logo
مبدأ الغموض ومجريات التاريخ

مبدأ الغموض ومجريات التاريخ

الشرق الأوسط١١-٠٤-٢٠٢٥

لطالما تحدثَ الأولون والآخرون من المتبحرين في العلاقات الدولية وسوسيولوجيا الأحداث السياسية عن مبادئ ونظريات تلخص بناءً تصورياً يبنيه الفكر ليربط بين مبادئ ونتائج معينة، أو لنقل إنها تفسر ظواهر معينة من خلال نسق استنباطي، وتعمل على تحديد العلاقات السببية بين المتغيرات تكون ذات حمولة استراتيجية محددة المعالم والتوجهات، تساعد متخذي القرار على تتبع استراتيجيات معينة، وتقوي سياساتهم العمومية، ويجعلونها في منأى عن الهفوات والأخطاء. وما يجري اليوم من فرض ساكن البيت الأبيض رسوماً جمركيةً على دول العالم، وتراجعه المرة تلو الأخرى عن بعض قراراته وكونه محطَ متابعة من جميع دول العالم لمخططاته يومياً لما تحمل من ألغاز وعلامات استفهام لا متناهية، تجعلنا نقرُّ بأن البيت الأبيض يتبع اليوم استراتيجية الغموض، وهي مرحلة ستستمر طويلاً؛ كما أن هذا المبدأ ستكون له تداعيات على الأسواق الدولية، وعلى معالم النظام العالمي الجديد، وعلى نوعية الصراعات المقبلة وعلى حياة الملايين من الأفراد في العالم.
في رسالة كان قد سلمها إلى الكونغرس الأميركي في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 1823، أعلن الرئيس الأميركي جيمس مونرو عن «مبدأ مونرو»، الذي يقضي بضمان استقلالية كل دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي، بمعنى أنه لن يسمح بتكوين مستعمرات جديدة في الأميركتين، كما لن يسمح للمستعمرات الأميركية التي كانت قائمة بالتوسع في حدودها، وكل ذلك باسم عدم التدخل وعدم الاحتلال، وقد أعطى هذا المبدأ نتائجه المرجوة.
وفي مارس (آذار) 1947، أعلن الرئيس الأميركي هاري ترومان عن مبدئه الذي يسعى إلى مساعدة الشعوب الحرة التي تقاوم ضد الأقليات المزودة بالسلاح أو الضغوط الخارجية، «لأن بذور الأنظمة الشمولية الديكتاتورية - حسب تعبير ترومان - تغذيها دائماً عوامل الفقر والحاجة، وتصل إلى قمة تطورها ونموها حين يموت أمل الشعب في تحقيق حياة أفضل، ويجب علينا أن نبقي على هذا الأمل حيّاً في النفوس»؛ وكان لمبدأ ترومان الفضل في نشر الوعي لدى الشعب الأميركي بضرورة قبول مسؤولياته في الدفاع عن الشعوب المستضعفة، وإظهار استعداد أميركا لمعارضة «تكتيكات المسالمة»، وإيقاف الانتصار الشيوعي المتوقع في اليونان بعد قرار الحكومة البريطانية قطع المعونة عن هذا البلد، وما كان سيترتب على ذلك من نجاح الشيوعيين في كل المنطقة.
ثم يمكن أن نستحضر «مشروع مارشال» في يونيو (حزيران) 1947، حين عيّن ترومان الجنرال جورج مارشال وزيراً لخارجيته، وأعلن عن مبدئه الهادف إلى الوقوف بجانب أوروبا ومساعدتها اقتصاديّاً، وهذا ما جعل وزير الخارجية السوفياتي الشهير فياتشيسلاف مولوتوف يقول بأن «مشروع مارشال» هو نوع من الاستعمار الجديد.
وبموجب «مشروع مارشال» أنفقت أميركا أزيد من 12 مليار دولار لدعم اقتصادات أوروبا الغربية، وكانت لهذا الدعم الأميركي نتائج ملموسة ليس على الاقتصاد فحسب، بل وحتى على الاستقرار السياسي في القارة الأوروبية العجوز.
وفي سنة 1968، أعلن الاتحاد السوفياتي البائس عن «مبدأ بريجنيف»، نسبة للزعيم ليونيد بريجنيف، وهذا المبدأ هو شبيه بمبدأ ترومان ولكن في الخط المعاكس، حيث يسعى إلى دعم كل التوجهات المعادية للمصالح الغربية والتدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول؛ وكان من نتائج ذلك تطوير التقارب السوفياتي - الكوبي والتدخل السوفياتي في براغ سنة 1968 وغزو أفغانستان عام 1979.
وفي سنة 1989، جسدت شهادة وفاة الحرب الباردة في مبدأ فاجأ العالم، عندما سُئل الناطق الرسمي باسم غورباتشوف عن مدى فاعلية «مبدأ بريجنيف» في ما يقع من موجات ديمقراطية في كل من هنغاريا وبولونيا، فأجاب الناطق الرسمي بأن المبدأ الذي يجب أن يطبق هو «مبدأ سناترا»، وهذا ما ولّد موجات من الديمقراطية في أوروبا الشرقية.
أما اليوم فيمكن أن نتحدث عن مبدأ الغموض عند الرئيس الأميركي دونالد ترمب في سياسته الحالية؛ وقد كان بودنا أن نسمي استراتيجيته «استراتيجية الرجل المجنون» استنساخاً لمبدأ ريتشارد نيكسون الذي طبقه في زمانه حتى تعتقد فيتنام الشمالية أنّه قادر على فعل أيّ شيء لإنهاء حرب فيتنام، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية. ولكن في حالة الرئيس ترمب، فإن القاعدة التي يطبقها هي الغموض وعدم اليقين وصعوبة التنبؤ بتصرفاته في مجالات اقتصادية ومالية وجيوسياسية تهم مستقبل دول العالم؛ فهو رجل يفهم ما يقول وما يفعل، وأنت لا يمكنك أن تتكهن بما يبطنه، ويجب أن ترتوي من كل قواعد الذكاء الاستراتيجي لتجد مكاناً لك بجوار النظام العالمي الذي يبنيه، ويجب أن تكون مسلحاً ببرودة الدم وعدم الرد السريع، وأن تفهم أن العالم تغير، وأن ما اعتدته من العمل في إطار قواعد وأعراف منظمة التجارة العالمية والدبلوماسية الكلاسيكية، كل هذا قد انتهى.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ماذا تعني إعادة تأميم شركة خاصة لتشغيل القطارات في بريطانيا؟
ماذا تعني إعادة تأميم شركة خاصة لتشغيل القطارات في بريطانيا؟

Independent عربية

timeمنذ 4 ساعات

  • Independent عربية

ماذا تعني إعادة تأميم شركة خاصة لتشغيل القطارات في بريطانيا؟

أصبحت شركة "ساوث ويسترن رايلويز" البريطانية اليوم الأحد أول شركة خاصة لتشغيل القطارات تعود إلى الملكية العامة، وذلك بموجب خطة حكومة حزب العمال لإعادة تأميم قطاع السكك الحديد المتردي. ومن المقرر إعادة تأميم جميع الشركات المشغلة للقطارات في بريطانيا خلال العامين المقبلين بناءً على السياسات التي أطلقها رئيس الوزراء كير ستارمر منذ عودة حزبه إلى السلطة في يوليو (تموز) الماضي بعد 14 عاماً في المعارضة. وكتب ستارمر على منصة "إكس"، "باتت (ساوث ويسترن رايلويز) خاضعة للملكية العامة. وهذه ليست إلا البداية"، وتعهد أن يعطي التأميم "الأولوية للركاب" مع "خدمات أفضل وعملية أسهل لشراء التذاكر وقطارات أكثر راحة". وقالت وزيرة النقل هايدي ألكسندر في بيان "اليوم هو لحظة فاصلة في عملنا لإعادة السكك الحديد إلى خدمة الركاب". ويعاني ركاب القطارات في بريطانيا إلغاءات متكررة للرحلات وارتفاع أسعار التذاكر وإرباكاً دائماً في شأن الخدمات التي يمكنهم الاستفادة منها. خصخصة عمليات السكك الحديد وجرت خصخصة عمليات السكك الحديد منتصف تسعينيات القرن الـ20 في عهد رئيس الوزراء المحافظ آنذاك جون ميجور، لكن شبكة السكك الحديد ظلت عامة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وتخضع أربع من 14 شركة مشغلة في بريطانيا لإدارة الدولة بسبب أدائها الضعيف في السنوات الأخيرة، لكن كان يفترض أن يكون هذا حلاً موقتاً قبل العودة إلى القطاع الخاص. وفاز حزب العمال على المحافظين في انتخابات العام الماضي ليعود إلى "داونينغ ستريت" بتعهدات لإصلاح خدمات النقل في البلاد. "التغيير لن يحدث بين عشية وضحاها" وأقر مشروع قانون في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 يسمح بإدخال الشركات الخاصة المشغلة للقطارات إلى الملكية العامة عندما تنتهي عقودها، أو قبل ذلك في حال سوء الإدارة، لتدار من قبل شركة "السكك الحديد البريطانية الكبرى". وقالت ألكسندر أن هذا من شأنه أن ينهي "30 عاماً من التشرذم"، لكنها حذرت من أن "التغيير لن يحدث بين عشية وضحاها". ومن المقرر إعادة شركتي تشغيل قطارات تخدمان بلدات ومدناً في شرق بريطانيا وجنوب شرقها إلى الملكية العامة أواخر عام 2025، وكذلك، من المقرر أن تنتهي جميع عقود الشركات الحالية بحلول عام 2027. وتفيد الحكومة بأن إعادة التأميم ستوفر ما يصل إلى 150 مليون جنيه استرليني (200 مليون دولار) سنوياً، إذ لن يتعين عليها دفع رسوم تعويض للشركات المشغلة للقطارات. وفي أبريل (نيسان) الماضي سمح البرلمان البريطاني للحكومة بتأميم شركة "بريطانيا للصلب" بعدما تراكمت خسارتها حتى قدرت بأكثر من 900 ألف دولار يومياً.

ترمب يرسل وفدا لفحص الديمقراطية البريطانية
ترمب يرسل وفدا لفحص الديمقراطية البريطانية

Independent عربية

timeمنذ 5 ساعات

  • Independent عربية

ترمب يرسل وفدا لفحص الديمقراطية البريطانية

أرسل الرئيس الأميركي دونالد ترمب أخيراً وفداً إلى بريطانيا بمهمة "رصد" لحرية التعبير فيها، فالتقى الوفد مسؤولين حكوميين وناشطين تقول صحيفة "تليغراف" إنهم تلقوا تهديدات فقط لأنهم يبوحون بما يفكرون. وفق الصحيفة البريطانية أمضى الوفد المكون من خمسة أفراد يتبعون للخارجية الأميركية أياماً في البلاد خلال مارس (آذار) الماضي، واجتمعوا مع مسؤولين وناشطين اعتقلوا بسبب احتجاجهم الصامت أمام عيادات الإجهاض على امتداد المملكة المتحدة. ترأس وفد الولايات المتحدة كبير المستشارين في الخارجية الأميركية، صاموئيل سامسون، وعنوان الزيارة وفق ما تسرب في الإعلام المحلي كان "تأكيد إدارة ترمب أهمية حرية التعبير في المملكة المتحدة وعموم أوروبا". التقى الأميركيون نظراءهم في الخارجية البريطانية، وأثاروا معهم نقاطاً عدة على رأسها حرية التعبير في ظل قانون "التصفح الآمن للإنترنت" الذي أقرته لندن نهاية أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لكنه دخل حيز التنفيذ عام 2024، بعدما وضعت "هيئة إدارة المعلومات" المعروفة باسم "أوفكوم" لوائحه التنظيمية ثم أجرت عليه بعض التعديلات استدعتها أحداث الشغب التي شهدتها المملكة المتحدة نهاية يوليو (تموز) 2024. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) تقول "تليغراف" إن الرسالة المبطنة في هذه الزيارة هي استعداد أميركا ترمب للتدخل أكثر في الشؤون الداخلية البريطانية، ويبدو هذا واقعياً في ظل مشاحنات عدة وقعت بين الطرفين حول حرية التعبير خلال الأشهر الماضية. بدأ الأمر مع أحداث شغب تفجرت في بريطانيا قبل نحو عام على خلفية جريمة قتل فتيات صغيرات في مدينة ساوثبورت شمال غربي إنجلترا، انتشرت حينها معلومة خاطئة في وسائل التواصل تفيد بأن القاتل من المهاجرين مما أطلق احتجاجات عنيفة ضد المسلمين واللاجئين، وتعرضت أملاك وأرواح للخطر حتى إن العنف طاول عناصر الشرطة. المسؤول في إدارة ترمب اليوم ومالك منصة "إكس" إيلون ماسك، دافع حينها عن المحتجين المنتمين بغالبيتهم إلى اليمين الشعبوي، ووصف تعامل حكومة لندن معهم بالقمع، كما تعرض بصورة مباشرة لرئيس الوزراء، مما استدعى رداً على الملياردير الأميركي من قبل كير ستارمر نفسه إضافة إلى كثير من المسؤولين البريطانيين. الصدام بين الاثنين تجدد بعد فوز ترمب وانضمام ماسك إلى إدارة البيت الأبيض الجديدة، فقد تسرب في الإعلام أن وزير "الكفاءة الحكومية" الأميركي يريد إطاحة رئيس الحكومة البريطانية، وانتقد مالك "إكس" قانون "التصفح الآمن للإنترنت" في بريطانيا الذي تصدر أجندة زيارة الوفد الأميركي إلى لندن في مارس الماضي. مالك "إكس" كذلك دعم حزب "ريفورم" اليميني الذي يعد من أشرس خصوم "العمال" الحاكم في بريطانيا اليوم، ولكن ماسك ليس وحده في الإدارة الأميركية الجديدة يؤيد الشعبويين ويتهم حكومة لندن بالتضييق على حرية التعبير، فهناك أيضاً نائب الرئيس جي دي فانس الذي انتقد الأوروبيين عموماً في هذا الشأن خلال مؤتمر ميونيخ للدفاع في فبراير (شباط) الماضي، ثم وجه الانتقاد ذاته إلى ستارمر عندما زار البيت الأبيض بعدها بنحو أسبوعين. اضطر رئيس الحكومة البريطانية في حضرة ترمب وفانس إلى الدفاع عن الديمقراطية في بلاده، لكن يبدو أن ردوده لم تكن مقنعة كفاية لإدارة البيت الأبيض فأرسلت وفد الخارجية لمناقشة "الخشية الأميركية على مستقبل الديمقراطية الغربية" وامتنع المنزل رقم 10 في لندن عن الرد على أسئلة "تليغراف" في شأن تلك الزيارة.

غاز كردستان... شراكات "منقوصة" وثروة محاطة برقابة 4 دول
غاز كردستان... شراكات "منقوصة" وثروة محاطة برقابة 4 دول

Independent عربية

timeمنذ 6 ساعات

  • Independent عربية

غاز كردستان... شراكات "منقوصة" وثروة محاطة برقابة 4 دول

في خطوة وُصفت بأنها الأضخم في تاريخ استثماراته بقطاع الطاقة وقع إقليم كردستان العراق اتفاقين بقيمة إجمالية تصل إلى 110 مليارات دولار مع شركتين أميركيتين في واشنطن لتطوير حقلين رئيسين للغاز الطبيعي في الإقليم. ومع أنها تنعش الآمال بتعزيز أمن الطاقة المحلي، لكنها تعيد وبقوة إشعال فتيل الخلاف المستعصي بين حكومتي بغداد وأربيل حول إدارة الثروات الطبيعية لتفتح الباب مجدداً أمام تساؤلات حول توقيتها وشرعيتها القانونية وجدواها الاقتصادية وما تفرزه من تداعيات جيوسياسية في ظل التجاذب القائم بين الولايات المتحدة وإيران. وشكَّل الـ19 من مايو (أيار) الجاري منعطفاً مهماً في مساعي إقليم كردستان إلى ترسيخ مكانته كلاعب في سوق الطاقة الإقليمية، ففي العاصمة الأميركية واشنطن، وتحديداً في مقر غرفة التجارة الأميركية، وضع رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني توقيعه على اتفاقين استراتيجيين مع شركتي (HKN Energy) و(Western Zagros) الأميركيتين، ويحمل اختيار مكان التوقيع دلالات سياسية واضحة تعكس رغبة أربيل في الحصول على دعم وغطاء أميركي لهذه الخطوة. ويستهدف الاتفاقان تطوير حقلين واعدين للغاز الطبيعي يقعان في منطقة كرميان التابعة لمحافظة السليمانية، وهي منطقة تخضع تقليدياً لنفوذ حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" بزعامة بافل طالباني، الشريك الرئيس في حكومة أربيل التي يقودها الحزب "الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود بارزاني، وتقدر احتياطات الحقل الأول وهو حقل "كوردمير" بنحو 3.6 تريليون قدم مكعبة من الغاز، أما الحقل الثاني فهو حقل "طوبخانة" الذي يحوي ما يقدر بـ1.8 تريليون قدم مكعبة من الغاز. سجال جديد قديم تؤكد أربيل أن الهدف من الصفقة هو تعزيز وتأمين الحاجات المحلية المتزايدة، وأن نطاقها قد يتوسع مستقبلاً ليشمل مناطق أخرى من العراق، في محاولة لتصوير الصفقة على كونها ذات منفعة وطنية مشتركة، كما شددت على أنها امتداد لتفاهمات وعقود سابقة، وأن ما جرى هو مجرد "استبدال للشركات المنفذة ضمن الأطر القانونية"، وأن الشركتين المعنيتين تعملان بالفعل في الإقليم منذ سنوات. وأكدت أربيل أن هذا الحق في إدارة ثرواتها مكفول للإقليم دستورياً ككيان فيدرالي ضمن العراق الموحد، فيما عبر مسرور بارزاني عن امتعاضه مما وصفه بـ"تفسيرات خاطئة في بغداد من دون مبرر"، مؤكداً أن الخطوة تتماشى مع الحقوق الدستورية للإقليم، وأن حكومته ستستمر في تنفيذ هذه الحقوق. ولم تكد تمضي ساعات قليلة على الإعلان حتى جاء الرد سريعاً من بغداد عبر صدور بيان شديد اللهجة من وزارة النفط العراقية أعلنت فيه رفضها القاطع للخطوة، واعتبرتها مخالفة صريحة لقرارات سابقة أصدرتها المحكمة الاتحادية العليا، أعلى سلطة قضائية في البلاد، وشددت على أن أي استثمار في قطاع الطاقة يجب أن يمر حصراً عبر قنوات الحكومة الاتحادية. وجاء ذلك في ظل استمرار إخفاق الحكومتين في استئناف صادرات النفط من كركوك وحقول الإقليم المتوقفة منذ نحو عامين عبر ميناء جيهان التركي جراء الخلافات وألحقت خسائر تقدر بنحو 20 مليار دولار، عقب صدور حكم عام 2022 من المحكمة الاتحادية العراقية بعدم دستورية قانون النفط والغاز المعمول به في الإقليم، وألزم حكومة أربيل بتسليم إمداداتها إلى الحكومة الاتحادية، ليشكل الأساس القانوني الذي تستند إليه بغداد. تجاوز للصلاحيات ويثير المشهد القانوني المحيط بالاتفاقين جدلاً محموماً، ذلك أن صفة حكومة مسرور هي حكومة تصريف أعمال، وقد تأخر تشكيل الحكومة على رغم مرور سبعة أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية الكردية، ليبرز تساؤل جوهري حول مدى الصلاحيات القانونية الممنوحة لإبرام اتفاقات استراتيجية طويلة الأمد ذات قيمة مالية ضخمة. يشير خبراء قانونيون منهم رئيس منظمة "رونبين" لشفافية عمليات النفط والغاز يادكار كلالي إلى أن صلاحيات حكومة تصريف الأعمال، وفقاً للمادة 64 من الدستور العراقي، تنحصر في إدارة الشؤون اليومية للدولة ولا تمتد لتشمل اتخاذ قرارات استراتيجية أو إبرام اتفاقات تتطلب موافقة البرلمان. ويحذر كلالي من أن مثل هذه الاتفاقات قد تكون عرضة للإلغاء لاحقاً، كما أنها قد تواجه طعناً قانونياً أمام المحكمة الاتحادية، مستشهداً بحالات سابقة حدثت في عهد حكومة مصطفى الكاظمي. علاوة على ذلك يرى المحلل السياسي رواء موسى أن عقوداً بهذا الحجم تتطلب بالضرورة موافقة برلمان كردستان نفسه، حتى لو كانت الحكومة منتخبة وليست موقتة، مشيراً إلى أن "الحصول على موافقة البرلمان الكردستاني يتطلب تصويت 66 نائباً من أصل 100، وهذا لم يحدث"، مضيفاً أنه طالما لا يوجد دستور خاص بإقليم كردستان، فإنه يظل محكوماً بالدستور الاتحادي العراقي الذي يضع قيوداً على صلاحيات الإقليم في عقد اتفاقات دولية بصورة منفردة، بخاصة في قطاع استراتيجي كالطاقة". عودة على بدء هذه الشكوك والتحفظات القانونية تفتح الباب أمام احتمالات لجوء بغداد مجدداً إلى التحكيم الدولي أو المحاكم الدولية لمقاضاة الإقليم، كما حدث سابقاً في نزاعات نفطية أخرى، كما أنها قد تتحول إلى ورقة سياسية تستخدمها القوى المختلفة في بغداد لاستمالة الناخبين مع اقتراب موعد الانتخابات الاتحادية المقررة قبل نهاية العام الحالي عبر إظهار الحزم في الدفاع عن "حقوق العراق" وثرواته. ومع ذلك لا يستبعد البعض إمكان أن تغض بعض الأطراف مثل تيار رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني النظر عن هذه الإشكاليات وتتجنب التصعيد، أملاً في كسب ود ودعم القوى الكردية لضمان الفوز بولاية ثانية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) لم تقتصر التساؤلات على الجوانب القانونية والسياسية، بل امتدت لتشمل الشركتين المعنيتين، فقد شككت بعض الآراء في الأهمية الفعلية لهذه الشركات وفي حجم التضخيم الإعلامي الذي رافق الإعلان عن الاتفاقين. ويشير الباحث القانوني قهرمان حسن إلى أن الاتفاق أبرم "مع شركات خاصة وليس مع الحكومة الأميركية بصورة مباشرة، مما يقلل من البعد الاستراتيجي الرسمي للصفقة"، مضيفاً أنها تثير شكوكاً حول المقار الفعلية والخبرة السابقة لهاتين الشركتين، ويلفت الانتباه إلى أن معظم شركات النفط والغاز العاملة في الإقليم تأسست تزامناً مع تطور قطاع النفط فيه، ولم يكن لكثير منها خبرة سابقة واسعة في هذا المجال قبل دخولها السوق الكردية. مراهنة محفوفة بالأخطار وتتوافق رؤية المحلل السياسي دلشاد أنور مع هذه الشكوك، إذ يرى أن القيمة المعلنة للعقدين تبدو "مبالغاً بها" بالنظر إلى حجم الحقلين المشمولين بالاتفاق، ويتساءل عن كيفية احتساب الأرباح والنفقات على مدى العقود الطويلة القادمة في ظل التقلبات المستمرة لأسعار الطاقة العالمية. ويضيف أنور أن أربيل ربما تحاول استغلال وجود مسؤول مقرب من إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في إحدى الشركتين للحصول على دعم أميركي، لكنه يحذر من خطورة "المقامرة" والمراهنة على إدارة ترمب التي لا يمكن التنبؤ بسياساتها. وتزداد الشكوك عمقاً مع الإشارة إلى تحقيق نشره مركز "ستاندر" للتحليل الاقتصادي الذي أشار إليه المتخصص الاقتصادي نبيل المرسومي، ويفيد هذا التحقيق بأن الشركتين لا تمتلكان مكاتب فعلية في الولايات المتحدة، وأن إحداهما مسجلة باسم جندي أميركي متقاعد، بينما الأخرى مسجلة بأسماء أشخاص غير معروفين، وليس لهما تأثير يذكر على دوائر صنع القرار في الحكومة الأميركية. ويذهب التحقيق إلى حد الإيحاء بأن ما جرى هو مجرد "تغطية لإضفاء الشرعية" على عمليات قد تكون أربيل هي المالك الرئيس فيها، بخاصة أن نشاط الشركتين يقتصر تقريباً على العمل داخل كردستان. رسائل واشنطن لطهران من زاوية أخرى يربط المراقبون الخطوة بالسياق الجيوسياسي الإقليمي والدولي المعقد، وبصورة خاصة عن علاقة الولايات المتحدة بكل من العراق وإيران، ويحمل الموقف الأميركي الرسمي، الذي بدا مسانداً لخطوة أربيل، في طياته رسائل سياسية موجهة إلى بغداد. وتذهب بعض القراءات إلى أن واشنطن تحاول من خلال دعمها لأربيل في ملف الطاقة، ممارسة نوع من الضغط على الحكومة العراقية لتقليل اعتمادها الكبير على الغاز الإيراني لتشغيل محطات الكهرباء، حيث تعطي واشنطن العراق استثناءات متكررة من العقوبات المفروضة على طهران، مما يثير امتعاض دوائر أميركية ترى في ذلك "تقاعساً" من بغداد عن إيجاد حلول بديلة. وما يعزز هذا التوجه ما قاله وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ، عندما شدد على ضرورة "ضمان الحكم الذاتي للأكراد" والسماح لهم بتأمين "شريان اقتصادي" خاص بهم، مع تأكيد أهمية احترام الشركات الأميركية العاملة في العراق واستقلالية الأكراد، وأشار إلى رفض بلاده استمرار "النفوذ الإيراني على بعض قطاعات الحكومة العراقية". ورقة لكبح بغداد هذه التصريحات فسرت على أنها تمثل تحولاً في السياسة الأميركية، أو في الأقل تكثيفاً للجهود، لمصلحة دعم الأكراد كأداة لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق وإثناء بغداد عن الاعتماد المفرط على طهران في مجال الطاقة. وأشار الباحث قهرمان حسن إلى أن السياسة الأميركية التقليدية كانت تهدف إلى الحفاظ على إقليم كردستان ككيان فيدرالي مستقر ضمن عراق قوي وموحد، لكن يبدو أن هناك تحولاً نحو محاولة "مأسسة قطاع الطاقة" في الإقليم بهدف "قطع الأموال عن إيران"، وذلك عبر التركيز أولاً على تلبية الحاجات المحلية من الطاقة في كردستان، ثم استخدام أي فائض مستقبلي كأداة في المفاوضات مع بغداد. من ناحية أخرى يرى المحلل سردار عزيز أن هذا التحول قد يكون مرتبطاً بسياسة الرئيس الأميركي السابق ترمب التي ركزت على جذب الاستثمارات الخارجية إلى الولايات المتحدة وتشجيع الشركات الأميركية على الاستثمار في الخارج، لكنه يطرح تساؤلات حاسمة حول رد فعل بغداد المحتمل، وكيف سيكون الرد الأميركي إذا ما اعترضت بغداد بقوة، أو إذا مارست واشنطن ضغوطاً فعلية لدعم أربيل، محذراً من أنه إذا لم تتحقق هذه السيناريوهات، فقد تواجه العقود عقبات كبيرة وتتعقد العلاقة بين أربيل وبغداد بصورة أكبر.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store