logo
أميركا وإسرائيل تريدان إضعاف سوريا لكنهما مختلفتان على الطريقة

أميركا وإسرائيل تريدان إضعاف سوريا لكنهما مختلفتان على الطريقة

الجزيرةمنذ 4 أيام
يبدو إضعاف سوريا الجديدة هدفا أميركيا إسرائيليا مشتركا، لكن الخلاف حاليا على طريقة تحقيق هذا الهدف، حيث تريد واشنطن بناء بلد مرهون بالدعم الخارجي طيلة الوقت بينما إسرائيل تسعى إلى أن تصبح سوريا بلدا مفككا على أسس طائفية ومذهبية.
ففي الوقت الذي يتحدث فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن ضرورة دعم استقرار حكومة دمشق ومساعدتها في بناء نهضة البلاد، يعمل (رئيس الحكومة الإسرائيلية) بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية – بدأب على تفكيك سوريا اعتمادا على ما فيها من أقليات، وخصوصا الدروز.
فقد اتخذت إسرائيل من حماية الدروز ذريعة لتدخلها العسكري ورفضها أي وجود أمني لحكومة لدمشق جنوب البلاد كله، لكن وكالة "أسوشيتد برس" نقلت عن المبعوث الأميركي توم براك أن إسرائيل "تفضل سوريا مجزأة على دولة مركزية قوية تسيطر على البلاد".
ولا تعكس هذه المسافة -في الموقفين الأميركي والإسرائيلي- خلافا على شكل سوريا المستقبلية وإنما على طريقة الوصول إليه، بحيث تظل دمشق سائرة في ركب الرؤية طويلة الأمد التي تهدف لتطويع المنطقة كلها بيد إسرائيل.
تفكيك المنطقة كلها
فرؤية الأميركيين، والجمهوريين تحديدا، لا تقف عند حد إضعاف سوريا -التي يمثل نهوضها خطرا على إسرائيل- لكنها تمتد إلى إضعاف كافة دول المنطقة، كما يقول رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الخليل الدكتور بلال الشوبكي.
ومن هذا المنطلق، فإن الخلاف الأميركي الإسرائيلي في سوريا يتلخص في تعامل واشنطن مع مشكلة السويداء كأزمة طارئة تتطلب حلا عاجلا، بينما تتعامل معها إسرائيل كمسألة استراتيجية.
وحسب ما قاله الشوبكي خلال مشاركته في برنامج "ما وراء الخبر" فقد حاول نتنياهو تقرير مستقبل قطاع غزة منفردا استنادا لوثيقة أميركية قديمة صدرت في التسعينيات وتعطي إسرائيل حرية التصرف بالمنطقة. ولتعويض هذا الفشل، حاول تحقيق نجاح في سوريا، عبر بناء جسور مع الأقليات.
وعلى هذا، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل متفقتان على إضعاف سوريا، لكنهما تختلفان في الطريقة، ففي حين يسعى نتنياهو لتفكيكها جغرافيا، يحاول ترامب رهن استقرارها السياسي والاقتصادي بالدعم الخارجي حتى يجبرها على السير في خططه المستقبلية للمنطقة.
ويتفق الباحث السياسي السوري ياسر النجار مع الطرح السابق، لكنه يعتقد أن إدارة ترامب سمحت لإسرائيل بالتحرك مع الدروز الملاصقين للجولان السوري المحتل بينما لم تسمح لها بأي عمل في المناطق التي توجد بها واشنطن بشكل مباشر كما هي الحال مع الأكراد في الشمال.
كما تحاول واشنطن ضم دمشق لقطار التطبيع، بينما تريد إسرائيل إلزامها بعدم الوجد الأمني والعسكري في الجنوب السوري كله وليس بمنطقة فض الاشتباك فقط، فضلا عن تنازلها رسميا عن الجولان المحتل.
وكانت إسرائيل قد خرقت حدود فض للاشتباك كان منصوصا عليها باتفاقية 1974، فور سقوط نظام بشار الأسد ، وتوغلت فيما بعد الجولان المحتل إلى قلب الجنوب السوري.
لكن الحكومة السورية الجديدة لا يمكنها التنازل عن الجنوب ولا حتى عن الجولان المحتل، فضلا عن أنها لن تتمكن من توقيع اتفاقية تطبيع دون وجود مجلس تشريعي يقر هذه الاتفاقية، كما يقول النجار.
لذلك، فإن الموقف الأميركي الإسرائيلي في سوريا يبدو تكامليا أكثر من كونه متباينا لأن الولايات المتحدة تمارس الدبلوماسية وتترك لإسرائيل ممارسة الفعل العسكري لإخضاع حكومة دمشق التي يبدو أنها أبدت خالفت توقعات ترامب ونتنياهو منها.
ولعل هذه الترتيبات التي كان متوقعا الإعلان عنها خلال زيارة نتنياهو الأخيرة لواشنطن، وهو ما لم يحدث، هي التي جعلت رئيس الوزراء الإسرائيلي يرجع بضوء أخضر للتحرك عسكريا في سوريا، برأي الشوبكي.
وقف عربدة نتنياهو
ورغم هذا الضوء الأخضر، فقد تدخلت واشنطن سريعا لوقف عربدة نتنياهو الذي تصرف بشكل جنوني في سوريا، على حد وصف مسؤولين أميركيين لموقع "أكسيوس" الإخباري.
غير أن هذا التدخل الأميركي لكبح جماح إسرائيل لن يتجاوز نقطة الضغوط الدبلوماسية لما هو أبعد من ذلك، برأي كبير الباحثين بالمجلس الأميركي للسياسة الخارجية جيمس روبنز الذي يعتقد أن ترامب يريد إنهاء هذه الاضطرابات سلميا حتى يتمكن من تحقيق الازدهار الاقتصادي الذي يريده بالمنطقة.
ولمنع تكرار التدخلات الإسرائيلية، سيكون على الحكومة السورية الوقوف على مسافة واحدة من كل الأقليات، والتعامل بحياد لفض أي نزاع، حتى لا تتعرض للمحاسبة، كما يقول روبنز.
ولا يريد ترامب أن يكون الجولان المحتل عائقا أمام تحسين العلاقات السورية مع إسرائيل، بينما تبدي الأخيرة تمسكا بالبقاء فيه وفرض سيادة عليه وتريد من دمشق الاعتراف بهذه السيادة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

غوتيريش: الكلمات لا تطعم أطفال غزة الجياع
غوتيريش: الكلمات لا تطعم أطفال غزة الجياع

الجزيرة

timeمنذ 41 دقائق

  • الجزيرة

غوتيريش: الكلمات لا تطعم أطفال غزة الجياع

وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ما يحدث في غزة بأنه "أزمة أخلاقية تتحدى الضمير العالمي"، وليس مجرد أزمة إنسانية فقط، مشددا على أن الكلمات لا تطعم الأطفال الجياع هناك. وأكد غوتيريش في حديثه عبر الفيديو -الجمعة- إلى الجمعية العالمية لمنظمة العفو الدولية التي تعقد أشغالها في العاصمة التشيكية براغ، أن لا شيء يمكن أن يبرر "انفجار الموت والدمار" في غزة منذ الهجمات التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مجددا إدانته لها. وقال غوتيريش إن "حجم ونطاق هذه الأحداث يتجاوزان أي شيء شهدناه في الآونة الأخيرة"، وأضاف "لا أستطيع تفسير مستوى اللامبالاة والتقاعس الذي نراه من قبل الكثيرين في المجتمع الدولي وانعدام الرحمة وانعدام الحقيقة وانعدام الإنسانية". وأفاد الأمين العام للأمم المتحدة بأن موظفي المنظمة في غزة "يتضورون جوعا أمام أعيننا"، فيما أعلن الكثير منهم أن الظروف التي لا يمكن تصورها قد جعلتهم "مخدرين ومنهكين لدرجة أنهم يقولون إنهم لا يشعرون بأنهم أموات ولا أحياء". "الأطفال يريدون الجنة" وزاد مبينا: "يتحدث الأطفال عن رغبتهم في الذهاب إلى الجنة، لأنهم على الأقل كما يقولون سيجدون الطعام هناك". وتابع غوتيريش أن "الأمم المتحدة سترفع الصوت عند كل فرصة، لكن الكلمات لا تطعم الأطفال الجياع". وذكر الأمين العام للأمم المتحدة أنه منذ 27 مايو/أيار الماضي سجّلت المنظمة مقتل "أكثر من ألف فلسطيني أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء"، وأضاف "لم يُقتلوا في القتال، بل في حالة يأس بينما يتضور جميع السكان جوعا". كما شدد غوتيريش على ضرورة العمل للوصول إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وإطلاق سراح جميع المحتجزين فورا ودون قيد أو شرط، ووصول إنساني فوري ودون عوائق، وأبرز أهمية اتخاذ "خطوات عاجلة وملموسة لا رجعة فيها نحو حل الدولتين". وأعلن أن الأمم المتحدة تقف على أهبة الاستعداد للاستفادة إلى أقصى حد من وقف إطلاق النار المحتمل من أجل توسيع نطاق العمليات الإنسانية بشكل كبير في مختلف أنحاء قطاع غزة، كما فعلت خلال فترة الهدنة السابقة.

إسرائيل تقترب من لحظة انفجار داخلي
إسرائيل تقترب من لحظة انفجار داخلي

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

إسرائيل تقترب من لحظة انفجار داخلي

مرّت إسرائيل خلال الثمانينيات بمرحلة من التحوّلات البنيوية العميقة التي أعادت صياغة معالم الدولة والمجتمع، ليس فقط على المستوى السياسي والحزبي، بل في العمق الاجتماعي والثقافي. فقد أصبح هذا العقد شاهدًا على نشوء انقسام جذري داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل، تعدّى الحدود المعتادة للاختلاف السياسي، وامتد إلى تناقضات في الهويات، والرؤى، وأنماط العيش، وصور الذات الجماعية. فمنذ تأسيس الدولة، سعت إسرائيل إلى تقديم نفسها ككيان قومي موحّد لليهود، يستوعب اختلافاتهم الإثنية والمذهبية والجغرافية ضمن سردية وطنية جامعة. بيدَ أنّ الواقع الاجتماعي منذ البداية كان يحمل توترات كامنة بين الجماعات اليهودية القادمة من خلفيات متنوعة، والتي تم إخضاعها لمنظومة من التراتبية الرمزية والسياسية، قوامها التفوّق الثقافي الأشكنازي. وفي حين أمكن لهذه البنية أن تُدار عبر مؤسسات الدولة خلال العقود الأولى، فإن ما حدث في الثمانينيات كان أشبه بانكشاف كامل للصدوع الداخلية وتحوّلها إلى انقسامات علنية. لقد تعمّق التوتر بين النخب العلمانية- الأشكنازية التي احتكرت مؤسسات الدولة، والشرائح الشرقية والدينية التي ظلّت على الهامش الاجتماعي والسياسي. كما تصاعدت النزعة الدينية القومية على حساب الصهيونية الاشتراكية، وتهاوت سردية الإجماع الوطني تحت ضغط أحداث كبرى أبرزها الغزو الإسرائيلي للبنان 1982. وباتت التناقضات تطفو إلى السطح، وانهارت قدرة المؤسسة على إخفائها خلف خطاب "الوحدة القومية"، فانفتح المجال أمام استقطاب طويل المدى، لم يكن ممكنًا تجاوزه، بل جرت موضعة مؤسسات الدولة حوله. تصدعات مبكرة في سردية الدولة يركّز هذا المقال على مكوّن واحد في المجتمع الإسرائيلي هو المجتمع اليهودي، بوصفه المجال الرئيس الذي تجلّى فيه الانقسام. ولا يعود هذا الإغفال لوجود الفلسطينيين في الداخل أو في الأراضي المحتلة إلى قناعة بعدم تأثيرهم، بل لأن البنية الصهيونية ذاتها أقامت منظومة اجتماعية وسياسية تُقصي الفلسطينيين من النقاش العام، وتُقصيهم من تعريف الهوية السياسية للدولة. فالمجتمع الإسرائيلي، كما تشكّل خلال العقود السابقة، لم يكن مجتمعًا مدنيًا تعدديًا، بل إطارًا إثنيًا- دينيًا صيغ ليعبّر عن مصالح شريحة معينة من اليهود، فيما جرى دمج الآخرين بدرجات متفاوتة ضمن هذه المنظومة. وقد أدى هذا الإقصاء إلى بناء وحدة سطحية، تقوم على التماثل الثقافي، وتنهار فور بروز التمايزات الطبقية أو الدينية أو الإثنية داخل الجماعة اليهودية ذاتها. وهذا ما حصل بوضوح خلال الثمانينيات، حين أصبحت مفاهيم "من هو اليهودي؟"، و"ما معنى إسرائيل؟"، و"من يملك السلطة الأخلاقية؟"، مواضيع خلافية، لا يجمع عليها أحد. وكانت المرحلة الممتدة بين 1979 و1988 حاسمة، لأنها شهدت انكشاف هذه التناقضات وتكثّفها، عبر عدد من اللحظات المفصلية. وفيما يلي، نتناول هذه اللحظات كما تبلورت في صراعات سياسية-اجتماعية كشفت عن طبيعة الانقسام وعمقه. حرب لبنان الأولى 1982: بداية التصدع الحاد شكّلت حرب لبنان الأولى 1982 نقطة تحوّل كبرى في تاريخ الاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي، إذ كشفت هذه الحرب عن انقسام لم يكن من الممكن بعد ذلك تجاوزه أو التغطية عليه. وكانت الحروب السابقة توصف بأنها "وجودية"، وتتمتّع بإجماع شبه كامل داخل المجتمع اليهودي، حيث تُخاض تحت شعار الدفاع عن الدولة الناشئة في وجه "الخطر العربي" أو "الإبادة الوشيكة". لكن حرب لبنان كانت مختلفة في سياقاتها، وأهدافها، وصورها، والأهم من ذلك: في تمثّلاتها داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه. فقد بدت الحرب، بالنسبة لكثير من الإسرائيليين، عملية عدوانية لا مبرّر لها، قادتها حكومة يمينية؛ بهدف القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، وإنشاء نظام موالٍ في لبنان، دون أن يكون هناك خطر مباشر على إسرائيل. وقد تسبّبت الحملة في أزمة أخلاقية داخلية، خصوصًا بعد مجازر صبرا وشاتيلا التي نفذتها المليشيات اللبنانية الانعزالية اليمينية الفاشية (التي كانت تدعي كذبًا الانتساب للمسيحية) في ظل حماية القوات الإسرائيلية. ولم يكن الصراع حول الحرب مسألة سياسية محضة، بل تحوّل إلى انقسام أخلاقي وجودي. فقد خرجت مظاهرات ضخمة في تل أبيب ضد الحكومة، وبرزت حركة "السلام الآن" كأبرز القوى المعارضة. وكان الاغتيال السياسي الذي أودى بحياة الناشط إميل غرونزويغ بواسطة قنبلة ألقاها صهيوني متطرف خلال مظاهرة سلمية في القدس 1983 علامة فارقة: إذ لم يُقتل بيد فلسطيني، بل على يد إسرائيلي يهودي. ومنذ تلك اللحظة، بدأ التصدع الداخلي يأخذ طابعًا عنيفًا، وتشكّلت لأول مرة خطوط تماس فارقة سياسية- ثقافية داخل المجتمع اليهودي نفسه. ولم يقتصر الانقسام الذي أثارته حرب لبنان على النخب السياسية والثقافية، بل اتخذ طابعًا شعبيًا واسعًا، تجسّد في حركات احتجاج اجتماعي مثل حركة "أمهات الجنود"، التي ظهرت كمصدر ضغط أخلاقي على المؤسسة العسكرية والسياسية. وقد أثار الغزو، لا سيما في مراحله المتأخرة، وتورّط الجيش في مجازر صبرا وشاتيلا، انقسامًا عميقًا حول دور الجيش الإسرائيلي ذاته، لا بوصفه جهازًا دفاعيًا جامعًا بل كفاعل سياسي- أمني يرتبط بخيارات أيديولوجية وإستراتيجية مثيرة للجدل. وقد أسهمت هذه الأحداث في زعزعة الثقة بالمؤسسة الأمنية، وبلغت ذروتها في استقالة أرييل شارون من وزارة الدفاع، مما شكّل لحظة مفصلية في العلاقة بين المجتمع والجيش، وبين السياسة الخارجية والأخلاقيات العامة. وبهذا المعنى، مثلت حرب لبنان لحظة انكشاف للمجتمع الإسرائيلي: فقد أسقطت قناع الوحدة القومية، وكشفت أن سردية "الدولة الأخلاقية" لم تعد تجمع أبناء المجتمع الواحد. فقد صار النقد السياسي يُعامَل كخيانة، والمخالفة الفكرية كتهديد وجودي، فانفتح باب الانقسامات الكبرى على مصراعيه. الاستيطان ذو الطابع العقائدي وتديين المجال السياسي في الوقت الذي كانت فيه الحرب تفتح الجرح الأخلاقي داخل المجتمع، كانت ظاهرة الاستيطان تشهد تحوّلًا كيفيًا لا يقل عمقًا عن التحوّل السياسي. فمنذ منتصف السبعينيات، بدأت تيارات دينية- قومية تضع مشروع الاستيطان في الضفة الغربية في صلب عقيدتها السياسية واللاهوتية. وكان لهذه التيارات، وعلى رأسها حركة "غوش إيمونيم"، دور محوري في تحويل الاستيطان من أداة أمنية إلى رسالة دينية خلاصية. فقد رأت هذه الحركات أن الضفة الغربية أو ما أطلقت عليه وفقًا للأساطير التوراتية "يهودا والسامرة" ليستا أراضي محتلة، بل جزءًا من جوهر الهوية اليهودية ومهد السيادة التاريخية. ولم يعد الاستيطان مجرد سياسة، بل أصبح فريضة. ومن خلال بناء مستوطنات ذات طابع أيديولوجي، كانت هذه التيارات تفرض رؤيتها على الحكومة والدولة، مستندة إلى خطاب ديني يقول إن التنازل عن الأرض يعادل إنكارًا للإيمان. ولم تتوقف هذه التيارات عند حدّ الممارسة السياسية، بل دفعت نحو عسكرة العقيدة اليهودية، كما ظهر في تأسيس الخلية اليهودية السرية التي خططت لتفجير المسجد الأقصى عام 1984. ورغم خطورة المشروع – الذي لو نُفذ لأشعل حربًا دينية كبرى – فإن تعامل المؤسستَين القضائية والسياسية مع أعضاء الخلية كان متساهلًا بشكل لافت. حيث لم يُعاملوا كإرهابيين، بل كمضلّلين، وتم تخفيف العقوبات عليهم، في إشارة واضحة إلى أن البنية العميقة للدولة تميل إلى التساهل مع العنف متى صدر من الأطراف المنتمية إلى نسيجها القومي. وما كشفته هذه الأحداث هو أن الدين لم يعد ساحة منعزلة عن الدولة، بل أصبح مكونًا من مكونات القرار، ورافعة للاستيطان، وأداة للضغط. وفي هذا السياق، صار مشروع الاستيطان التعبير الأقصى عن الانقسام بين "إسرائيل القديمة" التي تؤمن بالبراغماتية والدولة، و"إسرائيل الجديدة" التي تؤمن بالوعد الإلهي ورفض التسوية. وفي خضم هذه التناقضات الداخلية، كانت أصوات الفلسطينيين – داخل الخط الأخضر وفي الأراضي المحتلة – تزداد حضورًا ووضوحًا، مترافقة مع تآكل متسارع في الخطاب الإسرائيلي التقليدي الذي كان يصف الضفة الغربية وقطاع غزة بأنهما أراضٍ "محتلة مؤقتًا" بانتظار تسوية سياسية نهائية. فلم يَعُد هذا الخطاب مقنعًا، لا داخليًا ولا خارجيًا. وفي المقابل، تعزّز لدى الفلسطينيين شعور بانسداد الأفق السياسي، وبتلاشي إمكانات التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، وهو ما مهّد لاحقًا لتفجر الانتفاضة الأولى 1987، بوصفها تتويجًا لتراكم طويل من الإقصاء والقمع، ونتيجة مباشرة لانفصال المؤسسة الإسرائيلية عن الواقع المتحوّل في الداخل والخارج. جاءت حركة "السلام الآن" في أواخر السبعينيات لتكون بمثابة تجلٍّ واضح لانقسام ثقافي- اجتماعي آخذ في التشكل داخل المجتمع الإسرائيلي. فقد نشأت الحركة كرد فعل على سياسات التوسّع والاحتلال، ورفعت شعارات الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإقامة سلام دائم قائم على مبدأ الأرض مقابل السلام، وذلك استنادًا إلى ما تراه مصالح إستراتيجية وأخلاقية. ومع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، برزت الحركة بوصفها المعبّر الأبرز عن المعارضة الليبرالية العلمانية. لكن "السلام الآن" لم تكن حركة جماهيرية شاملة، بل كانت، في بنيتها العميقة، امتدادًا للنخبة الأشكنازية، ذات الجذور في النخب العسكرية والثقافية التي قادت المشروع الصهيوني في بداياته. وقد تمركزت الحركة في المدن الكبرى، لا سيّما تل أبيب والقدس الغربية، وحملت خطابًا حداثيًا- أوروبيًا يمجّد التسامح والعقلانية، لكنه بدا، من وجهة نظر خصومها، خطابًا نخبويًا متعاليًا لا يتصل بالواقع الاجتماعي للمجتمعات الدينية والشرقية والمهمّشة. لقد فشلت الحركة في اختراق القواعد الاجتماعية الواسعة؛ لأن رسالتها الأخلاقية لم تقترن بقراءة حقيقية للانقسامات الطبقية والثقافية في المجتمع. وبالنسبة لكثير من اليهود الشرقيين، كانت "السلام الآن" تمثل وجهًا آخر من وجوه الهيمنة الأشكنازية التي تريد أن تُبقي السلطة الرمزية والسياسية في يدها، حتى وإن تبنّت خطاب "السلام" و"العدل". ومع تصاعد الهجوم على الحركة، أصبح المنتسبون إليها يُصنَّفون بوصفهم "يساريين غير وطنيين"، وتحوّل الانتماء إلى التيار الليبرالي إلى تهمة أخلاقية. وهكذا، انقلب شعار "السلام الآن" من نداء للتسوية، إلى مؤشر على الانتماء الطبقي والثقافي، وظهرت بوضوح حدود الفصل بين معسكرين: معسكر الهوية الحداثية- العلمانية المتعلّمة، ومعسكر الهوية الدينية- الشرقية- الشعبية. وتجاوز الأمر الخلاف السياسي إلى أنماط الحياة والقيم: بين من يؤمن بالتفاوض والتسوية والليبرالية، ومن يرى أن هذه القيم مجرّد تغريب واستلاب للهوية اليهودية الأصيلة. وهكذا، أصبحت "السلام الآن" شاهدًا على أزمة التمثيل والارتباط بالنسيج الاجتماعي، وأزمة النخبة، وعلى انقسام لم يَعُد بالإمكان إدارته ضمن مظلة وطنية جامعة. صعود حزب شاس: التصدع الإثني- الديني لم يكن التعبير عن التمرد الإثني مقتصرًا على المجال الاجتماعي أو الديني، بل تجلّى بوضوح على المستوى السياسي من خلال تعبئة اليهود الشرقيين (المزراحيم) خلف مشروع اليمين الشعبوي بقيادة مناحيم بيغن، السياسي الأشكنازي الذي نجح في تقديم نفسه بوصفه صوتًا لكرامتهم وهويتهم ورفضهم للهيمنة الأشكنازية. وقد لعب هذا التحالف دورًا حاسمًا في إيصال الليكود إلى الحكم 1977، ليؤسس بذلك مسارًا طويل الأمد من إعادة اصطفاف إثني- سياسي غيّر ملامح النظام الحزبي الإسرائيلي لعقود لاحقة. وفي سياق هذا التفكك المتزايد، شهدت إسرائيل تدهورًا ملحوظًا في أنماط الإجماع السياسي التي سادت في العقود الأولى للدولة. ولم تَعُد الانقسامات تقتصر على النخبة أو تتخذ طابعًا فكريًا أو اجتماعيًا فقط، بل بدأت تُترجم إلى عجز واضح في النظام السياسي عن إنتاج حكومات مستقرة. وقد تجلّى هذا التصدع في انتخابات 1984، التي أفضت إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية اضطرارية جمعت بين حزب العمل والليكود، في محاولة لتجنّب مأزق الانهيار المؤسسي. لكن هذه الحكومة لم تكن مؤشرًا على توافق، بل على هشاشة التوازنات الاجتماعية والسياسية، وعلى تعمّق التصدع بين المعسكرات السياسية والاجتماعية داخل الدولة. ومع استمرار تعذّر الحسم الانتخابي، بدأ الانزياح من مشهد التعددية القابلة للإدارة إلى واقع من الاستقطاب الهيكلي المستدام، حيث لم تَعُد الدولة قادرة على إنتاج صيغة جامعة، بل اكتفت بإدارة التناقضات وتأجيل انفجارها. وفي هذا السياق المتوتر من إعادة الاصطفاف المجتمعي والسياسي، جاء تأسيس حزب "شاس" 1984 تتويجًا لمسار طويل من التهميش والإقصاء الذي تعرّض له اليهود الشرقيون (المزراحيم) ممن ينتسبون دينيًا إلى التقاليد السفاردية منذ قيام الدولة. فقد عانى هؤلاء من هيمنة النخبة الأشكنازية على مؤسسات التعليم، والثقافة، والدين الرسمي، كما جرت معاملتهم كجماعة أقل شأنًا من الناحية الرمزية، وإن شاركوا فعليًا في بناء الدولة. وظهر شاس ليقول إن السفارديم والمزراحيم ليسوا ضيوفًا في المشروع الصهيوني، بل مكوّنًا أصيلًا له، وإنه حان الوقت لتصحيح الظلم الرمزي والاجتماعي. وقد جمع الحزب بين الانتماء الديني المحافظ، والمظلومية الاجتماعية، والتعبئة الإثنية، واستطاع أن يحشد حوله جماهير واسعة من الشرائح الشعبية، خاصة في المدن الطرفية والأحياء الفقيرة. ولم يكن شاس حزبًا احتجاجيًا فقط، بل تمكّن من التحوّل إلى قوة مؤثرة في الحكم عبر تحالفاته مع التيارات الدينية- القومية واليمين السياسي. ومن خلال خطابه المزدوج – الذي يجمع بين الدعوة للعدالة الاجتماعية والتشدّد الديني- استطاع الحزب أن يفرض نفسه لاعبًا محوريًا في المعادلة السياسية. وفي العمق، مثّل صعود شاس تحوّلًا جذريًا في الخريطة الإثنية- الدينية داخل إسرائيل. فقد بات السفارديم يملكون ممثلًا صريحًا يتحدث بلغتهم، ويدافع عن نمط عيشهم، ويطالب بنصيبهم من الموارد والسلطة. ومن خلال ذلك، جرى تقويض النموذج التمثيلي التقليدي الذي احتكرته النخب الأشكنازية، وظهرت إسرائيل كدولة فيها أكثر من شعب، وأكثر من سردية، وأكثر من هوية. لكن المفارقة أن شاس، رغم خطابه الاحتجاجي، لم يُشكّل خطرًا على البنية السياسية القائمة، بل وجد مكانه ضمنها. وقد حافظ على مواقفه المؤيدة للاستيطان، ولم يدعم الحركات المناهضة للاحتلال، بل شارك في تثبيت أركانه عمليًا، بما يعكس التباسًا في بنيته: فهو حزب مقاومة داخلية، لكن في الوقت ذاته جزء من النظام الذي ينتقده. التحولات الاقتصادية والانفصال عن الإرث الاشتراكي في منتصف الثمانينيات، واجه الاقتصاد الإسرائيلي أزمة حادة بلغت ذروتها 1984 حين تجاوز معدّل التضخم حاجز الـ 400%. وكانت هذه الأزمة الأخطر منذ تأسيس الدولة، وهدَّدت استقرارها المالي والاجتماعي، وأرغمت النخبة السياسية على اتخاذ قرارات جذرية لإعادة ضبط التوازن. وتم الإعلان عن خطة تقشّفية شاملة بمشاركة حزب العمل والليكود، وكانت هذه الخطة بمثابة لحظة مفصلية في مسار التحوّل الاقتصادي والاجتماعي داخل إسرائيل. وجاء هذا التحوّل في سياق سياسي أوسع بدأ منذ أواخر السبعينيات مع صعود حزب الليكود إلى الحكم، وهو الحزب الذي حمل معه رؤية مغايرة لدور الدولة في الاقتصاد والمجتمع. فقد مثّل فوز الليكود لحظة مفصلية أنهت هيمنة حزب العمل، وفتحت الباب أمام إعادة صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية على أسس جديدة، تُعلي من شأن السوق وتقلّص من مركزية الدولة ومؤسساتها التقليدية. فقد أُعلنت نهاية غير رسمية للنموذج الاشتراكي- التعاوني الذي تبنّته الدولة لعقود، وهو النموذج الذي تجلّى في منظومة الكيبوتسات، ومؤسسات العمل والهستدروت، وشبكة الدعم الاجتماعي واسعة النطاق. وبدأت الخصخصة، وتحرير السوق، ورفع الدعم، وتفكيك شبكات الرعاية القديمة. وسرعان ما ظهر تحوّل عميق في العلاقة بين الدولة والمجتمع، بحيث أصبحت السوق هي المحرّك الأساسي لتوزيع الموارد، لا التضامن القومي أو الأيديولوجيا الجماعية. ولم تكن نتائج هذه التحوّلات محايدة. فقد استفادت منها النخب الاقتصادية، خاصة تلك المتحالفة مع مراكز القوة التقليدية، فيما تضرّرت الفئات الضعيفة، لا سيّما اليهود الشرقيون، وسكان المدن الطرفية، والشرائح الدينية غير المُمكّنة. وكان أن تفكّكت الكيبوتسات، وانحسر نفوذ الهستدروت، وظهر جيل جديد من المستثمرين والبيروقراطيين الذين يحملون خطابًا جديدًا: الكفاءة بدلًا من الشراكة، والمردود بدلًا من العدالة، والتنافسية بدلًا من التعاون. وهكذا، أُعيد تشكيل البنية الطبقية في إسرائيل على أسس جديدة: اقتصاد السوق. ولم يعُد الصراع الاجتماعي يُدار عبر الأحزاب الاشتراكية والنقابات، بل عبر التفاوت الحاد في الفرص، والدخول، والتمثيل. هذا الواقع الجديد عزّز من التمايز بين المركز- الأشكنازي- الليبرالي، والطرف- الشرقي- الديني، وأصبح الفارق الاقتصادي يتقاطع مع الفارق الإثني والثقافي، مما عمّق الصدع القائم أصلًا. كما تحوّلت السياسة الاقتصادية إلى أداة لإعادة إنتاج السلطة، لا لتوزيعها. فالأحزاب المشاركة في الحكومة استخدمت أدوات الدولة لإعادة توجيه الموارد نحو قواعدها الانتخابية، وغابت مفاهيم الدولة الجامعة، لتحل محلها شبكات الزبائنية والمحسوبية السياسية. وقد مهّد هذا المناخ الطريق أمام نموّ غير متكافئ، وأمام احتدام جديد في الخطاب العام، يعيد ربط الاقتصاد بالهوية، والانتماء بالقدرة على النفاذ إلى موارد الدولة. إعادة تشكيل الهوية والسردية الوطنية مع هذه التحوّلات المتزامنة في السياسة، والدين، والاقتصاد، باتت الهوية الوطنية نفسها محل نزاع. ولم تعُد الهوية الإسرائيلية تُعرّف – كما حاولت أن تتظاهر – باعتبارها إجماعًا على قيم الحداثة والتقدّم والاندماج، بل أصبحت ميدانًا مفتوحًا للتنافس بين سرديات متباينة ومتضادة. فقد أعاد كل تيار تشكيل "الإسرائيلي" بحسب منطقه، فالمتدينون القوميون ربطوا الهُوية بالأرض والناموس، والشرقيون ربطوها بالكرامة والاعتراف، والعلمانيون الليبراليون ربطوها بالحريات الفردية والمواطنة المتساوية. ولم تظلّ هذه الانقسامات ثقافية فقط، بل أصبحت مؤسساتية. ففي المدارس، ظهرت مناهج مختلفة تعكس الانتماءات الدينية والسياسية. وفي الإعلام، تموضع كل تيار في منصاته الخاصة. وفي السياسة، أصبح التمثيل موزعًا على أحزاب لا يجمع بينها سوى التنافس على هوية الدولة. وحتى الجيش، الذي كان يُعدّ المؤسسة الوطنية الجامعة، بدأ يشهد تراجعًا في تمثيل بعض الفئات، وتصاعدًا في تمثيل أخرى، خاصة من التيارات الدينية، بما يشير إلى تغيّر العمود الفقري للشرعية القومية. وهكذا، لم يَعُد الانقسام مجرد واقع اجتماعي، بل تحوّل إلى مبدأ من مبادئ التنظيم السياسي والاجتماعي. وتم تقنين التعددية لا بوصفها تنوّعًا، بل بوصفها تعبيرًا عن انقسام لا يمكن تجاوزه، بل فقط "إدارته". وأصبحت إسرائيل تعيش حالة "تعايش متوتر" بين مجموعات ترى كل منها في نفسها الممثل الحقيقي للدولة، وفي الآخرين خطرًا على رسالتها. نهاية عقدٍ وبداية تصدعات دائمة إن ما شهدته إسرائيل في حقبة الثمانينيات لم يكن مجرد مرحلة انتقالية في نظام الحكم أو الاقتصاد، بل كان لحظة تأسيسية لانقسام تاريخي سيعيد تشكيل كل ما أعقبها من تحولات داخلية. لقد تجمعت في هذا العقد العاصف مجموعة من العوامل المتفاعلة: حرب خارجية مثيرة للجدل، وصعود التيارات الدينية- القومية، واحتجاج الهويات الشرقية على تهميشها، وانهيار النموذج الاشتراكي، وانبعاث النزعات الفردية في ظل اقتصاد السوق، وكلها شكّلت مشهدًا من التفكك البنيوي والانقسام الرمزي العميق. ولم يَعُد بالإمكان بعد الثمانينيات الحديث عن "الإسرائيلي" بصيغة المفرد. فقد ظهرت تصدّعات لا يمكن تسويتها ضمن سردية قومية واحدة: بين الأشكنازي والشرقي، وبين العلماني والمتدين، وبين اليساري واليميني، وبين المركز والطرف، وبين من يؤمن بدولة يهودية- ديمقراطية ومن يرى الدولة اليهودية وحدها. والأخطر أن هذه الانقسامات لم تكن خلافات رأي، بل تحوّلت إلى هويات متصلّبة، ومشاريع متعارضة، وأحيانًا متنافرة بالكامل. لقد كشف العقد عن عجز الدولة عن بناء مفهوم جامع للمواطنة، واكتفائها بإدارة تناقضات الجماعة بدلًا من معالجتها. وما يُقدَّم على أنه تعددية، إنما هو واقع من المحاصصة والتفكك والتنازع على الهوية والشرعية والموارد. وحتى المؤسسات التي كان يفترض أن تكون فوق هذه الانقسامات – كالجيش، والمحكمة العليا، والنظام التعليمي – تحوّلت إلى ساحات صراع، ومرآة لهذا الانقسام البنيوي. ويبدو أن النخب السياسية في إسرائيل لم تتجه إلى رأب هذا الصدع، بل قامت بتوظيفه: فكل تيار استثمر في استقطاب جمهوره، وشيطنة خصومه، وروّج لرؤية انتقائية للتاريخ والهوية. ومن خلال آليات النظام البرلماني النسبي، أُعيد إنتاج هذا الانقسام داخل الكنيست، وأصبح الحكم نفسه مرآة للفُرقة بدل أن يكون أداة لتوحيد الصفوف. وفي العمق، ظهر المجتمع الإسرائيلي من خلال هذه التحولات كيانًا هشًا، يعيش على توازنات مضطربة بين فئات متنافسة، كل منها تحمل مشروعًا مختلفًا للدولة والمجتمع. ورغم أن الدولة تبدو مستقرة سياسيًا، فإن هذه الاستقرارية شكلية، تقوم على تفاهمات مؤقتة، وهياكل حكم مرنة تتسع للتناقضات دون أن تعالجها. وهو ما يجعل إسرائيل كيانًا قابلًا للانفجار من داخله في أي لحظة، أو – في أحسن الأحوال – كيانًا مهددًا باستمرار بإعادة التفاوض على شرعية مكوناته. لقد دشّن عقد الثمانينيات، إذًا، مرحلة جديدة من الانقسام المجتمعي في إسرائيل، انقسام لا يزال يتفاقم حتى اليوم. ومع كل أزمة سياسية، وكل انتخابات، وكل مواجهة عسكرية، تعود هذه التناقضات لتكشف وجهها الحقيقي: مجتمع لا يجمعه سوى الإحساس بالتهديد، لكنه يفتقر إلى السردية الجامعة، والهوية المتماسكة، والرؤية الموحدة. وهذا الانقسام، الذي تكرّس في بنية الدولة، لا يمكن تجاوزه دون مراجعة جذرية لفكرة إسرائيل نفسها: هل هي دولة كل اليهود؟ أم دولة النخبة المهيمنة؟ وهل يمكنها أن تكون ديمقراطية ويهودية في آن كما يزعمون؟ أم أن هذه المعادلة تحمل في ذاتها تناقضًا لا يمكن حلّه؟ إن هذه الأسئلة، التي انفجرت في الثمانينيات، لا تزال تُعيد إنتاج ذاتها في قلب السياسة والمجتمع، وتلقي بظلالها على مستقبل الكيان برمّته.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store