
من زمن السيوف إلى زمن الحروف
القرن الخامس عشر كان بداية ارتفاع فنارات التعليم والتنوير في أوروبا. بدأت المواجهة بين رجال العلم والفلسفة، ورجال الدين المسيحي تتحرك بسرعة وبقوة، لمصلحة الأولين وتراجعت سطوة الكنيسة وهيمنتها على العلم والفكر والثقافة والتعليم. بدأت المدارس النظامية والجامعات تنتشر في أوروبا، وتراجعت الأمية، وتنقل المفكرون والأساتذة بين الجامعات الأوروبية، واتسع نشاط الترجمة في جميع المجالات الفكرية والعلمية، واتسعت كتابة الكتب ونشرها في القارة الأوروبية. المطبعة كانت آلة تأسيس الزمن الأوروبي الجديد، بضوئه الذي أشعل الأنوار، وحوَّل المعرفة وجبة يومية للعقل. سنة 1517م أطلق القس الألماني مارتن لوثر ثورته ضد كنيسة الفاتيكان، وترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية. كانت آلة الطباعة سلاحه السحري، الذي قصف به أركان الاستبداد الديني الذي باع صكوك الغفران للفقراء الأميين. لم تعد النصوص الدينية المكتوبة باللغة اللاتينية الطلاسم المقدسة التي يغمض البسطاء في حضرتها عيونهم، ويغلقون عقولهم. مثَّلت حركة مارتن لوثر الاحتجاجية الاندفاعة الأوروبية الثانية، بعد حركة النهضة التي قادتها أسرة آل ميدتشي في فلورنسا الإيطالية.
آلة الطباعة كانت المفتاح العلمي، الذي شرَّع باب العصر الإنساني الجديد. تحرك كل شيء في أوروبا، العقول والحواس وطاقات الناس. صارت الدنيا غير الدنيا بمن فيها وما فيها.
في حين استمر تحريم آلة الطباعة في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية إلى سنة 1725م، حين سُمح باستخدامها في طباعة الكتب الدينية المسيحية واليهودية فقط. على مدى قرون ثلاثة، حُرم المسلمون بمن فيهم العرب من رؤية ضوء الزمن الجديد، الذي أشعلته المطبعة. كانت الإمبراطورية العثمانية، حتى القرن الخامس عشر، القوة العسكرية العالمية الضاربة التي لا تقهر. قوة عسكرية بها مئات الآلاف من المقاتلين الأشداء، ضمت إنكشارية من مختلف الأعراق. البلقانيون والألبان والعرب والأتراك، يستخدمون البنادق والمدافع والخيالة السباهية والمشاة.
سنة كانت المواجهة الفاصلة الحاسمة بين عصرين، عصر السيوف وعصر الحروف. معركة زنتا الكبرى في صربيا سنة 1697م، حيث اصطدم عصران، أحدهما قادم وآخر يغادر. لم تكن الموقعة التاريخية مجرد حرب بين قوتين، بل كانت مخاضاً نارياً عنيفاً في أحشاء زمن يتخلق فيه زمن جديد. معركة شكَّلت بداية تهاوي الإمبراطورية العثمانية عسكرياً وسياسياً وحضارياً. في نهاية القرن السابع عشر، كانت أوروبا تشهد تحولاً عميقاً، لم يقتصر على المجال السياسي والعسكري فحسب، بل شمل العلم والفكر والفلسفة والاقتصاد والبناء المجتمعي. أعادت أوروبا بناء كل شيء على أسس عقلانية، أنتجتها أفكار عصر التنوير المبكر. في حين ظلّت الإمبراطورية العثمانية، حبيسة قفص الموروث التقليدي، وفقدت فاعليتها في الداخل والخارج.
منذ بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر، بدأت أعراض الوهن والترهل، تبرز على كامل جسد الإمبراطورية العثمانية. وبدأت تفقد تدريجياً سيطرتها على أطرافها الأوروبية، وانخفضت قدرات الجيش الإنكشاري الذي كان يوماً رمز الرعب في القارة الأوروبية. عمَّ الفساد مفاصل الإمبراطورية، وتحولت المؤسسات حلباتِ صراعٍ على المصالح بين النخب الفاسدة، وتفشت الرشى والمحسوبية، وتحكمت القرابة في سلم الوظائف. في الجهة المقابلة، كانت أوروبا تشهد صعوداً شاملاً بسرعة، شكَّلت قوتها الجديدة بعقل جديد. بدأت أسرة آل الهابسبرغ في النمسا تجني ثمار العصر الأوروبي الحديث. تنظيم عسكري حديث صارم، وإدارة بيروقراطية فاعلة منضبطة، ساعد كل ذلك على بناء تحالف عسكري أوروبي فاعل. الهدف الأوروبي الاستراتيجي، هو تحرير أوروبا من الوجود العثماني.
كانت الدولة العثمانية تتصرف كأنها لا تزال في كامل قوتها العسكرية، ولم تدرك حجم التطور الذي شهدته أوروبا. ففي الوقت الذي كانت فيه المدفعية الأوروبية، تدار بأنظمة دقيقة، مع مناورات يجرى التخطيط التفصيلي لها. في معركة زنتا بين الجيش العثماني والجيش النمساوي، كان السلطان مصطفى الثاني يقود الجيش العثماني المكون من ثمانين ألف مقاتل، والأمير أوجين يقود الجيش النمساوي المكون من ثلاثين ألفاً. جيش عثماني عرمرم بعقل وسلاح أكله الصدأ، يقابله جيش محدود العدد يقاتل بعقل وعلم وتخطيط وليد الحداثة. كانت معركة بين زمنين، هُزم الجيش العثماني وقتل وأُسر وغرق وهرب منه الآلاف.
لقد دفع عقل التحريم الثمن وهو الهزيمة. عندما أصدر السلطان بايزيد الثاني فرمان تحريم استعمال المطبعة، حرم شعب بكامله من الدخول إلى زمن جديد لم تشهده الدنيا من قبل. المطبعة جعلت من الحروف سرباً للعقول الزاجلة، التي تتحرك في فضاءات عالمية مستطرقة، تهب نور العلم والفكر لكل الإنسانية. معركة زنتا كانت الخط الذي فصل بين عصرين، عصر صدئت فيه السيوف، وتوهجت فيه الحروف.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرياض
منذ 7 ساعات
- الرياض
نجاح إطلاق صاروخ 'فيغا-سي' الأوروبي يحمل خمسة أقمار صناعية من مركز كورو
أعلنت وكالة الفضاء الأوروبية عن نجاح عملية إطلاق الصاروخ الأوروبي 'فيغا-سي' من مركز كورو الفضائي في غويانا الفرنسية، في الموعد المحدد، وذلك ضمن مهمة فضائية حمل خلالها خمسة أقمار صناعية إلى المدار. وأفادت الوكالة بأن أربعة من الأقمار الصناعية التي تم إطلاقها تنتمي إلى طراز CO3D، وقد صُممت خصيصاً لإنتاج خرائط ثلاثية الأبعاد عالية الدقة لكوكب الأرض، بقدرة تشغيلية تمتد حتى ثماني سنوات. أما القمر الصناعي الخامس، الذي يحمل اسم 'ميكروكارب'، فقد تم تطويره بهدف رصد مصادر ومصارف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم، دعماً للجهود الدولية المبذولة في مواجهة تحديات التغير المناخي. ويمثل هذا الإطلاق المهمة الثالثة التي تنفذ من مركز كورو خلال عام 2025، كما يعد الثاني من نوعه لصاروخ 'فيغا-سي'. ومن المقرر أن يشهد المركز عملية إطلاق مرتقبة باستخدام الصاروخ الأوروبي 'أريان 6' في أغسطس المقبل، في إطار مواصلة أنشطة برنامج الفضاء الأوروبي.


عكاظ
منذ 16 ساعات
- عكاظ
ابتكار دانماركي يحدث نقلة في العلاج المناعي للسرطان
طور فريق من الباحثين من الجامعة التقنية الدانماركية منصة ذكاء اصطناعي قد تحدث ثورة في العلاج الدقيق للسرطان، من خلال تصميم بروتينات مخصصة لتوجيه الخلايا المناعية لاستهداف الأورام بسرعة وفعالية. وأوضح الباحثون أن التقنية الحاسوبية الجديدة قادرة على تصميم جزيئات pMHC، وهي جزيئات تؤدي دوراً محورياً في الاستجابة المناعية، وخصوصاً في عرض المستضدات على سطح الخلايا ليتعرف عليها الجهاز المناعي، مثل الخلايا التائية. وبحسب العلماء، يسرع هذا الابتكار عملية تطوير العلاجات المناعية، حيث يقلص زمنها من سنوات إلى أسابيع معدودة. وقد اختبر الفريق البحثي المنصة على هدف معروف في أنواع مختلفة من السرطان من خلال بروتين NY-ESO-1، حيث صمموا رابطاً صغيراً يرتبط بدقة مع جزيئات هذا البروتين، وعند إدخاله في الخلايا التائية، تم إنتاج خلايا جديدة أطلق عليها اسم IMPAC-T، أظهرت فعالية في توجيه الخلايا التائية لقتل الخلايا السرطانية في تجارب مختبرية. كما طور الباحثون فحصاً أمنياً معتمداً على الذكاء الاصطناعي، يستخدم لتقييم الروابط المصممة وضمان عدم تفاعلها مع جزيئات pMHC في الخلايا السليمة، ما يقلل من احتمالات الآثار الجانبية. وقال الأستاذ المشارك في الجامعة التقنية الدانماركية الدكتور تيموثي جينكينز إن المنصة تستخدم الذكاء الاصطناعي لتصميم مفاتيح جزيئية تستهدف الخلايا السرطانية، وتتم عملية التصميم خلال فترة تراوح بين 4 و6 أسابيع فقط، مقارنة بالأساليب التقليدية التي تستغرق وقتاً أطول بكثير. وأضاف أن المنصة تسهم في حل مشكلة رئيسية في العلاج المناعي، وهي قدرة الخلايا التائية على التعرف على الأهداف السرطانية المتنوعة، إذ إن هذه الخلايا تتعرف عادة على بروتينات «ببتيدات» تعرضها جزيئات pMHC على سطح الخلايا، لكن التنوع الكبير في مستقبلات هذه الخلايا يصعّب إنتاج علاجات مخصصة. أخبار ذات صلة


الرجل
منذ يوم واحد
- الرجل
الإبداع البشري يتألّق مجددًا.. دراسة تقارن بين العقول والآلات
أظهرت دراسة علمية جديدة أن الإبداع البشري لا يزال يتفوّق على الذكاء الاصطناعي التوليدي، رغم التقدّم الكبير الذي أحرزته هذه التقنية في مجالات مثل تأليف الموسيقى وابتكار الأفكار. وبيّنت نتائج الدراسة أن التعاون بين شخصين يُنتج أفكارًا أكثر أصالة وابتكارًا مقارنةً بالأفكار التي تُولّد عبر التفاعل مع أدوات الذكاء الاصطناعي أو استخدام محركات البحث. اقرأ أيضًا: عباقرة الذكاء الاصطناعي يحذرون من فقدان السيطرة على قراراته المستقبلية وبحسب تقرير نشره موقع PsyPost، أجريت الدراسة بقيادة مين تانغ وفريقه من "معهد جامعة شافهاوزن" في ألمانيا، وشارك فيها 202 طالبًا جامعيًا. تم تقسيم المشاركين إلى أربع مجموعات: ثنائيات بشرية، أفراد يستخدمون "غوغل" Google، وأفراد يتعاونون مع "شات جي بي تي" ChatGPT بتوجيهين مختلفين، وأُجريت أربعة اختبارات إبداعية، من بينها اختبار "الاستخدامات البديلة" لأشياء عادية مثل البنطال أو الشوكة، وتم تقييم النتائج من قِبل لجنة بشرية ونظام تقييم آلي. تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع أوضحت النتائج أن التعاون بين شخصين أسفر عن أفكار أكثر تنوعًا وأصالة، لاسيما في اختبار الشوكة، حيث تفوقت الثنائيات البشرية بشكل واضح على باقي المجموعات. كما شعر هؤلاء المشاركون بثقة إبداعية أكبر بعد انتهاء المهام، بخلاف أولئك الذين تعاونوا مع "شات جي بي تي" أو استخدموا الإنترنت كمصدر. وأشارت الدراسةإلى أن المشاركين الذين تعاونوا مع الذكاء الاصطناعي غالبًا ما نسبوا الفضل في الأفكار إليه، لا لأنفسهم، بينما رأى مستخدمو "غوغل" أنهم هم من قادوا عملية التفكير. واللافت أن نظام التقييم الآلي قيّم أفكار "شات جي بي تي" بأنها أكثر إبداعًا من تلك التي ابتكرها البشر، لكن هذا التقييم ارتبط بطول الإجابة وليس بجودتها، ما أظهر انحيازًا نحو "الاستفاضة"، وهو ما وصفه الباحثون بـ"انحياز التفصيل". ولفت الباحثون إلى أن هذه الدراسة ركّزت على الإبداع التباعدي، أي القدرة على توليد أفكار متنوعة وغير معتادة، ولم تجد فروقًا تذكر في مهام حل المشكلات، ما يفتح المجال لإمكانية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في عمليات التفكير التقاربي أو التطويري. وفي ختام الدراسة، شدّد الباحثون على أن "الإبداع هو موهبة بشرية فريدة يصعب تكرارها بواسطة الآلات"، مشيرين إلى أهمية فهم التفاعلات بين الإنسان والذكاء الاصطناعي بدلًا من الاعتماد عليه بشكل كامل في المهام الإبداعية. وقد نُشرت هذه الدراسة تحت عنوان "من هو أفضل شريك في التفكير الإبداعي؟ تحقيق تجريبي في التعاون بين الإنسان والإنسان، الإنسان والإنترنت، والإنسان والذكاء الاصطناعي" في مجلة The Journal of Creative Behavior، وشارك في إعدادها كل من مين تانغ، وسيباستيان هوفرايتر، وكريستيان فيرنر، وألكساندرا زيلينسكا، وماتشي كاركوفسكي.