
استراتيجيات الإمام الشيرازي في رفع الوعي الديني
لا يمكن لأي فكرة، أو مبدأ، أو دين، أن يجد له موطئ قدم راسخ في قلوب النَّاس أو موضعًا في نسيج المجتمع، ما لم يُقدَّم بعناية وعقل، وما لم يُعرَّف به تعريفًا واضحًا شاملًا يُظهر جوهره النَّقي، ويُبيِّن محاسنه ومزاياه، ويُزيل ما يُحيط به من غموض أو تشويه؛ فالفكرة مهما كانت عظيمة، إن لم تُشرح وتُفهم وتُقدَّم بلغة العقل والوجدان، تبقى غريبة عن النَّاس، بعيدة عن واقعهم، وقد تُرفض قبل أن تُفهم، ويُعادى الحقّ بسبب جهل لا عناد.
المعرفة إذًا هي البوَّابة الأولى للقبول؛ فهي التي تفتح أبواب العقول وتوقظ في الإنسان ضميره الباحث عن الحقيقة، وأمَّا التوضيح الصَّادق للمفاهيم، فهو الطَّريق الذي يصل بين الفكرة وقلب المتلقِّي. ولكن لا يكفي ذلك وحده؛ وإنَّما لا بدَّ من مواجهة ما يُثار حول هذه الفكرة من شبهات وشكوك وتضليل؛ فالقلوب لا تطمئن إلَّا حين تزول عنها الغشاوة، والعقول لا تستقر إلَّا إذا سقطت الحجب بينها وبين النُّور.
وهذا هو المسار الإلهي الذي اختاره الله (تعالى) لأنبيائه ورسله (عليهم السلام)، فلم يحملوا رسالاتهم على أنَّها أوامر قهريَّة، ولم يفرضوها على النَّاس بالقوَّة أو الإكراه؛ ولكن كانوا نماذج للرَّحمة والعقلانيَّة، قدَّموا دعوتهم بالكلمة الطيِّبة والحوار الهادئ، وفتحوا صدورهم للمخالف، وواجهوا الاعتراضات بالتَّبيين والحكمة، فكان خطابهم إلى العقل قبل العاطفة، وإلى الضَّمير قبل اللسان.
وسار خاتم الأنبياء محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) على هذا الدَّرب، فكان المعلِّم، والمربِّي، والمصلح، والمجاهد بالكلمة والقدوة. لم يرفع سيفه قبل أن يزرع في النُّفوس نور الفكرة وصدق الرِّسالة، ولم يطلب من النَّاس أن يؤمنوا قبل أن يفهموا، وصبر على أذاهم، وربَّى النُّفوس على التَّوحيد، وصحَّح المفاهيم المنحرفة، وبيَّن أنَّ الإسلام منهج حياة، ورسالة عدل ورحمة، فمهَّد بذلك الأرض لقبول الدِّين، ورسَّخ الإيمان في القلوب، وجعل من الأمَّة أمَّة تنبض بالمعرفة، والحقِّ، والكرامة.
ومن بعد استشهاد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، تسلَّم أهل بيته الطاهرون (عليهم السلام)، ومعهم ثلَّة من الصحابة الصَّادقين، مسؤوليَّة مواصلة المسيرة، فكانوا أمناء على الرِّسالة، ودعاةً بالحكمة، ومجاهدين بالكلمة والموقف، فلم يدَّخروا وسعًا في ترسيخ الدِّين في القلوب، وتعميق معانيه في العقول، حتَّى صار الإسلام نهجًا في حياة النَّاس، يهذِّب النفس، ويبني مجتمعات قائمة على العدل والمعرفة.
وقد امتدَّ هذا الجهد المبارك عبر العصور، فلم تخلُ حقبة من الزَّمن، ولا بقعة من الأرض، من وجود رجال ونساء نذروا أنفسهم للدِّين، ووقفوا سدًّا منيعًا أمام موجات التَّحريف والانحراف والتَّزييف؛ أولئك المؤمنون الواعون حملوا شعلة التَّبليغ والإصلاح، فصانوا الأمانة، وأوفوا بالعهد، وواجهوا الطُّغيان بالعلم، والضَّلال بالبصيرة، والتَّخاذل بالصَّبر والثَّبات. وبفضلهم، ظلَّت الرِّسالة نقيَّة، والهداية مستمرَّة، حتَّى وصلت إلينا كما أنزلها الله (تعالى)، محفوظة في أصولها، عالية في مبادئها، متألقة في أنوارها.
وهذا النُّور الذي بين أيدينا اليوم، وما نملكه من وعي وهداية، ويقين وإيمان، ليس إلَّا ثمرةً طيِّبة غرستها تلك القلوب التي أخلصت لله (سبحانه)، وضحَّت من أجله، وسهرت الليالي لتصنع الفجر لأمَّةٍ نامت على وسائد الغفلة.
وفي السِّياق نفسه، كان الشَّعب العراقي -في مرحلة ما بعد الاستعمار- يعيش فراغًا كبيرًا في المعرفة الدِّينيَّة والثَّقافيَّة؛ إذ خلَّف الاحتلال واقعًا مزريًا غابت فيه مقومات الوعي، وسادت فيه الأميَّة، وتراجعت فيه القيم، وتقطَّعت الصلة بين النَّاس وبين منابع الإيمان الأصيل. وفي خضمِّ هذا الظَّلام، كانت الحاجة ماسَّة إلى من يعيد توجيه البوصلة، وينهض بالمجتمع من غفوته، ويجسر الهوة بينه وبين دينه وهويته.
وهنا برز الدَّور الرِّيادي لسماحة المرجع الدِّينية الراحل السيِّد محمَّد الشيرازي (قدّس سره)، الذي انطلق بحركة إصلاحيَّة تبليغيَّة واعية، تُخاطب النَّاس، وتستهدف أعماقهم، فبدأ بزراعة الوعي وبناء الإنسان، مستنهضًا العقول، ومحركًا ضمائر الأمَّة نحو دينها وقيمها. لم يكن مشروعه يقتصر على خطاب ديني تقليدي؛ وإنَّما كان نهضة شاملة تمسُّ الفكر والسلوك، وتعيد للناس ثقتهم بأنفسهم وبإسلامهم، في مواجهة آثار التَّجهيل التي خلَّفها الاستعمار، وفتح أمام الشَّعب العراقي أبوابًا جديدة لفهم الدِّين والعمل به، بعد أن كادت تلك الأبواب توصد تمامًا في وجهه.
لقد تعمَّد الاستعمار أن يترك الشَّعب هشًّا فكريًّا، ضعيف الارتباط بدينه، كي يسهل تطويعه وقيادته، فتفشى الجهل حتَّى صار عقبة كبرى أمام نهضة الأمَّة. وهنا برز دور الإمام الشيرازي، فهبَّ كالسراج في ليلٍ مظلم، ينير الدَّرب، ويوقظ العقول، ويزرع في النُّفوس روح الوعي والإيمان، مستنهضًا بذلك طاقات الشَّعب العراقي ليعود إلى أصالته وقيمه ودوره الحضاري.
وعندما انتهى عهد النِّظام الملكي في العراق، وحلَّت محله الحكومات الانقلابيَّة المتعاقبة، لم يكن التَّغيير الذي شهده الشَّعب تغييرًا جوهريًا في مضمونه؛ وإنَّما كان انتقال سلطة من يد إلى يد أخرى، من دون أن تمسَّ يد الإصلاح الجاد جذور المشاكل التي كان يعاني منها المجتمع، وعلى رأسها مشكلة الجهل والفراغ الثَّقافي والدِّيني؛ فقد تجاهلت تلك الأنظمة العسكريَّة، بمختلف تسمياتها وشعاراتها، الاحتياجات الحقيقيَّة للشعب، وركَّزت كلَّ جهدها على ترسيخ قبضتها السياسيَّة وتقوية نفوذها، معتبرة الشَّعب أداة يمكن توجيهها أو تهميشها حسب مقتضيات السُّلطة ومصالح النُّخبة الحاكمة.
ولأنَّ هذه الأنظمة كانت تخشى وعي الجماهير وتتحسس من يقظة العقول، فإنَّها تعمَّدت، في كثير من الأحيان نشر التَّجهيل بصورة منهجيَّة. وفتحت غطاء الشعارات الرنَّانة والكلمات العاطفيَّة عن الحريَّة، والسِّيادة، والكرامة، وكانت تمارس في الواقع تزييفًا للوعي، وتلميعًا لصورة الحكم القائم، وصرفًا للأنظار عن القضايا الجوهريَّة، عبر وسائل إعلام موجّهة وخطب جماهيريَّة مليئة بالوعود الخالية من المضمون.
لقد سعت هذه الحكومات إلى تسويق مشروعها السلطوي من خلال اللعب على مشاعر الجماهير؛ لكنَّها لم تزرع فيهم وعيًا حقيقيًا، ولم تُعنَ ببناء الإنسان فكريًا أو أخلاقيًا، وكرَّست نوعًا من الانقياد الأعمى للمؤسسة الحاكمة، حتَّى صار التَّهليل للحاكم بديلًا عن المطالبة بالحقوق، والانقياد للأوامر بديلًا عن التَّفكير الحر، وكلُّ ذلك جرى على حساب بناء مجتمع واعٍ، قادر على النُّهوض والنَّقد والمشاركة الحقيقيَّة في صناعة مستقبله.
عندما تصدَّى الإمام الشيرازي لمسؤوليَّة المرجعيَّة، أدرك منذ اللحظة الأولى أنَّه أمام مسؤوليَّة كبرى تتطلَّب مشروعًا حضاريًا متكاملًا، وكان في طليعة تلك المسؤوليات: رفع مستوى الوعي الدِّيني لدى الشَّعب العراقي، الذي عانى طويلًا من التَّجهيل الممنهج والتَّهميش الثَّقافي. لقد كان يرى أنَّ الأمَّة لا يمكن أن تنهض ما لم يُزرع في وعيها بذور الإيمان العميق والمعرفة الواعية، فصبَّ كلَّ طاقاته وجهوده لتحقيق هذا الهدف النَّبيل.
لم ينتظر أن تتحرَّك المؤسسات من حوله؛ وإنَّما بادر بنفسه، وبدأ عمليَّة شاملة للتثقيف، ابتدأت من التَّأليف والكتابة، ثمَّ تلتها مراحل النَّشر والتَّوزيع، في مسار تعبوي مدروس يخاطب كلَّ شرائح المجتمع. فاختار لغة سهلة قريبة من النَّاس، يفهمها الإنسان العراقي العادي، ويشعر أنَّها تتحدث إليه وتلامس همومه وتطلعاته.
وقد أثمرت هذه الجهود المباركة، فشكَّلت كتبه ومؤلفاته أرضيَّة خصبة لنموّ الوعي الدِّيني، وغرست في النُّفوس مفاهيم الإسلام الأصيل، وشكَّلت شبكة من الأفكار التي جعلت الفرد العراقي أكثر فهمًا لعقيدته، وأشدّ ارتباطًا بمبادئه، وأكثر قدرة على مواجهة موجات الانحراف. وهكذا، كانت كتبه جبهات فكريَّة تقاتل على خطوط الوعي، وتبني الإنسان، وتعيد تشكيل وجدان الأمَّة على أساسٍ من الإيمان واليقظة والبصيرة.
وإلى جانب مهامه المرجعيَّة والفكريَّة، أسّس الإمام الشيرازي منظومة مؤسساتية متكاملة، تتولَّى مهام التَّبليغ وتنظيم الجهود الدينيَّة بطريقة مدروسة ومستدامة، فأنشأ مؤسسات تبليغيَّة ثابتة وأخرى متحرِّكة، جمعت بين التَّنظيم والمرونة، وبين العمل الميداني والتَّخطيط الاستراتيجي، لتصل الرِّسالة إلى أوسع رقعة جغرافيَّة ممكنة، داخل العراق وخارجه.
أما المؤسسات التبليغيَّة الثَّابتة، فقد شكَّلت النواة الأساسيَّة للعمل التوعوي طويل الأمد، وفي طليعتها:
1. هيئة إرسال المبلغين في الدَّاخل:
وقد تولَّت هذه الهيئة مسؤوليَّة تشخيص المناطق التي تفتقر إلى وجود مبلغين وعلماء دين، خاصَّة في القرى والنَّواحي النَّائية التي طالها الإهمال؛ فكانت ترسل المبلغ المناسب للاستقرار في تلك المناطق، وتؤمِّن له احتياجاته المعيشيَّة من خلال التَّبرعات التي تجمعها، ممَّا أتاح للمبلغين أن يتفرغوا لأداء رسالتهم من دون قلق مادي، وفتح بابًا أمام نشر الوعي في أماكن كانت بعيدة عن دوائر التَّوجيه الدِّيني.
2. هيئة إرسال المبلغين إلى الخارج:
وهي هيئة متخصصة بالتَّبليغ في الدول الإسلاميَّة، وخصوصًا في المجتمعات المسلمة في أوروبا؛ حيث الشعور بالحاجة إلى خطاب ديني أصيل وعميق. وقد تولَّت الهيئة مسؤوليَّة إرسال المبلغين إلى تلك الدول، وتحمَّلت نفقات سفرهم وإقامتهم، خاصَّة في المناسبات الدِّينية المهمَّة كشهر رمضان والأعياد. وكان هدفها إقامة الشَّعائر، وبناء جسور تواصل ثقافي بين الجاليات المسلمة ودينهم، وسط بيئات غربية.
3. هيئة شباب التَّبليغ:
وهي واحدة من أبرز المبادرات التي تجلَّت فيها رؤية الإمام الشيرازي للشباب وأنَّهم محور رئيسي في عمليَّة التَّغيير. وقد ضمَّت هذه الهيئة نخبة من الشَّباب الجامعيين الواعين، الذين تفاعلوا مع هموم الأمَّة وقضاياها، وتحرَّكوا في صفوف الطَّلبة لنشر الفكر الدِّيني بأساليب حضاريَّة معاصرة. وقد أسَّست الهيئة صندوقًا ماليًا خاصًا بتمويل مشاريعها، ممَّا منحها استقلاليَّة ومرونة في الحركة. ومن أبرز نشاطاتها: إقامة الاجتماعات الدينيَّة والحوارات الفكريَّة في الجامعات، وطباعة الكتب الدِّينية وتوزيعها في أوساط الطلبة، ممَّا ساعد على خلق بيئة فكريَّة نشطة داخل الحرم الجامعي، وجعل الدِّين حاضرًا بلغة يفهمها الجيل الجديد.
وهكذا، كانت هذه الهيئات تجسيدًا عمليًا لفكر الإمام الشيرازي في ضرورة الانتقال من الفرديَّة إلى العمل الجماعي، ومن التَّوجيه العابر إلى التَّأثير العميق المستدام، فغدت هذه المؤسسات أدوات فعَّالة في صناعة الوعي، وبثّ الروح الإسلاميَّة في أوساط مختلفة، ومواجهة حملات التَّغريب التي استهدفت المجتمع في داخله وخارجه.
التبليغ السيار:
ومن الأساليب الإبداعية التي اعتمدها الإمام الشيرازي في نشر الوعي الدِّيني وتوسيع رقعة التَّبليغ؛ التبليغ السيَّار، وهو نوع من التَّبليغ الميداني المتحرِّك الذي يستخدم وسائط نقل مجهَّزة بمكبرات الصَّوت، والكتب، والكتيبات، والمواد التَّثقيفية المتنوعة، لتصل الرِّسالة الإسلاميَّة إلى المناطق المحرومة والبعيدة، والتي غالبًا ما كانت مغفلة من جهود التَّوجيه الدِّيني. وقد مثَّل هذا النَّوع من التَّبليغ نقلة نوعية في إيصال الصَّوت الدِّيني إلى القرى والأرياف التي لم تكن تحظى بحضور مستمر للمبلغين أو المؤسسات الدِّينيَّة.
وقد أسّس الإمام الشيرازي لهذا المشروع الحيوي هيئتين متخصصتين في التَّبليغ السيَّار، وكلُّ واحدة منهما تتحرَّك ضمن نطاق جغرافي محدد، لضمان التَّغطيَّة الشَّاملة والمتوازنة:
1. هيئة التبليغ السيَّار رقم (١):
وقد اختُصّت هذه الهيئة بالعمل في القرى والأرياف التَّابعة لمدينة كربلاء المقدَّسة، فكانت تنتقل من منطقة إلى أخرى، خاصَّة في المناسبات الكبرى كزيارة الأربعين وعاشوراء، تنشر الوعي وتبعث الرُّوح الحسينيَّة في النُّفوس. وكانت نشاطاتها تشمل إقامة المحاضرات، وتوزيع المنشورات، وإذاعة الشعارات التوعويَّة عبر مكبرات الصَّوت، بما يلامس قلوب النَّاس ويوقظ وعيهم. ويُذكر أنَّ هذه الهيئة قامت، في إحدى المناسبات، بتوزيع أكثر من خمسين ألف كتاب ديني وثقافي مجانًا على شريحة واسعة من الشَّباب، في خطوة تعبِّر عن مدى حرصها على صناعة جيلٍ مثقف وواعٍ يحمل همَّ الدِّين في قلبه وعقله.
2. هيئة التبليغ السيَّار رقم (٢):
وهذه الهيئة، قد امتد نطاق عملها إلى جميع المحافظات والمدن العراقية، باستثناء كربلاء، لتكون الجناح الثَّاني الذي يُكمِّل جهود الهيئة الأولى. وقد قامت بدور كبير في إيصال المبلغين إلى المحافظات المختلفة، فضلًا عن توزيع الكتب والمنشورات، وإذاعة البيانات والإعلانات التوعويَّة على الأهالي، لا سيما في المناسبات العامَّة والظروف الاستثنائيَّة التي كانت تتطلَّب تفاعلًا جماهيريًا واسعًا مع الرِّسالة الإسلاميَّة.
لقد تحركت هاتان الهيئتان على هيئة قوافل نور في ليل الجهل، تزرعان بذور الوعي في القرى، وتغذِّيان العقول بالمعرفة، وتوقظان في النُّفوس جذوة الانتماء للدِّين والمبدأ، وكان هدفها مشروعًا رساليًّا طويل الأمد، جعل من التَّبليغ السيَّار أسلوبًا حيويًّا في مدِّ جسور التَّواصل بين العلماء والنَّاس، وبين المبلغين والمجتمعات المنسيَّة، ليصبح صوت الهداية حاضرًا في كلِّ مكان، حتَّى في أقصى زوايا البلاد.
إلى جانب الهيئات والمؤسسات التَّبليغيَّة التي أسسها الإمام الشيرازي داخل العراق، لم يغفل عن الدَّور الحيوي للمراكز الإسلاميَّة في الخارج، فعمل على إنشاء مراكز إسلاميَّة رصينة في مدن عالميَّة مثل لندن وديترويت ومونتريال ولوس أنجلوس ونيويورك، لتكون منابر نشر الدَّعوة إلى الإسلام، وخاصة بين غير المسلمين، الذين كانوا بحاجة إلى معرفة صحيحة وموثوقة عن دين الإسلام، بعيدًا عن التَّشويه والتَّزييف.
لقد لعبت هذه المراكز دورًا محوريًا في تعريف الجماعات غير الإسلاميَّة بالإسلام، من خلال تنظيم المحاضرات والنَّدوات الثَّقافية، وإقامة الفعَّاليات التي تعرِّف بالحضارة الإسلاميَّة وقيمها السامية، ممَّا ساهم في بناء جسر تواصل حضاري بين الثَّقافات، وفتح أبواب الحوار والتَّفاهم.
ومن المهام التي نهضت بها هذه المراكز أنَّها كانت حاضنة للوعي الدِّيني بين الجاليات الإسلاميَّة المقيمة في تلك المناطق، حيث تعقد الاجتماعات الأسبوعيَّة التي تجمع المسلمين حول قيم دينهم وتعاليمه، وتتيح لهم فرصة التَّجدد الاجتماعي. إلى جانب ذلك، كانت تُنظِّم المهرجانات الدِّينيَّة في المناسبات الكبرى، مثل شهر رمضان وعيد الأضحى، فتُحيي الشَّعائر وتُرسِّخ الانتماء الإسلامي في الغربة.
وقد استخدمت هذه المراكز وسائل الإعلام المتنوعة من نشر إذاعي وتلفزيوني، وصحف ومطبوعات وكتب، لتصل رسالة الإسلام إلى أوسع نطاق، وتواجه الأفكار المغلوطة والمعلومات الخاطئة التي قد تنتشر بين المسلمين وغيرهم، فتُرسِّخ بذلك الوعي والتماسك في المجتمعات الإسلاميَّة في المهجر.
وبهذه الرؤيَّة الواسعة والشَّاملة، أسَّس الإمام الشيرازي شبكة تبليغيَّة متكاملة تمتد من قلب العراق إلى أعظم مدن العالم، لتكون رسالة الإسلام متجددة، وحيَّة في وجدان كلِّ إنسان يبحث عن الحقِّ والنُّور(1).
إنَّ مسيرة الإمام الشيرازي في خدمة الدِّين والوعي هي نموذج متكامل لمسؤوليَّة الإنسان المؤمن اتِّجاه أمَّته ومجتمعه، ورؤية رائدة في كيفيَّة بناء الوعي الدِّيني والتَّثقيف الشَّامل من خلال التَّخطيط المنهجي والمؤسسات المتكاملة. وقد أثبت أنَّ الارتقاء بالأمَّة لا يكون إلَّا بسواعد الشَّباب، وقلوب المؤمنين، وأذهان المستنيرين، الذين ينقلون الرِّسالة بحكمة وبساطة، ويواجهون العقبات بعزيمة وإصرار.
إنَّ المؤسسات التَّبليغيَّة التي أسسها، والمراكز التي أنشأها، والكتب التي كتبها، وكل خطوة قام بها كانت لبنة في بناء صرح الإيمان والوعي الذي ما زلنا نستمد منه القوَّة حتَّى اليوم. وهذا يبيِّن أنَّ الرِّسالة لا تتوقف عند شخص؛ بل تستمر بأمانة حملة الرِّسالة، الذين يواصلون النِّضال من أجل أن يبقى نور الدِّين متقدًا، وقلوب النَّاس متَّحدة على طريق الحق.
فلنستلهم من هذه المسيرة المباركة العزم والهمة، ونمدّ أيدينا إلى بناء مستقبل أمَّتنا، من خلال زيادة الوعي، ونشر المعرفة، وحماية ديننا من كلِّ جهل وتزييف، حتَّى تبقى أمَّتنا قويَّة، وقلوبنا عامرة بالإيمان، وعقولنا مشعة بالنُّور والهداية؛ لأنَّ ذلك هو السَّبيل الحقيقي للنهوض، والمحافظة على الهويَّة، وتحقيق الكرامة والحريَّة الحقيقيَّة في ظلِّ عالم سريع التغيُّر وصعب العقبات (2).
* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025
http://shrsc.com
.................................................
الهوامش:
(1) ينظر: الإمام الشيرازي فكره ومنهجه ومواقفه، عبد الحليم محمَّد: ص85-ص88.
(2) للمزيد راجع المؤلفات الآتية للإمام الشيرازي (أعلى الله تعالى مقامه):
- تجاربي مع المنبر.
- عشت في كربلاء.
- إلى الهيئات الحسينية.
- خواطر وذكريات.
- التبليغ ومواصفات المبلغ.
- مقومات رجل الدين.
- ثلاثة مليارات من الكتب.
- دور الشباب في إنهاض الأمة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ ساعة واحدة
- صدى البلد
علي جمعة يكشف من هو المنافق الحقيقي
قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عبر صفحته خلال منشور جديد له عبر صفحته الرسمية على فيس بوك إن من تشرّع ولم يتحقق فقد تفسّق، ومن تحقق ولم يتشرّع فقد تزندق». وتابع: ذلك لأن الشريعة أساسٌ لا غنى عنه، وهي ابتداء الطريق، والوعاء الذي يُحمل فيه الخير. لا يصح تركها بحال، فهذه الكلمة بيانٌ لحقيقة وردٌّ لتهمة، ويجب علينا أن نُدرك موضع الصوفي السالك من هذه الحقيقة.. الزنديق وأشار إلى أن فالزنديق – في حقيقته – يُطلق على المنافق، ويُطلق أيضًا على العدمي. ومن هو هذا العدمي؟ وأوضح ان العدمي هو الذي يُظهر التديُّن ويُبطن الفساد، يصلي الفريضة وينقب الأرض. وما معنى "يصلي الفرض وينقب الأرض"؟ نوه انه كان من أشدّ أنواع السرقة والإجرام أن يستأجر أحدهم بيتًا بجوار بيت غني، ثم يبدأ في حفر نفقٍ تحت الأرض حتى يصل إلى بيت جاره لا من الباب ولا من النافذة، بل من تحت الأرض! وذلك فعلٌ شنيع يتطلّب وقتًا، وأدوات، وفنًّا، وصبرًا، وتخطيطًا. فهو مجرم محترف، متجذر في الإجرام، لا يتوب ولا يندم، ولا يرتدع، ومع هذا يصلي! فإذا ضمّ إلى إجرامه هذا رياء العبادة، كانت صلاته وسيلةً لإخفاء جريمته، وستارًا لسرقته وعدوانه، فزاد بذلك إثمًا؛ لأنه اتخذ الدين حيلةً للتدليس والتلبيس. وهذا هو معنى المثل: "يصلي الفرض وينقب الأرض"؛ أي أنه لم يرد بالصلاة وجه الله، وإنما أراد التمويه على جريمته. وهذا هو الزنديق الحقيقي؛ الإنسان المتناقض، الذي لا يندم على المعصية، ولا يرجع عنها، بل يستمرؤها ويستحلها، ويزعم أنه على خير، وأنه في مقامٍ لا يحتاج فيه إلى الشريعة، مدّعيًا أنه قد وصل إلى الله، وأن بينه وبين الله عمارًا خاصًّا يُغنيه عن الشريعة! أبدًا، هذا دجالٌ زنديق، كما نصَّ على ذلك أهل الله رحمهم الله، فقد وضعوا لنا هذه القواعد لتحصين السالكين في طريق الله من وساوس الشياطين، وبدع المبتدعين، وأهواء الضالين، الذين يريدون صرف الناس عن الله ورسوله وشريعته. وقد وقع بعض الناس في رد فعلٍ خاطئ، فأغلق باب التصوف بالكلية، سدًّا للذريعة، فسدّ على نفسه بابًا من أبواب الخير، وضيّق على قلبه موردًا من موارد الرحمة، والله سبحانه وتعالى حين أنزل الشريعة، أنزلها لتكون سبيلاً للطاعة، ومجالًا للعبادة، ومصدرًا للأنوار، وموطنًا للسكينة، ومفتاحًا للسعادة. فبها يحظى الإنسان باحترامٍ من الله، ومعاملةٍ كريمةٍ مع نفسه وربه، وقد جاء في الحديث: « إن الله يباهى بالشاب العابد الملائكة ».[أخرجه ابن السنى في اليوم والليلة، والديلمي] وكان النبي ﷺ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ ويقول: « مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ؛ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا ». فالله سبحانه وتعالى يُحب صنعته، ويخص من أطاعه بفضله، ويعلي من عباده من تحققت في قلبه العبودية الصادقة له، ولا يكون ذلك إلا ثمرة العبادة والتزام الشريعة.


النهار
منذ 3 ساعات
- النهار
لماذا يفتقدُ التشيّعُ العلامة محمد حسين فضل الله؟!
المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، شخصية استثنائية في مواقفها الناقدة للخطاب الديني السائد المبني على "الخرافة"، وتحلى بشجاعة منقطعة النظير بين أقرانه، في الحديث الصريح عن ضرورة تحرير الدين من المقدسات الزائفة، وأن لا يكون الإنسان حبيس الأزمان الغابرة، بل عليه مسؤولية أن يعمل عقله ولا يعيره لأي أحد كان! فضل الله الذي توفي قبل نحو 15 عاماً، كان يشدد على "مسؤوليَّة الإنسان في مواجهة الخرافات وتعزيز العقل"، معتبراً أن "علينا أن نقوم بثورة ضدّ الخرافات، وضدّ كلّ الأشياء التي ماتت مع الماضي". هذا الموقف لدى العلامة محمد حسين فضل الله، مرده إلى أنه كان يرقب بقلق ازدياد الخطاب الطقوسي – الغرائبي في الأوساط الإسلامية بعامة، والشيعية بخاصة. وهو خطاب ابتعد عن روح الدين وقيمه العليا وغاياته السامية التي جاء الأنبياء من أجل تحقيقها، وراح يركز على الهامش، بل هامش الهامش، مبتكراً ممارسات لا علاقة لها بالدين، ومانحاً إياها هالة قدسية، تكبر شيئاً فشيئاً مع السنوات، وتستحيل وكأنها جزء من الشريعة، وهنا مكمن خطرها! في آخر زيارة للمرجع فضل الله في مكتبه في ضاحية بيروت الجنوبية، قُبيل وفاته ببضعة أشهر، كان في حديثه إليّ مع الصديقين منصور النقيدان وحبيب آل جميع، صريحاً، مبدياً قلقه من سطوة التخلف الذي يتمدد، ومستفيضاً في حديثه عن عظم الخطر الحاصل نتيجة سكوت المرجعيات الدينية عن الممارسات غير العقلانية التي يقوم بها رهطٌ من الأتباع. لقد كان فضل الله يؤمن بـ"الصدمة" كمنهجية للتغيير في العديد من المفاصل، وفي التفكير الماضوي لكي تخلخل بنيانه الصلب، وتدفع العقل نحو التفكير الحر. لا بد من أن تحدث صدمة لدى المجتمع، تقوده إلى الاستفاقة، والسؤال تالياً، وبالتالي الخروج من سيطرة الدعاة المروجين للخرافة والجهل. في الزمن الحاضر، وإذ تنتشر مئات الفيديوات في وسائل التواصل الاجتماعي، لدعاة يروّجون لأساطير باسم الدين، أو يحثون على طقوس غير عقلانية باسم الشعائر الحسينية، وسط هذه الكثافة من الخطاب التسطيحي، يفتقد التشيعُ شخصية برجاحة عقل السيد محمد حسين فضل الله وجرأته وصراحته، هو الذي كان يشير إلى موضوع الخلل من دون خوف من أن يفقد جمهوره، أو أن يكيد له الخصوم! هنالك كثيرٌ من العلماء اليوم يرفضون بصمتٍ الممارسات الرثة باسم "عاشوراء"، والغلو في الخطاب الحسيني، إلا أنهم لا يقفون بشجاعة في مواجهة هذه الظواهر التي تختطف التشيع وتحوله إلى مجرد مذهب طقوسي، على خلاف ما جاء في سيرة أئمة آل بيت النبي محمد، والذين كانت العديد من أحاديثهم تحث على إعمال العقل والتبصر والبعد عن الغلو. العامةُ اليوم، والجمهور الغفير، صارت لهم سطوتهم التي يخشاها العلماء، لذا، لزمَ العديد من الفقهاء الحياد السلبي، وتركوا لأصحاب الخطاب التجيهيلي أن يمتطوا صهوة المنابر الحسينية، من دون مساءلة أو وضع حدود تحفظ الدين من الرثاثة التي يروج له هؤلاء الدعاة! الأدهى، أن هنالك فقهاء يتبنون هذه الخطابات، ويستندون إلى أحاديث ضعيفة أو موضوعة، من دون التثبت من سندها، مغفلين الكليات الكبرى للدين والعقل. هنالك شريحة واسعة من المسلمين الشيعة، ترفض هذه الخطابات التجهيلية، وتشمئزُ منها، وتنتقدها في المجالس الخاصة، وهنالك مثقفون وعلماء تحدثوا صراحة عنها في وسائل الإعلام؛ إلا أن صوت هؤلاء خفيض، والحاجة ماسة لفقهاء كبار مثل العلامة محمد حسين فضل الله، كي يعيدوا الاعتبار لمعنى الدين الإسلامي ومكانة العقل، ويحرروا التشيع المختطفَ من ربقةِ الخطباء والمنشدين القليلي العلم، المحدودي الخبرة، والفاقدين للبصيرة.


شبكة النبأ
منذ 5 ساعات
- شبكة النبأ
الامام الحسين والعلاقة بين الإصلاح والصلاة
إقامة الصلاة بشكل طوعي مع الشوق والحب والالتزام الدائم، تخلق حالة من القوة الذاتية بإمكانية إنجاز أي عمل على أحسن وجه، لأن ثمة قدرة لا متناهية تكون مع المصلي والذي سيحظى بصلة مباشرة مع هذه القوة القاهرة عندما يسجل حضوره الدائم... "أشهد أنك قد أقمت الصلاة". من الزيارة السابعة للإمام الحسين، عليه السلام، (زيارة وارث) الفساد والانحراف والتضليل، مفاهيم لها وجود في الذهن، ثم تخرج الى الواقع الخارجي في تطبيقات عملية، فنراها متجسدة في أفراد، كما نجدها في جماعات، فاذا عقدت النية على مكافحة هذه المفاهيم السلبية والضارة علينا شحذ مفاهيم تقف بالضدّ منها لمحاربتها على الصعيد العملي، كما الحال في البكتريا النافعة التي تقمع نظيرتها الضارة في جسم الانسان، وهذا مثال للتقريب. ففي ساحة المعركة يوم العاشر من المحرم، كان جيش ابن سعد يرى في الامام الحسين مقاتلاً ضد النظام الأموي الجائر، ومعارضاً لشخص يزيد بأن يتولى منصب خلافة رسول الله، والتحكم بمصائر المسلمين، وأنه يرى نفسه الأجدر، فالقضية في كربلاء سياسية بأدوات عسكرية، ولم يدر في خلدهم لحظة واحدة أن الامام الحسين إنما يقاتل ويضحي بنفسه وبأهل بيته لأمر آخر أوسع بعداً مما يعيشونه في لحظتهم الراهنة، علماً أنه، عليه السلام، أعلنها جهاراً نهاراً بأني "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، ولكن؛ ربما لم تطرق اسماعهم هذه الكلمة، كما هي اليوم تدوي في الآفاق، أو سمعوها ولم يعوها، في كل الاحوال، غابت عنهم حقيقة أراد الامام الحسين تجسيدها في ميدان المعركة يوم عاشوراء، بأن الاسباب التي جعلتهم يفقدون كرامتهم وحريتهم، يمكن ازالتها ومعالجتها قبل فوات الأوان. رسالتين بعثها الامام الحسين، عليه السلام، لأهل الكوفة المتجحفلين تحت إمرة ابن سعد والشمر وأشباههما، هما: طلب تأجيل المعركة من ليلة العاشر من المحرم الى نهارها، فأرسل أخاه العباس، عليه السلام، "فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشية، لعلنا نصليّ لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والإستغفار"، ولابد أن تناهى هذا الطلب الى أسماع بعض او جزء كبير من تلك الجحافل، بأن الامام يطلب تأجيل القتال ليصلي الى ربه ويتلو القرآن الكريم، والرسالة الثانية: أداء الصلاة وسط المعركة، فيما كانت السهام تنهال على معسكر الامام في لحظات لا توصف. التضحية من أجل الصلاة أم من أجل مكافحة الفساد؟! بما أن الغاية النهائية للحركة الحسينية المعارضة؛ الإصلاح في الأمة، وإعادة الروح الدينية الى كيانها من خلال "آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، فمن أرقى وأسمى معالم الدين وأكثر حيوية؛ الصلاة التي نعرف قيمتها من القرآن الكريم: {تنهى عن الفحشاء والمنكر}، ومن حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله: "الصلاة عمود الدين"، وأي قائد اليوم يعيش حالة مواجهة على الصعد كافة؛ سياسياً واقتصادياً، ومخابراتياً، وتكنولوجياً، يوظف كل طاقاته ووقته لتوجيه الضربة الناجحة للعدو، ولن يفكر بشيء اسمه: الصلاة، لسبب بسيط جداً؛ "بالإمكان الاتيان بها لاحقاً"، أو "ثمة وقت متاح للصلاة، بينما لا وقت أمام الخصم"، بينما يغيب عن ذهن البعض أن الفساد والانحراف والمحاصصة السياسية وغيرها من المساوئ في المجتمع والدولة، كلها ذات تنبع من مجانبة الدين وأحكامه ونظمه، كما كان الحال عليه في عهد الامام الحسين، وفي يوم عاشوراء، "فالامام الحسين قد أقام الصلاة بتضحياته الجسام، وباستقامته وصلابته في طريق الحق، وواجه المستبدين كافة، وإن كانوا قد تجسدوا في يزيد الذي كان يلعب بالقرود، ويشرب الخمور، ويحاول أن يحطم عُرى دين الله، عروةً عروة". (الامام الحسين وفروع الدين- آية الله السيد مرتضى الشيرازي)، بما يعني أن صلاة الامام الحسين وسط ميدان المعركة، رسالة الى الأمة والى الأجيال بأن هذه الصلاة هي الجسر الوحيد المؤدي الى الإصلاح الحقيقي لكل ما تعانيه من أزمات ومشاكل ومحن، ومن لا يجد في نفسه القوة للتضحية من اجل الصلاة، بوقته –على أقل التقادير- كيف له الإدعاء بقدرته على محاربة الفساد والظلم، وهي مواجهة محتدمة بالحديد والنار؟ من هنا يعملنا الامام الصادق، عليه السلام، في زيارته لجدّه الامام الحسين، بأن نتذكر دائماً هذه القاعدة الاساس في عملية الإصلاح والتغيير عندما نشهد في قراءتنا للزيارة بأن "أشهد أنك قد أقمت الصلاة"، وقد بحث في هذه الجملة القصيرة، العديد من العلماء، المضامين والابعاد الواسعة لمسألة "الشهادة" من الزائرين على مر الزمن. والغريب حقاً أن نسمع هذه الايام بأن إقامة الصلاة في الدوائر الرسمية، او في الجامعات او في الاسواق، مدعاة لتضييع حقوق الناس! بدعوى أن البعض يتخد من وقت الصلاة فرصة للتهرّب من أداء مسؤوليته وأمانته في عمله، ثم يربطون بين هذا التصرف الشاذ، وبين الفساد! متناسين –ربما عن غير قصد- الاسباب المعروفة والمؤثرة بشكل مباشر في نشوء وانتشار هذا الداء الوبيل. وحسناً قال رئيس وزراء إحدى الدول الاسلامية في دعوته لإقامة الصلاة في الدوائر الرسمية، بأن "البعض يقول للصلاة عندي عمل، وأنا أقول للعمل عندي صلاة"! وهذا تجسيد لأحد أبرز قيم النهضة الحسينية في حياتنا اليومية لمن يريد تحقيق الإصلاح ومحاربة الفساد والتخلص منه الى الأبد. وهذا يعني تهديد مصالح الفاسدين في المجتمع والدولة، لذا نرى محاولات غير مباشرة عديدة للتقليل من أهمية الصلاة في المدرسة، والجامعة، والسوق، والدوائر الحكومية، فما الضير في أن يؤدي الناس صلاة الفريضة في أي دائرة حكومية عندما يحين وقتها، وهي لا تأخذ من الوقت سوى دقائق معدودة؟ إقامة الصلاة بشكل طوعي مع الشوق والحب والالتزام الدائم، تخلق حالة من القوة الذاتية بإمكانية إنجاز أي عمل على أحسن وجه، لأن ثمة قدرة لا متناهية تكون مع المصلي والذي سيحظى بصلة مباشرة مع هذه القوة القاهرة عندما يسجل حضوره الدائم، كما يسجل الكثير حضورهم الدائم في ديوان عشائري، او مكتب لشخصية مرموقة لها شأنها في انجاز معاملات وقضاء أعمال، او حتى الحصول على منافع مادية، فهل إن هؤلاء أكثر قوة وقدرة من الله –تعالى-؟! أم أن الغفلة بسبب دوامة الازمات والمشاكل هي التي تبعد الانسان عن حقائق واضحة في الحياة؟