logo
كذبَ المنجّمون

كذبَ المنجّمون

الميادينمنذ 3 أيام
لم يكن ينقص جيش المحلّلين السياسيين الذين يتحوّلون بين ليلة و"ضحاياها" إلى خبراء استراتيجيين في شؤون البلاد والعباد وما وراء الحدود، سوى المنجّمين الذين يطلّون عبر الشاشات المتنوّعة كي يدلوا بدلوهم في قضايا شائكة يعجز عن شرحها أحياناً كبار الفلاسفة والمفكّرين والمثقّفين والمتخصّصين في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع؛ ففي زمن الحروب الوجودية والأعاصير السياسية والضوضاء الإعلامية، حيث تتداعى الأحداث كأمواج هائجة، ويجتاح القلقُ النفوسَ جوعاً لأيّ بصيص يقين، تطفو على السطح ظاهرة تجافي العقل وتخدش الذائقة وتسطّح الوعي: منجّمون ينصتون لـ "همس الكواكب"، وعرّافات يقرأن طالع الأوطان في كفّ الأقدار، وكأنما السياسة ـــــ ذلك البحر المتلاطم بالأزمات والمصالح ـــــ تُختزل في البلاد المنذورة للأزمات والمِحن إلى ضرب من الرمل أو ورقة تاروت!
تلك الوجوه - التي حوّلها سوق الإثارة الرخيصة إلى "منتجات استهلاكية" تُباع للمشاهدين كما تُباع الأوهام في أسواق النصب - باتت تطلّ بلا خجل من الاستوديوهات البرّاقة، تغلّف الحقائق بشيء من الغموض المفتعل. ترمي بكلمات مطّاطة كالشباك، تصطاد بها القلوب القلقة والعقول الحائرة العطشى لاستشراف المستقبل في ظلّ غياب الوضوح والشفافية. "سيكون هناك تغيير".. "قد تحدث أزمة"... "ربما يظهر مخرج".. "أرى دخاناً أسود فوق المنطقة الفلانية".. "هناك شيء سوف يسقط من السماء" - نبوءاتٌ جوفاء قد تصل إلى حدّ التحريض على الذعر من دون أدنى مساءلة!
إنها لغة العموميات التي لا تخطئ لأنها لا تُلام على خطئها، ولا يحفل أحد بصدقها إلا حين تتواءم مع صدفة الواقع. فإذا تحقّقت نبوءة من بين مئات التكّهنات، انطلقت صيحات الإعجاب، وإذا غابت عن مسرح الحوادث، غابت هي الأخرى في غياهب النسيان.
الأمر الأكثر إيلاماً أنّ بعض هؤلاء المشعوذين لا يحملون في جعبتهم سوى ثقافة هشّة، لا تتجاوز ترديد عبارات فضفاضة كالفقاقيع. ترى أحدهم يتلعثم عند سؤال بسيط، أو يخطئ في قراءة الرموز البدائية التي يدّعي فهمها، كأن يخلط بين السطور والصفحات! فكيف ننتظر من قارئ لا يحسن فكّ شيفرة كلمات مكتوبة على أوراق بين يديه، أن يفسّر تعقيدات السياسة والاقتصاد؟ كيف نثق بمن تخطئ عيناه القراءة السليمة، أن ينير لنا دروب المستقبل؟
ويا للمفارقة المُرّة! ففي عصر الذكاء الاصطناعي والتنبؤات القائمة على بيانات ضخمة، نشهد انحداراً إلى عقلية القرون الوسطى حيث تُقاس مصائر الشعوب بكلام "البرّاجين"! خطورة هذه النماذج ليست في سذاجة المضمون وحسب، بل في جرحها الغائر للعقل الجمعي.
حين ترفع شاشات - يُفترض أن تكون منابر تنوير - صوت الدجل إلى مصاف التحليل السياسي والاقتصادي، فهي تصفع ذكاء المتلقّي صفعة قاسية. كأنها تعلن أنّ جدلية التاريخ وصيرورة المجتمعات لا تستحقان إلّا أن تُختزلا إلى ألغاز يحّلها سحرة العصر! ففي لحظات الضباب القومي والوطني، وفي غمرة القلق على المستقبل والمصير، حيث تشتدّ الحاجة إلى بصيرة الخبراء وتحليلات العقلاء، يُقدَّم الوهم كبديل عن الفهم، فتتشتت البوصلة، ويغيب التمييز بين الحقيقة والخرافة.
المأساة الكبرى أنّ وسائل الإعلام، بدل أن تكون حصناً منيعاً ضدّ هذه العاصفة من الادعاءات والتخرّصات، تتحوّل إلى جسر يعبر عليه بائعو الأوهام إلى عقول المشاهدين بحثاً عن الإثارة الرخيصة، والمشاهدات السريعة التي تدرُّ أرباحاً على حساب المصداقية، كأنها تُبادِل المسؤولية بالتهريج، والعمق بالسطحية. كلّ دقيقة يهدرها مذيع في الاستماع إلى "نبوءة" فارغة، هي دقيقة تُسرَق من عالم جليل أو مفكّر صادق يضيء زوايا القضية بمنهج العلم والمنطق.
أليست واجبات المهنة الإعلامية تقتضي وضع "مدوّنة شرف" تُحرّم تسويق الدجل كتحليل؟ أليس في صمت المؤسسات الرسمية على هذه المهزلة إجهازٌ على ما تبقّى من مصداقية؟ فإلى متى نرضى بأن تُقرأ تقلّبات مصائرنا في أوراق المشعوذين وكؤوس البلور؟ وأيّ منعطف مظلم أوصلنا إلى أن تمسك يد المشعوذ بميكروفون الشأن العامّ؟
إنّ احترام عقول الناس يبدأ باستبعاد كلّ صوت يحاول بيع "اليقين الوهمي" في سوق الشكّ والاضطراب. فلتنهض منصات التنوير الحقيقية بتقديم الفكر المبسَّط الجذّاب، ولتُطلق حملات تثقيفية تزرع مناعة التفكير النقدي في وجه وباء الخرافة. فلتغلق أبواب الفضاء العامّ في وجه منجم متسلّق أو عرّافة كاذبة، ولتفتح على مصاريعها للعقلاء، الذين يبنون آراءهم على أرض الحقائق لا سماء التخمين.
إن الحياة السياسية الحقّة شجرة جذورها في أرض التاريخ، وأغصانها في سماء الطموح، لا يُروى عطشها بنبوءات، بل بفكر نقدي شجاع. وليس من كرامة لأمّة أن تستقبل أخبارها بصوت عرّاف، بينما أصوات حكمائها تُكبَت تحت ضجيج "البصّارين" وتوقّعاتهم التافهة!
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

تقرير لجنة الأمم المتحدة المعنية بسوريا: العنف الطائفي في سوريا يشكل على الأرجح جرائم حرب مع تورط كل من المقاتلين الموالين للأسد وقوات الحكومة الإنتقالية
تقرير لجنة الأمم المتحدة المعنية بسوريا: العنف الطائفي في سوريا يشكل على الأرجح جرائم حرب مع تورط كل من المقاتلين الموالين للأسد وقوات الحكومة الإنتقالية

LBCI

timeمنذ 19 دقائق

  • LBCI

تقرير لجنة الأمم المتحدة المعنية بسوريا: العنف الطائفي في سوريا يشكل على الأرجح جرائم حرب مع تورط كل من المقاتلين الموالين للأسد وقوات الحكومة الإنتقالية

التالي لجنة الأمم المتحدة المعنية بسوريا تقول إنها لا تزال تتلقى معلومات عن إنتهاكات مستمرة في المناطق المتضررة وتعبر عن قلقها

الأسمر شكر لوزير المال المباشرة بدفع ١٢ مليون ليرة شهريًا لمتقاعدي القطاع العام
الأسمر شكر لوزير المال المباشرة بدفع ١٢ مليون ليرة شهريًا لمتقاعدي القطاع العام

LBCI

timeمنذ 19 دقائق

  • LBCI

الأسمر شكر لوزير المال المباشرة بدفع ١٢ مليون ليرة شهريًا لمتقاعدي القطاع العام

شكر رئيس الإتحاد العمالي العام في لبنان الدكتور بشارة الأسمر في بيان وزير المال ياسين جابر على "مشروع القانون الذي اعده وتبنته الحكومة، والقاضي بفتح اعتماد في موازنة ٢٠٢٥ للمباشرة بدفع ١٢ مليون ليرة شهريًا لكل متقاعدي القطاع العام، ذلك المشروع الذي أتى بسعي من الإتحاد العمالي العام وبرعاية من رئيس مجلس الوزراء الرئيس نواف سلام وتوافق مع وزير المال ياسين جابر ووزير العمل الدكتور محمد حيدر على التنفيذ". وشكر الوزير جابر ايضًا على "تحويل وزارة المالية لوزارة التربية والتعليم العالي كامل مستحقات التعليم المهني والتقني، لتتمكن من تسديد متوجباتها للأستاذة حتى نهاية العام ٢٠٢٥".

الحشيمي للـLBCI : يوم 7 أيار كان "أكبر غلطة"… ولبنان بحاجة لسلاح الدولة لا لسلاح حزب الله
الحشيمي للـLBCI : يوم 7 أيار كان "أكبر غلطة"… ولبنان بحاجة لسلاح الدولة لا لسلاح حزب الله

LBCI

timeمنذ 19 دقائق

  • LBCI

الحشيمي للـLBCI : يوم 7 أيار كان "أكبر غلطة"… ولبنان بحاجة لسلاح الدولة لا لسلاح حزب الله

أكّد النائب بلال الحشيمي أنه ينوي الترشح على الانتخابات النيابية المقبلة، مشددًا على أنه "إذا تعدّل قانون الانتخابات النيابية سيكون الخاسر الثنائي ومجموعته، والرابح التغييريون الذين سيصوّت لهم المغتربون، أمّا إذا لم يُعدَّل فسيكون الخاسر التغييريون". ولفت الحشيمي في حديث لبرنامج "نهاركم سعيد" عبر شاشة الـLBCI الى أنه "يجب على الجميع البقاء تحت سقف الدولة لحماية لبنان واللبنانيين". وأشار الى أن "الايراني لم يأت بورقة ولكنه لا يزال يحتفظ بورقة في لبنان وهي ورقة حزب الله". وذكّر بيوم ٧ أيار معتبراً أنه كان "أكبر غلطة" من قبل حزب الله ولم يكن يومًا مجيدًا، بل كان يومًا سيئًا. وأثبت أن لبنان ليس بحاجة لسلاح حزب الله، بل لسلاح الدولة، لأن سلاح الحزب استُخدم في الداخل. وقال "عندما كانت هناك "مصلحة" للتيار الوطني الحر ترك فريق 14 آذار وسار في مسار حزب الله وحكموا البلد حتى عام 2022 بما يخدم مصلحته ولو وقف مع 14 آذار من منطلق استقلالية البلد لما كان أعطى حزب الله شرعية مسيحية وحمى سلاحه". ودافع عن الحكومة الحالية قائلًا: "دافعتُ عن الحكومة وأعطيتها الثقة، بينما غيري شتمها ثم منحها في النهاية الثقة".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store