
تغلغل الإخوان فى ألمانيا.. استراتيجية طويلة الأمد وتأثيرات متعددة
تشكل جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا نموذجًا معقدًا لشبكات التأثير التي تتغلغل في مفاصل المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية. عبر استراتيجيات متعددة ومتنوعة، تستغل الجماعة المراكز البحثية، المنظمات الحقوقية، فضاءات المجتمع المدني، والعلاقات السياسية لتوسيع نفوذها وبسط حضورها ضمن المشهد الألماني. ويكمن التحدي في كيفية التمييز بين النشاطات المدنية المشروعة والتمدد الأيديولوجي الذي يحمل في طياته أهدافًا سياسية ذات أبعاد دينية.
تُظهر التقارير الأمنية الرسمية في ألمانيا، لا سيما من هيئة حماية الدستور، أن جماعة الإخوان تعتمد على إعادة صياغة خطابها لتتناسب مع القيم الديمقراطية الغربية، مستغلة بذلك ضعف الفهم العميق لبعض الجهات للأهداف الحقيقية للجماعة. كما توظف مفاهيم حقوق الإنسان والحريات الدينية كأدوات لتعزيز صورتها كفاعل اجتماعي شرعي، ما يفتح المجال أمامها لاختراق دوائر صنع القرار والمؤسسات المجتمعية.. في ظل هذه التداخلات والتحديات، تحرص السلطات الألمانية على موازنة احترام الحريات المدنية مع مراقبة الأنشطة التي قد تهدد الأمن الوطني والتماسك الاجتماعي. ومن هنا، تأتي أهمية دراسة وتحليل شبكة علاقات الإخوان المسلمين في ألمانيا، لفهم طبيعة نشاطهم وآليات توسعهم، ولتطوير استراتيجيات فعالة توازن بين حرية التعبير وضرورة الحفاظ على الأمن المجتمعي.
العلاقة مع المراكز البحثية
تسعى جماعة الإخوان المسلمين إلى بسط نفوذها داخل الساحة الأكاديمية والبحثية في ألمانيا، باعتبارها إحدى الأدوات الناعمة لتعزيز حضورها الأيديولوجي، وتقديم سرديتها الفكرية والسياسية كخطاب معتدل وحداثي، بينما تخفي خلف هذا الخطاب أهدافًا أعمق تتصل بمشروعها السياسي العابر للحدود. وتُظهر التقارير الأمنية والإعلامية أن الجماعة لا تعتمد على نهج مباشر، بل تعمل من خلال واجهات بحثية وتعليمية موالية، بعضها مرتبط بالتنظيم الدولي.
من أبرز المؤسسات المرتبطة بهذا التوجه المعهد العالمي للفكر الإسلامي (IIIT)، الذي تأسس في الولايات المتحدة وله فروع وشراكات بحثية في أوروبا، ويُعد أداة استراتيجية لنشر الأفكار الإسلاموية ذات الطابع "الإصلاحي" من وجهة نظر الإخوان. ويُتهم المعهد بتوفير غطاء فكري لخطاب الجماعة، كما يدعم أنشطة أكاديمية في الجامعات الألمانية تتناول الإسلام السياسي بمقاربة "تطبيعية". يتعاون المعهد مع باحثين وأكاديميين داخل ألمانيا في تنظيم فعاليات ومؤتمرات متعلقة بمسائل الهوية والتعددية والدين.
من جهة أخرى، يمثل معهد الفكر السياسي الإسلامي في لندن، الذي يديره الدكتور عزام التميمي، نموذجًا آخر لواجهة بحثية ذات طابع سياسي بحت، ترتبط مباشرة بالتنظيم الدولي للإخوان. يُعرف التميمي بكونه أحد أبرز منظّري الفكر السياسي الإسلامي للإخوان في أوروبا، ويمتلك علاقات وثيقة مع شخصيات وكيانات إسلاموية في ألمانيا، خصوصًا من خلال التنسيق بين المعهد وجهات أكاديمية تتبنى خطابًا نقديًا تجاه الأنظمة العربية المناهضة للإخوان، وتسعى لتقديم الجماعة كضحية لسياسات القمع والاستبداد.
تستغل الجماعة الجامعات الألمانية، وخاصة تلك التي تحتضن جاليات مسلمة كبيرة مثل جامعتي هامبورغ وفرانكفورت، لعقد مؤتمرات حوارية ومناقشات أكاديمية حول قضايا الإسلام في أوروبا. وغالبًا ما تتسلل هذه الفعاليات تحت مظلة "حرية البحث الأكاديمي"، لتروج لخطاب يدمج بين الهوية الدينية والنشاط السياسي، وتحاول تمرير رؤية الجماعة على أنها تمثل الإسلام الوسطي، رغم سجلها العالمي في العنف والتحريض والتعبئة الأيديولوجية.
إلى جانب النشاط الأكاديمي، تشير تقارير استخباراتية إلى أن تمويل عدد من المراكز البحثية التي تنشط في الدفاع عن خطاب الإسلام السياسي، يتم عبر قنوات غير مباشرة. من بين أبرز هذه المؤسسات منظمة الإغاثة الإسلامية في ألمانيا، التي وُجهت إليها تهم بتمويل كيانات مرتبطة بالإخوان في بريطانيا وألمانيا عبر شبكة "Europe Trust"، وهي مؤسسة مالية تابعة للتنظيم الدولي تمتلك عقارات وأصولًا يُعاد توجيه ريعها لدعم مؤسسات دينية وثقافية وبحثية تابعة للجماعة.
أما على مستوى الشخصيات، فإن اسم إبراهيم الزيات يبرز كلاعب رئيسي في هذا الملف؛ فهو ألماني من أصل مصري، وشغل في السابق مواقع قيادية في الاتحاد الإسلامي التركي (DITIB) ومؤسسات أخرى ترتبط بالتنظيم الدولي. تشير الوثائق إلى أنه يُستخدم كهمزة وصل بين مراكز الفكر الإسلامية والمنظمات الأكاديمية، وقد ساهم في إنشاء شبكة من العلاقات التي تدعم سردية الإخوان وتوفر لهم منصات أكاديمية للإنتاج المعرفي الموجه سياسيًا.
العلاقة مع المنظمات الحقوقية
توظف جماعة الإخوان المسلمين المنظمات الحقوقية في ألمانيا وأوروبا كأداة سياسية لتعزيز حضورها، وتشكيل لوبي ضاغط يخدم أجندتها، سواء على مستوى تلميع صورتها أمام الرأي العام الأوروبي، أو من خلال تصدير خطاب المظلومية وادعاء الاضطهاد في العالم العربي. ويُعد هذا الاستخدام الاستراتيجي للخطاب الحقوقي إحدى أبرز وسائل الجماعة لاختراق المجال العام في الغرب تحت غطاء "الدفاع عن الحريات".
من بين أبرز هذه الأدوات ما يسمى "الائتلاف العالمي للحقوق والحريات"، الذي يضم عدداً من الناشطين المقربين من الجماعة، ويعمل كمنصة دولية للدفاع عن سردية الإخوان فيما يخص ما يسمونه "الانقلاب العسكري" في مصر عام ٢٠١٣. ويشارك في هذا الائتلاف شخصيات محسوبة على التنظيم الدولي، من أبرزهم أنس التكريتي، مؤسس مؤسسة قرطبة في بريطانيا، والذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع شخصيات إخوانية في ألمانيا وتركيا وقطر.
كما يظهر على الساحة ما يُعرف بـ "الائتلاف المصري الأمريكي من أجل الديمقراطية والحقوق"، والذي ينشط في الولايات المتحدة وأوروبا، ويقوم بحملات علاقات عامة، وبيانات حقوقية، وتنظيم فعاليات داخل المؤسسات الأوروبية للدفاع عن الإخوان باعتبارهم "ضحايا القمع". وقد شارك هذا الائتلاف في عدة جلسات استماع داخل البرلمان الأوروبي، مستخدمًا تقارير انتقائية تُدين مصر ودولاً عربية أخرى، وتتجاهل تماماً سجل الإخوان في التحريض والعنف.
أما داخل ألمانيا، فقد ركّزت الجماعة على استغلال قضايا الإسلاموفوبيا والتمييز الديني، من أجل كسب تعاطف الرأي العام، وتبرير وجودها السياسي والدعوي. من أبرز الأمثلة على ذلك منظمة "جمعية إنسان" (Insan e.V)، ومقرها برلين، التي تنشط في قضايا "حقوق الإنسان للمسلمين"، وتُتهم من قبل أجهزة الأمن الألمانية بأنها قريبة من الإخوان، رغم حصولها على تمويل حكومي في إطار برامج دعم التعددية ومكافحة الكراهية.
إضافة إلى ذلك، تلعب منظمات مثل "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا" (FIOE) و"المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث"، دوراً مزدوجاً في هذا السياق، حيث تقدّم نفسها كهيئات دينية أو دعوية، لكنها تمارس دورًا حقوقيًا غير مباشر، عبر إصدار بيانات تندد بما تسميه "اضطهاد الإسلاميين"، وتنسق مع جمعيات أوروبية تطالب بـ"حقوق الحجاب"، و"حماية الحرية الدينية"، وهي قضايا تُستخدم كرافعة دعائية لصالح الإخوان أكثر من كونها تعبيراً عن قضايا المجتمع المسلم بشكل عام.
في هذا الإطار، تبرز شخصيات مثل إبراهيم الزيات وسمير فلاح، وكلاهما مرتبط بالمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا (ZMD) واتحاد المنظمات الإسلامية، كواجهات تجمع بين العمل الحقوقي والدعوي والتنظيمي. ويُشتبه بأن هؤلاء يلعبون دورًا محوريًا في تسهيل التعاون بين الجماعة ومنظمات أوروبية تنشط في قضايا الأقليات، لتمرير رسائل سياسية تخدم التنظيم تحت غطاء "المواطنة" و"الاندماج" و"محاربة العنصرية".
العلاقة مع المجتمع المدنى
تمكّنت جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا من بناء شبكة متشعبة من الجمعيات والمراكز الإسلامية التي تعمل تحت مظلة "المجتمع المدني"، لكنها تؤدي فعليًا دورًا تنظيميًا وايديولوجيًا يخدم مشروع الجماعة الأم. وتُعد هذه الشبكة أداة مركزية في ترسيخ وجود الجماعة داخل المجتمع الألماني، وتوسيع دائرة نفوذها وسط الجاليات المسلمة، تحت غطاء العمل الخيري والثقافي والديني.
في قلب هذه الشبكة تبرز "الجمعية الإسلامية في ألمانيا" (Islamische Gemeinschaft in Deutschland - IGD)، والتي تُعتبر الذراع الرسمية للإخوان المسلمين في البلاد. تأسست الجمعية في خمسينيات القرن الماضي على يد سعيد رمضان، صهر مؤسس الجماعة حسن البنا، وأحد أبرز قادة التنظيم الدولي. وقد احتفظت الجمعية بدور مركزي في تنظيم العمل الدعوي للجماعة في ألمانيا، وتدير عددًا كبيرًا من المساجد والمراكز الثقافية والاجتماعية، مع نفوذ واسع داخل المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا (ZMD).
من بين المراكز ذات الصبغة الإخوانية البارزة، يبرز "مركز ميونخ الإسلامي" (Islamisches Zentrum München)، الذي يُعد من أقدم وأهم معاقل الإخوان في أوروبا. وقد أنشئ بدعم سعودي في البداية، لكنه تحوّل تدريجيًا إلى أحد المقرات الفكرية والدعوية للجماعة في الغرب، وكان لسعيد رمضان دور محوري في إدارته. لا يزال المركز يشكل نواة لنشاط الجماعة جنوب ألمانيا، وهو يحتضن أنشطة دعوية وتربوية، ويُستخدم لاستقطاب الشباب من أصول مهاجرة.
كذلك يُعد "مسجد دار السلام" في برلين من أبرز المؤسسات التي ترتبط بالجماعة. وقد لفت المسجد انتباه السلطات الألمانية بسبب دعوات أئمته إلى الفكر الأصولي، فضلاً عن استضافة شخصيات مثيرة للجدل، بعضها معروف بانتمائه للإخوان أو تعاطفه مع الإسلام السياسي. كما يُستخدم المسجد مركزًا لتعليم اللغة العربية والدروس الدينية، إلا أن مراقبين يرون فيه منصة لنشر الفكر الإخواني الموجه نحو فئة الشباب المسلم.
أما على الصعيد الخيري، فتبرز منظمة "الإغاثة الإسلامية في ألمانيا" (Islamic Relief Deutschland)، والتي تُتهم بصلات وثيقة مع جماعة الإخوان. وقد كشفت تقارير إعلامية ورقابية ألمانية أن المنظمة تلقت بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٥ أكثر من ٦ ملايين يورو من التمويل الحكومي الألماني، قبل أن تُدرج لاحقًا ضمن قائمة المؤسسات المثيرة للجدل بسبب الاشتباه في تمويلها لنشاطات ذات طابع سياسي. وفي عام ٢٠٢٠، أوقفت الحكومة الألمانية تعاونها مع المنظمة، بعد صدور تقارير عن ارتباطها بالتنظيم الدولي للإخوان.
وتُظهر الوثائق الرسمية والتقارير الأمنية أن هذه الشبكة لا تعمل بشكل منعزل، بل ضمن استراتيجية منظمة تعتمد على تقاطع العمل الخيري بالدعوي والثقافي، بما يخلق حاضنة اجتماعية للفكر الإخواني وسط الجاليات المسلمة. وتلعب شخصيات مثل إبراهيم الزيات – الذي شغل سابقًا منصب رئيس IGD، ويُعد من أبرز ممثلي الإخوان في أوروبا – دورًا أساسيًا في التنسيق بين هذه المؤسسات، وتسهيل اندماجها ضمن المشهد المدني الألماني، بما يمنحها غطاءً قانونيًا وسياسيًا واسعًا.
العلاقة مع السياسيين
تسعى جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا إلى بناء علاقات مع السياسيين والأحزاب من مختلف الطيف السياسي لتعزيز شرعيتها القانونية، وتوسيع نفوذها داخل المؤسسات الديمقراطية. وتعتمد الجماعة في هذا المسعى على استراتيجية مزدوجة تقوم على الانخراط في الفضاء الحزبي، وتوظيف قضايا الأقليات والجاليات المسلمة لكسب تعاطف بعض البرلمانيين والمشرّعين.
واحدة من أبرز محاولات الاختراق السياسي كانت عبر "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" (SPD)، حيث نشطت شخصيات محسوبة على الجماعة مثل ليديا نوفل، وهي ناشطة ألمانية ذات خلفية إسلامية، أسّست ما يُعرف بـ"مجموعة العمل الإسلامية" داخل الحزب. لعبت هذه المجموعة دورًا في الدفاع عن المنظمات الإسلامية، والترويج لخطاب يطالب بحماية الحريات الدينية للجاليات المسلمة، لكنه في الواقع منح غطاءً سياسيًا لمؤسسات مرتبطة بالإخوان، مثل "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا" (FIOE).
في البرلمان الألماني (البوندستاغ)، تُظهر وثائق رسمية اهتمام بعض النواب بقضايا تتقاطع مع أجندة الجماعة، سواء من بوابة الحقوق الدينية أو مكافحة "الإسلاموفوبيا". وقد أثارت تصريحات من أمثال النائبة نيكولا بير (Nicola Beer)، العضوة في البرلمان الأوروبي عن الحزب الديمقراطي الحر (FDP)، جدلًا واسعًا بعدما حذّرت من تمويل الاتحاد الأوروبي لمنظمات يُشتبه بارتباطها بالإخوان المسلمين، ما يُشير إلى انقسام داخل الطبقة السياسية حيال التعامل مع هذه الكيانات.
في المقابل، لا تتردد الجماعة في التحالف مع أحزاب يسارية – خصوصًا حزب الخضر (Die Grünen) وحزب اليسار (Die Linke) – في إطار حملات الدفاع عن اللاجئين، ومكافحة العنصرية، والدفاع عن حقوق المسلمين في الفضاء العام. وتُستخدم هذه القضايا لتأطير الجماعة كـ"مدافع عن الجاليات المسلمة"، رغم أن خطابها الحقيقي يحمل مضامين أيديولوجية تهدف إلى التغلغل داخل البنى الديمقراطية.
المفارقة أن الإخوان المسلمين لا يمانعون أحيانًا في توظيف خطاب اليمين المتطرف ضد الإسلام، عبر تأجيج شعور "المظلومية" لدى الجاليات، وتصوير أنفسهم كمدافعين عن حقوق المسلمين في وجه "العنصرية الغربية". ويصبّ هذا التناقض في مصلحة الجماعة التي تستخدم خطاب الاضطهاد لتبرير الحاجة إلى تنظيمات تمثل "الإسلام المعتدل"، وهي الصيغة التي تقدم بها نفسها في المحافل السياسية الأوروبية.
وقد وثّقت تقارير صادرة عن جهاز حماية الدستور الألماني (Verfassungsschutz) أن جماعة الإخوان تعمل على خلق واجهات سياسية عبر مؤسسات مجتمع مدني محسوبة عليها، ما يتيح لها الوصول إلى البرلمانيين والساسة من خلال دعوات لحضور فعاليات ومؤتمرات "حوار الأديان" أو "التعدد الثقافي". ومن خلال هذه اللقاءات، تسعى الجماعة إلى كسب شرعية سياسية، وتخفيف الرقابة الأمنية على أنشطتها.
اقتصاديات جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا
تُشكّل الأنشطة الاقتصادية لجماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا إحدى الركائز الأساسية لتمويل شبكتها الدعوية والتنظيمية، حيث تدير الجماعة عبر واجهات متعددة سلسلة من المشروعات الاقتصادية والاستثمارية تمتد من المطاعم والمتاجر إلى المؤسسات الخيرية والمراكز الإسلامية. وتتميز هذه الأنشطة بأنها غالبًا ما تُدار من قبل شخصيات محسوبة على الجماعة، وتتم تحت مظلة قانونية تغطيها بوصفها "أنشطة لخدمة الجالية".
واحدة من أبرز القنوات المالية المرتبطة بالجماعة هي منظمة "الإغاثة الإسلامية في ألمانيا" (Islamic Relief Deutschland)، والتي يُشتبه في توظيفها لجمع التبرعات من الجاليات المسلمة في أوروبا وتوجيهها جزئيًا لتمويل مشاريع مرتبطة بالإخوان في الشرق الأوسط. رغم أن المنظمة تنفي أي ارتباط تنظيمي، إلا أن تقارير ألمانية وبريطانية أكدت وجود علاقات بين إدارتها وبين شخصيات قيادية داخل الجماعة، مثل إبراهيم الزيات، الذي تولى مناصب قيادية في "الإغاثة" و"المجلس الإسلامي الأوروبي".
إلى جانب العمل الخيري، تستثمر الجماعة في قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لاسيما في المدن التي تضم جاليات عربية وتركية كبيرة. وتشمل هذه الاستثمارات مطاعم، متاجر حلال، مراكز تعليم لغة عربية، ومدارس خاصة ذات طابع ديني. ويمنح هذا الانتشار الاقتصادي الجماعة قدرة على التمويل الذاتي بعيدًا عن القنوات الرسمية، كما يوفر لها شبكة نفوذ اجتماعي وثقافي في الأحياء ذات الأغلبية المسلمة.
كما تقوم الجماعة عبر كيانات موالية، مثل "أوروبا ترست" (Europe Trust)، بإدارة أملاك عقارية تشمل مساجد ومراكز إسلامية في عدة مدن ألمانية. وقد وُثقت حالات بيع وشراء أراضٍ وعقارات تابعة للمسلمين لصالح منظمات مرتبطة بالإخوان، مما يمنحها تحكمًا في البنية التحتية الدينية والتعليمية للجاليات. يُشار إلى أن "أوروبا ترست" مقرها في لندن وتُعد الذراع المالية والاستثمارية لاتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا (FIOE).
وإضافة إلى ما سبق، تلعب التحويلات المالية من الخارج دورًا في دعم أنشطة الجماعة في ألمانيا. حيث يُعتقد أن جزءًا من التمويل يأتي من منظمات وجمعيات خيرية في قطر وتركيا، أو من تبرعات رجال أعمال محسوبين على الجماعة في الخليج. وقد أثار هذا الأمر قلق السلطات الألمانية، لا سيما مع ورود تقارير عن ضخ أموال في جمعيات ألمانية من مصادر غير شفافة تحت شعار "دعم التعايش الإسلامي".
رغم الغطاء القانوني الذي تعمل تحته هذه الأنشطة، فإن السلطات الأمنية الألمانية تتابعها بشكل متزايد. إذ أشار تقرير جهاز حماية الدستور لعام ٢٠٢٢ إلى أن جماعة الإخوان تسعى إلى بناء "نظام موازٍ اقتصادي واجتماعي" يُمكنها من التأثير على المسلمين في ألمانيا بشكل غير مباشر. ويدعو التقرير إلى ضرورة التدقيق في مصادر تمويل هذه الجمعيات، وتتبّع شبكات علاقاتها الدولية.
مواجهة جماعات الإسلام السياسي
تبنّت الحكومة الألمانية في السنوات الأخيرة سياسة أكثر حذرًا تجاه جماعات الإسلام السياسي، خاصة بعد ازدياد القلق من تأثير هذه الجماعات على الجاليات المسلمة وعلى تماسك المجتمع الألماني. وقد ركّزت السلطات على جماعة الإخوان المسلمين بوصفها الفاعل الرئيسي ضمن هذا الطيف الأيديولوجي، وذلك بسبب قدرتها على التغلغل الهادئ في المؤسسات والمجتمع المدني تحت غطاء الاعتدال والانخراط الديمقراطي. ولهذا بدأت الاستخبارات الداخلية (جهاز حماية الدستور – Verfassungsschutz) منذ عام ٢٠١٧ برصد نشاطات الجماعة بشكل ممنهج، واعتبارها تهديدًا طويل المدى للأمن القومي الألماني.
إحدى أهم أدوات المواجهة كان التقارير السنوية الصادرة عن هيئة حماية الدستور، التي خصّت جماعة الإخوان بملفات مستقلة، وصنّفتها كحركة تسعى إلى تقويض النظام الديمقراطي من الداخل. وأشار تقرير الهيئة لعام ٢٠٢٢ إلى أن الجماعة تستخدم خطابًا مزدوجًا وتعمل على تشكيل "مجتمع موازٍ" ضمن الجاليات المسلمة. كما أُغلقت بعض المؤسسات التابعة للجماعة أو التي تُشتبه في صلتها بها، مثل "جمعية الثقافة الإسلامية" في بريمن و"منظمة إنسان" في برلين، بتهم تتعلق بتمويل متطرفين أو نشر أفكار معادية للدستور.
على الصعيد السياسي، بدأت بعض الولايات الألمانية (خصوصًا بافاريا وساكسونيا السفلى) بوضع خطط لتعزيز الرقابة على التمويل الخارجي للجمعيات الإسلامية، ومنع تدفّق الأموال من دول مثل قطر وتركيا نحو منظمات ذات صلة بالإخوان. كما تم إلغاء عدد من الشراكات بين البلديات المحلية وبعض المراكز الإسلامية بعد الكشف عن صلاتها الفكرية أو التنظيمية بالجماعة. هذا التوجه يُعبّر عن تحوّل في الفهم الرسمي لطبيعة الإسلام السياسي، ليس فقط كظاهرة دينية بل كمشروع سياسي يسعى للهيمنة.
علاوة على الإجراءات الأمنية، تعمل الحكومة الألمانية على تعزيز "الإسلام الألماني" كبديل عن النماذج المستوردة، من خلال دعم أئمة وقيادات دينية تلقوا تعليمهم في الجامعات الألمانية، وليس في مؤسسات تابعة للإخوان أو ممولة من الخارج. وقد دُشّنت مبادرات حكومية لتأهيل الأئمة محليًا، وتحديث برامج التعليم الديني بما يتوافق مع قيم الدستور. ويُعد هذا المسار الموازي خطوة استراتيجية تهدف إلى تجفيف منابع النفوذ الأيديولوجي للجماعة داخل المساجد والمدارس الدينية.
شبكة معقدة
تُظهر دراسة شبكة علاقات جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا مدى تعقيد استراتيجية الجماعة في توسيع نفوذها داخل المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية. فالعمل على استغلال مراكز البحث والمنظمات الحقوقية، بالإضافة إلى إقامة علاقات مع صناع القرار السياسي، يعكس نهجًا ممنهجًا يسعى إلى التأثير طويل الأمد في النسيج المجتمعي والسياسي الألماني.
ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يكمن في كيفية مواجهة هذا النفوذ بطريقة تحترم القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، دون إهمال مخاطر التغلغل والتأثير الإيديولوجي الذي قد يقود إلى تفتيت اللحمة الاجتماعية. يتطلب هذا التوازن جهودًا متكاملة بين الجهات الأمنية، المؤسسات الحكومية، والمجتمع المدني نفسه لتفهم طبيعة التهديدات والعمل على استراتيجيات مضادة فعالة وشفافة.
في النهاية، يبقى فهم آليات عمل جماعة الإخوان المسلمين داخل ألمانيا نقطة انطلاق ضرورية لأي سياسة أمنية واجتماعية تهدف إلى حماية المجتمعات من التمدد الإيديولوجي غير المرغوب فيه، مع الحفاظ على قيم الحرية والتعددية التي تشكل أساس الديمقراطية الألمانية. بهذا، يمكن للمجتمع الألماني أن يضمن بيئة أكثر أمانًا وتماسكًا، تحمي حقوق الجميع دون المساس بالمبادئ الديمقراطية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شفق نيوز
منذ يوم واحد
- شفق نيوز
لماذا هاجم القرامطة مكة واقتلعوا الحجر الأسود؟
يُعدّ الطواف حول الكعبة في مكة من المناسك الرئيسية لشريعة الحج عند المسلمين. وبينما يطوف ملايين الحجاج حول الكعبة، فإن الكثير منهم يسعون جاهدين للوصول إلى الحجر الأسود لتقبيله - عملًا بسنة النبي محمد - في مشهد يتكرر منذ أكثر من 1400 عام هجري. لكن، وبحسب كتب التاريخ الإسلامي، فإن الحجر الأسود غاب عن مكة لأكثر من عشرين عاماً، بعدما تعرّضت لهجوم دموي قبل نحو 1100 عام، في ظل خلافات دينية وسياسية عنيفة. إذ شهدت مكة في عام 317 للهجرة الموافق 930 للميلاد، هجوماً نفذه أتباع فرقة القرامطة، الذين قاموا أيضاً بقتل حجاج، واقتلاع الحجر الأسود، ونقله إلى عاصمتهم التي تقع حالياً في الأحساء بالمنطقة الشرقية من السعودية. من هم القرامطة؟ تشير الكتب التراثية التي تناولت تاريخ الفرق الإسلامية إلى أن القرامطة هم أتباع حركة دينية وسياسية نشأت من رحم الدعوة الإسماعيلية في القرن الثالث الهجري، لكنها سرعان ما انشقت عنها وشكّلت فرعاً تبنى تأويلات دينية وسياسية راديكالية. والإسماعيلية بدورها هي إحدى الفرق الشيعية التي نشأت في ظل الاختلافات والتباينات العقائدية الكبيرة التي شهدها الإسلام في قرونه الأولى. فالشيعة – الذين يرون أن الإمام علي بن أبي طالب، ابن عم النبي محمد وزوج ابنته فاطمة، هو خليفته – تفرّقوا إلى جماعات مختلفة، تباينت فيما بينها في مسألة خطّ توريث الإمامة. وتشير كتب الفرق الإسلامية إلى أنه عقب رحيل الإمام جعفر الصادق، الذي يمتد نسبه المباشر إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، وقع انقسام بين فرقتين من الشيعة سيكون لهما شأن كبير في العالم الإسلامي لاحقاً. فقد قال فريق من الشيعة – الذين يمثلون الشيعة الاثنا عشرية – إن الإمام الصادق اكتفى بالإفصاح عن اسم الإمام الذي يليه عند خواص شيعته، وبذلك انتقلت الإمامة إلى ابنه موسى الكاظم، لتنتقل من بعده إلى ابنه علي بن موسى الرضا، وصولاً إلى الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن العسكري، الذين يعتقدون أنه المهدي المنتظر. أما الفريق الآخر، وهم الشيعة الإسماعيلية، فقد قالوا بانتقال الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل، سواء لإيمان بعضهم بأن إسماعيل لم يمت خلال حياة أبيه، بل اختفى هرباً من الاضطهاد، أو لأنه، بحسب البعض الآخر، مات خلال حياة أبيه، لتنتقل الإمامة إلى ابنه محمد بن إسماعيل. وفي أواخر القرن الثالث الهجري، تواصلت الانقسامات داخل الشيعة الإسماعيلية، وبرز انقسام جديد بين فريقين بارزين. فقد ذهب فريق إلى الاعتقاد بأن محمد بن إسماعيل لم يمت، وأنه هو المهدي المنتظر، ومنهم القرامطة. أما الفريق الآخر، فقال بتواصل خط الإمامة من بعد محمد بن إسماعيل، وصولاً إلى الحكام الفاطميين الذين أسسوا خلافة كبرى نافست الخلافة العباسية السنية في القرن الرابع الهجري، وامتدت دولتهم عبر شمال إفريقيا ومصر وبلاد الشام والحجاز في القرن الرابع الهجري. ارتبط اسم القرامطة بداعية إسماعيلي يعرف باسم حمدان قرمط. وتختلف الروايات حول سبب تسميته بهذا الاسم؛ فبعضها يرى أن كلمة "قرمط" ذات أصل أرميني، وأنها أطلقت عليه إما بسبب قصر قدميه أو حمرة عينيه. ونشط حمدان قرمط في الكوفة بجنوب العراق والمنطقة المحيطة بها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، لتصل تعاليمه إلى مناطق مختلفة من العالم الإسلامي مثل اليمن والشام وإقليم البحرين – وهي التسمية القديمة التي كانت تطلق على مناطق شرق الجزيرة العربية بالإضافة إلى جزر البحرين. في الوقت الذي كان قرامطة البحرين يعززون سلطانهم في شبه الجزيرة العربية كان العالم الإسلامي يشهد الكثير من التطورات الكبيرة. فالخلافة العباسية شهدت في القرن الرابع الهجري فقدانها للكثير من سلطتها. إذ نشأت الكثير من الدول والإمارات في مناطق مختلفة، وهو ما لم يمثل خروجاً على السلطة السياسية للخلفاء العباسيين في بغداد فقط، بل نال كذلك من سلطتها الدينية السنية في بعض الأحيان. فالحكام الفاطميون على سبيل المثال، أسسوا خلافة موازية كانت تدين بالمذهب الشيعي الإسماعيلي. ويشير الأكاديمي الألماني أدم متز في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري"، إلى أن الأمر وصل في وقت ما من القرن الرابع الهجري إلى أن الخليفة العباسي لم تكن له أي سلطة سياسية سوى في بغداد ومحيطها. وكانت من بين التحديات الأخرى التي تعرضت لها الخلافة العباسية، الانتفاضات والثورات التي امتزجت فيها العناصر الدينية مع التطلعات السياسية والاقتصادية كما حدث في ثورة الزنج في جنوب العراق، وثورة بابك الخرمي في بلاد فارس القرن الثالث الهجري. وسواء تأثر القرامطة بتلك الثورات أم لا فإنهم شكلوا بدورهم تحدياً للخلافة العباسية ومثلوا تهديداً لسلطتها الدينية والسياسية وخاضوا ضدها الكثير من المعارك. لكن أجواء العداء تلك تخللتها فترات من السلم النسبي، بل والتعاون في بعض الأحيان. ولم تكن قائمة أعداء القرامطة قاصرة على الخلفاء العباسيين السنة، بل شملت أيضاً الفاطميين الذين يدينون بالعقيدة الشيعية الإسماعيلية. ولم يكن الخلاف العقائدي بين القرامطة والفاطميين حول تسلسل الإمامة هو السبب الوحيد للعداء بين الفريقين، بل إن سطوع نجم الفاطميين وسيطرتهم على مناطق متاخمة للأراضي التابعة للقرامطة كان كذلك من الأمور التي دفعت الفريقين إلى الاقتتال. ومثلما كان الحال مع العباسيين، فإن علاقات القرامطة مع الفاطميين شهدت فترات ودّ وتعاون في بعض الأحيان. أبو طاهر والهجوم على مكة تشير كتب التاريخ الإسلامي إلى أن رئاسة قرامطة البحرين آلت إلى زعيم لهم يدعى أبو طاهر الجنابي عام 311 هجرياً الموافق 923 ميلادياً. وفي عام 317 أقدم أبو طاهر وجماعته على الهجوم على مكة خلال موسم الحج في مشهد سردت كتب التاريخ تفاصيله بشكل درامي دموي. إذ تفيد الروايات التاريخية بأنه وبعد وصول قافلة الحجاج الرئيسية إلى مكة، بدأت الأخبار عن قدوم أبي طاهر والمئات من جنوده وفرسانه، ليخرج أمير مكة مع وفد من الأعيان محاولين استرضاءه بالمال، وهو ما رفضه القائد القرمطي ليدور قتال أسفر عن انتصار القرامطة الذين دخلوا مكة وقتلوا أعداداً كبيرة من الحجاج وسخروا من قدسية مكة والحج وخلعوا باب الكعبة واقتلعوا الحجر الأسود. وتتباين أعداد القتلى عند المؤرخين لتصل إلى عشرات الآلاف. البروفسيرة شينويل جيوا المختصة بالتاريخ الفاطمي في معهد الدراسات الإسماعيلية في لندن قالت في مقابلة مع بي بي سي إنه يجب التعامل بحذر مع الروايات المتأخرة المتعلقة بالقرامطة لأنها جاءت على لسان خصومهم: "القرامطة كانوا أشبه بالخوارج، كانوا في عداء مع الجميع حتى مع الفاطميين". وترى جيوا أن من أسباب قيام القرامطة باقتلاع الحجر الأسود هو رغبتهم في اجتذاب الحجاج إلى معقلهم في إطار العداء بينهم وبين العباسيين. ويشير الأكاديمي المختص في الدراسات الإسماعيلية فرهارد دفتري في كتابه "تاريخ الإسلام الشيعي" إلى أن أبا طاهر الجنابي كان يتنبأ في تلك الآونة - بناءً على حسابات فلكية - بقدوم المهدي المنتظر و"بدء الدور الختامي للتاريخ حيث لا مكان للشريعة". كان لهجوم القرامطة على مكة تأثير نفسي كبير في العالم الإسلامي، رغم أنها لم تكن المرة الأولى التي تتعرض فيها لهجمات دموية جراء الخلافات السياسية بين المسلمين كما حدث في زمن الأمويين. وتفيد روايات في كتب التاريخ أن الخليفة العباسي والخليفة الفاطمي سارعا بمراسلة أبي طاهر في مسعى لإعادة الحجر الأسود إلى مكة، دون جدوى، بينما لم يلجأ العباسيون أو الفاطميون - الذين كانوا وقتها يسيطرون على شمال إفريقيا (تونس وشرق الجزائر) - للقوة العسكرية لإجبار القرامطة على إعادة الحجر الأسود. ورغم ذلك واصل المسلمون أداء شعيرة الحج رغم عدم وجود الحجر الأسود، بل إن هناك روايات تتحدث عن قيام الحجاج بوضع أيديهم في موضعه القديم ليغمرونه بالتقبيل. أما القرامطة فقد كانوا على موعد مع أزمة داخلية بعد عامين من الهجوم على مكة، إذ خرج بينهم رجل – تختلف الروايات حول اسمه – مدعيًا كونه المهدي المنتظر ونجح في حملهم على الاعتراف به قبل أن يرتاب زعماء القرامطة في أمره ويقتلوه. أما أبو طاهر فيُعتقد أنه توفي عام 334 للهجرة. وبعد 22 عاماً أعاد القرامطة الحجر الأسود إلى مكة، ويختلف المؤرخون حول السبب وراء الأمر. فبينما يرى البعض أن قرار إعادة الحجر الأسود جاء بعد أن دفع العباسيون مبلغاً كبيراً من المال للقرامطة، تحدثت مصادر أخرى عن أن القرار جاء نزولاً عند إشارة من الخلفية الفاطمي. لكن الدكتورة شينويل جيوا تشير إلى احتمال أن تكون لحادثة الشخص الذي ادعى الإمامة وسط القرامطة ومقتله تأثير على مصداقيتهم بين أتباعهم ما أثر سلباً على قوتهم ودفعهم إلى إعادة الحجر الأسود. واستمرت سيطرة القرامطة على البحرين حتى النصف الثاني من القرن الخامس الهجري حوالي عام 470 هجرياً (1077 ميلادياً) لتتفكك الجماعة القرمطية. مساواة و"اشتراكية" جاء الهجوم على مكة ليذكي من حجج خصوم القرامطة، الذين اتهموا أبا طاهر وجماعته بالعداء للإسلام، بل ووجهوا سهام النقد للعقيدة الإسماعيلية في مجملها. وحملت روايات تاريخية اتهامات للفاطميين بالوقوف وراء الهجوم على مكة في إطار توجه إسماعيلي عام يقلل من أهمية فريضة الحج إن لم يكن يتخذ منها موقفاً سلبياً. لكن الدكتورة شينويل جيوا ترى أن تلك الاتهامات التي وردت في كتابات مؤرخين وفقهاء عباسيين، ظهرت في فترات متأخرة وجاءت في إطار الحرب الدعائية بين العباسيين والفاطميين، مستشهدة برسالة أوردها المؤرخ المقريزي، الذي عاش في زمن المماليك، أرسلها الخليفة المعز لدين الله الفاطمي إلى زعيم القرامطة يوبخه فيها ويوجه إليه عبارات قاسية فظة. ولم يكن الهجوم على مكة هو الأمر الوحيد الذي يثير خلافات بين المؤرخين بشأن القرامطة، بل كان موقفهم من توزيع الثروات في زمنهم مثار جدل. فكتب التاريخ الإسلامي تحمل روايات تمتزج فيها الإشارة إلى نوع من المساواة في توزيع الثروات داخل مجتمعات القرامطة بحديث عن شيوعية اقتصادية وتحرر اجتماعي، ما دفع مؤرخين معاصرين إلى وصفهم بـ"رواد اشتراكيين" سعوا إلى محاربة النظام الإقطاعي القائم على استعباد المهمشين، وهو ما يراه فريق آخر من المؤرخين مبالغة. لكن في النهاية فإن ذكرى القرامطة تظل راسخة بشكل سلبي في أذهان كثير من المسلمين بسبب حادثة الهجوم على مكة واقتلاع الحجر الأسود.


اذاعة طهران العربية
منذ 2 أيام
- اذاعة طهران العربية
نهج الإمام الخميني (رض) في مواجهة الاستكبار العالمي
في تاريخ إيران المعاصر، يرتبط اسم الإمام الخميني (رض) بمفاهيم الاستقلال ومقاومة الهيمنة والاستكبار العالمي. يُعتبر فكر وسلوك مؤسس الجمهورية الإسلامية مدرسة فكرية - سياسية مستقلة وديناميكية، قدمت رداً حاسماً على أي شكل من أشكال الهيمنة، سواء كانت سياسية أو عسكرية أو فكرية وثقافية. وتستمر هذه المدرسة اليوم في صمودها تحت توجيه قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي الخامنئي. منذ بداية نهضته، رسم الإمام الخميني (رض) خطاً فاصلاً بين الحق والباطل، معتبراً واجهة الاستكبار رمزاً للظلم، ولم يقتصر مفهوم الاستكبار لديه على العدوان العسكري أو الهيمنة الاقتصادية، بل شمل أيضاً الهيمنة الفكرية وفرض نمط الحياة الغربي. وفي مواجهة هذا النوع من الهيمنة، اعتمد الإمام على الأصالة الإسلامية وكرامة المسلمين، مستلهماً تعاليم القرآن الكريم، وداعياً المسلمين إلى الثبات والثقة بالنفس. قاد الإمام الخميني (رض) البلاد في مواجهة تجاوزات النظام البهلوي والهيمنة الأمريكية، معززاً روح المقاومة في الأمة الإيرانية. مارس الجهاد الأصغر (محاربة العدو الخارجي) والجهاد الأكبر (محاربة الأنا وتربية الإنسان الصامد) في آنٍ واحد، مما حول الأمة الإيرانية إلى أمة صامدة ويقظة. مواجهة الهيمنة الفكرية والحضارية للغرب من أبرز جوانب فكر الإمام الخميني (رض) هو مكافحة الهيمنة الفكرية الناعمة للغرب، في وقت تأثرت فيه العديد من النخب والحركات الفكرية في العالم الإسلامي بالحداثة الغربية، أكد الإمام على العودة إلى الهوية الإسلامية والاجتهاد الحديث. لم يستسلم الإمام للانصهار الفكري بين الإسلام والتعاليم الليبرالية أو الاشتراكية، بل قدم نموذج ولاية الفقيه، مما أضفى تناغماً بين الجمهورية والإسلام. هذا الابتكار قدم نموذجاً فريداً في مواجهة النماذج الغربية، حيث طرح نظاماً فكرياً حضارياً بديلاً لا يزال يُلهم حركات المقاومة في المنطقة والعالم الإسلامي. استمرار نهج الإمام في قيادة آية الله الخامنئي بصفته خريجاً وتلميذاً بارزاً في مدرسة الإمام الخميني (رض)، واصل آية الله الخامنئي النهج المناهض للاستكبار في المجالات النظرية والثقافية والعملية. رفع راية المقاومة من خلال التأكيد على الاستقلال السياسي والثقافي والاقتصادي، خاصة في مواجهة نفوذ الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. أكد قائد الثورة الاسلامية في تصريحات عديدة أن التراجع أمام تجاوزات الأعداء لا يجلب الأمن، بل يؤدي إلى مزيد من الغطرسة. لذا، فإن السبيل الوحيد لمواجهة الاستكبار هو الوقوف بذكاء وإيمان. أسس الإمام الخميني (رض) مدرسة مناهضة للاستكبار، متمحورة حول الشعب، لا تزال قائمة اليوم بقيادة آية الله الخامنئي. هذه المدرسة، المستندة إلى التعاليم الإسلامية والعقلانية السياسية، صمدت وستصمد في وجه أي تجاوزات من جانب الأعداء. في عالمٍ مُعرَّض لضغوط النظام المُهيمن، فإن إعادة قراءة فكر الإمام الخميني وتعزيزه هو ضرورة استراتيجية للحفاظ على الهوية الوطنية الإيرانية واستقلالها، ونموذج شامل لنهضة الأمم. وكما قال قائد الثورة الاسلامية: " الإمام الخميني حقيقةٌ خالدة"، وستظل هذه الحقيقة مُلهمةً لمسيرة الثورة الإسلامية القادمة.


الحركات الإسلامية
منذ 2 أيام
- الحركات الإسلامية
تغلغل الإخوان فى ألمانيا.. استراتيجية طويلة الأمد وتأثيرات متعددة
تشكل جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا نموذجًا معقدًا لشبكات التأثير التي تتغلغل في مفاصل المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية. عبر استراتيجيات متعددة ومتنوعة، تستغل الجماعة المراكز البحثية، المنظمات الحقوقية، فضاءات المجتمع المدني، والعلاقات السياسية لتوسيع نفوذها وبسط حضورها ضمن المشهد الألماني. ويكمن التحدي في كيفية التمييز بين النشاطات المدنية المشروعة والتمدد الأيديولوجي الذي يحمل في طياته أهدافًا سياسية ذات أبعاد دينية. تُظهر التقارير الأمنية الرسمية في ألمانيا، لا سيما من هيئة حماية الدستور، أن جماعة الإخوان تعتمد على إعادة صياغة خطابها لتتناسب مع القيم الديمقراطية الغربية، مستغلة بذلك ضعف الفهم العميق لبعض الجهات للأهداف الحقيقية للجماعة. كما توظف مفاهيم حقوق الإنسان والحريات الدينية كأدوات لتعزيز صورتها كفاعل اجتماعي شرعي، ما يفتح المجال أمامها لاختراق دوائر صنع القرار والمؤسسات المجتمعية.. في ظل هذه التداخلات والتحديات، تحرص السلطات الألمانية على موازنة احترام الحريات المدنية مع مراقبة الأنشطة التي قد تهدد الأمن الوطني والتماسك الاجتماعي. ومن هنا، تأتي أهمية دراسة وتحليل شبكة علاقات الإخوان المسلمين في ألمانيا، لفهم طبيعة نشاطهم وآليات توسعهم، ولتطوير استراتيجيات فعالة توازن بين حرية التعبير وضرورة الحفاظ على الأمن المجتمعي. العلاقة مع المراكز البحثية تسعى جماعة الإخوان المسلمين إلى بسط نفوذها داخل الساحة الأكاديمية والبحثية في ألمانيا، باعتبارها إحدى الأدوات الناعمة لتعزيز حضورها الأيديولوجي، وتقديم سرديتها الفكرية والسياسية كخطاب معتدل وحداثي، بينما تخفي خلف هذا الخطاب أهدافًا أعمق تتصل بمشروعها السياسي العابر للحدود. وتُظهر التقارير الأمنية والإعلامية أن الجماعة لا تعتمد على نهج مباشر، بل تعمل من خلال واجهات بحثية وتعليمية موالية، بعضها مرتبط بالتنظيم الدولي. من أبرز المؤسسات المرتبطة بهذا التوجه المعهد العالمي للفكر الإسلامي (IIIT)، الذي تأسس في الولايات المتحدة وله فروع وشراكات بحثية في أوروبا، ويُعد أداة استراتيجية لنشر الأفكار الإسلاموية ذات الطابع "الإصلاحي" من وجهة نظر الإخوان. ويُتهم المعهد بتوفير غطاء فكري لخطاب الجماعة، كما يدعم أنشطة أكاديمية في الجامعات الألمانية تتناول الإسلام السياسي بمقاربة "تطبيعية". يتعاون المعهد مع باحثين وأكاديميين داخل ألمانيا في تنظيم فعاليات ومؤتمرات متعلقة بمسائل الهوية والتعددية والدين. من جهة أخرى، يمثل معهد الفكر السياسي الإسلامي في لندن، الذي يديره الدكتور عزام التميمي، نموذجًا آخر لواجهة بحثية ذات طابع سياسي بحت، ترتبط مباشرة بالتنظيم الدولي للإخوان. يُعرف التميمي بكونه أحد أبرز منظّري الفكر السياسي الإسلامي للإخوان في أوروبا، ويمتلك علاقات وثيقة مع شخصيات وكيانات إسلاموية في ألمانيا، خصوصًا من خلال التنسيق بين المعهد وجهات أكاديمية تتبنى خطابًا نقديًا تجاه الأنظمة العربية المناهضة للإخوان، وتسعى لتقديم الجماعة كضحية لسياسات القمع والاستبداد. تستغل الجماعة الجامعات الألمانية، وخاصة تلك التي تحتضن جاليات مسلمة كبيرة مثل جامعتي هامبورغ وفرانكفورت، لعقد مؤتمرات حوارية ومناقشات أكاديمية حول قضايا الإسلام في أوروبا. وغالبًا ما تتسلل هذه الفعاليات تحت مظلة "حرية البحث الأكاديمي"، لتروج لخطاب يدمج بين الهوية الدينية والنشاط السياسي، وتحاول تمرير رؤية الجماعة على أنها تمثل الإسلام الوسطي، رغم سجلها العالمي في العنف والتحريض والتعبئة الأيديولوجية. إلى جانب النشاط الأكاديمي، تشير تقارير استخباراتية إلى أن تمويل عدد من المراكز البحثية التي تنشط في الدفاع عن خطاب الإسلام السياسي، يتم عبر قنوات غير مباشرة. من بين أبرز هذه المؤسسات منظمة الإغاثة الإسلامية في ألمانيا، التي وُجهت إليها تهم بتمويل كيانات مرتبطة بالإخوان في بريطانيا وألمانيا عبر شبكة "Europe Trust"، وهي مؤسسة مالية تابعة للتنظيم الدولي تمتلك عقارات وأصولًا يُعاد توجيه ريعها لدعم مؤسسات دينية وثقافية وبحثية تابعة للجماعة. أما على مستوى الشخصيات، فإن اسم إبراهيم الزيات يبرز كلاعب رئيسي في هذا الملف؛ فهو ألماني من أصل مصري، وشغل في السابق مواقع قيادية في الاتحاد الإسلامي التركي (DITIB) ومؤسسات أخرى ترتبط بالتنظيم الدولي. تشير الوثائق إلى أنه يُستخدم كهمزة وصل بين مراكز الفكر الإسلامية والمنظمات الأكاديمية، وقد ساهم في إنشاء شبكة من العلاقات التي تدعم سردية الإخوان وتوفر لهم منصات أكاديمية للإنتاج المعرفي الموجه سياسيًا. العلاقة مع المنظمات الحقوقية توظف جماعة الإخوان المسلمين المنظمات الحقوقية في ألمانيا وأوروبا كأداة سياسية لتعزيز حضورها، وتشكيل لوبي ضاغط يخدم أجندتها، سواء على مستوى تلميع صورتها أمام الرأي العام الأوروبي، أو من خلال تصدير خطاب المظلومية وادعاء الاضطهاد في العالم العربي. ويُعد هذا الاستخدام الاستراتيجي للخطاب الحقوقي إحدى أبرز وسائل الجماعة لاختراق المجال العام في الغرب تحت غطاء "الدفاع عن الحريات". من بين أبرز هذه الأدوات ما يسمى "الائتلاف العالمي للحقوق والحريات"، الذي يضم عدداً من الناشطين المقربين من الجماعة، ويعمل كمنصة دولية للدفاع عن سردية الإخوان فيما يخص ما يسمونه "الانقلاب العسكري" في مصر عام ٢٠١٣. ويشارك في هذا الائتلاف شخصيات محسوبة على التنظيم الدولي، من أبرزهم أنس التكريتي، مؤسس مؤسسة قرطبة في بريطانيا، والذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع شخصيات إخوانية في ألمانيا وتركيا وقطر. كما يظهر على الساحة ما يُعرف بـ "الائتلاف المصري الأمريكي من أجل الديمقراطية والحقوق"، والذي ينشط في الولايات المتحدة وأوروبا، ويقوم بحملات علاقات عامة، وبيانات حقوقية، وتنظيم فعاليات داخل المؤسسات الأوروبية للدفاع عن الإخوان باعتبارهم "ضحايا القمع". وقد شارك هذا الائتلاف في عدة جلسات استماع داخل البرلمان الأوروبي، مستخدمًا تقارير انتقائية تُدين مصر ودولاً عربية أخرى، وتتجاهل تماماً سجل الإخوان في التحريض والعنف. أما داخل ألمانيا، فقد ركّزت الجماعة على استغلال قضايا الإسلاموفوبيا والتمييز الديني، من أجل كسب تعاطف الرأي العام، وتبرير وجودها السياسي والدعوي. من أبرز الأمثلة على ذلك منظمة "جمعية إنسان" (Insan e.V)، ومقرها برلين، التي تنشط في قضايا "حقوق الإنسان للمسلمين"، وتُتهم من قبل أجهزة الأمن الألمانية بأنها قريبة من الإخوان، رغم حصولها على تمويل حكومي في إطار برامج دعم التعددية ومكافحة الكراهية. إضافة إلى ذلك، تلعب منظمات مثل "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا" (FIOE) و"المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث"، دوراً مزدوجاً في هذا السياق، حيث تقدّم نفسها كهيئات دينية أو دعوية، لكنها تمارس دورًا حقوقيًا غير مباشر، عبر إصدار بيانات تندد بما تسميه "اضطهاد الإسلاميين"، وتنسق مع جمعيات أوروبية تطالب بـ"حقوق الحجاب"، و"حماية الحرية الدينية"، وهي قضايا تُستخدم كرافعة دعائية لصالح الإخوان أكثر من كونها تعبيراً عن قضايا المجتمع المسلم بشكل عام. في هذا الإطار، تبرز شخصيات مثل إبراهيم الزيات وسمير فلاح، وكلاهما مرتبط بالمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا (ZMD) واتحاد المنظمات الإسلامية، كواجهات تجمع بين العمل الحقوقي والدعوي والتنظيمي. ويُشتبه بأن هؤلاء يلعبون دورًا محوريًا في تسهيل التعاون بين الجماعة ومنظمات أوروبية تنشط في قضايا الأقليات، لتمرير رسائل سياسية تخدم التنظيم تحت غطاء "المواطنة" و"الاندماج" و"محاربة العنصرية". العلاقة مع المجتمع المدنى تمكّنت جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا من بناء شبكة متشعبة من الجمعيات والمراكز الإسلامية التي تعمل تحت مظلة "المجتمع المدني"، لكنها تؤدي فعليًا دورًا تنظيميًا وايديولوجيًا يخدم مشروع الجماعة الأم. وتُعد هذه الشبكة أداة مركزية في ترسيخ وجود الجماعة داخل المجتمع الألماني، وتوسيع دائرة نفوذها وسط الجاليات المسلمة، تحت غطاء العمل الخيري والثقافي والديني. في قلب هذه الشبكة تبرز "الجمعية الإسلامية في ألمانيا" (Islamische Gemeinschaft in Deutschland - IGD)، والتي تُعتبر الذراع الرسمية للإخوان المسلمين في البلاد. تأسست الجمعية في خمسينيات القرن الماضي على يد سعيد رمضان، صهر مؤسس الجماعة حسن البنا، وأحد أبرز قادة التنظيم الدولي. وقد احتفظت الجمعية بدور مركزي في تنظيم العمل الدعوي للجماعة في ألمانيا، وتدير عددًا كبيرًا من المساجد والمراكز الثقافية والاجتماعية، مع نفوذ واسع داخل المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا (ZMD). من بين المراكز ذات الصبغة الإخوانية البارزة، يبرز "مركز ميونخ الإسلامي" (Islamisches Zentrum München)، الذي يُعد من أقدم وأهم معاقل الإخوان في أوروبا. وقد أنشئ بدعم سعودي في البداية، لكنه تحوّل تدريجيًا إلى أحد المقرات الفكرية والدعوية للجماعة في الغرب، وكان لسعيد رمضان دور محوري في إدارته. لا يزال المركز يشكل نواة لنشاط الجماعة جنوب ألمانيا، وهو يحتضن أنشطة دعوية وتربوية، ويُستخدم لاستقطاب الشباب من أصول مهاجرة. كذلك يُعد "مسجد دار السلام" في برلين من أبرز المؤسسات التي ترتبط بالجماعة. وقد لفت المسجد انتباه السلطات الألمانية بسبب دعوات أئمته إلى الفكر الأصولي، فضلاً عن استضافة شخصيات مثيرة للجدل، بعضها معروف بانتمائه للإخوان أو تعاطفه مع الإسلام السياسي. كما يُستخدم المسجد مركزًا لتعليم اللغة العربية والدروس الدينية، إلا أن مراقبين يرون فيه منصة لنشر الفكر الإخواني الموجه نحو فئة الشباب المسلم. أما على الصعيد الخيري، فتبرز منظمة "الإغاثة الإسلامية في ألمانيا" (Islamic Relief Deutschland)، والتي تُتهم بصلات وثيقة مع جماعة الإخوان. وقد كشفت تقارير إعلامية ورقابية ألمانية أن المنظمة تلقت بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٥ أكثر من ٦ ملايين يورو من التمويل الحكومي الألماني، قبل أن تُدرج لاحقًا ضمن قائمة المؤسسات المثيرة للجدل بسبب الاشتباه في تمويلها لنشاطات ذات طابع سياسي. وفي عام ٢٠٢٠، أوقفت الحكومة الألمانية تعاونها مع المنظمة، بعد صدور تقارير عن ارتباطها بالتنظيم الدولي للإخوان. وتُظهر الوثائق الرسمية والتقارير الأمنية أن هذه الشبكة لا تعمل بشكل منعزل، بل ضمن استراتيجية منظمة تعتمد على تقاطع العمل الخيري بالدعوي والثقافي، بما يخلق حاضنة اجتماعية للفكر الإخواني وسط الجاليات المسلمة. وتلعب شخصيات مثل إبراهيم الزيات – الذي شغل سابقًا منصب رئيس IGD، ويُعد من أبرز ممثلي الإخوان في أوروبا – دورًا أساسيًا في التنسيق بين هذه المؤسسات، وتسهيل اندماجها ضمن المشهد المدني الألماني، بما يمنحها غطاءً قانونيًا وسياسيًا واسعًا. العلاقة مع السياسيين تسعى جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا إلى بناء علاقات مع السياسيين والأحزاب من مختلف الطيف السياسي لتعزيز شرعيتها القانونية، وتوسيع نفوذها داخل المؤسسات الديمقراطية. وتعتمد الجماعة في هذا المسعى على استراتيجية مزدوجة تقوم على الانخراط في الفضاء الحزبي، وتوظيف قضايا الأقليات والجاليات المسلمة لكسب تعاطف بعض البرلمانيين والمشرّعين. واحدة من أبرز محاولات الاختراق السياسي كانت عبر "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" (SPD)، حيث نشطت شخصيات محسوبة على الجماعة مثل ليديا نوفل، وهي ناشطة ألمانية ذات خلفية إسلامية، أسّست ما يُعرف بـ"مجموعة العمل الإسلامية" داخل الحزب. لعبت هذه المجموعة دورًا في الدفاع عن المنظمات الإسلامية، والترويج لخطاب يطالب بحماية الحريات الدينية للجاليات المسلمة، لكنه في الواقع منح غطاءً سياسيًا لمؤسسات مرتبطة بالإخوان، مثل "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا" (FIOE). في البرلمان الألماني (البوندستاغ)، تُظهر وثائق رسمية اهتمام بعض النواب بقضايا تتقاطع مع أجندة الجماعة، سواء من بوابة الحقوق الدينية أو مكافحة "الإسلاموفوبيا". وقد أثارت تصريحات من أمثال النائبة نيكولا بير (Nicola Beer)، العضوة في البرلمان الأوروبي عن الحزب الديمقراطي الحر (FDP)، جدلًا واسعًا بعدما حذّرت من تمويل الاتحاد الأوروبي لمنظمات يُشتبه بارتباطها بالإخوان المسلمين، ما يُشير إلى انقسام داخل الطبقة السياسية حيال التعامل مع هذه الكيانات. في المقابل، لا تتردد الجماعة في التحالف مع أحزاب يسارية – خصوصًا حزب الخضر (Die Grünen) وحزب اليسار (Die Linke) – في إطار حملات الدفاع عن اللاجئين، ومكافحة العنصرية، والدفاع عن حقوق المسلمين في الفضاء العام. وتُستخدم هذه القضايا لتأطير الجماعة كـ"مدافع عن الجاليات المسلمة"، رغم أن خطابها الحقيقي يحمل مضامين أيديولوجية تهدف إلى التغلغل داخل البنى الديمقراطية. المفارقة أن الإخوان المسلمين لا يمانعون أحيانًا في توظيف خطاب اليمين المتطرف ضد الإسلام، عبر تأجيج شعور "المظلومية" لدى الجاليات، وتصوير أنفسهم كمدافعين عن حقوق المسلمين في وجه "العنصرية الغربية". ويصبّ هذا التناقض في مصلحة الجماعة التي تستخدم خطاب الاضطهاد لتبرير الحاجة إلى تنظيمات تمثل "الإسلام المعتدل"، وهي الصيغة التي تقدم بها نفسها في المحافل السياسية الأوروبية. وقد وثّقت تقارير صادرة عن جهاز حماية الدستور الألماني (Verfassungsschutz) أن جماعة الإخوان تعمل على خلق واجهات سياسية عبر مؤسسات مجتمع مدني محسوبة عليها، ما يتيح لها الوصول إلى البرلمانيين والساسة من خلال دعوات لحضور فعاليات ومؤتمرات "حوار الأديان" أو "التعدد الثقافي". ومن خلال هذه اللقاءات، تسعى الجماعة إلى كسب شرعية سياسية، وتخفيف الرقابة الأمنية على أنشطتها. اقتصاديات جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا تُشكّل الأنشطة الاقتصادية لجماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا إحدى الركائز الأساسية لتمويل شبكتها الدعوية والتنظيمية، حيث تدير الجماعة عبر واجهات متعددة سلسلة من المشروعات الاقتصادية والاستثمارية تمتد من المطاعم والمتاجر إلى المؤسسات الخيرية والمراكز الإسلامية. وتتميز هذه الأنشطة بأنها غالبًا ما تُدار من قبل شخصيات محسوبة على الجماعة، وتتم تحت مظلة قانونية تغطيها بوصفها "أنشطة لخدمة الجالية". واحدة من أبرز القنوات المالية المرتبطة بالجماعة هي منظمة "الإغاثة الإسلامية في ألمانيا" (Islamic Relief Deutschland)، والتي يُشتبه في توظيفها لجمع التبرعات من الجاليات المسلمة في أوروبا وتوجيهها جزئيًا لتمويل مشاريع مرتبطة بالإخوان في الشرق الأوسط. رغم أن المنظمة تنفي أي ارتباط تنظيمي، إلا أن تقارير ألمانية وبريطانية أكدت وجود علاقات بين إدارتها وبين شخصيات قيادية داخل الجماعة، مثل إبراهيم الزيات، الذي تولى مناصب قيادية في "الإغاثة" و"المجلس الإسلامي الأوروبي". إلى جانب العمل الخيري، تستثمر الجماعة في قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لاسيما في المدن التي تضم جاليات عربية وتركية كبيرة. وتشمل هذه الاستثمارات مطاعم، متاجر حلال، مراكز تعليم لغة عربية، ومدارس خاصة ذات طابع ديني. ويمنح هذا الانتشار الاقتصادي الجماعة قدرة على التمويل الذاتي بعيدًا عن القنوات الرسمية، كما يوفر لها شبكة نفوذ اجتماعي وثقافي في الأحياء ذات الأغلبية المسلمة. كما تقوم الجماعة عبر كيانات موالية، مثل "أوروبا ترست" (Europe Trust)، بإدارة أملاك عقارية تشمل مساجد ومراكز إسلامية في عدة مدن ألمانية. وقد وُثقت حالات بيع وشراء أراضٍ وعقارات تابعة للمسلمين لصالح منظمات مرتبطة بالإخوان، مما يمنحها تحكمًا في البنية التحتية الدينية والتعليمية للجاليات. يُشار إلى أن "أوروبا ترست" مقرها في لندن وتُعد الذراع المالية والاستثمارية لاتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا (FIOE). وإضافة إلى ما سبق، تلعب التحويلات المالية من الخارج دورًا في دعم أنشطة الجماعة في ألمانيا. حيث يُعتقد أن جزءًا من التمويل يأتي من منظمات وجمعيات خيرية في قطر وتركيا، أو من تبرعات رجال أعمال محسوبين على الجماعة في الخليج. وقد أثار هذا الأمر قلق السلطات الألمانية، لا سيما مع ورود تقارير عن ضخ أموال في جمعيات ألمانية من مصادر غير شفافة تحت شعار "دعم التعايش الإسلامي". رغم الغطاء القانوني الذي تعمل تحته هذه الأنشطة، فإن السلطات الأمنية الألمانية تتابعها بشكل متزايد. إذ أشار تقرير جهاز حماية الدستور لعام ٢٠٢٢ إلى أن جماعة الإخوان تسعى إلى بناء "نظام موازٍ اقتصادي واجتماعي" يُمكنها من التأثير على المسلمين في ألمانيا بشكل غير مباشر. ويدعو التقرير إلى ضرورة التدقيق في مصادر تمويل هذه الجمعيات، وتتبّع شبكات علاقاتها الدولية. مواجهة جماعات الإسلام السياسي تبنّت الحكومة الألمانية في السنوات الأخيرة سياسة أكثر حذرًا تجاه جماعات الإسلام السياسي، خاصة بعد ازدياد القلق من تأثير هذه الجماعات على الجاليات المسلمة وعلى تماسك المجتمع الألماني. وقد ركّزت السلطات على جماعة الإخوان المسلمين بوصفها الفاعل الرئيسي ضمن هذا الطيف الأيديولوجي، وذلك بسبب قدرتها على التغلغل الهادئ في المؤسسات والمجتمع المدني تحت غطاء الاعتدال والانخراط الديمقراطي. ولهذا بدأت الاستخبارات الداخلية (جهاز حماية الدستور – Verfassungsschutz) منذ عام ٢٠١٧ برصد نشاطات الجماعة بشكل ممنهج، واعتبارها تهديدًا طويل المدى للأمن القومي الألماني. إحدى أهم أدوات المواجهة كان التقارير السنوية الصادرة عن هيئة حماية الدستور، التي خصّت جماعة الإخوان بملفات مستقلة، وصنّفتها كحركة تسعى إلى تقويض النظام الديمقراطي من الداخل. وأشار تقرير الهيئة لعام ٢٠٢٢ إلى أن الجماعة تستخدم خطابًا مزدوجًا وتعمل على تشكيل "مجتمع موازٍ" ضمن الجاليات المسلمة. كما أُغلقت بعض المؤسسات التابعة للجماعة أو التي تُشتبه في صلتها بها، مثل "جمعية الثقافة الإسلامية" في بريمن و"منظمة إنسان" في برلين، بتهم تتعلق بتمويل متطرفين أو نشر أفكار معادية للدستور. على الصعيد السياسي، بدأت بعض الولايات الألمانية (خصوصًا بافاريا وساكسونيا السفلى) بوضع خطط لتعزيز الرقابة على التمويل الخارجي للجمعيات الإسلامية، ومنع تدفّق الأموال من دول مثل قطر وتركيا نحو منظمات ذات صلة بالإخوان. كما تم إلغاء عدد من الشراكات بين البلديات المحلية وبعض المراكز الإسلامية بعد الكشف عن صلاتها الفكرية أو التنظيمية بالجماعة. هذا التوجه يُعبّر عن تحوّل في الفهم الرسمي لطبيعة الإسلام السياسي، ليس فقط كظاهرة دينية بل كمشروع سياسي يسعى للهيمنة. علاوة على الإجراءات الأمنية، تعمل الحكومة الألمانية على تعزيز "الإسلام الألماني" كبديل عن النماذج المستوردة، من خلال دعم أئمة وقيادات دينية تلقوا تعليمهم في الجامعات الألمانية، وليس في مؤسسات تابعة للإخوان أو ممولة من الخارج. وقد دُشّنت مبادرات حكومية لتأهيل الأئمة محليًا، وتحديث برامج التعليم الديني بما يتوافق مع قيم الدستور. ويُعد هذا المسار الموازي خطوة استراتيجية تهدف إلى تجفيف منابع النفوذ الأيديولوجي للجماعة داخل المساجد والمدارس الدينية. شبكة معقدة تُظهر دراسة شبكة علاقات جماعة الإخوان المسلمين في ألمانيا مدى تعقيد استراتيجية الجماعة في توسيع نفوذها داخل المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية. فالعمل على استغلال مراكز البحث والمنظمات الحقوقية، بالإضافة إلى إقامة علاقات مع صناع القرار السياسي، يعكس نهجًا ممنهجًا يسعى إلى التأثير طويل الأمد في النسيج المجتمعي والسياسي الألماني. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يكمن في كيفية مواجهة هذا النفوذ بطريقة تحترم القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، دون إهمال مخاطر التغلغل والتأثير الإيديولوجي الذي قد يقود إلى تفتيت اللحمة الاجتماعية. يتطلب هذا التوازن جهودًا متكاملة بين الجهات الأمنية، المؤسسات الحكومية، والمجتمع المدني نفسه لتفهم طبيعة التهديدات والعمل على استراتيجيات مضادة فعالة وشفافة. في النهاية، يبقى فهم آليات عمل جماعة الإخوان المسلمين داخل ألمانيا نقطة انطلاق ضرورية لأي سياسة أمنية واجتماعية تهدف إلى حماية المجتمعات من التمدد الإيديولوجي غير المرغوب فيه، مع الحفاظ على قيم الحرية والتعددية التي تشكل أساس الديمقراطية الألمانية. بهذا، يمكن للمجتمع الألماني أن يضمن بيئة أكثر أمانًا وتماسكًا، تحمي حقوق الجميع دون المساس بالمبادئ الديمقراطية.