
قمع السلطة في مسلسل "المعهد".. ثيمة متكررة في عالم ستيفن كينغ
يعرض في الوقت الجاري مسلسل "المعهد" (The Institute) المأخوذ عن رواية بالاسم ذاته نُشرت عام 2019 من إخراج جاك بندر الذي شارك في أعمال شديدة الشهرة من قبل، منها "ذا سوبرانوز" (The Sopranos) و"فروم" (From) وغيرها.
View this post on Instagram
A post shared by Stephen King (@stephenking)
أطفال كينج.. البراءة في مواجهة الشر
كثيرًا ما كان الأطفال أبطال روايات ستيفن كينغ، وشخصياته المركزية المفضلة، كرمز للبراءة قبل أن يلوّثهم العالم خلال نضوجهم، فتحاول قوى الشر المختلفة الاستحواذ على هذه البراءة لتغذية نفسها.
وتتقاطع هذه الثيمة الرئيسية في أعمال كينغ مع ثيمة رئيسية أخرى مرّ عليها مرات متعددة من قبل، تتعلق بالسلطة القمعية الأميركية وهوسها بالسيادة والتحكم في العالم، الأمر الذي يدفعها للقيام بجرائم ضد شعبها نفسه.
View this post on Instagram
A post shared by Stephen King (@stephenking)
و"المعهد" أحد هذه الأعمال، فالأطفال واليافعون هنا هم ضحايا لكيان شرير يستغلهم بأعنف طريقة ممكنة، كيان هو نسخة شبه نازية للحكومة الأميركية.
يبدأ المسلسل بالمراهق العبقري لوك (جو فريمان) الذي يعيش حياة عادية للغاية لأحد أبناء الطبقة الوسطى في إحدى المدن الأميركية الصغيرة، يخطط لمستقبله المليء بالاحتمالات بسبب معدل ذكائه المرتفع للغاية، فيوشك على الالتحاق بجامعتين في نفس الوقت رغم عدم تخطيه سن المراهقة بعد، غير أنه، بشكل مفاجئ، يُختطف ويُنقل خلال نومه إلى مؤسسة حكومية في منطقة نائية، لينضم إلى غيره من الأطفال والمراهقين والمراهقات الذين يتمتعون جميعًا بقوى خارقة لكن بدرجة محدودة، مثل القدرة على قراءة الأفكار أو تحريك الأشياء عن بعد.
يخضع الأطفال، المنقطعين تماما عن العالم، لعدد من الاختبارات المؤلمة، ويُجبرون على تعاطي أدوية تزيد من قدراتهم، كل ذلك لتهيئتهم لمهمة غامضة بالنسبة لهم، وأي محاولة للتمرد من الأطفال أو رفض الخضوع للتجارب تُقابل بعنف جسدي في التو واللحظة.
ومثل رواية وفيلم "الشيء" (IT) وغيره من أعمال ستيفن كينج المشابهة، يشكل لوك وأصدقاؤه فريقًا من الأطفال واليافعين القادرين على قلب الوضع رأسًا على عقب والتغلب على البالغين الأشرار، وحتى الأخطار الماورائية، بعودتهم إلى جذور الطبيعة البشرية من تعاون وتكافل بين مواهب كل فرد، تلك الطبيعة التي تتدمر خلال فترة البلوغ ومحاولات التماهي مع حياة الكبار.
وبالإضافة إلى هذا الخط الدرامي الرئيسي، هناك خط درامي آخر موازٍ لا يعلم المتفرج علاقته بلوك وأصدقائه، ويتمثل في ضابط الشرطة السابق تيم (بن بارنز) الذي يحاول لملمة شتات حياته بعد تعافيه من إدمان الكحول وطلاقه من زوجته، وقد قرر البقاء في مدينة صغيرة لا تبعد، للمصادفة، سوى أميال قليلة عن المعهد، وهناك يتعرف على أفراد المدينة الذين يحاولون تجاهل المعهد والغموض الذي يحيط به، ويحيكون الكثير من النظريات حوله، والتي يقترب بعضها من الحقيقة.
اختيارات بصرية من الماضي
يختلف مسلسل "المعهد" عن "الشيء" أو المسلسل شديد الشهرة المستلهم من أعمال ستيفن كينج "سترينجر ثينجز" (Stranger Things)، وكلاهما من بطولة أطفال كذلك، في طبيعة العالم الذي تدور فيه الأحداث؛ فبينما تدور أحداث هذين العملين في ماضٍ قريب نسبيًا، حوالي الثمانينيات من القرن الماضي، بما يفرض خيارات بصرية محددة من ألوان وتسريحات شعر وأزياء مرتبطة بهذه الفترة، فإن "المعهد" تدور أحداثه في الزمن الحاضر، عصر التكنولوجيا الحديثة، غير أنه يُحيل من الناحية البصرية إلى فترة أقدم بكثير، حيث يستلهم صورته من أعمال دارت أحداثها خلال الحرب الباردة وستينيات القرن العشرين.
تميزت هذه الفترة، على الأقل من الناحية السينمائية والتلفزيونية، بأعمال تدور بشكل أساسي حول نظريات المؤامرة، والمنظمات الحكومية السرية التي تستخدم العلم كسلاح سياسي، وسباق الأسرار والاختراعات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت.
ما يجعل "المعهد" يتشابه هنا ليس مع الأعمال الأخرى المستلهمة أو المقتبسة من ستيفن كينج، بقدر ما هو قريب بصريًا من أعمال أخرى مثل "شكل الماء" (The Shape of Water) للمخرج جيليرمو ديل تورو، الفائز بالأسد الذهبي من مهرجان فينيسيا وأوسكار أفضل فيلم ومن إنتاج عام 2017، فتدور أحداث الاثنين، الفيلم والمسلسل، في مؤسسة يقوم عليها أشخاص يجمعون بين الصرامة البوليسية والدقة العلمية، شخصيات لا تتورع عن القيام بأشد الأمور قسوة وعنفًا في سبيل سبق علمي يؤمنون أنه يساعد بلادهم في الفوز بسباق سياسي لا يعرف تفاصيله سواهم.
View this post on Instagram
A post shared by MGM+ (@mgmplus)
فالتزم المسلسل باليتة ألوان تتراوح بين درجات الأخضر والبني، ألوان توحي بالمرض والمؤامرات السرية، وتم تصميم المعهد الذي تدور فيه أغلب الأحداث في شكل مبنى حكومي رث بلا أي معدات إلكترونية حديثة، مع عدد محدود من العاملين، بما يدل على أن المشروع لم يعد أولوية في الأجندة السياسية الأميركية، على الرغم من استمراره كوسيلة لتنفيذ مخططاتهم للسيطرة على العالم.
إعلان
وبينما تعرض الأطفال في الأعمال الأخرى المقتبسة عن روايات ستيفن كينج لوحوش شريرة بعيدة عن الواقع، فإن أشرار "المعهد" بشر عاديون، غير أنهم أشد قسوة من الكائنات الخرافية، الأمر الذي يجعل المسلسل ثقيلًا على النفس، خصوصًا مشاهد التجارب التي تُقام على الأطفال، أو بالأحرى مشاهد تعذيب الأطفال، التي لا يتقبلها بسلاسة عدد كبير من المتفرجين.
مسلسل "المعهد" عمل مختلف عن المسلسلات السائدة في الوقت الحالي، ولا يشبه المسلسلات والأفلام الأخرى المقتبسة عن ستيفن كينج، وذلك لطبيعة الرواية نفسها التي تبدو كما لو أنها عودة لرواياته الأولى، خصوصًا "مشعلة الحرائق" (Firestarter) و"المنطقة الميتة" (The Dead Zone)، التي يحاول خلالها فضح السياسات القمعية للمؤسسات الأميركية الرسمية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
هل هناك إشارات صهيونية في أدب كافكا؟
لم يكن يقدر للروائي فرانز كافكا (1881 – 1924) أن يكون ذائع الصيت وأن تأخذ أعماله الأدبية شهرة عالمية منقطعة النظير لو لم يبادر صديقه المحرر لرواياته وقصصه "ماكس برود" إلى نشر رواياته، وإتمام ما كان منها غير مكتمل على طريقته الخاصة، وبأسلوبه الذي لا بد وأن يكون مختلفا ولو بعض الشيء عن أسلوب كافكا. حيث عمد برود إلى إصدار ونشر كافة مؤلفات كافكا بعد وفاته، على الرغم من أن كافكا نفسه كان قد أوصاه بحرق جميع آثاره المخطوطة دون قراءتها. ولكن برود وعلى أثر المحرقة التي أقيمت لليهود في ألمانيا وتضخيمها دعائيا هرب مع زوجته مصطحبا كل أعمال صديقه كافكا إلى فلسطين. لم يكن فيما عمله برود وفاء خالص لكافكا، وإنما لرغبة منه في إضفاء الصبغة الصهيونية على أدب كافكا بشكل عام، وبخاصة الروايات غير المكتملة التي لم يتمها كافكا، وتركها غير منتهية، فأتمهما برود وفق مزاجه وعلى طريقته الصهيونية الداعية إلى إقامة دولة لليهود على أرض فلسطين العربية. لقد عمل ماكس برود على رسم الوجه الصهيوني لصديقه الراحل في عربة الموت الميتافيزيقية الغامضة، تلك العربة التي أسدلت عجلاتها الستار على حياة روائي ظل منشغلا بنفسه واغترابه، وعدم إيمانه بمعنى الحياة وجدوى بقائه فيها. حيث مضى يؤسس نظرية كافكاوية مبنية على قلق الإنسان وشقائه وافتقاره للحرية الفردية التي غالبا ما تسطو عليها القوى البيروقراطية، حيث قضى كافكا عمر كتاباته معبرا عن هذه الحالة المجتمعية المهيمنة على حياة الفرد، وبلغة وأسلوب يتسمان بالسريالية والسوداوية والعبثية، إلى درجة إدارة الظهر للحياة الفائضة بالقلق والاغتراب والاعتزال وبشكل خاص في رواياته: المحاكمة والمسخ والقلعة، وفي معظم قصصه القصيرة. كافكا بين الألم والاستغلال بالرغم من صراع كافكا مع ذاته وهويته اليهودية في بيئة ناطقة بالألمانية، لم يكن يحمل نزعة صهيونية، ظل يتمناها صديقه ماكس برود الصهيوني الفكرة والنزعة. تبرعم فرانز كافكا كغصن في جذع الحياة بالرغم من اخضراره لم يزهر غير التوجع والتصوف والتراجع الرومانسي أمام مخالب الواقع القاسي والمفترس، ولهذا كان كافكا في حياته كما في رواياته شقي الطالع وفاشلا في مواجهة صعوبات الحياة، ومتعبدا في محراب تأملاته، حتى قضى آخر أيامه منبوذا في مصحة المصابين بداء السل في انتظار الموت. ومن طرائف كافكا المضحكة المؤلمة التي تروى عنه أنه بعد إصدار الناشر كتابه "التأملات" والعمل على توزيعه اتصل بالناشر مستفسرا منه عن التوزيع. أجابه الناشر متفائلا ومستبشرا: "لقد بعنا في اليوم الأول إحدى عشرة نسخة"، ولم يكن يعلم ذلك الناشر أن كافكا قد اشترى صباح ذلك اليوم 10 نسخ من الكتاب من موظف المبيعات دون علم الناشر الذي بدا متفائلا في إجابته. لقد رأى ماكس برود في حياة صديقه ورفيق دربه في بلاد التشيك وفي طبيعة شخصيات قصصه ورواياته فرصة سانحة وثمينة لتصوير حياة اليهودي المتشرد في بلاد الغرب، فاتخذ منها نموذجا دعائيا لاستعطاف المجتمع الأوروبي على اليهودي الضائع في "براغ" والذي لا يتحدث العبرية ويكتب بالألمانية مفتقرا لاستقراره وطباعه وأصله ولغته من دون الرجوع إلى أرض الميعاد وخاصة بعد صدور وعد بلفور 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. حين خالف برود وصية كافكا من هنا أغفل برود وصية صديقه كافكا بإحراق مخطوطاته العديدة، فقام بطباعتها وإتمام الناقص فيها بإضافات مغرضة من عنده، وجعل منها حملات تبشير لقصص وروايات يهودي تشيكي لا يجد هويته اليهودية ولغته العبرية. تحدوه في ذلك شهوة سياسية لإقحام أعمال كافكا الأدبية داخل دائرة التطلعات الصهيونية بتوجيهاتها العنصرية الاستعلائية على باقي المجتمعات البشرية مستمدة هذا الاستكبار والاستعلاء من تعاليم الديانة اليهودية المنافية لتعاليم الديانات السماوية بما فيها الديانة اليهودية الحقة الخالية من أي تلفيق وتزوير. ومع ذلك فإننا نطالع في كتاب "كوستاف يائوش" (أحاديث مع كافكا)، والذي ترجمه إلى العربية سعدي يوسف، نطالع فيه حوارا صريحا وغريبا من نوعه يجري بين يانوش وكافكا، لدى زيارة الأول لمنزل الثاني في "براغ"، ولعل ما يجبهنا في هذا الحوار قول كافكا مجيبا على أحد الأسئلة الموجهة إليه: "إن عددا أكثر فأكثر من اليهود الشبان يعودون إلى فلسطين، إنها عودة المرء إلى نفسه وإلى جذوره". وعلى الجهة المناقضة لما يذهب إليه كل من "يانوش" و"برود"، نرى كافكا لا يتحدث عن رغبته في العودة إلى فلسطين، أو نيته لفعل ذلك، ونراه حين يخلو بنفسه ويحادث ذاته المنفردة المنعزلة المتصوفة، يستنكر ميوله وانجذاباته الشخصية العارضة نحو التكتل الجماعي ليهود أوروبا، مؤكدا ذلك الاستنكار في يومياته، وفي مواقفه وسلوكياته من (1910 – 1922) متسائلا: "ما الذي يجمعني باليهود؟ إن من الصعب القول بوجود شيء ما يجمعني حتى مع نفسي، علي أن أقف ساكنا في زاوية وأتقبل بسرور واقع أنني أستطيع أن أتنفس". كافكا خارج السرد الصهيوني يظل القارئ العربي إزاء هذه الإشارات المتعاكسة والمتناقضة حائرا مرتابا في حقيقة عالم كافكا الغامض والمثير للتفكير، ويبقى المجال عريضا لتوالد الأسئلة حول عدم وجود دراسة شاملة ومعمقة تستكشف حياة كافكا بما فيها من غموض وقلق وصراع مع الحياة والمرض ففي رواياته المكتملة وغير المكتملة ما يعين الناقد على ذلك. ولابد لأي دراسة نقدية أن تأخذ بالاعتبارات التالية: لم يكن كافكا في حياته ورواياته منسجما مع مواطنته التشيكية وأصوله اليهودية دون أن يفرق بينهما في عدم الانسجام. بالرغم من محاولة كافكا تعلم اللغة العبرية وقيامه بزيارة فلسطين إلا أنه لم يفكر كسائر اليهود الشبان بالهجرة إلى فلسطين والإقامة الدائمة فيها. التركيز أثناء الدراسة النقدية الاستكشافية على نهايات الروايات التي عمل ماكس برود على إتمامها من عنده، فلربما وضع بعض الإشارات الصهيونية على لسان شخصية أو أكثر من شخصيات قصصه ورواياته. النية الواضحة الأهداف لدى ماكس برود في توظيف حياة صديقه كافكا المثقلة بالشقاء والقلق والاغتراب وأيضا شخصيات رواياته من أجل إسقاطها على يهود الشتات لكسب العطف الأوروبي والأميركي على يهود العالم وكسب تأييد دول الغرب والشرق لتجميعهم في فلسطين، والعمل على إقامة وطن مزعوم لهم في قلب الوطن العربي، وفقا لوعد بلفور الظالم والمشؤوم. على الرغم من إقامة فرانز كافكا بفلسطين أيام الانتداب البريطاني لمدة أسبوعين والتقائه بأشخاص صهاينة من اليهود، لم ترق له فكرة الإقامة الدائمة في هذا الوطن الموعود لليهود كما يزعمون، ولم يكن على علاقة طيبة وجيدة مع الصهاينة الذين تعرف عليهم سواء داخل فلسطين أو خارجها. وهنا سؤال يطرح نفسه وهو: كيف يمكن أن يكون كافكا في حياته وكتاباته صهيونيا كما حاول صديقه الملتزم بالصهيونية تصويره بعد مماته؟ رغم محاولة "ماكس برود" إقحام صديقه التشيكي اليهودي في دائرة تأييد الحركة الصهيونية وإضفاء صفة اليهودي المشرد عليه، والذي يعيش بلا وطن وبلا لغة عبرية يتقنها، والذي تهدف الحركة الصهيونية إلى إنقاذه من حياة شقية وقاسية ومثقلة بالهم والضياع والمرض، فإن كافكا في رسائله إلى حبيبته فيليس عبر فيها بوضوح عن انحيازه للمعاناة الإنسانية، بعيدا عن طموحات وخطط الشخصيات الصهيونية التي كان على تضاد معها ونفور منها. حتى في قصته "بنات آوى والعرب"، التي صور فيها مساعدة الرجل الأبيض الأوروبي في عودة اليهودي إلى أرض الميعاد (فلسطين)، اكتفى وبشكل رمزي بالتعبير عن تشاؤمه من تحقيق هذا الحلم المدعوم بريطانيا بوعد بلفور المشؤوم، فلم يُظهر أي تعاطف أو تأييد لهذه الفكرة الصهيونية أو الداعين لها.


الجزيرة
منذ 6 ساعات
- الجزيرة
"هدهد" غزة
هو تفصيلتنا اليومية، هو برقية الألم الساكن هناك، هو "البحر" الذي لم يفكر يوما أن يهجر المكان أو يخلع "زرقة" الصحافة أو لون السماء.. هو "هدهد"غزة. تشييع أنس هو تشييع لصوتنا، وكرامتنا، وإنسانيتنا.. أنس إلى جوار ربه فرح بما أتاه الله، لكن هذا العالم المتخاذل.. إلى أين؟؟ لا تفارقني صورته قبل أيام قليلة، عندما بكى على الهواء مباشرة، فقال له أحد المارين: "استمر، استمر يا أنس.. استمر، أنت صوتنا"؛ فتماسك وأكمل تقريره متعاليا على جراحه، ووهن جسده، وألم الخذلان العربي، ووجعه وجوعه، من أجل عيون غزة وأهل غزة. الصحفي الحقيقي يعتاش على محبة الأوطان، يعتاش على رضا الناس وثقتهم فيه، يعتاش على الآمال المعلقة فوق قامته الصلبة، يعتاش على "ربما". لماذا أوجعنا أنس الشريف إلى هذا الحد؟ لأنه أحد أبنائنا، لأنه أعاد تعريف الصحافة، وأعاد تعريف الشجاعة، وأعاد تعريف الوطن برمته.. صحفي شاب، شجاع، أنضجته الحرب قبل أوانه. عندما استشهد الصف الأول من الصحفيين، وجد نفسه فجأة كأي قائد عظيم.. كأسامة بن زيد؛ يرتدي سترتهم، ويحمل ميكرفونهم، ويملأ مكانهم.. لتبقى التغطية مستمرة. هم لم يحملوا أنس الشهيد -أنس الشريف- فوق الأكتاف، هم حملوا ميكرفوننا، حملوا صوتنا الذي لم يغب طوال عامين من القتل والدم والإبادة، حملوا ضمائرنا . تشييع أنس هو تشييع لصوتنا، وكرامتنا، وإنسانيتنا.. أنس إلى جوار ربه فرح بما أتاه الله، لكن هذا العالم المتخاذل.. إلى أين؟؟ أنس أب جميل، له أولاد مثلنا.. كان يشتهي أن يحضنهم، أن يتناول معهم وجبة واحدة دون الخوف من الموت، أن يؤرجحهم في حديقة قريبة، أن يدللهم قبل النوم.. هل فكرنا بكل هذا؟ هل فكرنا كم تحتاج زوجة أنس العظيمة كي تعرِّف الموت لأطفالها، وكي تقول لهم باختصار: الموت هو غياب الاتصال بين نشرتين إخباريتين. أنس، هدهد غزة الذي كان يأتينا بالخبر اليقين.. أنس الذي لم يغب يوما، ولم ينسحب يوما، ولم يفضل نفسه على رسالته يوما، أنس كان دوما يأتينا بسلطان مبين. نم قرير العين يا أنس، يا "هدهد" غزة، وردد ما بدأت به: "الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم"..


الجزيرة
منذ 6 ساعات
- الجزيرة
"لكلامه أشد عليهم من وقع النبل"
بعد 22 شهرًا من العدوان الغاشم والظلم الدائم على غزة وأهلها من قِبل المحتل الغاصب، وبعد تغطية مستمرة طول تلك المدة، ها قد انقطع الصوت المبحوح، وفقدت الشاشة إطلالة الشاب صبيح الوجه، والذي قد علته المتاعب ورؤية الأهوال. يصبح سكان العالم صبيحة 11/ 08/ 2025 على خبر أنس الشريف وصاحبه المراسل محمد قريقع، وزملائهما الصحفيين والمصورين إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل ومؤمن عليوة، لكنه خبر لا ينقله أنس كما جرت العادة؛ فقد ترجل فارس الشاشة الذي تعود متابع أخبار غزة أن يراه منتصبا وبيديه لاقط قناة الجزيرة، ناقلًا ببحة صوته المستجدات على الساحة. هيهات هيهات أن يُفتّ في عضدهم؛ فحالهم كحال جند فتح بلاد الفرس، إذ قال قائدهم خالد بن الوليد (رضي الله عنه): "وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو لألقاكم بقوم يحبون الموت كحبكم الحياة"! وعزاؤنا الذي نتعزى به لفقد خيرة شباب الأمة أن الله قد اختصهم بالشهادة، وقد قال الله في حق الشهداء: ﴿وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ* سَيَهۡدِيهِمۡ وَيُصۡلِحُ بَالَهُمۡ* وَيُدۡخِلُهُمُ ٱلۡجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمۡ*﴾ [محمد: 4-6] ، ولعل أولئك الشباب ممن يستحقون أن يُمدحوا بما مدح أبو الحسن الأنباري ممدوحه به إذ قال: علـوٌّ في الحياة وفي الممـات لحـقًا أنت إحـدى المعـجزات أسأت إلى النوائب فاستثارت فأنت قتـيـل ثــأر الـنـائبـــات عليـك تحيــة الرحـمـن تترى برحمــات غــوادٍ رائـحــات كيف لا وهم صوت الحق، الذي كان ينقل للعالم وقائع جرائم المحتل الغاصب، ويجلي عدوانه وبوائقه؟ فقد جاهدوا بالكلمة، وحاولوا جهدهم إيصال الصوت. وهل المجاهد باللسان إلا قرين المجاهد بالسِنان؟ حيث ورد في الحديث خطاب النبي ﷺ لحسان (رضي الله عنه): "اهجهم- أو قال: هاجِهم- وجبريل معك" [البخاري: 4133/ مسلم: 2486]؛ فجزى الله خيرا كل من اقتحم الميدان بسنانه أو بلسانه. أما العدو الغاصب، فلعله ظن أن إسكات أنس وزملائه سيخمد نارا تلظت في قلوب العالمين حنقا وغلّا عليه، أو أن تفاصيل جرائمه وعدوانه لن تصل إلى العالم.. فإنا نبشره بأن ظنه خائب ورهانه خاسر. لقد ظن وراهن على أن قتل القادة سيطفئ جذوة المقاومة، فقتل أبو إبراهيم السنوار وأبو خالد الضيف وأبو العبد هنية وغيرهم، فما كان من جذوة المقاومة إلا أن ازدادت اشتعالًا، وزادت نارها إحراقًا، فهم كما قيل: "كلما مات سيد فيهم قام سيد". وظن وراهن على أن تكثيف الاعتداء على المدنيين وتجويعهم سيَفُتّ من عضد المجاهدين والمقاومين، فاستمر التمسك الشعبي بخيار المقاومة وإذلال العدو. وظن وراهن على أن مناوراته الدولية ستُضعف تفاعل وتعاضد شعوب العالم مع قضية غزة، فاشتعلت عليه وعلى شعبه نيران الكراهية من أحرار شعوب العالم. ولعله بجريمته المنكرة يسعى لإخماد صوت التغطية ليبدأ هجوما شرسا قد هدد به.. ونبشره بأن طليعة الأمة بغزة، والأمة خلفهم، موقنون بقول النبي ﷺ: "ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" [الترمذي: 2516]، وهيهات هيهات أن يُفتّ في عضدهم؛ فحالهم كحال جند فتح بلاد الفرس، إذ قال قائدهم خالد بن الوليد (رضي الله عنه): "وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو لألقاكم بقوم يحبون الموت كحبكم الحياة"! وهم كمن وصفهم فيلسوف الإسلام محمد إقبال: نحــن الــذين إذا دعــوا لصــلاتهــم والحرب تسقي الأرض جاما أحمرا جعلوا الوجـوه إلى الحـجاز فكبـروا في مســمع الــروح الأميــن فكـبـرا على من بيده قرار أن لا يتنازل عن شيء لصالح العدو الغاصب؛ فهو العدو الذي لم يراعِ حرمة، ولم يدخر جهدا في محاربة كل الحقوق المشروعة، ومنها حق الإعلام ونقل الصورة؛ فهذه ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها وسائل الإعلام والصحفيين فوالله الذي لا إله غيره، ومن لا يُحلف بسواه، إن المحتل الغاصب لمخذول، ومن الأرض ذليلًا مطرود، طال الزمان أم قصر، فهو وعد الله المحقق وسنته الماضية. وإلى حين تحقق ذلك، فعلى كل منا أن يأخذ موضعه، ويدفع الصائل المعتدي قدر استطاعته، ولا يبرح ثغره. ونحن مستحضرون دائما قول الله عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ﴾ [محمد: 7]، ومن وجوه النصرة المستمرة: المقاطعة للمنتجات الداعمة للمحتل الغاصب. الكتابة والنشر عبر القنوات المتاحة. إظهار الغضب والامتعاض لما يحدث. تعليم الأبناء وتربيتهم على عزة النفس وعدم التسليم للظلم. إقامة الدعاوى لمن يستطيع ضد مجرمي الإبادة. التواصل مع أهل غزة من خلال وسائل التواصل ومواساتهم، والتأسي بهم. تقديم الدعم المادي بالوسائل المتاحة. الاستمرار في الدعاء وجعله وِردا ثابتا بتضرع وافتقار إلى الله تعالى. ولئن رحل أنس وزملاؤه فغزة ما زالت ولّادة، وما زال طلاب الحق والثأر كثر، وما زال المشتاقون للشهادة أكثر.. فلن تنقطع الكلمة، ولن يقف الخبر، فذلك مما يغيظ المحتل الغاصب ويزيده نكالا وعلى من بيده قرار أن لا يتنازل عن شيء لصالح العدو الغاصب؛ فهو العدو الذي لم يراعِ حرمة، ولم يدخر جهدا في محاربة كل الحقوق المشروعة، ومنها حق الإعلام ونقل الصورة؛ فهذه ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها وسائل الإعلام والصحفيين، وليست المنطقة الوحيدة، فقد استهدفهم في القدس وفي مناطق الاشتباك شمالي فلسطين وغيرها. وإن لشبكات الإعلام التي قتل العدو موظفيها حق مقاضاته والاقتصاص منه حسب المتاح من السبل، والمقاومة حق مشروع ما دام الاحتلال قائما، فالمقاومة بالسلاح والمقاومة بالسياسة والمقاومة بالإعلام والمقاومة بالكلمة.. كلها حق لا نزاع فيه. ولئن رحل أنس وزملاؤه فغزة ما زالت ولّادة، وما زال طلاب الحق والثأر كثر، وما زال المشتاقون للشهادة أكثر.. فلن تنقطع الكلمة، ولن يقف الخبر، فذلك مما يغيظ المحتل الغاصب ويزيده نكالا، فقد ورد أن النبي ﷺ قال لعمر (رضي الله عنه) يوم دخول مكة لعمرة القضاء، وبعد إنكاره على عبدالله بن رواحة (رضي الله عنه) ما كان يُنشد: "خَلِّ عنه؛ فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل" [النسائي: 2893/ الترمذي: 2847].