
الوهج الزائف
كلما تابعت موقفاً أو تصرفاً من تصرفات بعض ممثلي السينما والتلفزيون الحاليين أتذكّر ممثلين من قماشة الراحلين، نور الشريف، ومحمود عبد العزيز، وأحمد زكي، وأقول في نفسي: "أين كنا وأين أصبحنا؟ في أي قمة كان الفنّ والتمثيل وإلى أي درك هبط وانحدر؟"، لا تقليلاً من موهبة الشباب الجدد؛ فبعضهم، والحق يُقال، يجيد التمثيل ويبرع فيه. لكن المشكلة ليست في أدائه التمثيلي بل في سلوكه العام، سواء على خشبة استعراض أم في طائرة خاصة أم في افتتاح مهرجان. فهذا البعض مأخوذ بالأضواء وبــــ "كسر مزراب العين"!
طبعاً المسألة ليست وقفاً على ممثل بعينه أو ممثلة بذاتها؛ فكثير من الفنانين الموهوبين أفقدتهم الشهرة صوابهم، وجعلهم حب الظهور الدائم أشبه بالمعاتيه، ولنا أمثلة على ذلك في أدائهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذا العالم الافتراضي الذي تتحول فيه الأضواء إلى جمر حارق، والألقاب إلى أقنعة ثقيلة، تُغرِق مواهب فنية في بحر الشهرة العاتي، فتُنسيها سبب وجودها.
إنها مفارقة غريبة: كلما ارتفع نجم الممثل، كلما خفت بريق موهبته الحقيقية، وكأنما النجومية سيف ذو حدين؛ أحدهما يلمع في عيون الجمهور، والآخر يقطع جذور الإبداع.
لم تكن الشهرة يوماً عدواً للفن، لكنها تصير كذلك حين تتحول إلى غاية بدل الوسيلة. يبدأ الممثل رحلته بحثاً عن الحقيقة الإنسانية، متسلحاً بموهبته وقدرته على التحليل والتجسيد، لكنه ما يلبث أن ينبهر بومض الكاميرات، فيستبدل الحوارات العميقة بخطابات مُعلَّبة، ويستبدل الشخصيات المعقدة بأدوار تكرس صورته كـ"نجم" لا كفنان. هنا تتحول المهنة إلى مسابقة على عدد المتابعين، وحضور الحفلات، وارتداء أحدث الصيحات، فيغيب جوهر التمثيل: القدرة على الإيهام بالحقيقة.
لا تقتصر المأساة على الانزياح عن الجوهر الفني، بل تتجلى في الحرب التي يشنها البعض ضد طبيعته البشرية. ففي سعي محموم نحو الكمال المزيف، تتحول وجوه كانت قادرة على التعبير عن غضب هاملت وحزن أنطوني(في المسرح الشكسبيري) إلى مساحات جامدة، أشبه بتماثيل رخامية تثير الإعجاب باللمسة الجراحية، لكنها تعجز عن نقل دفء الدمعة أو رعشة الابتسامة. كيف لممثل أن يعبر عن الحياة وهو يسجن ملامحه خلف قضبان البوتوكس؟ لقد باتت العواطف تُرسم بالحقن بدل الملامح والقسمات، ففقدت صدقها.
لا يكفي أن يحفظ الممثل النص أو يتقن حركة الجسد، فالفن الحقيقي يبدأ عندما يصير المرء قادراً على رؤية العالم من عيون الآخرين. كيف لممثل أن يجسد ألم المهاجر وهو يجهل قصص اللجوء؟ أو كيف يعبّر عن ثورة المهمشين وهو لم يفتح كتاباً عن تاريخ نضالاتهم؟
تُنسي الشهرة بعض النجوم أن التمثيل ليس مجرد تقليد، بل هو فنُّ التفكيك والتركيب، إذ يجب أن يمتلك الممثل عين السوسيولوجي، وقلب الشاعر، وإصرار الناشط السياسي.
عندما يصرف النجم وقته وماله على صالونات التجميل وقوائم الموضة، يفقد أهم أدواته: الشرارة الإنسانية التي تشعل الإبداع. فالممثل المثقف الذي يقرأ في الفلسفة، يتابع التحولات الاجتماعية، ويخوض في تفاصيل القضايا الإنسانية، لا يؤدي شخصية بل يحييها من داخلها. أنظر إلى العمالقة مثل فاتن حمامة أو أحمد زكي كيف حوّلا تجارب الحياة وقضايا المجتمع إلى وقود لفنِّهما. لم يكونا مجرد وجهين جميلين، بل شاهدين على عصرهما، يحملان هموم الناس إلى الشاشة والخشبة.
اليوم، حيث تصرخ الشاشات بأزمات العالم من حروب وتغير مناخي وصراعات هوية، يصبح التثقيف الذاتي واجباً فنيّاً. فكل دور هو مغامرة استكشافية تتطلب معرفة بالتاريخ، وفهماً للسياق، ووعياً بالصراعات الخفية. لا يمكن لفنٍّ أن ينمو في فراغ، كما لا يمكن لوجهٍ جامدٍ أن يعكس ثراء الحياة. إذا كان التمثيل هو فن التعاطف، فكيف يتعاطف مَن يعيش في برجٍ عاجيٍّ لا يسمع فيه إلا صدى إعجاب المتابعين؟
النجومية الحقيقية ليست في عدد الجوائز، بل في القدرة على تحويل الفن إلى جسر بين الواقع والمتخيل. ومهما تطورت التقنيات، سيظل الممثل الجاهل كمن يحاول رسم البحر وهو لم يغادر غرفته.
في المسرح الإغريقي، كان الممثل يلبس قناعاً، لكنه لم يكن يخفي وراءه فراغاً. بل كان القناع أداةً لتضخيم المشاعر حتى تصل إلى آخر الصفوف. أما اليوم، فالقناع الحقيقي هو الوجه نفسه حين يفقد مرونته، وحين يختار صاحبه البقاء في "الترند" بدل الغوص في الأعماق. لطالما كان التمثيل مرآةً للمجتمع، فكيف تُظهر المرآة شيئاً إن كانت مغطاة بطبقات من الغبار؟
في السينما الواقعية الجديدة، وعلى خشبات المسرح العالمي، كان الممثلون عراةً من الزيف. فبروز التجاعيد، وخشونة الصوت، وعدم تناسق الملامح، كانت أدواتهم لسرد قصص أكثر قرباً من الإنسان. اليوم، نحتاج إلى ثورة فنية تعيد تعريف النجومية: ليست الشهرة هي التي تصنع الموهبة، بل الموهبة الصادقة هي التي تصنع مجداً دائماً. لن يتذكّر التاريخ ممثلاً لأن وجهه كان مثالياً، بل لأن عينيه أخبرتا قصة لم نستطع نسيانها.
التمثيل الحقيقي ليس حرفةَ ظهور، بل فلسفة اختفاء. أن تذوب في الشخصية حتى يظن الجمهور أنك لم تعد نفسك. أما حين يصبح الممثل مسحوراً بانعكاس صورته في المرايا الإعلامية، يغدو كمن يرقص وحيداً تحت مطر من الأضواء.. يصفق له الجميع، لكن أحداً لم يفهم ماذا قال.
الفنّ ليس فقط وسيلة ترفيه. فيه جانب من الترفيه طبعاً. لكنه في جوهره أحد أرقى أشكال التعبير التي ابتكرها الإنسان، وحين يتخلى الفن عن بعده الإنساني يتخلى فعلياً عن قيمته الحقيقية، ويغرق في مستنقع الابتذال والمجانية. باختصار لا فنّ بلا قضية. وقضيته الأولى: الإنسان ورفعته وسموّه، لا البهرجة والاستعراض الفارغَان!
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


LBCI
منذ ساعة واحدة
- LBCI
توم كروز يطمئن جمهوره: "لن أتوقف عن صناعة الأفلام"
كشف النجم توم كروز أنه لن يعتزل التمثيل وينوي مواصلة صناعة الأفلام حتى بعد بلوغه المئة. وقال كروز خلال العرض الأول لفيلم Mission: Impossible - The Final Reckoning في نيويورك يوم الأحد الماضي: "لن أتوقف أبداً". وأضاف كروز: "لن أتوقف أبدًا عن صناعة أفلام الأكشن والدراما والكوميديا، أنا متحمس". وتابع كروز: "أشعر أنني محظوظ جدًا لأنني أستطيع صنع الأفلام التي أصنعها، وأحب ذلك. أعشق صناعة الأفلام". — The Hollywood Reporter (@THR) May 18, 2025


LBCI
منذ 4 ساعات
- LBCI
"القوة... الحرية... الأمل"... هكذا شوقت نوال الزغبي جمهورها لألبومها الجديد!
تستمر النجمة نوال الزغبي في تشويق جمهورها لألبومها الجديد الذي سيبصر النور قريباً عبر حساباتها على مواقع التواصل. وكتبت نوال الزغبي في منشور عبر حسابها على إكس: "القوة... الحرية... الأمل"، مع هاشتاغ "ألبوم نوال الزغبي". القوّة… الحريّة… الأمل . #البوم_نوال_الزغبي — Nawal El Zoghbi - نوال الزغبي (@NawalElZoghbi) May 19, 2025


الميادين
منذ 18 ساعات
- الميادين
ليس جديداً.. ألعاب الأطفال في سوريا كانت تباع قبل 4500 عام!
أظهر اكتشاف أثري 19 خشخيشة طينية صُنعت في مدينة حماة بسوريا خلال العصر البرونزي، أن بيع ألعاب الأطفال ليس ابتكاراً حديثاً، بل كان موجوداً في سوريا قبل 4500 عام، وفق باحثة في المتحف الوطني الدنماركي. وقالت المعدّة المشاركة للدراسة التي تناولت هذا الاكتشاف ونشرتها مجلة "تشايلدهود إن ذي باست" العلمية المتخصصة، ميته ماري هالد، لوكالة "فرانس برس": "إذا كان المرء (في ذلك الزمن) يريد تسلية طفله، كان يستطيع إعطاءه ملعقة خشبية أو حجراً". لكن حتى في ذلك الوقت قبل 4500 عام، كان لدى الوالدين خيار آخر، وهو أن "يذهبا إلى السوق ويشتريا الألعاب المصنوعة من محترفين". فقد اكتشف الباحثون مصادفة ضمن مجموعات المتحف الوطني الدنماركي قطعاً من 19 خشخيشة طينية صنعت في حماة، يعود تاريخها إلى العصر البرونزي، وهي أكبر مجموعة من نوعها. وأوضحت ميته ماري هالد "إلى جانب القطع، يلاحظ أنّ الطين مشغول بالطريقة نفسها تماماً التي تشغل بها الأواني العادية التي يصنعها محترفون"، مشيرة إلى أنّ جودة الخشخيشات تجعل من المستبعد أن يكون الوالدان غير المحترفين صنعاها. وأملت ميته ماري هالد في أن تتيح الدراسة للمتخصصين درس قطع الطين عن كثب. إذ قد يتبيّن أنّ أشياء أخرى هي ألعاب، مثل بعض التماثيل. وأضافت "غالباً ما تصنّف على أنها تماثيل توضع في معابد، لكننا نتساءل عمّا إذا كانت ألعاباً مصنوعة للأطفال، لأنها متنوّعة وتبدو مضحكة جداً". ويصعب التعرّف إلى طبيعة الألعاب إذ نبش معظمها خلال الحفريات الأثرية على شكل شظايا ولم تكن متكاملة.