
هندسة التهجير القسري.. من النكبة إلى حرب الإبادة
ما يعزز هذا الاستنتاج هو سلسلة من الإجراءات الإسرائيلية المتلاحقة والخطوات التنفيذية على الأرض، التي سنعرضها وفق تسلسلها الزمني كما نفذها الاحتلال.
أوامر الإخلاء
بدأت الخطة الإسرائيلية عام 2023 بعمليات قصف مكثفة استهدفت المناطق السكنية، وهدمت المباني فوق رؤوس ساكنيها، وارتكبت مجازر يومية أنهت ما تبقى من خطوط حمراء، إذ قصفت كل شيء: المستشفيات، والعيادات، والمنازل، والمؤسسات، والشوارع، وحتى سيارات المدنيين.
بالتزامن مع هذه المجازر، أصدرت سلطات الاحتلال منذ الأيام الأولى للحرب أوامر إخلاء جماعية لسكان شمال قطاع غزة، مطالبة إياهم بالنزوح إلى مناطق وسط وجنوب القطاع عبر ما سمته "ممرات آمنة" لم تكن في الواقع سوى مصائد للقتل والاعتقال، بعد أن فصلت الشمال عن الوسط والجنوب.
هُدد السكان عبر منشورات ورسائل هاتفية ووسائل إعلام إسرائيلية، كما اقترن ذلك بالفعل الإجرامي على الأرض، في مقدمة لسياسة تفريغ جغرافي مدروسة.
وبعد خروج معظم السكان وصمود من تبقى، واصل جيش الاحتلال التدمير الشامل للمناطق المُخلاة، عبر غارات متتالية وتسوية أحياء بأكملها بالأرض، مما جعل العودة إليها مستحيلة، حتى بعد انتهاء القتال.
النزوح الداخلي
مع تصاعد التهجير، لجأ أكثر من 1.9 مليون فلسطيني إلى الجنوب، فتكدسوا في مناطق مثل رفح وخان يونس في ظروف إنسانية كارثية.
شُيدت آلاف الخيام العشوائية في أراضٍ قاحلة، من دون بنية تحتية أو مصادر مياه وكهرباء. وارتفعت معدلات انتشار الأمراض، وسجلت منظمات أممية مئات الوفيات نتيجة البرد أو نقص الغذاء أو غياب الرعاية الطبية.
إعلان
هذا الواقع لا يمثل مجرد أزمة إنسانية طارئة، بل يعكس سياسة ممنهجة تهدف إلى تجريد السكان من حقوقهم في السكن والعودة، ودفعهم نفسيا وجسديا نحو الهجرة خارج القطاع.
حتى بعد وقف إطلاق النار في مارس/آذار 2025 ، ورغم السماح بعودة السكان إلى شمال القطاع، لم يتمكن معظمهم من العودة، إذ لم يجدوا مساكن يعودون إليها، بعد تدمير مساحات واسعة في جباليا وبيت حانون والشجاعية والزيتون، وهو ما يُعد جزءا من المخطط الإسرائيلي لقطع أي إمكانية للعودة.
دعوات رسمية للتهجير
منذ بداية العدوان، برزت دعوات علنية من مسؤولين سياسيين وعسكريين في إسرائيل تطالب بتهجير سكان غزة إلى الخارج.
فقد صرح وزراء ونواب في حكومة الاحتلال بضرورة "إعادة توطين سكان غزة في دول أخرى"، و"تفكيك القطاع"، كما قُدمت دراسات واقتراحات رسمية لترحيل مئات الآلاف إلى دول أفريقية أو أميركا الجنوبية.
ولم تكن هذه الدعوات مجرد تصريحات إعلامية، بل جرى نقلها رسميا إلى بعض الدول المجاورة، وفتحت الحكومة الإسرائيلية قنوات دبلوماسية مع دول مثل قبرص، والكونغو، وأوغندا، لبحث استقبال السكان المهجرين، لكن معظم تلك الدول رفضت المشاركة في مشروع يحمل مخاطر سياسية وقانونية جسيمة.
قال يسرائيل كاتس، وزير الدفاع، صراحة: "كل السكان المدنيين في غزة مأمورون بالمغادرة فورا. لن تتسلموا قطرة ماء أو بطارية حتى تغادروا العالم".
وفي مارس/آذار 2025، أصدر توجيها بإعداد خطة تتيح "الخروج الطوعي" من غزة، واقترح إنشاء "مدينة إنسانية" على أنقاض رفح لإيواء النازحين، لكنه أشار لاحقا إلى أن "المغادرة لن تكون ممكنة"، وأن الهدف هو تجميع سكان القطاع في تلك المنطقة.
أما وزير الدفاع السابق يوآف غالانت فقال: "أمرتُ بفرض حصار كامل على غزة. لا كهرباء، لا ماء، لا طعام، لا وقود. كل شيء مغلق. نحن نحارب حيوانات بشرية ونتعامل على هذا الأساس".
في السياق ذاته، دعا وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى "تشجيع الهجرة الطوعية"، واعتبرها "الحل الإنساني الصحيح"، بل صرح في مايو/أيار 2025 بأن تدمير المنازل كفيل بدفع الفلسطينيين إلى الهجرة.
الوزير المتطرف إيتمار بن غفير كرر ذات الدعوة، واعتبر التهجير "الحل المشروع"، فيما استخدم قادة آخرون مثل آفي ديختر، وأرييل كالينر، وغاليت ديستل أتباريان، لغة تُذكر بنكبة 1948، ودعوا إلى "نكبة جديدة" لتهجير الفلسطينيين.
الوجه الآخر للترحيل القسري
سعت بعض الدوائر الإسرائيلية إلى الترويج لما سُمي "الهجرة الطوعية"، من خلال تقديم "حوافز" مالية أو فرص عمل في الخارج مقابل مغادرة غزة.
في الظاهر، يبدو الطرح إنسانيا، لكنه في الواقع وجه آخر للتهجير القسري المقنَع، إذ يُعرض على من فقد كل شيء، من مسكن وأهل وموارد، أن يغادر، في ظل غياب أي خيار آخر للبقاء.
هذه "الطوعية تحت الإكراه" تُصنف قانونيا على أنها ترحيل قسري، وتنتهك اتفاقيات جنيف، ومبادئ القانون الدولي الإنساني.
ليس نزوحا مؤقتا
حين يُجبر الفلسطيني على النزوح من بيته ومنطقته تحت نيران الطائرات والدبابات، دون ضمانات للعودة، فهذا ليس "نزوحا مؤقتا" ولا خيارا شخصيا، بل هو تهجير قسري بموجب القانون الدولي الإنساني.
فمنذ بداية الحرب، أُجبر أكثر من 1.9 مليون فلسطيني، أي نحو 85% من سكان القطاع، على ترك منازلهم قسرا، والنزوح إلى جنوب القطاع في ظروف إنسانية قاسية. كثيرون منهم نزحوا أكثر من مرة، وبعضهم فقد حياته قبل أن يجد مأوى.
الاحتلال يدعي أن هذه "هجرة طوعية"، لكن الحقيقة أن الناس يُطردون من بيوتهم عبر القصف والتجويع والحصار، ولا يُمنحون فرصة للبقاء أو العودة. هذا النوع من النزوح الداخلي ليس إلا مقدمة لتهجير خارجي دائم، وهو ما تثبته العقود السابقة.
رفض عربي للتهجير
كان لموقف مصر والأردن وعدد من الدول العربية دور حاسم في التصدي لهذا المشروع.
فقد أعلنت مصر رفضها القاطع أي تهجير للفلسطينيين إلى سيناء، معتبرة ذلك "خطا أحمر" وتهديدا للأمن القومي. وكذلك أكد الأردن ودول أخرى رفضها المشاركة في أي مشروع يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال تفريغ غزة من سكانها.
سلاح التجويع
اعتمد الاحتلال سياسة التجويع منذ الساعات الأولى للعدوان، كأداة لإخضاع السكان، ودفعهم لاتخاذ قرارات لا إنسانية.
فأُغلقت المعابر، ومُنع دخول الغذاء والماء والدواء، واستُهدفت شاحنات المساعدات، وسُيطر على قنوات التوزيع، حتى باتت المجاعة واقعا يوميا في القطاع، لا سيما في شماله.
تقارير الأمم المتحدة أكدت أن مئات الآلاف يواجهون مستويات "كارثية" من انعدام الأمن الغذائي، فيما توفي أكثر من 550 شخصا أثناء انتظار المساعدات، غالبيتهم من الأطفال والنساء.
يندرج هذا الاستخدام للتجويع ضمن تعريف "سلاح الحرب"، وفق اتفاقية جنيف الرابعة (المادة 54)، ويُعد من جرائم الحرب.
المخطط.. سياسة قديمة
منذ أكثر من سبعة عقود، كان مخطط التهجير وما يزال أداة ممنهجة في مشروع استعماري إسرائيلي يهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين وإحلال مجموعات مستوردة مكانهم.
التهجير القسري لم يبدأ في غزة، بل هو حجر الزاوية في المشروع الصهيوني منذ بداياته. فقبل إعلان قيام "إسرائيل" 1948، نفذت المليشيات الصهيونية خطة منظمة لطرد السكان الفلسطينيين من مدنهم وقراهم، وارتكبت عشرات المجازر لبث الرعب ودفع الأهالي إلى الفرار.
ووفق الأرقام الموثقة، فقد دمرت المليشيات أكثر من 500 بلدة وقرية فلسطينية عام 1948، وطُرد أكثر من 750 ألف فلسطيني إلى خارج حدود ما أصبح لاحقا "إسرائيل"، ولم يُسمح لهم بالعودة رغم قرار الأمم المتحدة 194 الذي يضمن هذا الحق.
أما من بقي داخل حدود الدولة الجديدة، فتم تهجير عشرات الآلاف منهم من قراهم إلى مناطق أخرى، وحُرموا من العودة إلى بيوتهم.
قطاع غزة ذاته أصبح ملاذا مؤقتا لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين طُردوا من مدنهم وقراهم في الجنوب والوسط (مثل بئر السبع، المجدل، الفالوجة، يافا، عسقلان… إلخ). هؤلاء لم يُسمح لهم يوما بالعودة إلى أرضهم، وعاشوا كلاجئين داخل وطنهم، محرومين من أبسط حقوقهم.
ملايين في الشتات
اليوم، هناك أكثر من 6 ملايين لاجئ فلسطيني خارج فلسطين، يعيشون في الأردن، وسوريا، ولبنان ومناطق أخرى من الشتات، محرومين من حق العودة. هؤلاء لا تذكرهم إسرائيل إلا كـ"عقبة" في وجه "السلام"، بل وتسعى إلى محو وجودهم نهائيا، خاصة مع استهداف وكالة الأونروا، الشاهد القانوني والسياسي على وجودهم كلاجئين.
الاتهامات الأخيرة للأونروا بـ"الإرهاب"، ومحاولات تفكيكها أو استبدالها بمؤسسات جديدة، ليست بريئة، فالأونروا ليست مجرد مؤسسة إغاثة، بل هي رمز لحق العودة واعتراف دولي بأن وجود الفلسطيني في المخيم هو حالة مؤقتة، إلى حين عودته إلى بيته الأصلي. وتفكيكها يعني محاولة فرض النسيان على هذا الحق.
استقدام مهاجرين
الهدف النهائي للاحتلال لم يتغير، وهو السيطرة الكاملة على الأرض، وتفريغها من سكانها الفلسطينيين، وإحلال مستوطنين مكانهم. حتى اليوم، تستقدم إسرائيل مهاجرين من دول لا تربطهم أي صلة بهذه الأرض، بينما تمنع الفلسطيني المولود في يافا أو المجدل أو القدس من العودة إلى بيته.
التهجير القسري ليس مجرد حالة إنسانية مؤلمة، بل هو جريمة مستمرة يجب أن تُواجه دوليا. وكل خطوة نحو نزوح جديد، سواء داخل البلاد أو خارجها، هي جريمة تُضاف إلى سجل طويل من الانتهاكات التي تستهدف اقتلاع الفلسطيني من جذوره.
لا يمكن أن يكون من يُجبر على الهروب من تحت القصف مهاجرا "طوعيا".
تُستخدم أدوات عسكرية، وإنسانية، ونفسية، وقانونية، وسياسية، لخلق بيئة طاردة تدفع السكان للمغادرة، وتحولهم إلى لاجئين جدد في الشتات.
ورغم فشل هذا المشروع حتى الآن بفضل صمود الشعب الفلسطيني ورفض الدول المجاورة، فإنه لا يزال قائما ويتحرك بأشكال مختلفة.
وهو ما يستدعي تحركا دوليا عاجلا، قانونيا وسياسيا، لوضع حد لهذا الانتهاك الفاضح للقانون الدولي، وضمان حق الفلسطينيين في البقاء والعودة والعيش بحرية وكرامة في وطنهم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 27 دقائق
- الجزيرة
رئيسة وزراء الدانمارك: نتنياهو أصبح مشكلة بحد ذاته
وجهت رئيسة الوزراء الدانماركية مته فريدريكسن انتقادات شديدة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، وقالت إن إسرائيل ستكون في وضع أفضل بدونه، وهي المرة الأولى التي يُقال فيها ذلك بهذا الوضوح. وقالت فريدريكسن في مقابلة مع صحيفة يولاندس بوستن الدانماركية، حول الهجمات الإسرائيلية على غزة، إن تصرفات نتنياهو المستمرة والعنيفة جدا في غزة غير مقبولة، ورغم تأكيدها أن الحكومة الإسرائيلية هي شأن داخلي للإسرائيليين، لكنها شددت على قناعتها الراسخة بأن نتنياهو يمثل مشكلة بحد ذاته. وردا على سؤال عما إذا كان ينبغي على الدانمارك أن تساعد أطفال الحرب بالخروج من غزة ونقلهم إلى مستشفيات دانماركية، قالت فريدريكسن "ما زالت الكارثة الإنسانية في غزة تشغل حيزا كبيرا من اهتمامنا. إن الصور التي نراها من غزة مروّعة. أطفال بلا طعام. بلا دواء. تحت الأنقاض. إن المعاناة الإنسانية لا يمكن تصورها. ولا يمكن تبريرها". واعتبرت أن التصرفات العنيفة من جانب إسرائيل تقوّض فرص تحقيق حل الدولتين، وينطبق ذلك أيضا على المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية ، مؤكدة أن الدانمارك تؤيد إقامة دولة فلسطينية "وقد كان ذلك دائما جزءا من حل الدولتين الذي نراه الطريق نحو المستقبل". وقالت "نتحمل مسؤولية التأكد من أن الاعتراف بفلسطين يخدم الغاية الصحيحة، ويجب أن يحدث ذلك في الوقت الذي يساهم فيه فعليا بتعزيز حل الدولتين. وأن يضمن قيام دولة فلسطينية مستدامة وديمقراطية.. وبالطبع، يجب أن يتم ذلك على أساس الاعتراف المتبادل بإسرائيل". لكن فريدريكسن اعتبرت أن الاعتراف بدولة فلسطين في هذه اللحظة لن يساعد آلاف الأطفال الذين يصارعون الآن من أجل البقاء، مهما كان مدى رغبتنا في ذلك. واستطردت "بدلا من ذلك، علينا أن نزيد الضغط على كل من إسرائيل وحماس. في الأشهر الستة القادمة، تتولى الدانمارك رئاسة الاتحاد الأوروبي. وهي مسؤولية خاصة، وسنعمل من خلالها على زيادة هذا الضغط.. سيكون من الصعب حشد الدعم الكافي، لكننا سنبذل كل ما في وسعنا". وشددت على أن الأولوية القصوى الآن هي إيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين في غزة، معتبرة أن منع وصول المساعدات أمر غير مقبول على الإطلاق. وخلفت حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، 61 ألفا و827 شهيدا و155 ألفا و275 مصابا، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، فضلا عن مجاعة أزهقت أرواح نحو 240 شخصا، بينهم 107 أطفال.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
تحركات "قسد" نحو مناطق دمشق.. مناوشة عابرة أم تكتيك لمسار جديد؟
الحسكة- بعد أيام من محاولات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التمدد في مناطق سيطرة الحكومة السورية، يتجدد الجدل حول دوافعها وحدودها واحتمالات التصعيد المقبل. وشهدت خطوط التماس بين الجيش السوري و"قسد" شمالي البلاد مناوشات متقطعة، فتحت الباب أمام تساؤلات أوسع عن مستقبل العلاقة بين الطرفين. وجاءت الاشتباكات الأخيرة، الأربعاء، وسط تصاعد التوترات السياسية، مما دفع مراقبين إلى اعتبارها رسائل ضغط محسوبة، بينما يُحذِّر آخرون من انزلاق نحو صدام أشمل. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل تمثل هذه التحركات مجرد تكتيك عابر، أم بداية لتحول إستراتيجي في مسار العلاقة بين دمشق وقسد؟ اتهامات ورسائل من جهتها، وصفت دمشق الحادث بأنه "عمل عسكري منظم"، مؤكدة أن "قسد" تواصل خرق الاتفاقات، وأنها سترد على أي هجوم جديد لحماية قواتها. وقالت إدارة الإعلام والاتصال في وزارة الدفاع السورية للجزيرة نت إن تسلّل مجموعتين من "قسد" إلى نقاط انتشاره في تل ماعز شرقي حلب كان "عملية منظمة" لا حادثا عرضيا. وفي المقابل، اتهمت "قسد" مجموعات "غير منضبطة" تابعة للحكومة السورية باستفزازها في محور دير حافر وحلب. وقالت في بيان لها إن التحركات تضمنت تحليق طائرات مُسيَّرة تابعة لتلك المجموعات، واعتبرت ذلك انتهاكا لوقف إطلاق النار وتهديدا للمدنيين. ويرى المحلل السياسي بسام سليمان أن التصعيد مرتبط بتوتر مسار التفاوض، إذ قرأت "قسد" التحولات الإقليمية والدعوة الفرنسية "بشكل مختلف، وروّجت لنفسها كبديل عن الحكومة". ويشير إلى أن "قسد" تريد بعث رسائل بأن سوريا تحت حكم هذه السلطة غير مستقرة، وفي الوقت نفسه تروج لنفسها عبر المؤتمر الذي عقد في الحسكة أنها تحتوي على جميع مكونات الشعب السوري. وأضاف للجزيرة نت أن "قسد" تسعى لإظهار دمشق كتهديد للمكونات، في حين تقدم نفسها كمظلة جامعة لها، مع تعزيز أوراقها التفاوضية وإظهار الحكومة كسلطة طائفية عاجزة عن إدارة التنوع. إثبات وجود من جهته، يرى الباحث السياسي عماد مصطفى أن خطوة "قسد" تحمل رسالة مزدوجة: إعلان إظهار القدرة على المبادرة وتوجيه إنذار بأن أي محاولة لاستغلال انشغالها لن تمر بلا رد. اختبار مرونة قواعد الاشتباك واحتمالات التصعيد في المستقبل. ويضيف مصطفى، الذي يقيم في الحسكة ، أن "دمشق تريد تثبيت حضورها كرمز للسيادة، وقسد تسعى لقطع الطريق على أي تمدد يخلّ بتوازن القوى في مناطقها". ورجَّح ألا يتحول التوتر الأخير إلى مواجهة كاملة "لأن الطرفين يدركان كلفة الانزلاق إلى صراع شامل"، ومع ذلك يرى أنه إذا تراكمت حوادث مماثلة، مع غياب قنوات لضبط التوتر، فقد تنتقل تدريجيا إلى مستوى تصعيدي أوسع. "تفاهمات هشة" أما الباحث في مركز جسور للدراسات وائل عمران فذهب إلى أن تحركات "قسد" في مناطق حلب و دير الزور تهدف إلى تثبيت وجودها في الحسكة وتأمين مكتسباتها السياسية، حتى لو تراجعت نسبيا في تلك المناطق. وقال للجزيرة نت إن "التحركات الأخيرة تأتي دفاعية واستباقية، الحكومة قد تستخدم نفوذها بشكل محدود من دون الدخول في صدام واسع". وأضاف أن التفاهمات بين الطرفين ستبقى هشة، لكنها لن تنهار بالكامل، وتابع "سيسعى كل طرف للحفاظ على الاتفاقات السابقة وتوجيه اللوم للطرف الآخر عند حدوث أي خرق"، وفي الوقت نفسه تستغل "قسد" هذه الاشتباكات لتعزيز موقفها التفاوضي والحصول على مكتسبات "اللامركزية السياسية". ومن منظور إستراتيجي، يرى الباحث عمران أن الخيار العسكري الواسع غير مطروح، سواء محليا أو إقليميا ودوليا، لكن قد يلجأ الطرفان إلى مواجهات محدودة ومتفرقة لفرض شروطهما على طاولة التفاوض. وبهذا الأسلوب، تبقى الاشتباكات أداة ضغط أكثر منها صراعا مفتوحا، مع الحفاظ على التوازن بين القوة العسكرية والمكاسب السياسية.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
تدمير أحياء غزة يكشف مخطط نتنياهو لاحتلال المدينة
غزة- كثفت قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال الأسبوع الأخير غاراتها الجوية وعمليات نسف وتفجير المباني السكنية في حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة ، مما أجبر معظم سكانه على النزوح قسرا باتجاه غرب المدينة. ويتزامن هجوم الجيش الإسرائيلي مع حجم الدمار الهائل الذي خلفته عملياته العسكرية في حيي الشجاعية و التفاح شرق غزة بعد تراجع الآليات من وسطهما، مما يرجح أن الحكومة الإسرائيلية بدأت خطوات فعلية على الأرض لاحتلال ما تبقى من المدينة. وبدأ التوغل البري الأخير للجيش الإسرائيلي في مدينة غزة في 3 أبريل/نيسان الماضي عندما أصدر أوامر بتهجير أهالي حي الشجاعية شرق المدينة، وأعلن عن عملية عسكرية هناك أدت إلى تدمير أجزاء واسعة من الحي ومنع سكانه العودة إليه. ويقطن حي الشجاعية 110 آلاف شخص، وتبلغ مساحته نحو 14.3 كيلومترا مربعا، أي ما يشكل 20% من مساحة محافظة غزة الإجمالية التي تمتد على 70 كيلومترا مربعا ويسكن فيها أكثر من 803 آلاف نسمة، بحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. ومطلع مايو/أيار الماضي، امتدت العمليات العسكرية الإسرائيلية البرية إلى حي التفاح المقدرة مساحته بنحو 2.8 كيلومتر مربع، أي ما يعادل 4% من مساحة مدينة غزة، ويسكنه 37 ألف فلسطيني. وقبل أسبوع شرع الاحتلال في عمليات نسف واسعة بحي الزيتون البالغة مساحته 9.1 كيلومترات مربعة، مما يشكل 13% من مساحة المدينة، ويقطنه 78 ألف فلسطيني. ومع فرض الجيش الإسرائيلي سيطرته بالقوة النارية على الأحياء الثلاثة يكون احتل ما نسبته 37% من محافظة غزة، أي ما يزيد على ثلث مساحتها، وأجبر أكثر من 225 ألفا من سكانها على النزوح قسرا. ويعتقد المتحدث باسم بلدية غزة المهندس عاصم النبيه أن من الصعب حاليا حصر الأضرار التي لحقت بأحياء المدينة الشرقية التي توغل فيها جيش الاحتلال، لكنه أكد أنه دمر مساحات واسعة، سواء عبر الغارات الجوية المكثفة والقصف المدفعي والروبوتات المتفجرة. وقال النبيه للجزيرة نت إن معظم المنازل والمنشآت الواقعة شرق شارع صلاح الدين تعرضت للتدمير، في محاولة إسرائيلية لجعل المدينة غير قابلة للعيش، مما يمنع عودة سكانها إليها ضمن مخطط الاحتلال بتهجير الفلسطينيين خارج قطاع غزة. احتلال صامت من جهته، يرى الباحث في الشأن الأمني رامي أبو زبيدة أن ما يجري على الأرض من عملية نسف وتدمير واسعة في حيي الزيتون والصبرة في غزة منذ أيام عدة وما سبقه من تدمير حيي الشجاعية والتفاح يشير إلى بدء عملية عسكرية صامتة لاحتلال المدينة دون إعلان رسمي. ويشير أبو زبيدة في حديثه للجزيرة نت إلى أن قوات الاحتلال تمهد الأرض للزحف باتجاه وسط المدينة، وهو ما يبدو واضحا من حجم تفجير الروبوتات المتسارع في جنوب المدينة، ويقول "بعض قادة الاحتلال يريدون تكرار مشهد دمار بيت حانون داخل مدينة غزة". ولا يستبعد أبو زبيدة أن يكون الحديث عن خلاف بين المستويين السياسي والعسكري بشأن احتلال مدينة غزة مجرد عملية تضليل تتزامن مع تجهيز مسرح العمليات على الأرض، مشددا على أن ما يجري هذه المرة يفتح الباب أمام حرب شوارع وعملية استنزاف طويلة الأمد ما لم يُكبح جماح إسرائيل. ومع إعلان المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابينت) التصديق على احتلال مدينة غزة قالت هيئة البث الإسرائيلية إن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير سيصل غدا الأحد إلى قيادة المنطقة الجنوبية للتصديق على الخطط العملياتية. سيناريوهات ومخاطر بدوره، يضع مدير مركز الدراسات السياسية والتنموية في غزة رامي خريس في حديثه للجزيرة نت 3 سيناريوهات لمستقبل الحرب على غزة، وتتمثل في: احتلال كامل للقطاع مع إقامة حكم عسكري، وهو الخيار الذي يعتمده رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، إضافة إلى معسكر اليمين، بهدف السيطرة على المناطق المأهولة ونقل السكان وحسم المعركة عسكريا، لكنه يواجه تحديات ميدانية ولوجستية وسياسية كبيرة، مع توقع خسائر بشرية ورفض داخلي وخارجي. تقطيع أوصال القطاع ومحاصرة معاقل حركة المقاومة الاسلامية (حماس)، وهو الخيار العسكري الذي يفضله الجيش بقيادة إيال زامير، ويقوم على فرض حصار مشدد على معاقل المقاومة دون احتلال شامل، ويعتمد على الضغط العسكري المستمر والاستنزاف بهدف دفع حماس إلى القبول بصفقة تبادل أسرى أو وقف إطلاق نار ، ويتطلب ذلك عددا أقل من القوات، ويقلل المخاطر على الأسرى والجنود. التمسك بمفاوضات وقف إطلاق النار تحت ضغط استنزاف تدريجي، وهو خيار بديل يستند إلى جهود دبلوماسية وضغوط دولية وعربية متزايدة، مع إبقاء الوضع العسكري مجمدا نسبيا، ويعتبر الخيار الأقل تكلفة لكنه قد يطيل أمد الحرب دون حل واضح. ويرجح خريس سيناريو تقطيع أوصال القطاع ومحاصرة معاقل حماس بما يسمح للإسرائيليين بالضغط على المقاومة دون الدخول في احتلال شامل محفوف بالمخاطر، ويبقي الباب مفتوحا للدبلوماسية والضغط الدولي كأدوات تكميلية، وفي الوقت ذاته يتجنب المخاطر العسكرية المرتفعة للاحتلال الكامل، والتي تكمن في: إعلان تهديد حياة الأسرى الإسرائيليين. خسائر بشرية كبيرة في صفوف الجيش. نقص القوى البشرية اللازمة للاحتلال الشامل. تعقيدات نقل السكان تجعل تنفيذ الاحتلال الكامل أمرا غير عملي ومكلفا جدا. وشدد خريس على أن الاحتلال الكامل يفتح الباب لمقاومة شديدة وطويلة الأمد، وقد يؤدي إلى مزيد من التصعيد، وهو ما تحاول القيادة الإسرائيلية تفاديه عبر خيار حصار مستمر ومحاولة إضعاف المقاومة تدريجيا.