
سرقة الدولة العراقية من قبل الميليشيات المسلحة: السُبل نحو مغادرة العسكرة والعودة إلى المدنية والعدالة الاجتماعية!وليد الحيالي
سرقة الدولة العراقية من قبل الميليشيات المسلحة: السُبل نحو مغادرة العسكرة والعودة إلى المدنية والعدالة الاجتماعية!
بقلم: البروفيسور وليد الحيالي
⸻
مقدمة: بين اختطاف الدولة وضياع المواطن
حين تُختطف الدولة، لا يُسرق المال العام فحسب، بل تُسرق معها كرامة المواطن، وإرادته، ومستقبله. لقد مرّ العراق بتجربة مريرة بعد عام 2003، لم تتمثل فقط في انهيار البنية التحتية أو تفكك المؤسسات، بل في ما هو أخطر: تحوّل الدولة إلى فريسة بيد الميليشيات المسلحة، التي أدارت البلاد كغنيمة، لا كوطن. كُسر العقد الاجتماعي، واستُبدلت الدولة القانونية بدولة الرعب والولاء الطائفي، وأصبحت الميليشيات هي الحاكم الحقيقي، تدير الاقتصاد، وتتحكم بالسياسة، وتقرر مصير البلاد من وراء ستار.
⸻
أولًا: ملامح هيمنة الميليشيات وسرقة الدولة
1. تغلغل الميليشيات في مؤسسات الدولة
لم يعد خافيًا أن وزارات سيادية، كمثل وزارة الداخلية، أصبحت في كثير من الأحيان تحت إدارة غير مباشرة من قادة ميليشيات، سواء عبر تعيينات حزبية، أو شبكات فساد تمتد من أصغر موظف إلى أعلى مسؤول.
وقد رُصدت حالات عديدة – موثقة في تقارير محلية ودولية – تُظهر كيف أن العقود الحكومية الكبرى، من استيراد الكهرباء إلى مشاريع البنية التحتية، تُمنح لشركات مملوكة لأذرع ميليشياوية، تُدار من الخارج أو من 'المنطقة الخضراء' ذاتها.
مثال: في محافظة البصرة، تم منح عقود تنظيف المدينة لشركات مرتبطة بفصيل مسلح نافذ، رغم فشلها المتكرر في تنفيذ التزاماتها. حينما حاول المحافظ تغيير الشركة، قوبل بالتهديد المباشر.
2. الاقتصاد الموازي والابتزاز المنظم
من المنافذ الحدودية إلى تجارة العملة، تمكّنت الميليشيات من بناء اقتصاد غير رسمي يُدر لها ملايين الدولارات شهريًا.
لقد تحولت السيطرات الأمنية إلى نقاط جباية، وأصبح التجّار يدفعون 'الخاوة' لعبور البضائع، في مشهد يُذكّر بقطاع الطرق لا بمؤسسات دولة.
مثال واقعي: تقارير رسمية أشارت إلى أن منفذ مندلي الحدودي، قبل السيطرة عليه من قبل الجيش، كان يدرّ ما يقارب 30 مليون دولار شهريًا لجهة مسلحة، دون دخول هذه الأموال إلى خزينة الدولة.
3. تحكّم الميليشيات في القرار السياسي
ليس غريبًا أن نسمع سياسيًا يقول: 'لن يُمرر القانون ما لم توافق عليه الجهة المسلحة الفلانية'. لقد أصبح البرلمان مسرحًا للتمثيل فقط، أما القرار الفعلي، فمحلّه اجتماعات سرّية بين قادة الفصائل والوسطاء الإقليميين.
هذا الواقع ضرب أساس الديمقراطية، وأفقد المواطن الثقة بالعملية السياسية.
شاهد تاريخي: في احتجاجات تشرين 2019، تم تقديم أكثر من 70 اسمًا لمرشحين مستقلين لرئاسة الوزراء، لكنهم رُفضوا جميعًا من قبل 'السلطة الخفية'، ليُفرض لاحقًا رئيس وزراء يضمن عدم المساس بالبنية الميليشياوية.
4. قمع المجتمع المدني وإسكات الأصوات
لقد دفعت الحركات المدنية ثمنًا باهظًا. فمن مقتل هشام الهاشمي إلى اختطاف سارة طالب فلاح، مرّت الميليشيات برسالة واضحة: لا صوت يعلو فوق صوت السلاح.
بل وصل الأمر إلى إنشاء 'جيوش إلكترونية' تهدف إلى تشويه المعارضين، والتضليل الإعلامي، وترويج خطاب التخوين والطائفية.
⸻
ثانيًا: كيف نغادر العسكرة نحو دولة مدنية؟
1. تفعيل المواد الدستورية ذات الصلة
• المادة 9 من الدستور العراقي تنص صراحة على حظر تكوين ميليشيات خارج إطار القوات المسلحة.
• المادة 5 تؤكد أن السيادة للقانون والشعب، لا للأحزاب أو الفصائل.
لكن ما لم يُفعّل هذا النص ويُترجم إلى إجراءات واقعية، سيبقى 'حبراً على ورق'. يجب أن تبدأ العملية بتعديل قانون الحشد الشعبي، وتحويله إلى قوة نظامية ذات قيادة موحدة، وتخليصه من أي انتماءات حزبية أو طائفية.
2. إصلاح القضاء ودعمه
• يجب أن يُعاد بناء مجلس القضاء الأعلى على أسس مهنية مستقلة.
• لابد من إقرار قانون 'حماية الشهود والمبلغين'، خاصة في ملفات الفساد والاغتيالات.
• تفعيل محكمة خاصة للعدالة الانتقالية، تُحاسب من تورّط في قتل المتظاهرين وسرقة المال العام.
3. دعم الدولة المدنية عبر التعليم والمجتمع
• إدراج 'التربية المدنية' كمادة أساسية في جميع المراحل الدراسية.
• دعم الإعلام المستقل وتأسيس هيئة وطنية لحمايته.
• تمكين النقابات والاتحادات المدنية لتكون صوتًا حقيقيًا للمواطن.
⸻
ثالثًا: العدالة الاجتماعية كجوهر للمشروع الوطني
لا يمكن بناء عراق مدني بدون عدالة اجتماعية حقيقية. الفقر، البطالة، التهميش، جميعها أدوات تُستخدم لتغذية التطرف والطائفية.
إعادة التوازن يبدأ من:
• إصلاح النظام الضريبي لجعله عادلًا وتقدميًا.
• توجيه عوائد النفط نحو الخدمات العامة بدل الرواتب السياسية والامتيازات الخاصة.
• إطلاق مشروع 'الضمان الاجتماعي الشامل' الذي يضمن للمواطن حقه في السكن، التعليم، والصحة.
⸻
خاتمة: هل من أمل؟
نعم، رغم ظلمة الواقع. لأن الشعوب لا تموت، والمجتمعات الحية دائمًا ما تجد طريقها إلى النور.
لقد واجه العراق استعمارًا، دكتاتورية، حربًا أهلية، وها هو يواجه الآن استلابًا داخليًا أخطر من كل ما سبق. لكنه – في كل مرة – يثبت أنه قادر على النهوض.
نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، تُعيد فيه الدولة الاعتبار للمواطن، ويستعيد فيه المواطن ثقته بدولته. لا مكان للميليشيا في دولة القانون، ولا وجود لعدالة بظل السلاح.
لقد آن الأوان للعراق أن يتحرّر من خاطفيه، ويعود إلى شعبه.
2025-05-29

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ساحة التحرير
منذ 2 ساعات
- ساحة التحرير
أوهن من بيت العنكبوت… حين يسقط الكيان من لحية حريدي!نضال بن مصباح
أوهن من بيت العنكبوت… حين يسقط الكيان من لحية حريدي! بقلم:نضال بن مصباح من كان يظنّ أن سقوط كيانٍ عسكري نووي سيبدأ من قاعة تلمودية؟ ومن كان يتخيّل أن جيشًا يفاخر بقنابل الذكاء الاصطناعي، سيرتعد أمام لحية تلميذ حريدي لا يميّز بين البندقية والملعقة؟ هذه ليست حبكة درامية، بل مشهد حيّ من مسرحية عبثية، بطلها نتنياهو، يصفّق فيها الحريديم، بينما الدولة تحترق من الداخل… لا بصواريخ 'حماس'، بل بخناجر من يسمّون أنفسهم 'شعب الله المختار'. في مشهد لا يكتبه إلا قلم العدالة الإلهية، يقف نتنياهو اليوم في زاوية ضيقة، يصرخ باسم 'الأمن القومي'، بينما ترد عليه الجوقة بلغة المال والمكاسب: 'ادفع لنا، نعفي أبناءنا من القتال!' نعم… في دولة تحتل أرضًا وتتفاخر بقوتها، هناك طائفة تُدعى الحريديم: لا تخدم في الجيش، لا تعمل، لا تُنتج… لكنها تتقاضى رواتب من الدولة التي تحميها. بل وتهدّد بإسقاط الحكومة إن فكّر أحد في إجبار أبنائها على حمل السلاح! في البداية، كان الأمر انتخابيًا بحتًا. تم إنشاء 'الـيشيفا'، وهي معاهد لتعليم التلمود، كوسيلة لجذب أصوات الحريديم. ومع الوقت، تحوّلت إلى منجم ذهب لكل سياسي يطلب مقعدًا. كل طفل حريدي يُولد، تزيد المعونات. وكلما زاد الدعم، انخفض التجنيد. ومع صعود الليكود عام 1977 بقيادة بيغن، ثم لاحقًا نتنياهو، أصبحت اليشيفا أداة سياسية: إعفاء من الجيش مقابل دعم انتخابي. وهكذا، صار التخلف عن الخدمة العسكرية حقًا مقدسًا، والمسّ به إعلان حرب داخلية. وفي مارس الماضي، بينما كانت صواريخ غزة تمزّق سماء الكيان، قررت حكومة نتنياهو اقتطاع أكثر من 814 مليون دولار من وزارات التعليم والصحة… لكنها أبقت دعم الحريديم كاملًا، بل وزاد: 351 مليون دولار لمعاهد يشيفا، 32 مليونًا للمؤسسات الحريدية، 10 ملايين لحملات منع الطلاب من مغادرة اليشيفا، إضافة إلى تخفيضات وسكن وضرائب ومواصلات. هكذا أصبح 'ابن اليشيفا' هو النموذج المثالي لكل حريدي: لا جيش، لا وظيفة، فقط مال وفَتاوى تقول له: 'ابقَ في البيت، واترك القتال لأغبياء الصهاينة.' اليوم، يسقط نتنياهو سياسيًا. يتراجع في استطلاعات الرأي، يتفتت ائتلافه، وتعلو الأصوات من داخله: 'نتنياهو هو المشكلة… كل وعوده كذب.' صحيفة يديعوت أحرونوت تنقل غضبًا متصاعدًا من حزب 'يهدوت هتوراة'، بينما حزب 'شاس' يهدد بالانسحاب إذا تم اعتقال أي طالب يشيفا. وفعلًا، بدأت الشرطة العسكرية باعتقال بعض الرافضين للخدمة، فانفجر الشارع الحريدي، وسقطت الأقنعة. لم تعد القبة الحديدية وحدها تخذلهم… بل حتى قبة البرلمان تهتز تحت أقدام الحاخامات. ما لا يدركه كثيرون أن الحريديم ليسوا فقط عائقًا أمام التجنيد، بل صاروا رأس حربة في تقويض المشروع الصهيوني من الداخل. هم لا يعترفون بالدولة أصلًا، بل يرون في قيام 'إسرائيل' خطيئة دينية يجب إزالتها. فأي جيش تطلب منهم الالتحاق به؟! بل من الأصل: ما معنى دولة لا يؤمن بها جزء من سكانها، يمتصّها ماليًا، ويهدّد وجودها من الداخل أكثر من أعدائها في الخارج؟! أما نتنياهو، فقد خسر حتى أوراقه الخارجية. لم تعد أمريكا تركّز عليه في ملف التهدئة مع اليمن. المفاوضات تُفتح مع 'حماس' من خلف ظهره، وملف طائرات F-35 يعود إلى الطاولة مع تركيا. التفوّق العسكري الذي كان 'خطًا أحمر' يتآكل ببطء… من الداخل، لا من الجبهة. وهنا، تصدق الآية: ﴿تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتّى﴾ ما نراه ليس دولة، بل 'ييشيفا كبيرة' يقودها سياسي كاذب، وجنود مأزومون، وحاخامات يفاوضون على ثمن عدم الخدمة العسكرية. لا حماس تحتاج قذائف جديدة، ولا اليمن بحاجة إلى صواريخ إضافية… فقط نفسٌ أطول، وسينهار الكيان من الداخل… من البطن الناعم، من طائفة تُهدد وجوده أكثر من أعدائه. وصدق الشهيد القائد السيد حسن نصرالله حين قال: 'إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت.' نعم… أوهن من بيت العنكبوت، وكأن السيد، في لحظة تجلٍ، قرأ الصفحة الأخيرة من هذا الفصل… وأخبرنا بها قبل أن تبدأ الحكاية. من الحريديم إلى الهيكل، من اليشيفا إلى الكنيست… كل شيء يتصدّع. لا لأن المقاومة أطلقت الرصاصة، بل لأن أركان البيت من ورق: سقفه توراة محرفة، وقاعدته كذبة، وأهله مجموعات متناحرة. وإذا كان هذا هو البيت، فخيوط الزوال داخله… تنتظر فقط من ينفخ. وقد بدأ النفخ، والبيت يتهاوى. 2025-05-31 The post أوهن من بيت العنكبوت… حين يسقط الكيان من لحية حريدي!نضال بن مصباح first appeared on ساحة التحرير.


شفق نيوز
منذ 3 ساعات
- شفق نيوز
خلافات ترامب وماسك تندلع علناً في الشرق الأوسط
شفق نيوز/ كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال"، يوم السبت، عن تفاصيل جديدة للخلافات بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والملياردير إيلون ماسك بشأن، مشيرة إلى وجود شكوك وإحباط بشأن خفض الإنفاق. ونقلت الصحيفة الأمريكية، عن مسؤولين ومصادر مطلعة، أن الرئيس ترامب سأل مستشاريه مؤخراً عن وعد إيلون ماسك بخفض إنفاق الحكومة بنحو تريليون دولار، متسائلاً عما إذا كان ماسك سيقترب يوماً من تلك التخفيضات. وأشارت الصحيفة إلى وجود إحباط وشكوك لدى ترامب ومساعديه بشأن فترة ماسك المضطربة في الحكومة. وأضافت المصادر أن الخلافات بين ترمب ومساعديه وإيلون ماسك ظهرت إلى العلن في الشرق الأوسط وفي اجتماعات الوزراء. كما أفادت المصادر بأن ترامب علم بتوقيت رحيل ماسك عن الحكومة عندما كتب ماسك ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي.


وكالة أنباء براثا
منذ 6 ساعات
- وكالة أنباء براثا
هل سلاح حزب الله غير شرعي؟ ومن هي الدول القادرة على مدّ الشيعة بمليار دولار سنويًا؟
حضرات السيدات والسادة البداية: هذا الكلام غير موجّه إلى فئة أو طائفة أو حزب، بل هو توصيف لواقع يجب أن يطّلع عليه الجميع. لأن الفكرة الأساسية التي تسعى إليها إسرائيل من خلال عملية نزع سلاح حزب الله بالقوة، أو حتى عبر الضغط الأميركي على بعض الأفرقاء السياسيين، هي الوصول إلى هذه النتيجة. الفكرة ببساطة: كما أنك عندما تهدم منزلًا لبناء آخر جديد تحتاج إلى مساحة فارغة ترمي فيها الركام القديم، كذلك في مشروع 'الشرق الأوسط الجديد' هناك الكثير من الركام البشري، وهنا المقصود الأقليات الدينية والفلسطينيون، الذين يجب أن يكون لهم مكان يُوضَعون فيه. والأرض التي يُعتقَد أنها مهيّأة لتكون تلك المساحة التي يُسكَن فيها كل هؤلاء، هي لبنان. ولكي يتحقق هذا المخطط، يجب أن يدخل لبنان في الفوضى. أما المدخل إلى الفوضى، فهو الصراع حول سلاح حزب الله بدل التفاهم على استراتيجية تعالج هذا السلاح. حضرات السيدات والسادة في أعراف السياسة الدولية، لا يُقاس الخطر بحجم الضجيج، بل بعمق العمل في صمت. ومن هذا المبدأ، لا أجد حرجًا في القول إن الخطاب الذي يصدر أحيانًا عن بعض الجهات اللبنانية بشأن سلاح حزب الله، هو خطاب شعبوي بامتياز. حتى بعض الجهات التي تعتقد أنها تدافع عن سلاح الحزب، تقع بدورها في فخ الشعبوية. كل هذا الضجيج لا يرقى إلى مستوى النقاش الوطني المسؤول، ولا يستند إلى معايير سيادية ووطنية، أو حتى واقعية. ومع كل التباينات، نراهن على أن هذه الجهات، بحكم موقعها السياسي، تملك من الرؤية والمسؤولية ما يؤهّلها لتقديم طرح وطني متكامل، بعيدًا عن الانفعالات الإعلامية. إذ إنّ محاولة نزع سلاح مقاومة حملت عبء الدفاع عن الوطن في أصعب اللحظات، وبدعم من قرارات حكومية وتفاهمات أُقرت في الأمم المتحدة بعد عام 1996، هي مقاومة شملتها البيانات الوزارية ونالت شرعية الدولة نفسها. أما الذهاب إلى نظرية نزع سلاح حزب الله، في ظل ظروف إقليمية معقّدة، تُعيد تشكيل خرائط الكيانات وتستهدف الأقليات في وجودها، بينما إسرائيل تعاود احتلال أجزاء من لبنان وتغتال ابناء الطائفة الشيعية وتعتدي يوميًا حتى لمجرد الشبهة، فهذا ليس نقاشًا وطنيًا بل وصفة جاهزة لتقسيم لبنان إلى الأبد. فإضعاف أي مكوّن لبناني من دون تفاهمات شاملة، شبيهة بما جرى في اتفاق الطائف، يفتح الباب أمام فتنة لا تبقي ولا تذر. وحين يُقال إن سلاح حزب الله غير شرعي، نسأل: ماذا نقول عن آلاف الشهداء الذين سقطوا لتحرير الجنوب من الاحتلال؟ هل سقطوا في معركة 'خارج القانون'؟ هل أمهات الشهداء وعائلاتهم، التي تعيش على الدعم الشهري المباشر من الحزب، يجب أن تُدرج ضمن 'ضحايا الفوضى'؟ هذا المنطق ليس قاسيًا فحسب، بل خطير، لأنه يطعن في التاريخ الرسمي اللبناني منذ عام 2000، ويشكك في الميثاقيات الوطنية التي أجمعت عليها الحكومات، من 'عيد التحرير' الذي أقرته الدولة اللبنانية، إلى ثلاثية 'الجيش والشعب والمقاومة'. ولنفترض جدلًا أن المجتمع الدولي والدول المانحة تطالب بنزع سلاح حزب الله، وتعتبره تنظيمًا غير شرعي، فهل هي مستعدة حرفيًا لتحمّل ما يعنيه ذلك ماليًا واجتماعيًا؟ لا يمكن الحديث عقلانيًا عن مصير السلاح، من دون التوقف عند البنية الاجتماعية والاقتصادية التي يقوم عليها الحزب. نحن لا نتحدث فقط عن السلاح، بل عن شبكة دعم اجتماعي تصرف أكثر من 50 مليون دولار شهريًا على عائلات الشهداء والجرحى والمقاتلين والمتفرغين، فضلًا عن مؤسسات خيرية تقدّم خدمات مجانية لأكثر من 400 ألف مواطن. من سيتكفّل بهذه الكلفة الهائلة التي تتجاوز مليار دولار سنويًا؟ • هل الدولة اللبنانية قادرة؟ لا. • هل واشنطن وباريس مستعدتان؟ أبدًا. • هل تُترك هذه العائلات في العراء، وتتحوّل من سند للوطن إلى ضحايا لانهيار اجتماعي شامل؟ إذا كان الجواب 'نعم'، فنحن أمام انهيار لن يطال الجنوب والضاحية والبقاع فحسب، بل سيمتد على مساحة الوطن. الخطأ السياسي لا يدفع ثمنه شخص، بل الشعب، الكيان، الوطن، بل الخطر على علة الوجود اللبناني نفسه. وقبل أي نقاش عن نزع السلاح، نطرح سؤالًا بسيطًا وجوديًا: من يضمن أمن قيادات حزب الله ومقاتليه بعد نزع سلاحهم؟ هل نثق بهذه الدول التي عجزت عن ضمان أمن لبنان من اعتداءات إسرائيل اليومية؟ هل نطمئن لحماية أممية فشلت في تنفيذ القرار 425 لعقود؟ حضرات السيدات والسادة، ما يتمثل أمامكم في هذا الملخص من خطر هو فقط الجانب الاقتصادي، فكيف إذا أكملتُ لكم ما قد ينتج عن انهيار دراماتيكي قد يُطيح بكل شيء، حتى داخل المؤسسات الرسمية اللبنانية؟ في الختام، الشيعة هم جزء طبيعي وأصيل من مؤسسات الدولة. وإذا شعر أبناء الطائفة الشيعية، أو أي طائفة أخرى، بأن وجودهم مهدَّد، فمن الطبيعي أن يلتفّوا حول طائفتهم، فالتآمر الدولي لا يرحم. حتى الموارنة أنفسهم، حين تآمرت عليهم الولايات المتحدة الأميركية بالتوافق مع حافظ الأسد، سُحبت منهم الصلاحيات، وغُيّبت قياداتهم السياسية، وهاجر من الوطن أكثر من 40% من أبنائهم، ولفترة طويلة حكم الموارنة زعماء مسيحيون من غير الموارنة. فهل يمكن أن نتخيل حجم الفوضى، التي قد تصيب لبنان إذا لم تتدخل الحكمة الوطنية في مسألة مقاربة سلاح حزب الله؟ وفي المقابل، من سيربح من كل هذه الفوضى التي قد تدخل لبنان في نفق لعقود قادمة؟ إنها إسرائيل. اذا كانت القوى اللبنانية والدول حريصة فعلًا على لبنان، فلتكن خطواتها ضمن رؤية وطنية شاملة، تعيد بناء الدولة على أسس جديدة، وتضع آلية انتقالية تعترف بالمراحل السابقة دون إنكارها. فالحكم استمرارية، والطعن بشرعية قرارات سابقة يفتح الباب للطعن بكل شيء صدر عن الدولة منذ الطائف حتى اليوم. الرؤساء الهراوي، لحود، سليمان، ميشال عون… هل وصفوا يومًا سلاح المقاومة بأنه غير شرعي؟ رؤساء الحكومات، من الشهيد رفيق الحريري إلى نجيب ميقاتي، هل أصدروا يومًا بيانًا يقول بذلك؟ حتى في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، جاء في البيان الوزاري 2008: 'تعتبر الحكومة أن المقاومة اللبنانية هي تعبير صادق وطبيعي عن الحق الوطني للشعب اللبناني في تحرير أرضه والدفاع عن كرامته…' أما تفاهم نيسان 1996، فقد رعته الأمم المتحدة، وعنونته الصحافة العالمية بقولها: 'الحريري رجل الدبلوماسية الأبرز عالميًا'، وهو بمثابة اعتراف دولي بشرعية حزب الله. عيد المقاومة والتحرير في 25 أيار، الذي يُحتفل به رسميًا تحت رعاية مجلس الوزراء، هو تتويج لهذه الشرعية. بل إن مشاركة الرئيسين لحود ورفيق الحريري في الاحتفال الرسمي بذلك العيد هي ذروة الشرعية السياسية لسلاح المقاومة. فهل السلاح غير شرعي؟ الجواب واضح: لا. ولا يمكن لأي طرف أن يقول بذلك إلا إن كان يقصد الطعن بالدولة نفسها وبكل مؤسساتها وذاكرتها. لكن، في الوقت ذاته، من المشروع تمامًا، بل من الواجب، أن نسأل: هل هذا السلاح بحاجة إلى إعادة تنظيم ضمن مقاربة سيادية جديدة؟ الجواب أيضًا: نعم. فالزمن تغيّر، التحالفات تبدّلت، والعدو نفسه يعيد رسم قواعد الاشتباك. ولهذا، فإنّ أي رجل دولة حقيقي لا يمكنه أن يغضّ الطرف عن ضرورة تطوير هذا السلاح – لا عسكريًا فقط، بل استراتيجيًا – ليصبح جزءًا من منظومة دفاع وطني تُقرّها الدولة وتحتضنها، لا أن تنكرها أو تنبذها. خاتمة: لا أحد ينجو بمفرده قد يتوهم البعض أنّ الضغوط الاقتصادية أو الحرب الإعلامية يمكنها أن تؤدي إلى نتائج سياسية. لكن الحقيقة أن انهيار الهيكل لن يستثني أحدًا. ومن يعتقد أنه قادر على بيع الوطن فوق ركام شريحة لبنانية، إنما يسير فوق أنقاض منزله، معتقدًا أنه 'ينتصر'. الحديث عن سلاح حزب الله لا يُختزل بجملة شعبوية على منبر أو في مقابلة، بل هو مسؤولية دولة. مسؤولية وطنية، اجتماعية، اقتصادية، أخلاقية، وسيادية. إما أن نرتقي جميعًا إلى مستوى الوطن… أو نغرق معًا في أوهامنا، ونسقط ما تبقى من جمهورية لم تعد حتى قادرة على تعريف نفسها.