أين اختفى العلماء؟
«إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِثوا ديناراً ولا درهماً، إنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر». أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
العلماء إذن ورثة أنبياء، وليسوا ورثة أغنياء.
العلماء بيّن النبي الكريم بحديثه الشريف هذا مكانتهم في الأمة.
إنهم في مرتبة رفيعة بعد انتهاء فترة النبوات والرسالات.
تلك المرتبة لابد أن تقتضي منهم الحفاظ عليها والقيام بحقها.
فهل علماء اليوم كذلك؟
العلماء منذ عهد الخلافة الراشدة وحتى عهد قريب جداً، كان لهم تأثيرهم الإيجابي الفاعل أوقات الأزمات والملمات، كما في أوقات السلم والراحات. كانوا، ولابد أن يكونوا إلى ما شاء الله لهم أن يكونوا، بوصلة تهتدي بها الأمة. فهم الأقدر دوماً على توجيه وتشكيل العقول والألباب وفق ما أمر سبحانه. وهذا ما جعل تأثيرهم في الكثير من المشاهد على مدار تاريخ هذه الأمة، بالغا وفاعلا. ولكن بدأ ذلك التأثير في الضمور والخفوت تدريجياً مع تكاثر الأزمات والمصائب.
فماذا جرى لهم خلال السنوات الحالكات الماضيات؟
معظم العلماء كما أسلفنا، كانت مكانتهم محفوظة في الخلافة الإسلامية، وإن عانى البعض من جور بعض الولاة والخلفاء، لكن أغلبهم كانت مكانتهم مرموقة محفوظة في الأمة، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. حتى إذا ما سقطت الخلافة قبل مائة عام، تأثر العلماء من ضمن من تأثر بذلك السقوط أو تلكم المصيبة العظمى، فما كان الحل للم شمل العلماء، إلا عبر جامعات تربوية تعليمية كالأزهر والقيروان وما شابههما، أو اتحادات بعد ذلك وروابط وهيئات كالتي نعايشها اليوم.
فهل أجدت نفعاً؟
العلماء بوصلة الأمة
التساؤلات كثيرة، وهي دليل على أهمية هذه الفئة في هذه الأمة. وكما أسلفنا بأنهم كالبوصلة، صار نهوضهم نهوضا للأمة، وانتكاستهم انتكاسة لها. ولا أتردد في القول بأننا في العقود الأخيرة صرنا نعيش انتكاسة لعلماء الأمة، أو هكذا يبدو لكثيرين، حتى صار لافتاً للأنظار خفوت نجمهم، وضعف تأثيرهم على عامة الناس. وأحداث غزة من أبرز ما يمكن الاستشهاد بها. إذ لا تأثير فاعلاً لتوصيات ونداءات العلماء في هذه المعركة الحاسمة مع أعداء الله والدين. ولا شك أن لهذا الخفوت وضعف التأثير مسببات.
وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن السر الذي أوصل العلماء إلى مستوى لا يتأثر غالبية العامة بهم، لا في السلم ولا في الحرب؟ ولماذا صارت العامة فعلاً لا تتأثر بما يصدر عن العلماء من توجيهات أو نداءات؟ وهل كثرة الأزمات وتسارعها وتنوعها في الأمة، والجهل غير المبرر بالدين الذي يتسع يومياً، جعلت الأحاسيس تتبلد، بحيث لا تنفع معها نصيحة ولا توجيه ولا إرشاد علمائي؟
لن أبالغ إن قلت بأننا نعيش ليلة ظلماء كتلك التي قال أبوفراس الحمداني عن نفسه يوم أسره. فنحن اليوم فعلياً نعيش ليلة ظلماء يُفتقد فيها البدر، أو بدرُ العلماء. والناس حيارى يا ربي هذه الأيام، حتى راحت للشرق وللغرب تجني الآلام. ولا شك أن كل هذا بسبب غياب بدر العلماء، الذين تفرقت بهم السبل وتنوعت مآربهم وغاياتهم حتى انقسموا إلى فئات ثلاث لا رابع لها.
فئة صامدة وأغلبها مغيبة في السجون والمعتقلات. وفئة ثانية اختارت الصمت والركون إلى الظل، أملاً في أن يتغير الواقع الحالي بقدرة قادر، فيما فئة ثالثة اختارت الوقوف على أبواب السلاطين، ورضيت أن تبيع آخرتها بدنيا غيرها الفانية، حتى صارت لا تتردد قيد أنملة في أن تشرعن للمتغلبين ما بدا وطاب لهم!.
استقلالية العلماء المالية
من أكثر المسببات التي جعلت أدوار العلماء تتراجع وتتضاءل، وتحتاج إلى معالجة ما، عدم استقلالهم مالياً عن الدولة لسبب وآخر. إن عدم تمتعهم بهذه الاستقلالية من أسباب تراجع تأثيرهم وفعاليتهم على مستقبل الأوطان والشعوب. اعتماد العالم في لقمة عيشه على راتب حكومي من هنا، ومكافأة من هناك، تجعله بلا زخم أو تأثير، فهو في نظر العامة، موظف حكومي نهاية الأمر، لا يختلف عن أي موظف!.
ما عاناه الأئمة والعلماء السابقون كالحسن البصري وأبي حنيفة وابن حنبل والشافعي ومالك وابن تيمية وابن قيم الجوزية، من جور وظلم الولاة والسلاطين، وعدم خضوعهم لأهواء وأمزجة الأنظمة الحاكمة المخالفة لشرع الله، إنما الذي أعانهم على ذلك الثبات والصمود، هو استقلاليتهم المادية أولاً، ولأنهم ثانياً، كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة أنبياء. أي أنهم هم الأصل في حياة الأمة، والدولة بعد ذلك، وأنه ما قامت الدولة في الإسلام إلا لحماية الدين، وليس العكس.
تأثير العلماء على مستقبل الدول
إن استقراءً سريعاً عبر تاريخ الأمة، سنجد كم كان العالم الرباني، صاحب تأثير فاعل بالغ على سياسة ومستقبل الدولة بأكملها. فهذا العز بن عبد السلام، ضمن أحد المواقف الشهيرة في تاريخنا، وفي أهم وأخطر الأوقات التي مرت على الأمة حين واجهت خطراً وتهديداً وجودياً تمثل في عبثية ووحشية المغول، برز نجم الشيخ، الذي لعب دوراً هاماً في تحفيز الشعب ومن قبله الملك قطز، للتصدي لخطر المغول.
مما يحكى عنه، أن قطز وهو يستعد للمعركة الفاصلة مع المغول، أمر بجمع الأموال من الرعية ولم يعارضه أحد من العلماء في بلاطه يومها إلا العز بن عبدالسلام، الذي وقف في وجهه وطالبه ألا يأخذ شيئاً من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم، بالمقادير التي تتناسب مع ثرواتهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على تجهيز الجيش، فإذا لم تكف الأموال، يمكن حينها للملك أن يفرض الضرائب على بقية الناس. فتراجع قطز عن قراره ونزل على حكم الشيخ، الذي أثار كل خطباء وعلماء الأمة يومها وطالبهم بتحفيز الناس على الجهاد، حتى نهض المسلمون في مصر وامتلأت نفوسهم ايماناً كان سبباً في ثباتهم وصمودهم في عين جالوت الفاصلة ودحر المغول للأبد.
الشيخ آق شمس الدين، العالم الرباني الذي لعب دوراً مؤثراً في استنهاض همة العثمانيين في تجسيد وتحقيق البشارة النبوية (لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش) نموذج آخر للعالم الرباني المؤثر، حيث كرس جهده في تربية السلطان محمد بن مراد الثاني منذ صغره على هذا الهدف وتلكم الغاية، حتى تحقق فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد ولُقّب بالفاتح العسكري، وصار الشيخ يُعرف بالفاتح المعنوي لهذه المدينة الحصينة.
خلاصة ما يمكن أن نختم به هذا الحديث، أنه مثلما ظهر علماء سلاطين على مدار تاريخنا إلى اليوم، فإنه لا يمنع ظهور العز بن عبدالسلام، والحسن البصري، وابن تيمية وآخرين كثر، يصدعون بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم. ولقد ثبت بالتجربة أن صلاح هذه الأمة ونهضتها، كما أسلفنا، مقترنان بصلاح ونهضة علمائها، وإن سقوط البعض القليل منهم ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل للغالبية بالضرورة.
إن أمة ظهر فيها العز بن عبدالسلام الذي سخره الله لتنجو بفضله سبحانه، ثم بتأثير هذا الشيخ الكبير من خطر الزوال على يد المغول، قادرة على أن تُنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها. وإنّ سوء حال الأمة اليوم لا يمنع كذلك من التفاؤل بغد أفضل وأجمل، فالله سبحانه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
مساحة إعلانية
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة الشرق
منذ 6 ساعات
- صحيفة الشرق
وزارة الأوقاف تصدر كتابها الأول ضمن "سلسلة تقريب العلوم الشرعية"
محليات 8 وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ❖ الدوحة - قنا أصدرت إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كتابها الأول ضمن "سلسلة تقريب العلوم الشرعية"، بعنوان: تهذيب المعين على تفهم الأربعين للإمام ابن الملقِّن، وذلك في إطار اهتمام الوزارة بالسنة النبوية الشريفة وعلومها. وأوضح الشيخ الدكتور أحمد بن محمد بن غانم آل ثاني مدير إدارة البحوث والدراسات الإسلامية، أن السلسلة تمثل مشروعا ثقافيا وعلميا يهدف إلى تسهيل فهم كتب العلوم الشرعية وإحياء تراث السلف الصالح، بما يسهم في الارتقاء بالوعي الديني في المجتمع. وأشار إلى أن إصدار هذا الكتاب يأتي امتدادا لجهود الوزارة في خدمة الحديث النبوي الشريف، من طباعة الكتب وتوزيعها، إلى تنظيم الدروس والمسابقات في حفظ الحديث، لافتا إلى إصدار الإدارة سابقا كتاب المائة الجامعة في الأحاديث النافعة، الذي استكمل به الأحاديث التي جمعها الإمام النووي في الأربعين النووية، مع إضافات الإمام ابن رجب الحنبلي. وأكد مدير إدارة البحوث والدراسات الإسلامية، أن هذا الإصدار يندرج ضمن مسيرة العناية بجمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وشرحها وبيان معانيها، حيث يُعد كتاب "الأربعون النووية" من أبرز المؤلفات التي حظيت بقبول واسع لدى علماء الأمة وطلاب العلم. وقد اعتمدت إدارة البحوث في تهذيبها للكتاب على تحقيق الدكتور دغش بن شبيب العجمي، وركزت في عملها على بيان معاني ألفاظ الحديث، والأحكام الفقهية والفوائد المستفادة، مع حذف الاستطرادات التي لا يحتاج إليها طلاب العلم وعموم القراء. مساحة إعلانية


صحيفة الشرق
منذ يوم واحد
- صحيفة الشرق
أفرغتَ يا أبا الوليد؟
372 كلمةٌ لو وُزِنت بثقل الأرض بيانًا، لرجحتها حكمةً وسكينةً ومهابة، لم تكن تلك الكلمة مشهدًا عابرًا في سيرة المصطفى ﷺ، بل كانت درسًا نُقِش في الأرض لأهل الرسالة، ليُعلّمهم كيف يقفون على باب العقول، لا ليكسروها، بل ليطرقوها بلُطف النبوة، وهدوء اليقين، وصبر الواعين. جلس أبو الوليد عُتْبة بن ربيعة – السياسيّ العريق، والبلاغيّ الفصيح – أمام النبي ﷺ، لا ليُحاور، بل ليُساوم. أراد أن يشتري الصمت بالنفوذ، وأن يُسكت الوحي بالعرض المغري، وأن يبدّل الرسالة بعرشٍ على الرمال! جلس بنفَس السياسة، وحنكة البيان، وخبرة المفاوضات، لكنّه لم يكن يعلم أنه يجلس بين يدي من أوتي جوامع الكلم، وأوتي معها سكينة الجبل حين تُزمجر العاصفة. قال عتبة ما شاء، ومضى كما أراد، ونثر على الطاولة كل أوراق الصفقات: مالٌ، ومُلك، ونساء، وجاه، وسلطان. لكنّ محمداً ﷺ، ما نطق، ولا اعترض، بل تركه حتى أفرغ كلّ ما في جُعبته. ثم التفت إليه، بكل السكينة التي يورثها الإيمان، وبكل الهيبة التي يصوغها اليقين، وقال: «أفرغتَ يا أبا الوليد؟» فيا من تظن أن الحق لا يُقال إلا بصوتك، تأمّل سكون النبوة في حضرة الباطل! تأمل تلك الكلمة فإنها ليست مجرّد عبارة، بل هي ميزانُ عقول، ودرسُ حياة، ومنهجُ دعوة. لقد أبانت لنا هذه الكلمة أن الاستماع ليس ضعفًا، بل حُكمٌ من فوق، وأن الحوار لا يُختطف بالصراخ، بل يُبنى على توقير العقل، واحترام الوقت، وإعطاء الفرصة لكل فكرة أن تخرج، حتى تُرى على حقيقتها، ويُكشف غُثاؤها من ذهبها. من لا يُمهّد لسماع خصمه، لا يُمكن أن يُقيم عليه حجة. ومن لا يصبر على كلام الآخر، لا يملك قلبًا يَسعُه، ولا عقلًا يُقنعه، ولا نفسًا تُحاوره. الاختلاف في الإسلام ليس لعنة، بل سنة كونية (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُم) لكنّ الفتنة تنشأ حين لا يُحسن الناس أدبَه. حين لا يصبرون حتى «يفرغ» من يُحدّثهم، ولا يُمهلونه حتى يُتمّ حجّته، ولا يُنصتون إليه إلا ليسقطوه، لا ليفهموه. حينها تصير الكلمات رصاصًا، والمواقف سكاكين، وتُختزل الدعوة إلى تصنيفٍ وتبديعٍ وتكفيرٍ، وتضيق الأرض بمَن فيها. ولذلك، فإنّ أولى خطوات النجاة من فتنة الاختلاف هي في أدب الاختلاف، لا في كتمه. وإنّ من رحمة الله بالأمة أن جعل في سيرة نبيها ﷺ هذا الموقف العظيم، ليكون ميزانًا لا يزيغ، وأصلًا لا ينقض. فيا من تمسك بزمام الحجة، لا تمضِ فيها بعجلة، بل قف، وقل لصاحبك: «أفرغت؟»، ثم أنصت له، واعلم أن من لم يُحسن الإصغاء، لم يُحسن البيان، ومن لم يُتقن السكوت، لم يُجِد الدعوة. «أفرغتَ يا أبا الوليد؟» جملةٌ تختصر الدعوة، وتختبر الأخلاق، وتُفرز من يصلح للبناء، ومن يصلح للهدم. فليتنا نُعيدها لا جُملةً في الألسنة، بل خلقًا في القلوب، وليتنا نُعلّم أبناءنا كيف يُنصتون، قبل أن يُحسنوا الرد، وليصبح اختلافنا ميزة، لا مِعولًا للهدم. ولنُوقن، كما أيقن محمدٌ ﷺ، أن الحقّ لا يُخاف عليه من حوار، وأن الباطل لا ينجو من سكوت، وأن النور يعلو، وإن صمت. فهل نقدر – في زمن الضجيج – أن نقول:»أفرغتَ يا أبا الوليد؟» ثم نُعلّم الناس كيف يختلفون؟ وكيف يتناصحون؟ وكيف يُحاورون دون أن يهدموا الجسور؟ مساحة إعلانية

صحيفة الشرق
منذ 2 أيام
- صحيفة الشرق
أين اختفى العلماء؟
234 «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِثوا ديناراً ولا درهماً، إنّما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر». أو كما قال صلى الله عليه وسلم. العلماء إذن ورثة أنبياء، وليسوا ورثة أغنياء. العلماء بيّن النبي الكريم بحديثه الشريف هذا مكانتهم في الأمة. إنهم في مرتبة رفيعة بعد انتهاء فترة النبوات والرسالات. تلك المرتبة لابد أن تقتضي منهم الحفاظ عليها والقيام بحقها. فهل علماء اليوم كذلك؟ العلماء منذ عهد الخلافة الراشدة وحتى عهد قريب جداً، كان لهم تأثيرهم الإيجابي الفاعل أوقات الأزمات والملمات، كما في أوقات السلم والراحات. كانوا، ولابد أن يكونوا إلى ما شاء الله لهم أن يكونوا، بوصلة تهتدي بها الأمة. فهم الأقدر دوماً على توجيه وتشكيل العقول والألباب وفق ما أمر سبحانه. وهذا ما جعل تأثيرهم في الكثير من المشاهد على مدار تاريخ هذه الأمة، بالغا وفاعلا. ولكن بدأ ذلك التأثير في الضمور والخفوت تدريجياً مع تكاثر الأزمات والمصائب. فماذا جرى لهم خلال السنوات الحالكات الماضيات؟ معظم العلماء كما أسلفنا، كانت مكانتهم محفوظة في الخلافة الإسلامية، وإن عانى البعض من جور بعض الولاة والخلفاء، لكن أغلبهم كانت مكانتهم مرموقة محفوظة في الأمة، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. حتى إذا ما سقطت الخلافة قبل مائة عام، تأثر العلماء من ضمن من تأثر بذلك السقوط أو تلكم المصيبة العظمى، فما كان الحل للم شمل العلماء، إلا عبر جامعات تربوية تعليمية كالأزهر والقيروان وما شابههما، أو اتحادات بعد ذلك وروابط وهيئات كالتي نعايشها اليوم. فهل أجدت نفعاً؟ العلماء بوصلة الأمة التساؤلات كثيرة، وهي دليل على أهمية هذه الفئة في هذه الأمة. وكما أسلفنا بأنهم كالبوصلة، صار نهوضهم نهوضا للأمة، وانتكاستهم انتكاسة لها. ولا أتردد في القول بأننا في العقود الأخيرة صرنا نعيش انتكاسة لعلماء الأمة، أو هكذا يبدو لكثيرين، حتى صار لافتاً للأنظار خفوت نجمهم، وضعف تأثيرهم على عامة الناس. وأحداث غزة من أبرز ما يمكن الاستشهاد بها. إذ لا تأثير فاعلاً لتوصيات ونداءات العلماء في هذه المعركة الحاسمة مع أعداء الله والدين. ولا شك أن لهذا الخفوت وضعف التأثير مسببات. وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن السر الذي أوصل العلماء إلى مستوى لا يتأثر غالبية العامة بهم، لا في السلم ولا في الحرب؟ ولماذا صارت العامة فعلاً لا تتأثر بما يصدر عن العلماء من توجيهات أو نداءات؟ وهل كثرة الأزمات وتسارعها وتنوعها في الأمة، والجهل غير المبرر بالدين الذي يتسع يومياً، جعلت الأحاسيس تتبلد، بحيث لا تنفع معها نصيحة ولا توجيه ولا إرشاد علمائي؟ لن أبالغ إن قلت بأننا نعيش ليلة ظلماء كتلك التي قال أبوفراس الحمداني عن نفسه يوم أسره. فنحن اليوم فعلياً نعيش ليلة ظلماء يُفتقد فيها البدر، أو بدرُ العلماء. والناس حيارى يا ربي هذه الأيام، حتى راحت للشرق وللغرب تجني الآلام. ولا شك أن كل هذا بسبب غياب بدر العلماء، الذين تفرقت بهم السبل وتنوعت مآربهم وغاياتهم حتى انقسموا إلى فئات ثلاث لا رابع لها. فئة صامدة وأغلبها مغيبة في السجون والمعتقلات. وفئة ثانية اختارت الصمت والركون إلى الظل، أملاً في أن يتغير الواقع الحالي بقدرة قادر، فيما فئة ثالثة اختارت الوقوف على أبواب السلاطين، ورضيت أن تبيع آخرتها بدنيا غيرها الفانية، حتى صارت لا تتردد قيد أنملة في أن تشرعن للمتغلبين ما بدا وطاب لهم!. استقلالية العلماء المالية من أكثر المسببات التي جعلت أدوار العلماء تتراجع وتتضاءل، وتحتاج إلى معالجة ما، عدم استقلالهم مالياً عن الدولة لسبب وآخر. إن عدم تمتعهم بهذه الاستقلالية من أسباب تراجع تأثيرهم وفعاليتهم على مستقبل الأوطان والشعوب. اعتماد العالم في لقمة عيشه على راتب حكومي من هنا، ومكافأة من هناك، تجعله بلا زخم أو تأثير، فهو في نظر العامة، موظف حكومي نهاية الأمر، لا يختلف عن أي موظف!. ما عاناه الأئمة والعلماء السابقون كالحسن البصري وأبي حنيفة وابن حنبل والشافعي ومالك وابن تيمية وابن قيم الجوزية، من جور وظلم الولاة والسلاطين، وعدم خضوعهم لأهواء وأمزجة الأنظمة الحاكمة المخالفة لشرع الله، إنما الذي أعانهم على ذلك الثبات والصمود، هو استقلاليتهم المادية أولاً، ولأنهم ثانياً، كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة أنبياء. أي أنهم هم الأصل في حياة الأمة، والدولة بعد ذلك، وأنه ما قامت الدولة في الإسلام إلا لحماية الدين، وليس العكس. تأثير العلماء على مستقبل الدول إن استقراءً سريعاً عبر تاريخ الأمة، سنجد كم كان العالم الرباني، صاحب تأثير فاعل بالغ على سياسة ومستقبل الدولة بأكملها. فهذا العز بن عبد السلام، ضمن أحد المواقف الشهيرة في تاريخنا، وفي أهم وأخطر الأوقات التي مرت على الأمة حين واجهت خطراً وتهديداً وجودياً تمثل في عبثية ووحشية المغول، برز نجم الشيخ، الذي لعب دوراً هاماً في تحفيز الشعب ومن قبله الملك قطز، للتصدي لخطر المغول. مما يحكى عنه، أن قطز وهو يستعد للمعركة الفاصلة مع المغول، أمر بجمع الأموال من الرعية ولم يعارضه أحد من العلماء في بلاطه يومها إلا العز بن عبدالسلام، الذي وقف في وجهه وطالبه ألا يأخذ شيئاً من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم، بالمقادير التي تتناسب مع ثرواتهم حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على تجهيز الجيش، فإذا لم تكف الأموال، يمكن حينها للملك أن يفرض الضرائب على بقية الناس. فتراجع قطز عن قراره ونزل على حكم الشيخ، الذي أثار كل خطباء وعلماء الأمة يومها وطالبهم بتحفيز الناس على الجهاد، حتى نهض المسلمون في مصر وامتلأت نفوسهم ايماناً كان سبباً في ثباتهم وصمودهم في عين جالوت الفاصلة ودحر المغول للأبد. الشيخ آق شمس الدين، العالم الرباني الذي لعب دوراً مؤثراً في استنهاض همة العثمانيين في تجسيد وتحقيق البشارة النبوية (لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش) نموذج آخر للعالم الرباني المؤثر، حيث كرس جهده في تربية السلطان محمد بن مراد الثاني منذ صغره على هذا الهدف وتلكم الغاية، حتى تحقق فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد ولُقّب بالفاتح العسكري، وصار الشيخ يُعرف بالفاتح المعنوي لهذه المدينة الحصينة. خلاصة ما يمكن أن نختم به هذا الحديث، أنه مثلما ظهر علماء سلاطين على مدار تاريخنا إلى اليوم، فإنه لا يمنع ظهور العز بن عبدالسلام، والحسن البصري، وابن تيمية وآخرين كثر، يصدعون بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم. ولقد ثبت بالتجربة أن صلاح هذه الأمة ونهضتها، كما أسلفنا، مقترنان بصلاح ونهضة علمائها، وإن سقوط البعض القليل منهم ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل للغالبية بالضرورة. إن أمة ظهر فيها العز بن عبدالسلام الذي سخره الله لتنجو بفضله سبحانه، ثم بتأثير هذا الشيخ الكبير من خطر الزوال على يد المغول، قادرة على أن تُنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها. وإنّ سوء حال الأمة اليوم لا يمنع كذلك من التفاؤل بغد أفضل وأجمل، فالله سبحانه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. مساحة إعلانية