في أجندة 2025 التي تكشفت بين يدي الحملة الانتخابية وتبنتها جهات متنفذة حول ترامب ما يلي: "على واشنطن أن تتوقف عن الترويج للسياسات الأميركية الضاغطة على الحكومات الأفريقية لاحترام سيادة القانون وحقوق الإنسان والحقوق السياسية والمدنية والديمقراطية التي لا تتقبلها الدول الأفريقية، لأنها تشعر أن ذلك تدخل في شؤونها الداخلية، ويجب على واشنطن التركيز على المشاركة الاقتصادية". اعتماد سياسة خارجية قائمة على الصفقات التي يعود ريعها سريعًا على الخزينة الأميركية المرهقة بالعجز والدين الداخلي، وذلك وفقًا لسياسة (مجهود أقل وعائد أكبر)، مع تجفيف المساعدات الأميركية للدول الأفريقية وغيرها، وتحويلها ما أمكن إلى التجارة واستغلال المعادن. فقد ورد في أجندة 2025 مقترحات تدعو إلى تحويل جميع منح المساعدات الأجنبية للمستفيدين الأفارقة إلى قروض، وإلغاء جميع برامج مساعدات التنمية، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص الأميركي في القارة الأفريقية. حرصه على تسويق صورة شخصية تجمع بين الحزم والقوة، وفي نفس الوقت صورة رجل السلام الذي يعمل على إطفاء الحرائق الدولية وتسوية النزاعات بين الدول. وهو ما لخّصه ترامب بعبارة: (السلام عبر القوة)، وفي ذلك يروج أنصاره أنه يستحق جائزة نوبل للسلام لجهوده الكبيرة في منع وقوع حرب نووية بين الهند وباكستان، ودوره الأخير في الحرب الإسرائيلية الإيرانية. وبالنظر لهذه المرتكزات الأساسية وتقييم اهتمامات ترامب خلال الأشهر القليلة التي مضت من عمر ولايته الحالية، والقرارات التي اتخذها بحظر دخول رعايا سبع دول أفريقية، قبل أن يتبعها بتعميم شمل 25 دولة من أصل 36 تطلب منها الولايات المتحدة التدقيق بشأن إجراءات الهجرة وإلا واجهت مصيرًا مشابهًا لتلك السبع. هذا يؤكد أن إدارة ترامب لا تأبه كثيرًا بأي ردة فعل من دول القارة الأفريقية، ويأتي كل ذلك مقروءًا مع النهج الذي اتبعه في ولايته الأولى مع أفريقيا، والذي اتسم بالإهمال والازدراء. ولذلك لا يبدو أن القارة الأفريقية تمثل أولوية لإدارته إلا بقدر ما تمثله من أهمية لسياساتها المتعلقة بالبحث عن الفرص التجارية، ومحاصرة النفوذ الروسي والصيني، أو بمكافحة الإرهاب والمخاطر الأمنية التي ترى فيها الأجهزة الأمنية الأميركية خطرًا ماثلًا. يفسر هذا، دعوة الرئيس دونالد ترامب لقمة مصغرة تشارك فيها دول: موريتانيا، والغابون، وغينيا بيساو، وليبيريا، والسنغال، والتي أثارت تساؤلات كثيرة حول المعايير التي تم بها اختيار هذه الدول الصغيرة وغير المؤثرة في اقتصاد القارة وسياستها. ولكن التمعن في المشتركات التي تجمع هذه الدول يبدد تلك التساؤلات؛ فكلها تطل على المحيط بكل ما يمثل ذلك من فرص وتهديدات، كما تتمتع جميعًا بموارد كبيرة غير مستغلة وخاصة موارد الطاقة والمعادن النادرة، ويمكن أن تكون نموذجًا جيدًا لسياسته الجديدة في أفريقيا (التجارة بدلًا من المساعدات)، فضلًا عن وقوعها في المجال الجغرافي لتمدد النفوذ الروسي الآخذ في التوسع مؤخرًا. ابحث عن الصين قبل شهرين من توقيع اتفاقية السلام بين البلدين نقلت صحيفة فايننشال تايمز عن مسؤولين من جمهورية الكونغو الديمقراطية إمكانية التوصل إلى اتفاق مع واشنطن لتأمين استثمارات أميركية في المعادن الحيوية، مقابل دعم الولايات المتحدة جهود إنهاء الصراع في شرق البلاد. وقالت الصحيفة إن الاتفاق يمنح واشنطن حق الوصول إلى رواسب الليثيوم والكوبالت والكولتان، وصرح مستشار ترامب مسعد بولس قائلًا: "واشنطن تضغط من أجل توقيع اتفاق سلام بين الجانبين هذا الصيف، مصحوبًا باتفاقيات ثنائية للمعادن مع كل من البلدين". في العام 2007 وقعت الصين اتفاقًا اقتصاديًا مع دولة الكونغو عرف باتفاق (المناجم مقابل البنية التحتية)، وبموجب ذلك الاتفاق صارت الصين الحاضر الأبرز في قطاع المعادن الكونغولي، حيث تدير حاليًا حوالي 80% من مناجم النحاس، وتسيطر على 70% من قطاع التعدين، وعلى 60% من سوق بطاريات السيارات الكهربائية عالميًا. ومع الأهمية العالية لمعدن الكوبالت الذي يُستخدم في صناعة الهواتف والسيارات الكهربائية تعالج الصين وحدها 80% من هذا المعدن النادر، وفي العام 2024 أعلنت مجموعة سموك الصينية أكبر منتج للكوبالت في العالم عن أرباح قياسية، حيث قفز صافي الدخل بنسبة 64% ليصل إلى 1.9 مليار دولار. هذه الأرقام مزعجة جدًا للولايات المتحدة التي ترى في الكونغو نموذجًا مثاليًا لتطبيق سياستها الخاصة بالحصول على المعادن النادرة بأسعار رخيصة، وفي نفس الوقت التضييق على الصين في واحدة من أهم ملفات التسابق التجاري والصناعي بينهما. ولذلك فقد واصلت مساعيها لإخراج الصين من الكونغو الديمقراطية عبر الضغوط السياسية وتأليب الحكومة الكونغولية عليها للمناداة بإعادة تقييم الأسس التي قامت عليها اتفاقيات التعدين بين البلدين، وعبر دعم البنية التحتية وإعادة تأهيلها، ومسارات السكك الحديدية لتقليل تأثير الصين في سلاسل التوريد بالنسبة للمواد الخام. وفي العام 2022 نشرت (أويل برايس) الأميركية تقريرًا أشارت فيه (إلى أن الولايات المتحدة تعزز جهودها لعزل الصين في أفريقيا وعرقلة حصولها على أشباه الموصلات المتقدمة، كما تعمل واشنطن أيضًا على السيطرة على مصادر المعادن المستخدمة في التقنية في أفريقيا خاصة الكونغو الديمقراطية). ومما يلفت الأنظار هنا هو إعلان شركة (كوبولد ميتالز) الأميركية أنها ستوسع عملياتها في الكونغو الديمقراطية بعدما قامت فعلًا بشراء حصة للتعدين من شركة أسترالية هناك، وتساهم في شركة كوبولد ميتالز مجموعة من الشركات ورجال الأعمال الذين دعموا حملة ترامب الانتخابية. حرب السودان في الواجهة في ظل النشوة التي سيطرت على فريق ترامب بعد توقيع اتفاق السلام صرح مستشاره مسعد بولس بأن وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو سيستضيف اجتماعًا يضم وزراء اللجنة الرباعية التي تضم السعودية، والإمارات، ومصر، والولايات المتحدة؛ لبحث الحرب في السودان، وهو الأمر الذي أكد عليه ترامب نفسه في اجتماعه مع القادة الأفارقة في واشنطن. ويأتي هذا الاهتمام بالملف السوداني بعد فترة من الإهمال وتركيز إدارة الرئيس ترامب على ملفات أخرى في الشرق الأوسط والحرب الروسية الأوكرانية، ومن واقع التحركات التي تمت في الفترة الأخيرة والتي من بينها زيارة رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان جمهورية مصر العربية، وتنشيط تحالف "صمود" الذي يقوده الدكتور عبدالله حمدوك، يبدو أن هناك مساعيَ إقليمية تُبذل لبلورة مبادرة لإحياء التفاوض الذي توقف لفترة طويلة تحت مظلة المبادرة الأميركية السعودية في جدة. ولا يزال الوقت مبكرًا للإجابة عن نجاح اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا، إذ إنه ورغم وقوف الدولة الكبرى خلفه فإن التحديات التي تحيط بالاتفاق وأطرافه صعبة للغاية، خاصة إذا علمنا أن هناك مناطق حيوية خارج سيطرة الدولتين والجماعات المتحالفة معهما. كما أن عدم الثقة الكبير بين الدولتين نتيجة الصراع الطويل قد لا يوفر البيئة المناسبة للتطبيق السلس لبنود الاتفاق، وخاصة تلك المتعلقة بجمع السلاح وتسريح الجماعات المسلحة المتناسلة. ومع كل تلك التحديات فإن الترحيب الذي قوبل به الاتفاق على المستوى الدولي سيوفر إرادة قوية لمحاولة صيانة المنطقة حتى لا تعود للحرب مرة أخرى. ونستطيع القول إن إدارة الرئيس ترامب تحاول في نسختها الجديدة تحويل القارة الأفريقية من مكان ميؤوس منه كما كان في دورتها الأولى إلى فرصة تستفيد منها الولايات المتحدة. وتلخص الطريقة التي تم بها دعوة خمسة من رؤساء الدول الأفريقية إلى البيت الأبيض النهج الأميركي في التعامل مع القارة، وهو تعظيم الفوائد الأميركية في القارة دون أن تلتزم بأي مساعدات، أو تقوم بفرض أي شروط سياسية تتعلق بالدمقرطة، وحقوق الإنسان كما كان في السابق. وستتحدد التدخلات الأميركية في كل النزاعات بهذا النهج الجديد والذي يمكن اختصاره تحت شعار: (التجارة بدلًا من المساعدات)، وبجانب التجارة فإن للولايات المتحدة مآربها التي لا يمكن أن تتنازل عنها كقوة دولية تسعى للمحافظة على نفوذها وريادتها.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store