
رسالة ابن عمي إلى كارل ماركس
ستجد صورته هُنا وهُناك: على حائط حديقة في مدينة إزمير المُطلّة على شاطئ بحر إيجة، أو على جدار زقاق ضيق مبلّط بالحجر في نيودلهي، أو على عمود رخام أبيض في برلين. هو يعيش بيننا، لا نستطيع إنكار ذلك مهما حاولنا، هو معنا، ننادمه في أحيان، وننساه في أحيان أخرى، ولكنه يعود، وهذه العودة ننتظرها دائمًا. ولو تأملتَ في عدد من الكُتب والدراسات التي صدرت وتصدر تباعًا بمختلف لُغات العالم وأخذتَ عيّنات من كتبه، على سبيل المثال: رأس المال، البيان الشيوعي، الثامن عشر من برومير - لويس بونابرت، نقد برنامج غوتا، مخطوطات ماركس عام 1844، رسائله مع رفيق دربه فريدريك أنجلز، سيرة حياته، أشعاره، نعم، كتب كارل ماركس شعرًا في شبابه، والتي يتمُّ تناولها من جانب أعداد متزايدة من الناس، لتأكدتَ من أنه بيننا لا يجلس على مقعد الغياب. من هنا تذكّرتُ ابن عمي "محمد دحنون" ورسالته العابرة للقارات، والتي نشرها في صحيفة بيروتية في لبنان، وهذه منادمة لطيفة على كل حال.
في ظني، محاولة جعل ماركس يتحدث لغة حديثة شعبية وبسيطة ومفهومة للجميع ليست مهمة مستحيلة، وأجرؤ على القول إن المتسول الذي يقف على أرصفة المدن المكتظة بالناس المتخمين ويطالب بحقه: من مال الله، يفهم - على بساطته وأميته - ما أراده ماركس من ماركسيته أفضل منا نحن الذين ندعي فهم ماركس ونظريته. فأنت تستطيع الآن أن تعكف على قراءة ماركس، وستكون سعيدًا إذا فهمته. ولو عدت إلى الإرهاصات الأولى لتكوّن المنهج الماركسي في التفكير ستجد أمامك كتيب (مبادئ الشيوعية) الذي ألفه فريدريك أنجلز في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1847 كصيغة أولى لتعريف الشيوعية. وهي صيغة جميلة في أسئلة وأجوبة. يطرح أنجلز السؤال ثم يجيب. عرض هذه الصيغة على رفيق دربه فكانت أول وثيقة واضحة المعالم عن المفهوم الجديد للعالم الذي تبلور في عقل الشابّين. تمّت صياغة شكل البيان ونُشر تحت عنوان (البيان الشيوعي) بصيغته المعروفة لأول مرة في طبعة خاصة باللغة الألمانية في لندن في شهر شباط/فبراير من عام 1848. كان كارل ماركس في الثلاثين وفريدريك أنجلز في الثامنة والعشرين من العمر.
في الرابع عشر من شهر آذار/مارس من عام 1883 وعلى الساعة الثالثة إلا ربعًا ظهرًا توقف قلب ماركس عن الخفقان، فانضم حشد إلى جنازته، حشد صغير مؤلف من أحد عشر شخصًا، بمن فيهم موظف الدفن، متجهين إلى مثواه الأخير، والذي حمل أشهر عباراته والتي نقشت على لوحة القبر: الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة، ولكن المسألة تكمن في تغييره. ماركس حكيم بأشواق شرقية، عمل على تغيير العالم، لكنه أمضى الشطر الأكبر من حياته هاربًا من الشرطة، ومن الدائنين، وحول عمله الأهم، يقول: لم يكتب أحد هذا الكم من الكتابة عن المال، وهو لا يملك إلا قليلًا جدًا من المال. وحاصل بيع كتاب "رأس المال" لن يكفي لتسديد ثمن التبغ الذي دخنته وأنا أكتبه.
المتسول الذي يطالب بحقه من مال الله يفهم ما أراده ماركس من ماركسيته أفضل منا نحن الذين ندعي فهم ماركس ونظريته
وأختم برسالة ابن عمي: (بدايةً، أودّ أن أقول لك إنّني ضحكت كثيرًا حين قالوا إنّك عدت. سألت: من أين؟ بالطبع، لم يخطر في بالي جواب ميتافيزيقي. تركتهم، البعض كان سعيدًا بعودتك والبعض الآخر كان قلقًا من تلك العودة. بالنسبة إليّ، لم أشاهدك تغادر كي أصدق أمر عودتك المزعومة. ليس في الأمر استخفاف ببصر الآخرين ولا ببصيرتهم، كلّ ما في الأمر أنّني لم ألتق بآخر من أمثالك كان قادرًا أن يقنعني مثلك. في الحقيقة، عليّ أن أكون صادقًا معك. فإضافة إليك، هنالك آخرون تمكّنوا من إقناعي بهذا القدر أو ذاك. وعلى رغم بقائك الأوّل في هذه المسألة، إلّا أنني كنت أودّ أن أعرّفك إليهم.
العزيز كارل، أعلم أنّ بداية التسعينيات من القرن المنصرم كانت عصيبة عليك، لم يكن لك إلّا أن تشك في كل شيء، في نفسك ربما، وفي الآخرين حتمًا. تعلم أنّني لم أستطع أن أمدّ إليك يد المساعدة في تلك الفترة العصيبة، لأنّني، كما تعلم، كنت مشغولًا في الإعداد لفحص الشهادة الابتدائيّة. أرجو ألّا تزعل منّي، فقد كان مستقبلي على المحك. أعرف أنّك حريص على مستقبلي. وبما أنّي مؤمن حتى العمق بالمثل القائل: "الصديق وقت الضيق"، فقد جنّدت لدعمك، في تلك الفترة، شخصًا أوليه كلّ الثقة الممكنة وائتمنته على جميع أسراري، دون أن أخبره إياها! صدّقني، إنّه الشخص الذي أختاره للمهمات الصعبة في حياتي، فهو لا يضيّع البوصلة.
بالطبع، لا أقول لك هذا الكلام من باب المنّة أو التفاخر السخيفين، كل ما في الأمر أنّي أودّ أن أؤكد لك أنّي لم أتخلَّ عنك في الأوقات الصعبة. أعلم أنّ هناك بعض الخبثاء ممن همسوا في أذنك بكلام سخيف عن أنّي تخلّيت عنك. أريد أن أقول لك إنّ هؤلاء هم في الحقيقة من أنكروك بالطريقة السهلة نفسها التي من خلالها آمنوا بك. أنا لم أؤمن ولم أنكر، أنا اقتنعت وأغنيت قناعاتي! وأخيرًا كارل، أظنّ أنّك تريد أن تعرف من هو ذاك الشخص الذي حدّثتك عنه. إنّه ببساطة أبي. ذلك الشخص شبه الأمّي، الذي يكتب "شكرًا" بالنون، ذلك الشخص الشريف الذي لم ينفك يدافع عنك، ويعلن أنّك على حق، في عمله وتعامله. كنت معه. ونحن معك.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 16 ساعات
- القدس العربي
عشرات المُدن اليمنيّة تشهد مظاهرات مناصرة لغزة
صنعاء ـ «القدس العربي»: شهدت عشرات المُدن اليمنيّة، في المناطق الواقعة في نطاق سيطرة حركة «أنصار الله»(الحوثيون)، ككل جمعة، مظاهرات مناصرة لقطاع غزة، الذي يتعرض لعدوان إسرائيلي بدعم أمريكي منذ عشرين شهراً. كما شهدت مدينتا مأرب (شمال شرق) وتعز (جنوب غرب) في مناطق نفوذ الحكومة المعترف بها دوليًا، وقفتين احتجاجيتين تنديدًا باستمرار حرب الإبادة الجماعية، التي تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي على مرأى ومسمع العالم، منذ أكثر من 600 يوم. في مناطق سيطرة «أنصار الله»، امتلأ ميدان السبعين بصنعاء، ككل جمعة، بالمحتشدين، الذين يرفعون العلمين اليمني الفلسطيني، ويهتفون للمقاومة، مؤكدين الحق الفلسطيني في الدفاع عن أرضه ومقدساته ومشروع إقامة دولته على ترابه الوطني، وعاصمتها القدس الشريف، وغيرها من الشعارات والهتافات، التي تؤكد استمرار الإسناد اليمني لغزة. وقالت وكالة الأنباء سبأ بنسختها التابعة للحركة: «شهدت العاصمة صنعاء أمس، مسيرة مليونية في يوم النفير والوفاء لرسول الله ونصرة للشعب الفلسطيني تحت شعار «لا أمن للكيان وغزة والأقصى تحت العدوان». وكذلك احتشد المتظاهرون في ساحات المدن الرئيسية في محافظات الحُديدة، صعدة، عمران، حجة، ريمة، المحويت، ذمار، البيضاء، إب، تعز، مأرب، الضالع، والجوف وغيرها من المحافظات الواقعة كلها أو بعضها في مناطق سيطرة «أنصار الله» وفق وكالة الأنباء سبأ بصنعاء. وأكد المحتشدون في بيان المسيرات: «لن نكتفي أمام إساءة اليهود المتكررة لنبينا ولمسراه الأقصى الشريف ببيانات الإدانة، بل نرد بالنفير والخروج المليوني». ودعا البيان «شعوب أمتنا للتحرك معنا بالمسيرات والتعبئة العامة والمقاطعة الاقتصادية للأعداء وبكل الوسائل الممكنة». وأكد أن «غزة تقاوم أعتى امبراطوريات الشر مدعومة بلا حدود من أمريكا والغرب وصهاينة العالم ولم تستسلم». وأردف البيان: «نقول للعدو الصهيوني، إن أفشل فكرة خطرت أو تخطر على بالك هو أنك ستتمكن من دفعنا للتراجع عن موقفنا المساند لغزة». وتابع: «نقول للعدو الصهيوني، إن عدوانك على مرافقنا الخدمية المدنية والاقتصادية إنما يرسخ قناعتنا بأنك أقذر وأحقر عدو». أما في مناطق نفوذ الحكومة المعترف بها دوليًا، فشهدت مدينتا تعز ومأرب وقفتين احتجاجيتين تضامنًا مع مظلومية الفلسطينيين في قطاع غزة. وقال موقع «الصحوة» إن «المشاركين في الوقفتين رفعوا شعارات ولافتات تعبر عن التضامن الكامل مع الشعب الفلسطيني، مستنكرين الصمت الدولي إزاء الجرائم المتواصلة بحق المدنيين، والتي تتنوع بين القتل المباشر والحصار الخانق وحرمان السكان من الغذاء والدواء والماء». وردد المحتجون، حسب المصدر عينه، «هتافات تطالب المجتمع الدولي وأحرار العالم بالتدخل العاجل لوقف المجازر، وفتح المعابر لإدخال المساعدات الإنسانية وإنقاذ أكثر من مليوني إنسان يواجهون الموت الجماعي في غزة». وكانت حركة «أنصار الله» (الحوثيون) أعلنت، في وقت متأخر من مساء الخميس، «عن تنفيذ عملية عسكرية استهدفتْ مطارَ اللُّدِ المسمى إسرائيلياً مطار «بن غوريون» في منطقةِ «يافا» المحتلة بصاروخ باليستي فرط صوتي». وأوضح المتحدث العسكري باسم الحركة، العميد يحيى سريع، في بيان، «أن العملية حققت هدفَها بنجاحٍ وأجبرت ملايينَ الصهاينةِ المحتلين على الهروبِ إلى الملاجئِ ووقفِ حركةِ الملاحةِ في المطارِ»، مشيرًا إلى «أن العملية تأتي انتصاراً لمظلوميةِ الشعبِ الفلسطينيِّ ومجاهديه، ورفضاً لجريمةِ الإبادةِ الجماعيةِ التي يقترفُها العدوُّ الصهيونيُّ بحقِّ إخوانِنا في قطاعِ غزة». وجدد سريع تأكيد قواتهم «لكافةِ أبناءِ اليمن أنها مستمرةٌ في تأديةِ واجبِها الدينيِّ والأخلاقيِّ والإنسانيِّ تجاهَ الأشقاء في فلسطينَ حتى وقفِ العدوانِ ورفعِ الحصارِ عنهم». وتشن حركة «أنصار الله» هجمات متكررة بالصواريخ والطائرات المسيّرة ضد أهداف متعددة في إسرائيل منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وذلك «تضامنًا مع غزة» الذي يتعرض لعدوان إسرائيلي بدعم أمريكي منذ عشرين شهرًا. وردًا على تلك الهجمات، شنت إسرائيل عدة هجمات جوية على منشآت حيوية وبُنى تحتية للطاقة في مناطق خاضعة لسيطرة الحركة في اليمن، خلفت خسائر بشرية ومادية كبيرة. وأعلنت «أنصار الله» في الرابع من مايو فرض حظر جوي على إسرائيل، فيما أعلنت في 20 من الشهر عينه فرض حصار بحري على ميناء حيفا الإسرائيلي. وفي الرابع من مايو استطاع صاروخ فرط صوتي لـ«أنصار الله» الوصول إلى محيط مطار بن غوريون مخترقًا منظومة الدفاع الجوية الإسرائيلية.


القدس العربي
منذ 2 أيام
- القدس العربي
زعيم «أنصار الله» يتوعد بعمليات «أكثر تأثيراً على العدو الإسرائيلي»
صنعاء ـ «القدس العربي»: قال زعيم حركة «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، أمس الخميس، إن «العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء لن يوقف العمليات اليمنية المساندة للشعب الفلسطيني»، موضحًا أن «ظروف الحرب في بلدنا لا يمكن أن تخضع اليمن لا رسمياً ولا شعبياً عن أداء مهامه المقدسة»، مؤكدًا سعيهم «إلى التصعيد لنصرة الشعب الفلسطيني، والعمليات في المرحلة المقبلة ستكون أكثر فاعلية وتأثيراً على العدو الإسرائيلي». وذكر أن قواتهم «نفذت هذا الأسبوع عمليات عسكرية بـ 14صاروخًا فرط صوتي وباليستياً وطائرة مسيّرة إلى عمق فلسطين المحتلة». وقال في خطاب متلفز بثته قناة المسيرة التلفزيونية التابعة للحركة، إن عملياتهم هذا الأسبوع «استهدفت أهدافًا للعدو الإسرائيلي في يافا وحيفا وعسقلان وأم الرشراش في فلسطين المحتلة»، مؤكدًا أن «البحر الأحمر لا يزال مغلقاً، ولا تزال الملاحة ممنوعة على العدو الإسرائيلي». وأضاف: «لا توجد أي حركة للسفن المرتبطة بالعدو الإسرائيلي في مسرح العمليات في البحر الأحمر عبر باب المندب إلى خليج عدن والبحر العربي». واعتبر الحوثي أن العدوان الإسرائيلي هو نتيجة لفاعلية موقفهم، قائلًا: «لو كان موقفنا لا فاعلية له ولا تأثير لتجاهله العدو الإسرائيلي مع انشغاله ومحاولة أن يستفرد بالشعب الفلسطيني»، مضيفًا أن «العدو الإسرائيلي يرى ويعيش تحت وطأة وتأثير الموقف الفاعل لبلدنا، وهذه نعمة كبيرة». وقال عبد الملك الحوثي، الذي تسيطر حركته على معظم شمال ووسط وغرب اليمن: «فاعلية وتأثير الموقف اليمني المتكامل وتناميه من أهم الشواهد على فشل العدوان الأمريكي في تصعيده في جولته الثانية»، مضيفًا أن «فشل العدوان الأمريكي ضد بلدنا يعتبر نجاحاً كبيراً بتوفيق الله ونصراً عظيماً من الله لشعبنا العزيز». وتابع: «هناك إجماع في الغرب على فشل العدوان الأمريكي في الجولة الثانية من التصعيد ضد بلدنا اسناداً لإسرائيل»، معتبرًا أن «تصريح نائب الرئيس الأمريكي يدل على نصر عظيم لبلدنا في مواجهة العدوان الأمريكي». وأوضح أن «تصريح نائب الرئيس الأمريكي يؤكد أن على الولايات المتحدة أن تتقبل هذا الواقع بحيث لم يعد في إمكانهم أن يهيمنوا بمثل ما كانوا عليه سابقاً»، مضيفًا أن «الأمريكي أدرك أن تورطه يستنزفه ويعرضه للمخاطر وللفضائح في الهزائم العسكرية والفشل وغير ذلك». وأشار زعيم حركة «أنصار الله» إلى أن «الأمريكي وصل إلى قناعة أنه غير قادر على حسم المعركة لصالحه في اليمن، وإنما يتورط لزمن طويل يستنزفه ذلك». واستهدف العدوان الإسرائيلي، الأربعاء، مطار صنعاء الدولي للمرة الثانية منذ استئناف تصعيده على قطاع غزة، ودمر طائرة للخطوط الجوية اليمنية كانت الوحيدة العاملة في المطار. وكان في غاراته على المطار عينه في السادس من مايو/أيار قد استهدف تدمير ثلاث طائرات تابعة للخطوط الجوية اليمنية كانت رابضة هناك. وتشن حركة «أنصار الله» هجمات متكررة بالصواريخ والطائرات المسيّرة ضد أهداف متعددة في إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وذلك «تضامنًا مع غزة» الذي يتعرض لعدوان إسرائيلي بدعم أمريكي منذ عشرين شهرًا. وردًا على تلك الهجمات، شنت إسرائيل عدة هجمات جوية على منشآت حيوية وبُنى تحتية للطاقة في مناطق خاضعة لسيطرة الحركة في اليمن، خلفت خسائر بشرية ومادية كبيرة. وأعلنت «أنصار الله» في الرابع من مايو، فرض حظر جوي على إسرائيل، فيما أعلنت في 20 من الشهر عينه فرض حصار بحري على ميناء حيفا الإسرائيلي. وفي الرابع من مايو، استطاع صاروخ فرط صوتي لـ«أنصار الله» الوصول إلى محيط مطار بن غوريون مخترقًا منظومة الدفاع الجوية الإسرائيلية.


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
رسالة ابن عمي إلى كارل ماركس
ستجد صورته هُنا وهُناك: على حائط حديقة في مدينة إزمير المُطلّة على شاطئ بحر إيجة، أو على جدار زقاق ضيق مبلّط بالحجر في نيودلهي، أو على عمود رخام أبيض في برلين. هو يعيش بيننا، لا نستطيع إنكار ذلك مهما حاولنا، هو معنا، ننادمه في أحيان، وننساه في أحيان أخرى، ولكنه يعود، وهذه العودة ننتظرها دائمًا. ولو تأملتَ في عدد من الكُتب والدراسات التي صدرت وتصدر تباعًا بمختلف لُغات العالم وأخذتَ عيّنات من كتبه، على سبيل المثال: رأس المال، البيان الشيوعي، الثامن عشر من برومير - لويس بونابرت، نقد برنامج غوتا، مخطوطات ماركس عام 1844، رسائله مع رفيق دربه فريدريك أنجلز، سيرة حياته، أشعاره، نعم، كتب كارل ماركس شعرًا في شبابه، والتي يتمُّ تناولها من جانب أعداد متزايدة من الناس، لتأكدتَ من أنه بيننا لا يجلس على مقعد الغياب. من هنا تذكّرتُ ابن عمي "محمد دحنون" ورسالته العابرة للقارات، والتي نشرها في صحيفة بيروتية في لبنان، وهذه منادمة لطيفة على كل حال. في ظني، محاولة جعل ماركس يتحدث لغة حديثة شعبية وبسيطة ومفهومة للجميع ليست مهمة مستحيلة، وأجرؤ على القول إن المتسول الذي يقف على أرصفة المدن المكتظة بالناس المتخمين ويطالب بحقه: من مال الله، يفهم - على بساطته وأميته - ما أراده ماركس من ماركسيته أفضل منا نحن الذين ندعي فهم ماركس ونظريته. فأنت تستطيع الآن أن تعكف على قراءة ماركس، وستكون سعيدًا إذا فهمته. ولو عدت إلى الإرهاصات الأولى لتكوّن المنهج الماركسي في التفكير ستجد أمامك كتيب (مبادئ الشيوعية) الذي ألفه فريدريك أنجلز في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1847 كصيغة أولى لتعريف الشيوعية. وهي صيغة جميلة في أسئلة وأجوبة. يطرح أنجلز السؤال ثم يجيب. عرض هذه الصيغة على رفيق دربه فكانت أول وثيقة واضحة المعالم عن المفهوم الجديد للعالم الذي تبلور في عقل الشابّين. تمّت صياغة شكل البيان ونُشر تحت عنوان (البيان الشيوعي) بصيغته المعروفة لأول مرة في طبعة خاصة باللغة الألمانية في لندن في شهر شباط/فبراير من عام 1848. كان كارل ماركس في الثلاثين وفريدريك أنجلز في الثامنة والعشرين من العمر. في الرابع عشر من شهر آذار/مارس من عام 1883 وعلى الساعة الثالثة إلا ربعًا ظهرًا توقف قلب ماركس عن الخفقان، فانضم حشد إلى جنازته، حشد صغير مؤلف من أحد عشر شخصًا، بمن فيهم موظف الدفن، متجهين إلى مثواه الأخير، والذي حمل أشهر عباراته والتي نقشت على لوحة القبر: الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة، ولكن المسألة تكمن في تغييره. ماركس حكيم بأشواق شرقية، عمل على تغيير العالم، لكنه أمضى الشطر الأكبر من حياته هاربًا من الشرطة، ومن الدائنين، وحول عمله الأهم، يقول: لم يكتب أحد هذا الكم من الكتابة عن المال، وهو لا يملك إلا قليلًا جدًا من المال. وحاصل بيع كتاب "رأس المال" لن يكفي لتسديد ثمن التبغ الذي دخنته وأنا أكتبه. المتسول الذي يطالب بحقه من مال الله يفهم ما أراده ماركس من ماركسيته أفضل منا نحن الذين ندعي فهم ماركس ونظريته وأختم برسالة ابن عمي: (بدايةً، أودّ أن أقول لك إنّني ضحكت كثيرًا حين قالوا إنّك عدت. سألت: من أين؟ بالطبع، لم يخطر في بالي جواب ميتافيزيقي. تركتهم، البعض كان سعيدًا بعودتك والبعض الآخر كان قلقًا من تلك العودة. بالنسبة إليّ، لم أشاهدك تغادر كي أصدق أمر عودتك المزعومة. ليس في الأمر استخفاف ببصر الآخرين ولا ببصيرتهم، كلّ ما في الأمر أنّني لم ألتق بآخر من أمثالك كان قادرًا أن يقنعني مثلك. في الحقيقة، عليّ أن أكون صادقًا معك. فإضافة إليك، هنالك آخرون تمكّنوا من إقناعي بهذا القدر أو ذاك. وعلى رغم بقائك الأوّل في هذه المسألة، إلّا أنني كنت أودّ أن أعرّفك إليهم. العزيز كارل، أعلم أنّ بداية التسعينيات من القرن المنصرم كانت عصيبة عليك، لم يكن لك إلّا أن تشك في كل شيء، في نفسك ربما، وفي الآخرين حتمًا. تعلم أنّني لم أستطع أن أمدّ إليك يد المساعدة في تلك الفترة العصيبة، لأنّني، كما تعلم، كنت مشغولًا في الإعداد لفحص الشهادة الابتدائيّة. أرجو ألّا تزعل منّي، فقد كان مستقبلي على المحك. أعرف أنّك حريص على مستقبلي. وبما أنّي مؤمن حتى العمق بالمثل القائل: "الصديق وقت الضيق"، فقد جنّدت لدعمك، في تلك الفترة، شخصًا أوليه كلّ الثقة الممكنة وائتمنته على جميع أسراري، دون أن أخبره إياها! صدّقني، إنّه الشخص الذي أختاره للمهمات الصعبة في حياتي، فهو لا يضيّع البوصلة. بالطبع، لا أقول لك هذا الكلام من باب المنّة أو التفاخر السخيفين، كل ما في الأمر أنّي أودّ أن أؤكد لك أنّي لم أتخلَّ عنك في الأوقات الصعبة. أعلم أنّ هناك بعض الخبثاء ممن همسوا في أذنك بكلام سخيف عن أنّي تخلّيت عنك. أريد أن أقول لك إنّ هؤلاء هم في الحقيقة من أنكروك بالطريقة السهلة نفسها التي من خلالها آمنوا بك. أنا لم أؤمن ولم أنكر، أنا اقتنعت وأغنيت قناعاتي! وأخيرًا كارل، أظنّ أنّك تريد أن تعرف من هو ذاك الشخص الذي حدّثتك عنه. إنّه ببساطة أبي. ذلك الشخص شبه الأمّي، الذي يكتب "شكرًا" بالنون، ذلك الشخص الشريف الذي لم ينفك يدافع عنك، ويعلن أنّك على حق، في عمله وتعامله. كنت معه. ونحن معك.