
"كاش كوش".. حين تعيد العظام المطمورة كتابة تاريخ المغرب القديم
لطالما اعتقد بعضهم أن شبه جزيرة طنجة، في أقصى شمال غربي أفريقيا، كانت منطقة معزولة هامشية في عصور ما قبل التاريخ، مجرد ممر أو فراغ حضاري. لكن هذا الاعتقاد بدأ يتهاوى تحت وطأة الأدلة المتزايدة التي كشف عنها الموقع. كانت البداية مع تأريخ بالكربون المشع لطبقات الأرض، ثم التنقيبات التي كشفت عن وجود ثلاث مراحل استيطانية متتالية، تعود إلى ما بين 2200 و600 قبل الميلاد. مجتمع زراعي مستقر كان يعيش هنا، قبل زمن الفينيقيين، بل ويتفاعل مع الثقافات المتوسطية دون أن يذوب فيها.
تتميز السواحل الأوروبية للبحر الأبيض المتوسط بديناميات اجتماعية ثقافية واقتصادية معروفة جيدا خلال العصر البرونزي والعصر الحديدي المبكر (2200–550 قبل الميلاد)، لكن في المقابل يظل فهمنا للسواحل الأفريقية غامضا نسبيا. يؤكد موقع "كاش كوش" فاعلية المجتمعات المحلية، متحديا فكرة أن شمال غربي أفريقيا كانت أرضا خالية قبل وصول الفينيقيين.
العصر البرونزي بالمغرب
يعرف هذا العصر البرونزي أفضل بفضل مشاريع في مناطق أخرى على طول المغرب الأطلسي والمتوسطي، بما فيها رشقون في الجزائر، وقرطاج وليكسوس وعتيقة (أوتيك) في تونس. لكن المرحلة التي تسبقه مباشرة (المعروفة إقليميا بالعصر البرونزي المتأخر، نحو 1300–900 قبل الميلاد، وهي فترة حرجة لدراسة المجتمعات المحلية القائمة) تبقى مجهولة تقريبا. وفي أماكن أخرى من المغرب الكبير، تبقى هذه الفترة غامضة أيضا؛ ففي تونس يرتبط طراز سكني من الهياكل الحجرية بفترة تسبق الواردات الفينيقية، لكنه لا يعود لأكثر من 1000 عام قبل الميلاد.
"خلافا لما كان يعتقد، لم تكن هذه المنطقة خالية، بل كانت مليئة بالحياة والطقوس والنشاط الزراعي"، يقول حمزة بنعطية، الباحث في جامعة برشلونة، في حديث لوكالة الأنباء الألمانية. ويضيف: "أظهرت تحليلاتنا أن الناس هنا لم يكونوا معزولين، بل كانوا جزءا من شبكة واسعة تشمل جنوب إيبيريا وشرق المتوسط".
اهتزت الأوساط العلمية العالمية عام 2017 لاكتشاف مذهل في منطقة جبل إيغود قرب مدينة آسفي وسط المغرب. هناك، تحت طبقات من الصخور الرسوبية، عثر على بقايا عظام بشرية وأدوات حجرية. لم تكن مجرد بقايا، بل كانت أقدم ما عثر عليه للنوع البشري العاقل (Homo sapiens)، تعود إلى 300 ألف عام.
لم يعد شرق أفريقيا وحده مهد الإنسان الحديث، كما كانت تعتقد النظرية السائدة، بل أصبح المغرب فاعلا رئيسيا في فهم بداية الإنسان وتطوره. لم تكن هذه الجماجم سوى البداية لسرد طويل ومتشعب عن حياة كانت تدب هنا، حين كانت الأرض بكرا والسماء أرحب.
تظهر نتائج الأبحاث الأخيرة المنشورة في عدد من المجلات العلمية أن سكان "كاش كوش" مارسوا الزراعة بانتظام، وربوا الماشية، واستعملوا أدوات متقدمة نسبيا. وحتى في غياب الكتابات أو المدونات، فإن ما تبقى من طعامهم، وأدواتهم، وهياكلهم العظمية، كان كافيا لرسم صورة عن مجتمع متوازن ومستقر. ومع مقارنة هذه النتائج بمواقع أخرى مثل جبل إيغود وسط البلاد، وتافوغالت في شرقها، ودروة زيدان شمالا، تبرز صورة أكثر ثراء عن تاريخ المغرب ما قبل التاريخ.
هجرات العالم القديم
لكن المفاجآت لم تتوقف عند حدود الزراعة والاستقرار. فداخل إحدى المغارات المكتشفة في "كاش كوش"، وجد الفريق العلمي ثلاثة هياكل عظمية تعود إلى العصر الحجري الحديث، نحو 4900 عام قبل الميلاد. وإذا ما تمكن العلماء من استخراج الحمض النووي من هذه البقايا، كما يطمح حمزة بنعطية، فسنكون أمام واحدة من أهم المحطات في إعادة بناء تاريخ الهجرات البشرية.
"نحن نبحث حاليا عن أدلة جينية تؤكد وجود تزاوج واختلاط بين سكان جنوب أوروبا وشمال أفريقيا عبر مضيق جبل طارق"، يقول بنعطية، موضحا أن هناك شواهد تدعم هذه الفرضية، تعود إلى ما بين 5000 و7000 عام قبل اليوم. الأمر لا يتعلق فقط بتفاعلات ثقافية أو تجارية، بل بعبور أناس، واستقرار، ودماء امتزجت. هذه الهجرات، كما يقول بنعطية، لم تكن طارئة ولا محدودة، بل كانت جزءا من دينامية طويلة الأمد تربط بين ضفتي المتوسط.
اللافت أن تاريخ هذه المنطقة لم يتوقف عند المجتمعات الزراعية، بل استمر في التطور ليفرز مع مرور الوقت تنظيمات أكثر تعقيدا. بداية من القرن الرابع قبل الميلاد، شهد المغرب، بحسب بنعطية، نشوء نظام ملكي مبكر، أطلق عليه اسم "الملكية المورية". وهو نظام لم تعرفه الضفة الشمالية للمتوسط في تلك المرحلة، حيث كانت تسود المدن-الدول الصغيرة. ويضيف: "كانت المملكة المورية تمتد من طنجة إلى وليلي وربما أبعد، ما يجعلنا نتحدث عن كيان سياسي قوي ومنظم".
هذه المعطيات تفتح نقاشا تاريخيا مهما: لماذا احتل الرومان شبه الجزيرة الإيبيرية قبل 200 عام من الميلاد، بينما لم يدخلوا إلى المغرب إلا بعد 40 عاما من الميلاد؟ الجواب، وفقا لبنعطية، يكمن في قوة الدولة المغربية آنذاك، مقارنة بتشتت إسبانيا إلى دويلات صغيرة. وقد اقتصر الوجود الروماني في المغرب على منطقة محدودة جنوب وليلي قرب مدينة مكناس، وتركزت آثارهم في قلاع محددة.
لكن ما توصل إليه الفريق العلمي لا يمثل سوى البداية، كما يؤكد حمزة بنعطية: "ما نراه اليوم ليس إلا واجهة الواجهة. ولو أتيحت لنا الإمكانيات والوقت الكافي، فأنا أضمن لكم أن ما سنكتشفه قادر على إعادة كتابة تاريخ شمال أفريقيا والمتوسط وغرب أوروبا بأكمله".
مواقع أثرية
ويشير إلى وجود مواقع أثرية هائلة لم تمس بعد، خاصة في محيط مراكش وعلى امتداد الساحل الأطلسي من الرباط إلى الجديدة، قائلا: "نحن نتحدث عن أراض ممتدة على عشرات الهكتارات، وقد تحتوي على مقابر جماعية ومراكز حضرية مجهولة. ثلاث سنوات فقط من البحث العلمي الجاد كفيلة بإحداث ثورة معرفية".
يضع الباحثون آمالا كبيرة على استخراج الحمض النووي من أحد الهياكل التي عثر عليها في الموقع الأثري. "هذا الاكتشاف سيكون الأول من نوعه في شمال أفريقيا إذا نجحنا في الحصول على الحمض النووي. لكن الأمر مرهون بنسبة الكولاجين، التي نأمل أن تكون كافية، وسنعرف ذلك خلال ثلاثة أشهر"، يوضح بنعطية.
وتكمن أهمية هذه العينات في ارتباط العصر البرونزي بهجرات كبيرة شهدتها أوروبا من الشرق إلى الغرب، وتحديدا من مناطق مثل روسيا وأوكرانيا نحو غرب أوروبا، وهو ما أثبته علم الجينات سابقا. في حال التأكد من وجود روابط جينية مشابهة في المغرب، سيكون ذلك مؤشرا دامغا على أن شمال أفريقيا كان جزءا من هذه الموجات البشرية الكبرى، لا مجرد مستقبل سلبي لها.
كل هذا يعيد صياغة موقع المغرب القديم في السردية العالمية لتاريخ البحر الأبيض المتوسط. لم يكن المغرب مجرد هامش أو صدى لما يجري في الشمال، بل كان مركزا قائما بذاته، يشع حضارة وتنظيما سياسيا واجتماعيا مبكرا.
من "كاش كوش" إلى "جبل إيغود"، ومن طقوس العصر الحجري إلى تشكل الممالك، يتضح أن شمال المغرب لم يكن أرضا خاملة كما ساد الاعتقاد، بل كان قلبا نابضا في ذاكرة المتوسط. ولا يزال في جعبة الأرض أسرار كثيرة، تنتظر من ينبشها بعين الباحث وشغف المؤرخ.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 5 أيام
- الجزيرة
"كاش كوش".. حين تعيد العظام المطمورة كتابة تاريخ المغرب القديم
على مرتفعات الحجر الجيري المطلة على وادي لاو في شمال المغرب، وتحديدا في موقع يعرف باسم "كاش كوش"، كان فريق من الباحثين المغاربة الشبان يزيح الغبار عمّا تبقى من زمن منسي. لم يكونوا يبحثون عن كنوز، بل عن دلائل. ولم تكن الأدوات الفاخرة ولا القصور القديمة مبتغاهم، بل عظام بشرية متهالكة، وقطع فخارية متآكلة، وآثار نباتات وأطعمة حملتها أيدي أناس عاشوا هنا منذ آلاف السنين. هؤلاء الباحثون، وفي مقدمتهم حمزة بنعطية، انطلقوا في مغامرة علمية هدفها قلب فرضيات قديمة ظلت سائدة عقودا. لطالما اعتقد بعضهم أن شبه جزيرة طنجة، في أقصى شمال غربي أفريقيا، كانت منطقة معزولة هامشية في عصور ما قبل التاريخ، مجرد ممر أو فراغ حضاري. لكن هذا الاعتقاد بدأ يتهاوى تحت وطأة الأدلة المتزايدة التي كشف عنها الموقع. كانت البداية مع تأريخ بالكربون المشع لطبقات الأرض، ثم التنقيبات التي كشفت عن وجود ثلاث مراحل استيطانية متتالية، تعود إلى ما بين 2200 و600 قبل الميلاد. مجتمع زراعي مستقر كان يعيش هنا، قبل زمن الفينيقيين، بل ويتفاعل مع الثقافات المتوسطية دون أن يذوب فيها. تتميز السواحل الأوروبية للبحر الأبيض المتوسط بديناميات اجتماعية ثقافية واقتصادية معروفة جيدا خلال العصر البرونزي والعصر الحديدي المبكر (2200–550 قبل الميلاد)، لكن في المقابل يظل فهمنا للسواحل الأفريقية غامضا نسبيا. يؤكد موقع "كاش كوش" فاعلية المجتمعات المحلية، متحديا فكرة أن شمال غربي أفريقيا كانت أرضا خالية قبل وصول الفينيقيين. العصر البرونزي بالمغرب يعرف هذا العصر البرونزي أفضل بفضل مشاريع في مناطق أخرى على طول المغرب الأطلسي والمتوسطي، بما فيها رشقون في الجزائر، وقرطاج وليكسوس وعتيقة (أوتيك) في تونس. لكن المرحلة التي تسبقه مباشرة (المعروفة إقليميا بالعصر البرونزي المتأخر، نحو 1300–900 قبل الميلاد، وهي فترة حرجة لدراسة المجتمعات المحلية القائمة) تبقى مجهولة تقريبا. وفي أماكن أخرى من المغرب الكبير، تبقى هذه الفترة غامضة أيضا؛ ففي تونس يرتبط طراز سكني من الهياكل الحجرية بفترة تسبق الواردات الفينيقية، لكنه لا يعود لأكثر من 1000 عام قبل الميلاد. "خلافا لما كان يعتقد، لم تكن هذه المنطقة خالية، بل كانت مليئة بالحياة والطقوس والنشاط الزراعي"، يقول حمزة بنعطية، الباحث في جامعة برشلونة، في حديث لوكالة الأنباء الألمانية. ويضيف: "أظهرت تحليلاتنا أن الناس هنا لم يكونوا معزولين، بل كانوا جزءا من شبكة واسعة تشمل جنوب إيبيريا وشرق المتوسط". اهتزت الأوساط العلمية العالمية عام 2017 لاكتشاف مذهل في منطقة جبل إيغود قرب مدينة آسفي وسط المغرب. هناك، تحت طبقات من الصخور الرسوبية، عثر على بقايا عظام بشرية وأدوات حجرية. لم تكن مجرد بقايا، بل كانت أقدم ما عثر عليه للنوع البشري العاقل (Homo sapiens)، تعود إلى 300 ألف عام. لم يعد شرق أفريقيا وحده مهد الإنسان الحديث، كما كانت تعتقد النظرية السائدة، بل أصبح المغرب فاعلا رئيسيا في فهم بداية الإنسان وتطوره. لم تكن هذه الجماجم سوى البداية لسرد طويل ومتشعب عن حياة كانت تدب هنا، حين كانت الأرض بكرا والسماء أرحب. تظهر نتائج الأبحاث الأخيرة المنشورة في عدد من المجلات العلمية أن سكان "كاش كوش" مارسوا الزراعة بانتظام، وربوا الماشية، واستعملوا أدوات متقدمة نسبيا. وحتى في غياب الكتابات أو المدونات، فإن ما تبقى من طعامهم، وأدواتهم، وهياكلهم العظمية، كان كافيا لرسم صورة عن مجتمع متوازن ومستقر. ومع مقارنة هذه النتائج بمواقع أخرى مثل جبل إيغود وسط البلاد، وتافوغالت في شرقها، ودروة زيدان شمالا، تبرز صورة أكثر ثراء عن تاريخ المغرب ما قبل التاريخ. هجرات العالم القديم لكن المفاجآت لم تتوقف عند حدود الزراعة والاستقرار. فداخل إحدى المغارات المكتشفة في "كاش كوش"، وجد الفريق العلمي ثلاثة هياكل عظمية تعود إلى العصر الحجري الحديث، نحو 4900 عام قبل الميلاد. وإذا ما تمكن العلماء من استخراج الحمض النووي من هذه البقايا، كما يطمح حمزة بنعطية، فسنكون أمام واحدة من أهم المحطات في إعادة بناء تاريخ الهجرات البشرية. "نحن نبحث حاليا عن أدلة جينية تؤكد وجود تزاوج واختلاط بين سكان جنوب أوروبا وشمال أفريقيا عبر مضيق جبل طارق"، يقول بنعطية، موضحا أن هناك شواهد تدعم هذه الفرضية، تعود إلى ما بين 5000 و7000 عام قبل اليوم. الأمر لا يتعلق فقط بتفاعلات ثقافية أو تجارية، بل بعبور أناس، واستقرار، ودماء امتزجت. هذه الهجرات، كما يقول بنعطية، لم تكن طارئة ولا محدودة، بل كانت جزءا من دينامية طويلة الأمد تربط بين ضفتي المتوسط. اللافت أن تاريخ هذه المنطقة لم يتوقف عند المجتمعات الزراعية، بل استمر في التطور ليفرز مع مرور الوقت تنظيمات أكثر تعقيدا. بداية من القرن الرابع قبل الميلاد، شهد المغرب، بحسب بنعطية، نشوء نظام ملكي مبكر، أطلق عليه اسم "الملكية المورية". وهو نظام لم تعرفه الضفة الشمالية للمتوسط في تلك المرحلة، حيث كانت تسود المدن-الدول الصغيرة. ويضيف: "كانت المملكة المورية تمتد من طنجة إلى وليلي وربما أبعد، ما يجعلنا نتحدث عن كيان سياسي قوي ومنظم". هذه المعطيات تفتح نقاشا تاريخيا مهما: لماذا احتل الرومان شبه الجزيرة الإيبيرية قبل 200 عام من الميلاد، بينما لم يدخلوا إلى المغرب إلا بعد 40 عاما من الميلاد؟ الجواب، وفقا لبنعطية، يكمن في قوة الدولة المغربية آنذاك، مقارنة بتشتت إسبانيا إلى دويلات صغيرة. وقد اقتصر الوجود الروماني في المغرب على منطقة محدودة جنوب وليلي قرب مدينة مكناس، وتركزت آثارهم في قلاع محددة. لكن ما توصل إليه الفريق العلمي لا يمثل سوى البداية، كما يؤكد حمزة بنعطية: "ما نراه اليوم ليس إلا واجهة الواجهة. ولو أتيحت لنا الإمكانيات والوقت الكافي، فأنا أضمن لكم أن ما سنكتشفه قادر على إعادة كتابة تاريخ شمال أفريقيا والمتوسط وغرب أوروبا بأكمله". مواقع أثرية ويشير إلى وجود مواقع أثرية هائلة لم تمس بعد، خاصة في محيط مراكش وعلى امتداد الساحل الأطلسي من الرباط إلى الجديدة، قائلا: "نحن نتحدث عن أراض ممتدة على عشرات الهكتارات، وقد تحتوي على مقابر جماعية ومراكز حضرية مجهولة. ثلاث سنوات فقط من البحث العلمي الجاد كفيلة بإحداث ثورة معرفية". يضع الباحثون آمالا كبيرة على استخراج الحمض النووي من أحد الهياكل التي عثر عليها في الموقع الأثري. "هذا الاكتشاف سيكون الأول من نوعه في شمال أفريقيا إذا نجحنا في الحصول على الحمض النووي. لكن الأمر مرهون بنسبة الكولاجين، التي نأمل أن تكون كافية، وسنعرف ذلك خلال ثلاثة أشهر"، يوضح بنعطية. وتكمن أهمية هذه العينات في ارتباط العصر البرونزي بهجرات كبيرة شهدتها أوروبا من الشرق إلى الغرب، وتحديدا من مناطق مثل روسيا وأوكرانيا نحو غرب أوروبا، وهو ما أثبته علم الجينات سابقا. في حال التأكد من وجود روابط جينية مشابهة في المغرب، سيكون ذلك مؤشرا دامغا على أن شمال أفريقيا كان جزءا من هذه الموجات البشرية الكبرى، لا مجرد مستقبل سلبي لها. كل هذا يعيد صياغة موقع المغرب القديم في السردية العالمية لتاريخ البحر الأبيض المتوسط. لم يكن المغرب مجرد هامش أو صدى لما يجري في الشمال، بل كان مركزا قائما بذاته، يشع حضارة وتنظيما سياسيا واجتماعيا مبكرا. من "كاش كوش" إلى "جبل إيغود"، ومن طقوس العصر الحجري إلى تشكل الممالك، يتضح أن شمال المغرب لم يكن أرضا خاملة كما ساد الاعتقاد، بل كان قلبا نابضا في ذاكرة المتوسط. ولا يزال في جعبة الأرض أسرار كثيرة، تنتظر من ينبشها بعين الباحث وشغف المؤرخ.


الجزيرة
٢٣-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
"ما بعد الحقيقة".. تشريح معمق لأزمات المعرفة والتضليل في عصر الإعلام الرقمي
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة كتاب مهم في تشخيص أزمات العصر بعنوان "ما بعد الحقيقة: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل" للباحث المغربي محمد بهضوض. وهذا الكتاب الذي يقع في 423 صفحة هو تشريح عميق لتحوّل جذريّ يهزّ أسس إنتاج المعرفة وتلقيها، وينطلق المؤلف من سؤال مركزيّ مقلق: كيف انقلبت أدوات التحرر المعرفي إلى آليات استعباد جديد، حيث تتراجع سلطة الحقيقة أمام طوفان من "الأوهام المصنّعة"، وتهندس المشاعر لتحلّ محلّ الوقائع في تشكيل الوعي الجمعي؟ الوفرة المعلوماتية وسراب الفهم يجسّد الكتاب مفارقة بالغة التعقيد تختزل أزمة الإنسان الرقمي، ففي حين وعدت الثورة التكنولوجية بانعتاق المعرفة وتدفقها الحر، وجدنا أنفسنا غارقين في طوفان من "الوقائع المفبركة" و"الأخبار الزائفة"، حيث تملى علينا "الحقائق" من خلال خوارزميات تقدّم ما يريح أصدقاءنا في "غرف الصدى" (Echo Chambers)، لا ما يقارب الواقع. ويبرز بهضوض أنّ الانفجار غير المسبوق في أدوات الاتصال وتدفق المعلومات صاحبه -على عكس ما يظن- تراجع ملموس في فرص الفهم الحقيقي، وتعمّق للهوّة بين امتلاك المعرفة وإدراك الحقيقة. يرفض بهضوض التصوّر الساذج القائل بأن "ما بعد الحقيقة" ظاهرة طارئة ولدت مع وسائل التواصل الاجتماعي. ويبين أن جذورها ضاربة في تاريخ الصراع الفكري الأزلي منذ المواجهة بين الفلاسفة والسفسطائيين في اليونان القديمة الذين برعوا في "فنّ الجدل" لتحقيق النصر بغضّ النظر عن الحقيقة، وفي معارك عصر التنوير ضد سلطات الكنيسة والتقاليد الجامدة التي قاومت أنوار العقل والعلم. غير أنّ الجوهر الجديد والمقلق في هذه الظاهرة اليوم يكمن في تحولها إلى جزء من نسق فكري في ظلّ نظام الرأسمالية المعولمة، وهذا النظام لم يعد يكتفي بإنتاج السلع المادية، بل حوّل الوهم إلى سلعة رابحة، واستثمر في صناعة الخطاب الشعبوي العاطفي لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، محوّلا التضليل إلى آلة ضخمة قائمة بذاتها. في هذا المشهد المرعب، تعجز الدولة الحديثة عن بناء أنظمة موثوقة قادرة على حماية المواطنين من التضليل المنظّم أو إنتاج خطاب جامع للحقيقة، بل إنّ الإعلام التقليدي نفسه، في كثير من الأحيان، يتحوّل إلى أداة طيعة في خدمة آلة التضليل هذه، كما تجلّى بوضوح فاضح في التغطيات الإعلامية المتناقضة والمضلّلة في أثناء جائحة "كوفيد-19" حول فاعلية اللقاحات وطرق الوقاية، مما زاد من حدة الالتباس والارتباك الجماعي. وتتفاقم هذه الأزمة مع القابلية النفسية والاجتماعية للجماهير لتصديق الأكاذيب، خاصة عندما تقدّم مغلّفة بخطاب عاطفي جذّاب أو تصدر عن شخصيات ذات حضور ووجاهة أو وسائل إعلامية ضخمة تتمتع بهالة مصداقية زائفة. تشريح آليات التضليل ينتقل بهضوض من حقل التنظير الفلسفي إلى ساحة التطبيق العملي، ليفتش عن تجلّيات "ما بعد الحقيقة" في حقول اجتماعية وسياسية واقتصادية متنوعة، مظهرا كيف تخترق الظاهرة نسيج حياتنا اليومي. أما في المجال السياسي، فيوثّق الكتاب كيف تحوّل التضليل من ممارسة عابرة إلى "فنّ للحكم" إذ لم يعد الكذب مجرد خطأ أخلاقي، بل أضحى سلاحا إستراتيجيا في الانتخابات وتشكيل الرأي العام. ويحلّل بهضوض بعمق حالات صارخة، مثل صعود دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية 2016 ، حين استخدمت "الأخبار الزائفة" بشكل ممنهج لتشويه الخصوم السياسيين، وتضخيم المخاوف العرقية أو الدينية، وترويج وعود وهمية. وأما في حقل الاقتصاد، فيكشف بهضوض عن نشوء "اقتصاد الأكاذيب"، حيث تتحول وسائل الإعلام والفضاء الرقمي إلى أدوات لصناعة صور وهمية عن الشركات والمنتجات والمؤشرات المالية. تقدّم تقارير مالية مضلّلة، وإعلانات خادعة تخلق احتياجات استهلاكية غير حقيقية. هذه الممارسات، كما يوضح الكتاب، لا تفقد السوق شفافيته وآليات مساءلته فحسب، بل تحوّل الاستثمار إلى مغامرة قائمة على التضليل، وتضعف الثقة بالنظام الاقتصادي كله. وأما على صعيد العلاقات الدولية، فيبرز الكتاب دور التضليل الإعلامي المنظّم في ما تسمّى "الحروب المعنوية" أو "حروب الجيل الرابع"، حيث توظف الدول الكبرى والصغرى الروايات الزائفة والمعلومات المغلوطة بوصفها أدوات غير تقليدية لخدمة مصالحها الجيوسياسية، متجاوزة كلّ حدود للأخلاق أو الحقائق الموضوعية. ويقدم بهضوض أمثلة دالة على ذلك، مثل الحملات الممنهجة لنشر الشائعات والشكوك حول الصراعات الدولية، أو إثارة النعرات الطائفية والإثنية في مناطق التوتر، مستخدما أدوات التحليل السياسي لفك شيفرات هذه الحروب الخفية. ويواجه العلم بوصفه أحد أركان التقدم البشري الأساسية تحديا وجوديا في عصر "ما بعد الحقيقة". وهنا يسلط الكتاب الضوء على موجة الشك غير المسبوقة التي تواجه الإجماع العلمي، مدفوعة بنظريات المؤامرة والمعلومات المضلّلة، من مثل حركات "مناهضة التلقيح" التي ترفض الأدلة القاطعة لفاعلية اللقاحات، ومحاولات "إنكار التغير المناخي" رغم الأدلة العلمية الساحقة، أو الترويج لعلاجات وهمية لأمراض مستعصية، وكلها تصلح أمثلة على هذا الهجوم الممنهج، وهذا الهجوم لا يستهدف المؤسسات العلمية فحسب، بل يهدم الثقة بالمنهج العلمي نفسه. وفي المجال الثقافي، يحذّر بهضوض من توظيف مفاهيم إنسانية كـ"النسبية الثقافية" و"التعددية" بشكل شعبويّ مشوّه، فبدلا من أن تكون هذه المفاهيم جسورا للتفاهم، تستغل لتأجيج صراعات الهوية والانتماء، وتستخدم سرديات تاريخية محرّفة أو مزوّرة لتحويل الاختلاف الثقافي والديني إلى خطاب كراهية وإقصاء، وتعزيز الانقسامات المجتمعية. ويتحول التنوع، في هذا السياق المشوه، من مصدر إثراء وتنوع إلى قنبلة موقوتة تهدد النسيج الاجتماعي. غير أن الفضاء الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي يظل -بحسب الكاتب- المحرّك الأقوى والأخطر لتفاقم ظاهرة "ما بعد الحقيقة". وتتحمل خوارزميات هذه المنصات مسؤولية كبيرة، فهي مصممة أساسا لتعظيم التفاعل والربح، فتقدم للمستخدمين المحتوى المثير للانفعال (كالغضب، أو الخوف، أو الاستقطاب) بغض النظر عن صحته أو مصداقيته. تظهر الدراسات -كما يذكر بهضوض- أن الأكاذيب تنتشر أسرع 6 مرات من الحقائق على هذه المنصات. كما تعمل "غرف الصدى" (Echo Chambers) على عزل الأفراد في فقاعات فكرية مغلقة، حيث لا يتعرضون إلا للأفكار التي تؤكد معتقداتهم المسبقة، مما يعزز الانغلاق الفكري ويصعّب الحوار. ولا شك أن سهولة إنشاء حسابات وهمية ونشر محتوى تضليلي دون رقابة تضاعف من حجم الكارثة، فهذا المحيط الرقمي ليس مجرد ناقل للأفكار، بل هو بيئة مولّدة ومضخّمة بشكل غير مسبوق لوباء "ما بعد الحقيقة"، وموزّع رئيسي لسمومه إلى جميع المجالات الأخرى. تشخيص عربيّ لجرح عالمي لا ينغلق كتاب بهضوض على نفسه، بل يضعه في حوار نقدي خلّاق مع أبرز المراجع العالمية التي تناولت الظاهرة. فهو يتقاطع مع تحليل الفيلسوف الأميركي لي ماكينتاير لظاهرة "صوامع المعلومات"، حيث يعيش الأفراد معزولين في فقاعات تكرّس انحيازاتهم وتقطعهم عن الحقائق المخالفة، ويرى معه في إنكار العلم تجليا خطيرا لـ"ما بعد الحقيقة". كما يشارك الكاتبة ميشكو كاكوناتي قلقها العميق على تآكل الثقة في المؤسسات التقليدية الحامية للحقيقة كالإعلام المحترف، والجامعات، والمؤسسات العلمية، والقضاء. غير أن إسهام بهضوض النوعي يتجلى في دفع هذا التحليل نحو آفاق أرحب وأكثر خصوصية. فهو يستحضر مقولة المؤرخ الفرنسي إرنست رينان الشهيرة بأن الأفكار هي التي تقود العالم ليؤكد أن المعركة ضد "ما بعد الحقيقة" هي في جوهرها معركة فكرية وأيديولوجية. ويستند بقوة إلى جدلية كارل ماركس لفهم تجذر الظاهرة في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المنتجة للوهم والمستفيدة منه. والأهم أنه لا يقف عند حدود النقل عن الغرب، بل يدفع بالتحليل نحو خصوصية البيئة العربية المعقدة، حيث تتفاعل "ما بعد الحقيقة" بشكل متفجر مع إرث الاستبداد السياسي، وهشاشة المؤسسات الديمقراطية والعلمية، وصراعات الهوية (القومية، والطائفية، والإثنية) الموروثة والمستجدة، وتردي الواقع الاجتماعي والاقتصادي. هذا التفاعل المركب، كما يرى بهضوض، يعطي الظاهرة في السياق العربي أبعادا أكثر تأثيرا على النسيج الاجتماعي واستقرار المجتمعات، مما يستدعي تشخيصا دقيقا ومواجهة خاصة. خارطة استعادة العقل لا يقف كتاب بهضوض عند حد تشريح الداء، بل يقدّم رؤية متكاملة لمواجهة وباء "ما بعد الحقيقة"، مقترحا خارطة طريق متعددة المستويات تستهدف بناء مناعة فكرية وجماعية: إصلاح التعليم: حيث يرى بهضوض أن المعركة الحقيقية تبدأ من المدرسة والجامعة بجعل التفكير النقدي نسيجا متداخلا في جميع المناهج الدراسية، من المراحل التعليمية المبكرة حتى الجامعية. ويؤكد ضرورة أن يتعلم الطلاب فنّ السؤال، وتحليل الخطاب، وتمييز الحجة من الوهم. كما ينبه على ضرورة أن تستعيد الفلسفة مكانتها المركزية منهجا لتنقية الفكر وترميم المفاهيم مع التنبيه على ضرورة محو الأمية الإعلامية والرقمية، لا سيما مفاهيم مثل كيفية تحليل الرسائل الإعلامية، وآليات التحقق من صحة المعلومات ومصادرها، وفهم عمل خوارزميات المنصات الرقمية وآثارها على تلقّي المعلومة وتشكيل الرأي. تنظيم الفضاء الرقمي: يقرّ بهضوض بحساسية هذا الملف، لكنه يؤكد بضعة نقاط، منها ضرورة تطوير أطر قانونية وأخلاقية وطنية ودولية واضحة ومتوازنة، تستهدف محاسبة ناشري الأخبار الزائفة الممنهجة بهدف الإضرار بالمجتمع أو زعزعة استقراره، مع ضمانات صارمة لحماية حرية التعبير المشروعة والنقد البناء. التوعية المجتمعية: حيث يدعو الكتاب إلى إطلاق حملات توعية واسعة النطاق ومستدامة، تستهدف جميع شرائح المجتمع، لتعليم مهارات التفكير النقدي والتحقق من المعلومات قبل تصديقها أو مشاركتها منبّها أن تركز هذه الحملات على كشف آليات التلاعب النفسي والعاطفي المستخدمة في التضليل، وفك شيفرات بناء نظريات المؤامرة ونشرها، وتعزيز الثقافة العلمية الأساسية وفهم قواعد المنهج العلمي في الوصول إلى المعرفة الموثوقة. إعادة التقدير للإعلام المهني: في خضم الفوضى الإعلامية، يبرز دور وسائل الإعلام المحترفة بوصفها خندق دفاع أساسيا، لذلك يؤكد الكاتب دعم وسائل الإعلام المستقلة والمهنية التي تلتزم بمعايير الدقة، والتحقق، والموضوعية، والشفافية، والمساءلة مصدرا موثوقا للمعلومات. هذا الدعم يمكن أن يكون ماليا، وتشريعيا يحمي استقلاليتها، ومجتمعيا يعزز ثقة الجمهور بها. يكتسب كتاب "ما بعد الحقيقة" لمحمد بهضوض أهمية استثنائية ومضاعفة في السياق العربي الذي يعاني تحديات مركبة تجعل من الظاهرة خطرا وجوديا: بيئة إعلامية هشة: تسودها هيمنة إعلام حكومي موال أو إعلام معارض متطرف، مع ضعف فادح في آليات التحقق المهني، وانتشار واسع وسريع للأخبار الزائفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي دون رادع فعال. تصاعد خطير للخطاب الشعبوي: الذي يستغل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والانقسامات الطائفية أو القبلية أو الإثنية العميقة، ليغذي خطاب كراهية وإقصاء وتضليل. أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة: تشكّل تربة خصبة لانتشار نظريات المؤامرة والبحث عن "أعداء" خارجيين أو داخليين وهميين لتعقيدات الواقع، وللاستسلام للخطابات التبسيطية الزائفة. نقص حاد في الدراسات النقدية العميقة: التي تربط بين التحليل الفلسفي والنظري للظاهرة العالمية وبين تفاصيل وخصوصيات السياق الاجتماعي والسياسي العربي بكل تعقيداته. يبدو كتاب "ما بعد الحقيقة: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل" خريطة نجاة فكرية، ومشروع مقاومة ثقافي في زمن يحاول فيه التضليل المنظّم أن يغرقنا في سبات من الأوهام. وفي عالم تتلاعب فيه قوى الظلام بعقولنا بسحر الشاشات وفتنة السرديات الزائفة، يذكّرنا محمد بهضوض بأن استعادة الحقيقة ليست ترفا فكريا، بل هي شرط أساسيّ لبقائنا مجتمعات وأفرادا أحرارا. إنها تبدأ باستعادة الثقة بقدرة العقل على السؤال والتمحيص والنقد، وبإعادة بناء المؤسسات التي تحمي الفضاء العام. هذه المعركة المصيرية ليست من أجل صون الروح فحسب، بل من أجل بناء مستقبل المجتمعات العربية التي تبحث عن خلاصها في ركام الأوهام.


الجزيرة
١٤-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
الإسهامات العربية في علم الآثار
تشهد بلدان عربية عدة اهتماما ملحوظا بعلم الآثار، والبحث عن المعالم القديمة، وترميمها وحفظها باعتبارها تراثا للإنسانية جمعاء. وإذا كانت مصر تتصدر منطقة الشرق الأوسط في مجال الاكتشافات الأثرية الجديدة، وانتشار علم الآثار، وتعدد الكليات والمعاهد الأكاديمية المعنية بدراسته، فإن بلدان الخليج العربي تشهد اهتماما متزايدا بالدراسات الأثرية، ونموا في مجال الحفائر بحثا عما تركه الأقدمون من منشآت وشواهد وقطع أثرية تساعد في الكشف عن أسرار الأجداد وما عرفوه من علوم وفنون وأنماط حياة. وتنشط الحفائر والأنشطة في مجال علم الآثار بمختلف بلدان الخليج، بداية من سلطنة عمان وقطر والسعودية، مرورا بالإمارات والكويت والبحرين، حيث تتزايد في تلك الدول أعمال البحث والتنقيب والحماية والترميم. وكما أسلفنا، فإن مصر تحضر بقوة في مجال علم الآثار، من خلال الحفائر العديدة التي ساعدت في التوصل لكثير من الاكتشافات الأثرية الحديثة في مناطق عدة، منها: الأقصر وأسوان وسقارة والمنيا وغيرها. نبوغ عربي ويجمع آثاريون وعلماء وباحثون عرب على أن بلاد العالم العربي شهدت حضورا كبيرا لعلم الآثار، وأن كثيرا من العرب نبغوا في ذلك المجال، وحققوا اكتشافات مذهلة، ووضعوا دراسات مهمة، وشكلوا مدارس عربية خاصة في حقل الآثار على مدار عقود مضت. وفي هذا الإطار، قال الدكتور سلطان الدويش، المدير الأسبق لإدارة الآثار والمتاحف بالمجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب، إنه يعتقد بوجود مدارس عربية متفرقة في مجال الآثار بالوطن العربي، لكنه أكد أن المدارس الأجنبية هي الأكثر منهجية واستمرارية. وثمن الدويش، في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية، جهود بلاده ودول منطقة الخليج العربي في مجال علم الآثار، وصون وحماية المكتشفات الأثرية، وتزايد الأنشطة العلمية الخليجية في هذا المجال. من جانبه، قال الباحث المصري فرنسيس أمين، لوكالة الأنباء الألمانية، إن مصر على سبيل المثال، غنية بكثير من الوجوه العلمية الوطنية في مجال الآثار، أمثال أحمد باشا كمال، وسليم حسن، ولبيب حبشي وغيرهم، فهم المؤسسون الحقيقيون للمدرسة المصرية في مجال الآثار، وهي مدرسة ذات فهم أوضح للبيئة، وتقوم على أنه لا يمكن الفصل بين الآثار المصرية القديمة والبيئة المحيطة بها. واعتبر أن المؤسس الحقيقي للمدرسة العربية المصرية في مجال الآثار هو أحمد فخري، الذي قام بحفائر في مواقع أثرية عدة، وكان ندا قويا لعلماء الآثار ذوي الشهرة العالمية، وكان تلاميذه ينتشرون في الشرق الأدنى، من العراق لليمن وغيرهما، وهو مؤسس مدرسة عربية قومية في علم الآثار. ولفت إلى أن انتشار كليات الآثار أسهم في وجود عدد كبير من الآثاريين الذين صار يشار إليهم بالبنان. وقال الأثري المصري والمدير العام الأسبق لمنطقة آثار الأقصر ومصر العليا، محمد يحيى عويضة، إن العرب يمتلكون أسس ومقومات "علم آثار عربي"، وإن الأمر يحتاج إلى مزيد من الدقة والتخصص لتأسيس مدرسة أثرية عربية أو مصرية، تكون قادرة على الصمود في مواجهة التطور الذي تشهده المدارس الأثرية الغربية، وخاصة في مجالات علوم التحنيط، وعلم المواقع الأثرية، وعلوم التوثيق والتسجيل، واستخدام التطبيقات الحديثة في جميع علوم الآثار. وشدد على أن الأمر يحتاج إلى تنسيق الجهود العربية، خاصة وأن الخبرات والأدوات متوافرة، لكنها مبعثرة ولا يربطها رابط، وذلك بحسب قوله. "العرب يمتلكون أسس ومقومات "علم آثار عربي"، وإن الأمر يحتاج إلى مزيد من الدقة والتخصص لتأسيس مدرسة أثرية عربية أو مصرية، تكون قادرة على الصمود في مواجهة التطور الذي تشهده المدارس الأثرية الغربية، وخاصة في مجالات علوم التحنيط، وعلم المواقع الأثرية، وعلوم التوثيق والتسجيل، واستخدام التطبيقات الحديثة في جميع علوم الآثار" ورأى أيمن أبو زيد، رئيس الجمعية المصرية للتنمية السياحية والأثرية، أن العالم العربي يشهد طفرة في مجال علم الآثار، وأن مصر شهدت العديد من الاكتشافات الأثرية الضخمة التي عثر عليها بمعرفة بعثات أثرية من الآثاريين المصريين وأشار أبو زيد، في حديث للوكالة الألمانية، إلى أن بلدانا ومناطق عدة تشهد نشاطا متزايدا في مجال الاكتشافات الأثرية وصون وحماية المعالم، وهو ما يحدث بشكل لافت في الإمارات العربية المتحدة، وفي إمارة الشارقة، وداخل الكويت والمملكة العربية السعودية، وغير ذلك من البلاد العربية التي صارت أكثر وعيا بأهمية دراسة تاريخها وآثارها، وهو الأمر الذي يدلل على أن العرب لديهم مدارس وطنية في مجال علم الآثار. كان البحث عن كنوز وآثار الشعوب القديمة قد استهوى كثيرين ممن كانوا يوصفون ب "المغامرين"، ومنذ القرن التاسع عشر أخذ الاهتمام يتزايد بمعرفة الماضي، حيث يضطر الإنسان للحفر مسافات بعيدة في باطن الأرض للعثور على بقايا الماضي ودراستها. آثار الأقدمين وأصبح البحث عن الماضي، والحفر والتنقيب عن آثار الأقدمين من الأمم السابقة، ومعالم الحضارات التي ربما ضاعت معالمها بفعل الطبيعة وتقلباتها، علما يدرس في الجامعات ويقوم به متخصصون، وصار ذلك يطلق عليه "علم الآثار". وقد استفاد علماء الآثار من التقنيات الحديثة في تطوير أدواتهم، واستطاعوا توظيف التقنيات التي وفرها لهم العلم الحديث في أعمال الحفر والتنقيب والبحث عن الآثار القديمة. وعلى الرغم من تقدم العلوم في مجال البحث عن الماضي، فإن الحظ يلعب دورا كبيرا في التوصل لاكتشافات أثرية مذهلة. ويقال إن الصدفة قادت لاكتشاف خبايا ضخمة من المومياوات والتوابيت الفرعونية في الأقصر وفي الواحات المصرية. كما قادت الصدفة بعض الصيادين في اليونان إلى العثور على التمثال البرونزي الشهير لـ"بوسيدون"، واكتشف أطفال وهم يطاردون كلبهم كهف "لاسكو" الذي يرجع تاريخه إلى عصور ما قبل التاريخ في فرنسا. وبعض الاكتشافات الأثرية الكبرى قادت إليها الطبيعة، مثل قيام الرياح والمياه بإزاحة الأتربة عن مدن اختفت في عصور سابقة، ومن الممكن أن يقود إنشاء طريق جديد أو مشروعات بناء عملاقة إلى العثور على آثار عظيمة. لكن علماء الآثار لا يؤمنون بالاكتشافات التي تقود إليها الصدفة، بل لهم خطط يطبقونها تدريجيا للوصول إلى ما يبحثون عنه من آثار أو بقايا مدن. وباستطاعة الآثاريين أن يحددوا وفقا لخرائطهم موقعا محددا للحفر والتنقيب أسفله. كما صارت دراسة بعض النصوص القديمة المكتشفة طريقا للوصول إلى مواقع مدن وقرى ومعابد ومقابر شيدت قبل آلاف السنين، وصارت هذه النصوص أيضا مصدرا لمعلومات يصفها الآثاريون بالثمينة أحيانا، كونها تقدم أدلة على مواقع آثار ومعالم اندثرت بمرور الزمن. وصار علم الآثار اليوم يتضمن فروعا جديدة، منها صيانة وحماية المعابد والمقابر من الانهيار، وترميم النقوش والرسوم، وترميم الملابس والأقمشة، وترميم الوثائق مثل أوراق البردي، إلى جانب ترميم المومياوات والأجساد التي احتفظت بمكوناتها آلاف السنين بفضل علوم التحنيط التي عرفتها بعض شعوب العالم القديم مثل مصر والبيرو.