logo
الشعوب الأصلية في زمن الذكاء الاصطناعي... من يروي الحكاية؟

الشعوب الأصلية في زمن الذكاء الاصطناعي... من يروي الحكاية؟

الشرق الأوسطمنذ 3 ساعات
في الزمن الذي تسارعت فيه الخوارزميات، وفي اللحظة التي أصبحت فيها اللغة الاصطناعية أكثر حضوراً من اللغات التي وُلدت من رحم المطر والنار والأغنية، تنهض معضلة لا يمكن تهميشها: أين تقف الشعوب الأصلية، التي صادف أمس يومها العالمي، من ثورة الذكاء الاصطناعي؟ هل هي على هامش الشيفرة؟ أو في صميم المعادلة الأخلاقية؟
لسنا أمام جدل تقني بحت، بل أمام مفترق تاريخي يعيد طرح سؤال: من يملك حق الوجود في الفضاء الرقمي؟ ومن يحفظ للثقافات الهشة حقَّها في الهمس وسط هدير المعالجات الفائقة؟
تُبنى نماذج الذكاء الاصطناعي الكبرى – من تلك التي تُنتج النصوص إلى تلك التي تحلل الصور وتُصمم المدن – على بيانات مستخلصة من مصادر تنتمي في غالبها إلى ثقافات غربية مهيمنة، وتُنتج سردياتها الخاصة عن الآخر. وبهذا، تصبح الشعوب الأصلية، بثقافاتها الشفوية ورمزياتها المقدسة، خارج المعادلة.
وليس التهميش هنا ترفاً بلاغياً، بل واقع خطير. فالنماذج التي لم تُدرَّب على فهم هذه الثقافات، غالباً ما تسقط في فخ التحيز، فتُعيد إنتاج صور نمطية، أو تسطو على الرموز والأساطير وتعيد قولبتها دون إذن أو فهم. وهذا ما يُعرف اصطلاحاً بـ«الاستعمار الرقمي»، حيث يُنتزع التراث لا بالقوة، بل بالشيفرة.
وفي سياق ذلك، تعدّ حماية التراث اللامادي من التهديدات الرقمية أولوية، فهناك حالات عديدة من سرقة التراث الثقافي أو تشويهه، حيث يُستنسخ التراث الروحي والثقافي للشعوب ويُستخدم في سياقات لا تعبر عن هويتها، ما يعمق من أوجه التهميش والإقصاء.
لذا؛ فحماية بيانات الشعوب الأصلية وضمان حقوقها الرقمية يتطلبان جهوداً قانونية وأخلاقية عالمية، بحيث تُنظم عملية جمع، واستخدام، وتداول البيانات الثقافية بشكل يحترم الحقوق والصدقية.
وفي مفارقة موجعة، بدأت بعض شركات التقنية ببناء مراكز بيانات ضخمة في أراضٍ تنتمي تاريخياً للشعوب الأصلية. الأراضي التي كانت تُقدَّس لرمزيتها أو لكونها مسرحاً للطقوس، تُسفلت الآن لتُزرع بخوادم تأكل الكهرباء والماء وتنبض بلغة لا يفهمها أبناؤها، الأرض لم تعد تُغتصب فقط... بل تُخزَّن أسباب قتلها.
من المعروف أن مراكز البيانات هذه تُبنى في بيئات هشة بيئياً، دون استشارات مجتمعية، ودون تعويض عادل، وغالباً باسم «التنمية». ولكن: أي تنمية هذه التي تُقصي الإنسان وتستهلك ذاكرة الأرض؟ إن تداخل التطور التكنولوجي مع التحديات البيئية يعكس الحاجة إلى نموذج تنموي مستدام يعترف بحق الشعوب في حماية بيئاتها وقيمها الروحية، بدل أن يُختزل في استهلاك مفرط للموارد.
رغم هذا الظل الثقيل، لا تخلو الصورة من بارقة أمل. ففي ولايات السهول العظمى في أميركا، اجتمع شبان من قبيلة لاكوتا، لا ليرقصوا رقصة المطر كما كانت الصحافة الاستعمارية تصوّرهم، بل ليرقصوا بالأكواد. معسكر Lakota AI Code Camp، درّب شباناً من السكان الأصليين على البرمجة، وعلّمهم كيف يصنعون أدوات ذكاء اصطناعي بلغتهم، ولثقافتهم.
أما في نيوزيلندا، فقد طوّرت منظمة Te Hiku Media نموذجاً للتعرف الصوتي بلغة الماوري الأصلية، بلغ دقته أكثر من 90 في المائة. وتم جمع البيانات الصوتية بموافقة حرة ومستنيرة من الناطقين الأصليين، الذين احتفظوا بالسيادة على البيانات داخل مجتمعاتهم، في نموذج مثالي لما يُعرف بـ«السيادة الرقمية الأصلية».
في مفارقة موجعة، بدأت بعض شركات التقنية ببناء مراكز بيانات ضخمة في أراضٍ تنتمي تاريخياً للشعوب الأصلية
وتمثل هذه المبادرات خطوات مهمة نحو تمكين الشعوب الأصلية، إذ توفر أدوات تكنولوجية تحمي هويتها وتتيح لها التعبير عن ذاتها بلغتها الخاصة، بدل أن تبقى على هامش التقدم الرقمي.
وفي سياق ذلك، بدأ بعض الباحثين والمنظمات يعتمدون على مفهوم «السيادة الرقمية»، الذي يتيح للشعوب ليس فقط المشاركة في تطوير التقنيات، بل أن تظل مصدراً للمعرفة، وتحتفظ بسيادتها على بياناتها ومواردها الرقمية. فمشاريع مثل مبادرة Abundant Intelligences في كندا وأستراليا تسعى لدمج مفاهيم الشعوب الأصلية حول الزمن، والجماعة، والبيئة، في تصميم النماذج الخوارزمية، لتكون أكثر تنوعاً وشمولاً، وتعكس تجاربهم وخصوصياتهم.
هذه الخطوات، وإن كانت محدودة حتى الآن، تمثل نواة لمستقبل يمكن أن تُعيد فيه الشعوب الأصلية تعريف علاقاتها بالذكاء الاصطناعي، وتحويله من أداة استغلال إلى وسيلة حماية وتوثيق لتراثها.
إن الذكاء الاصطناعي ليس بالضرورة تهديداً؛ إنما هو مرآة لمن يُمسك بمقود التطوير. حين يشارك أبناء الأرض في برمجة التقنية، فإنهم لا يُجددون أدواتهم فقط، بل يُجددون تعريفهم لذاتهم، ويستعيدون الحق في «الحديث بلغتهم... حتى مع الآلة».
لكن، إذا استمر الذكاء الاصطناعي في استنساخ الأنظمة القديمة للإقصاء، فإنه سيتحوّل من ثورة إلى استعمار ناعم، ومن أداة إلى سلاح. أما إذا أُعطيَت الشعوب الأصلية حقوقها في البيانات، وفي تقرير مصيرها الرقمي، فإننا نقف أمام فرصة نادرة، لخلق شبكة عالمية تحفظ التراث، وتُعيد وصل ما قطعه التاريخ من تمزيق.
وفي النهاية، نحن لا نبحث فقط عن ذكاء اصطناعي «ذكي»، بل عن ذكاء أخلاقي، يعترِف بأن المعرفة لا تبدأ في وادي السيليكون فقط، بل قد يلهمها نَفَسُ الشامان، أو أنشودة حُفرت على صخرة.وحين تنجح الشعوب الأصلية في كتابة الشيفرة بلغتها، فذلك ليس مجرد «مواكبة»، بل فعل مقاومة، وفعل كتابة جديدة للتاريخ، توقظ فيه ذاكرة الأرض، وتصنع مستقبلاً يُحفظ فيه الحق في الوجود، والتعبير، والهوية.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الشعوب الأصلية في زمن الذكاء الاصطناعي... من يروي الحكاية؟
الشعوب الأصلية في زمن الذكاء الاصطناعي... من يروي الحكاية؟

الشرق الأوسط

timeمنذ 3 ساعات

  • الشرق الأوسط

الشعوب الأصلية في زمن الذكاء الاصطناعي... من يروي الحكاية؟

في الزمن الذي تسارعت فيه الخوارزميات، وفي اللحظة التي أصبحت فيها اللغة الاصطناعية أكثر حضوراً من اللغات التي وُلدت من رحم المطر والنار والأغنية، تنهض معضلة لا يمكن تهميشها: أين تقف الشعوب الأصلية، التي صادف أمس يومها العالمي، من ثورة الذكاء الاصطناعي؟ هل هي على هامش الشيفرة؟ أو في صميم المعادلة الأخلاقية؟ لسنا أمام جدل تقني بحت، بل أمام مفترق تاريخي يعيد طرح سؤال: من يملك حق الوجود في الفضاء الرقمي؟ ومن يحفظ للثقافات الهشة حقَّها في الهمس وسط هدير المعالجات الفائقة؟ تُبنى نماذج الذكاء الاصطناعي الكبرى – من تلك التي تُنتج النصوص إلى تلك التي تحلل الصور وتُصمم المدن – على بيانات مستخلصة من مصادر تنتمي في غالبها إلى ثقافات غربية مهيمنة، وتُنتج سردياتها الخاصة عن الآخر. وبهذا، تصبح الشعوب الأصلية، بثقافاتها الشفوية ورمزياتها المقدسة، خارج المعادلة. وليس التهميش هنا ترفاً بلاغياً، بل واقع خطير. فالنماذج التي لم تُدرَّب على فهم هذه الثقافات، غالباً ما تسقط في فخ التحيز، فتُعيد إنتاج صور نمطية، أو تسطو على الرموز والأساطير وتعيد قولبتها دون إذن أو فهم. وهذا ما يُعرف اصطلاحاً بـ«الاستعمار الرقمي»، حيث يُنتزع التراث لا بالقوة، بل بالشيفرة. وفي سياق ذلك، تعدّ حماية التراث اللامادي من التهديدات الرقمية أولوية، فهناك حالات عديدة من سرقة التراث الثقافي أو تشويهه، حيث يُستنسخ التراث الروحي والثقافي للشعوب ويُستخدم في سياقات لا تعبر عن هويتها، ما يعمق من أوجه التهميش والإقصاء. لذا؛ فحماية بيانات الشعوب الأصلية وضمان حقوقها الرقمية يتطلبان جهوداً قانونية وأخلاقية عالمية، بحيث تُنظم عملية جمع، واستخدام، وتداول البيانات الثقافية بشكل يحترم الحقوق والصدقية. وفي مفارقة موجعة، بدأت بعض شركات التقنية ببناء مراكز بيانات ضخمة في أراضٍ تنتمي تاريخياً للشعوب الأصلية. الأراضي التي كانت تُقدَّس لرمزيتها أو لكونها مسرحاً للطقوس، تُسفلت الآن لتُزرع بخوادم تأكل الكهرباء والماء وتنبض بلغة لا يفهمها أبناؤها، الأرض لم تعد تُغتصب فقط... بل تُخزَّن أسباب قتلها. من المعروف أن مراكز البيانات هذه تُبنى في بيئات هشة بيئياً، دون استشارات مجتمعية، ودون تعويض عادل، وغالباً باسم «التنمية». ولكن: أي تنمية هذه التي تُقصي الإنسان وتستهلك ذاكرة الأرض؟ إن تداخل التطور التكنولوجي مع التحديات البيئية يعكس الحاجة إلى نموذج تنموي مستدام يعترف بحق الشعوب في حماية بيئاتها وقيمها الروحية، بدل أن يُختزل في استهلاك مفرط للموارد. رغم هذا الظل الثقيل، لا تخلو الصورة من بارقة أمل. ففي ولايات السهول العظمى في أميركا، اجتمع شبان من قبيلة لاكوتا، لا ليرقصوا رقصة المطر كما كانت الصحافة الاستعمارية تصوّرهم، بل ليرقصوا بالأكواد. معسكر Lakota AI Code Camp، درّب شباناً من السكان الأصليين على البرمجة، وعلّمهم كيف يصنعون أدوات ذكاء اصطناعي بلغتهم، ولثقافتهم. أما في نيوزيلندا، فقد طوّرت منظمة Te Hiku Media نموذجاً للتعرف الصوتي بلغة الماوري الأصلية، بلغ دقته أكثر من 90 في المائة. وتم جمع البيانات الصوتية بموافقة حرة ومستنيرة من الناطقين الأصليين، الذين احتفظوا بالسيادة على البيانات داخل مجتمعاتهم، في نموذج مثالي لما يُعرف بـ«السيادة الرقمية الأصلية». في مفارقة موجعة، بدأت بعض شركات التقنية ببناء مراكز بيانات ضخمة في أراضٍ تنتمي تاريخياً للشعوب الأصلية وتمثل هذه المبادرات خطوات مهمة نحو تمكين الشعوب الأصلية، إذ توفر أدوات تكنولوجية تحمي هويتها وتتيح لها التعبير عن ذاتها بلغتها الخاصة، بدل أن تبقى على هامش التقدم الرقمي. وفي سياق ذلك، بدأ بعض الباحثين والمنظمات يعتمدون على مفهوم «السيادة الرقمية»، الذي يتيح للشعوب ليس فقط المشاركة في تطوير التقنيات، بل أن تظل مصدراً للمعرفة، وتحتفظ بسيادتها على بياناتها ومواردها الرقمية. فمشاريع مثل مبادرة Abundant Intelligences في كندا وأستراليا تسعى لدمج مفاهيم الشعوب الأصلية حول الزمن، والجماعة، والبيئة، في تصميم النماذج الخوارزمية، لتكون أكثر تنوعاً وشمولاً، وتعكس تجاربهم وخصوصياتهم. هذه الخطوات، وإن كانت محدودة حتى الآن، تمثل نواة لمستقبل يمكن أن تُعيد فيه الشعوب الأصلية تعريف علاقاتها بالذكاء الاصطناعي، وتحويله من أداة استغلال إلى وسيلة حماية وتوثيق لتراثها. إن الذكاء الاصطناعي ليس بالضرورة تهديداً؛ إنما هو مرآة لمن يُمسك بمقود التطوير. حين يشارك أبناء الأرض في برمجة التقنية، فإنهم لا يُجددون أدواتهم فقط، بل يُجددون تعريفهم لذاتهم، ويستعيدون الحق في «الحديث بلغتهم... حتى مع الآلة». لكن، إذا استمر الذكاء الاصطناعي في استنساخ الأنظمة القديمة للإقصاء، فإنه سيتحوّل من ثورة إلى استعمار ناعم، ومن أداة إلى سلاح. أما إذا أُعطيَت الشعوب الأصلية حقوقها في البيانات، وفي تقرير مصيرها الرقمي، فإننا نقف أمام فرصة نادرة، لخلق شبكة عالمية تحفظ التراث، وتُعيد وصل ما قطعه التاريخ من تمزيق. وفي النهاية، نحن لا نبحث فقط عن ذكاء اصطناعي «ذكي»، بل عن ذكاء أخلاقي، يعترِف بأن المعرفة لا تبدأ في وادي السيليكون فقط، بل قد يلهمها نَفَسُ الشامان، أو أنشودة حُفرت على صخرة.وحين تنجح الشعوب الأصلية في كتابة الشيفرة بلغتها، فذلك ليس مجرد «مواكبة»، بل فعل مقاومة، وفعل كتابة جديدة للتاريخ، توقظ فيه ذاكرة الأرض، وتصنع مستقبلاً يُحفظ فيه الحق في الوجود، والتعبير، والهوية.

المسند: توازن اليابس والماء.. سر الاعتدال المناخي على الأرض
المسند: توازن اليابس والماء.. سر الاعتدال المناخي على الأرض

صحيفة سبق

timeمنذ 7 ساعات

  • صحيفة سبق

المسند: توازن اليابس والماء.. سر الاعتدال المناخي على الأرض

أوضح أستاذ المناخ السابق بجامعة القصيم الدكتور عبدالله المسند أن حكمة الله سبحانه اقتضت أن يكون على سطح الأرض توزيع متوازن بين اليابس والماء، بما يحقق اعتدال المناخ ويحافظ على توازن الحرارة بين الليل والنهار. وقال المسند، عبر حسابه على منصة "إكس"، إنه لو كانت الأرض كلها يابسة بلا بحار أو محيطات، كما هو الحال في القمر أو المريخ، لكانت نهاراتها شديدة الحرارة إلى حد لا يُطاق، ولياليها قارسة البرودة بشكل لا يُحتمل، لكن اختلاف الخصائص الفيزيائية بين اليابسة والماء جعل بينهما تبادلاً حرارياً يخفف من حدة المناخ. وبيّن أن من أبرز صور هذا التبادل الحراري ما يُعرف بـ"نسيم البر والبحر"، حيث تهب الرياح من البحر نحو البر نهاراً نتيجة فرق درجات الحرارة، بينما تتجه من البر نحو البحر ليلاً، ويتكرر هذا النمط يومياً وفصلياً ليكون من أسرار اعتدال المناخ على كوكب الأرض، مستشهداً بقول الله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.

وداع مؤثر لعالم الفضاء الأمريكي.. رحيل الأسطورة جيمس لوفيل عن عمر 97 عامًا
وداع مؤثر لعالم الفضاء الأمريكي.. رحيل الأسطورة جيمس لوفيل عن عمر 97 عامًا

الرجل

timeمنذ 9 ساعات

  • الرجل

وداع مؤثر لعالم الفضاء الأمريكي.. رحيل الأسطورة جيمس لوفيل عن عمر 97 عامًا

في مشهد وداع مؤثر لعالم الفضاء الأمريكي والعالمي، رحل جيمس آرثر لوفيل جونيور، القائد الشهير لمهمة "أبولو 13"، التي خُلّدت في التاريخ كواحدة من أعظم قصص النجاة والابتكار في تاريخ استكشاف الفضاء. وعن عمر ناهز 97 عامًا، توفي رائد الفضاء الذي أضاء سماء الأرض بقصص شجاعة وتفانٍ لا مثيل له في زمن سباق الفضاء بين أمريكا والاتحاد السوفييتي. قاد لوفيل الطاقم الأول الذي دخل مدار القمر وحقق خطوة فارقة للولايات المتحدة في سباق الفضاء - المصدر: NASA كان لوفيل رمزًا للقائد الهادئ الذي استطاع أن يحول مأساة فضائية إلى ملحمة أذهلت العالم، حيث نجح هو وطاقمه في العودة بسلام إلى الأرض بعد انفجار خطير في خزان الأوكسجين خلال رحلة "أبولو 13" في العام 1970. هذه الرحلة التي كانت مهددة بالفشل تحولت إلى شهادة حية على روح الابتكار البشري والقيادة تحت الضغط. وفي هذا التقرير المفصل، نستعرض حياة ومسيرة جيمس لوفيل، أبرز محطات رحلته في الفضاء، وتأثيره المستمر على أجيال المستكشفين، بالإضافة إلى تفاعلات المؤسسات والعالم مع رحيله. جيمس لوفيل: رائد الفضاء الذي كتب اسمه في سجل التاريخ منح لوفيل وزملاؤه رواد الفضاء وسام الحرية الرئاسي من الرئيس ريتشارد نيكسون - المصدر: صور تراثية أرشيف Hulton Archive وُلد جيمس آرثر لوفيل جونيور في 25 مارس 1928، في كليفلاند بولاية أوهايو، ونشأ في مدينة ميلووكي، حيث كان شغفه بالفضاء والطيران واضحًا منذ الصغر. في سن السادسة عشرة، صنع أول صاروخ له باستخدام أنابيب ورقية ومسحوق أسود، معلنًا بداية مسيرة متميزة في علوم الطيران والفضاء. وبعد محاولته الأولى غير الناجحة للالتحاق بالأكاديمية البحرية الأمريكية، تم قبوله في المحاولة الثانية، وتخرج منها في العام 1952. وتزوج من حبيبته في المدرسة الثانوية مارلين جيرلاك. وخدم جيمس لوفيل، في البحرية كطيار مقاتل قبل أن يتم اختياره في العام 1962 ضمن المجموعة الثانية من رواد الفضاء في وكالة ناسا، والتي ضمت أسماء لامعة مثل نيل أرمسترونغ وجون يونغ. جيمس لوفيل وزوجته مارلين في مؤتمر صحفي عام 1969 - المصدر: أرشيف AP رحلة الفضاء: من جيميني إلى أبولو وبدأت مغامرات جيمس لوفيل في الفضاء مع مهمتي "جيميني 7، وجيميني 12"، حيث اختبر خلالها قدرة الإنسان على البقاء لفترات طويلة في انعدام الجاذبية، كما ساهم في تطوير تقنيات التقاء وربط المركبات الفضائية، التي كانت ضرورية لاحقًا لمهام أبولو. ولكن أهم إنجازاته كانت مع "أبولو 8، وأبولو 13"، ففي "أبولو 8" في العام 1968، قاد جيمس لوفيل الطاقم الأول الذي دخل مدار القمر، وحقق خطوة فارقة للولايات المتحدة في سباق الفضاء، متجاوزًا الاتحاد السوفييتي. أما في العام 1970، فقد تحول إلى بطل عالمي خلال مهمة "أبولو 13"، التي واجه فيها هو ورفاقه في الطاقم كارثة انفجار خزان الأوكسجين، ما حول الرحلة إلى معركة للبقاء على قيد الحياة. مغامرات جيمس لوفيل في الفضاء بدأت مع مهمتي "جيميني ،7 وجيميني 12" - المصدر: NASA «أبولو 13»: لحظة حاسمة انطلقت مهمة "أبولو 13" في 11 أبريل 1970، وكان هدفها الهبوط على سطح القمر في موقع جديد، وجمع عينات صخرية. ومع مرور الوقت، بدأ الاهتمام الجماهيري يتضاءل، فبعد نجاح "أبولو 11"، بدا السفر إلى القمر مهمة مألوفة إلى حد ما. ولكن بعد 55 ساعة و55 دقيقة من الإقلاع، وقع الانفجار المروع في خزان الأوكسجين داخل وحدة الخدمة، مما أدى إلى فقدان مصدر الطاقة الرئيسي وتعريض حياة رواد الفضاء الثلاثة "جيمس لوفيل، جون جاك سويغرت، وفريد هايز" لخطر شديد على بُعد 200,000 ميل من الأرض. وعلى الفور، أرسل سويغرت الرسالة الشهيرة إلى مركز التحكم: "حسنًا، هيوستن، لدينا مشكلة هنا"، فرد لوفيل بعدها، في هدوء لا يصدق: "هيوستن، لدينا مشكلة. لقد حدث انخفاض في التيار الكهربائي الرئيسي". وتحولت المهمة إلى دراما حقيقية للنجاة، حيث كان على الطاقم التكيف بسرعة مع الوضع الطارئ، باستخدام مركبة الهبوط القمرية "أكوايريوس" كقارب نجاة في رحلة عودة شاقة وطويلة استمرت أربعة أيام في الفضاء. لحطة انطلاق مهمة "أبولو 13" في 11 أبريل 1970 - المصدر: أرشيف AP قيادة لوفيل كان جيمس لوفيل، بفضل خبرته كطيار بحري، وهدوئه المميز، هو القائد الذي استند إليه الجميع في أحلك الظروف، فهو لم يكن فقط يدير الرحلة، بل يقود طاقمه وفرق الأرض في مواجهة أزمة غير مسبوقة. وبخبرة نادرة، أعاد لوفيل تدريب نفسه على قيادة المركبة الفضائية وسط تغيرات غير متوقعة في مركز الجاذبية، واضطر إلى توجيه الرحلة فقط عبر النافذة، معتمدًا على بصيرته وحدسه لتصحيح المسار نحو الأرض. وفي مركز التحكم في هيوستن، عمّت حالة من التوتر واليقظة، حيث عمل مئات المهندسين والعلماء في خطة إنقاذ غير مسبوقة، شملت تصميم فلتر هواء مربع الشكل ليتناسب مع فتحة دائرية، للتخفيف من تراكم ثاني أكسيد الكربون. وحدة إزالة ثاني أكسيد الكربون الزائد من مقصورة وحدة القمر "أبولو 13" - المصدر: NASA نجاح مأساوي يُلهم العالم وعلى الرغم من أن "أبولو 13" لم تحقق هدفها الأصلي بالهبوط على القمر، إلا أن الرحلة تحولت إلى واحدة من أعظم قصص النجاح في تاريخ الفضاء، حيث أظهرت قدرة البشر على الابتكار والعمل الجماعي في مواجهة الكوارث. وفي 17 أبريل، بعد رحلة محفوفة بالمخاطر والقلق، هبط الطاقم بأمان في المحيط الهادئ، واستقبلوا بترحيب عالمي وأوسمة رفيعة، من بينها وسام الحرية الرئاسي. وقال لوفيل لاحقًا: "لم ندرك أبدًا قيمة الأرض حتى ابتعدنا عنها". We are saddened by the passing of Jim Lovell, commander of Apollo 13 and a four-time spaceflight veteran. Lovell's life and work inspired millions. His courage under pressure helped forge our path to the Moon and beyond—a journey that continues today. — NASA (@NASA) August 8, 2025 الحياة بعد الفضاء بعد تقاعده من وكالة ناسا والبحرية الأمريكية في العام 1973، بدأ جيمس لوفيل فصلاً جديدًا من حياته بعيدًا عن الفضاء، حيث خدم لفترة وجيزة كنائب مدير مركز جونسون للفضاء في هيوستن، ثم اتجه إلى عالم الأعمال حيث عمل في قطاع الاتصالات، وأصبح نائب الرئيس التنفيذي لشركة "سنتل". كما أدار جيمس لوفيل لفترة مطعمًا في ضواحي شيكاغو حمل اسمه، وهو مكان استقطب العديد من محبي الفضاء وعشاق قصته البطولية. وعلى الرغم من ابتعاده عن المدار، ظل لوفيل رمزًا في مجال الفضاء والقيادة، وأثرى المكتبة العلمية بعدة كتب، أبرزها كتابه "القمر المفقود Lost Moon"، الذي كتبه مع الصحفي جيف كلوجر، والذي استند إليه فيلم "أبولو 13" الشهير الذي جسد فيه توم هانكس شخصيته. A statement from the family of Apollo astronaut Jim Lovell on his passing: "We are saddened to announce the passing of our beloved father, USN Captain James A. "Jim" Lovell, a Navy pilot and officer, astronaut, leader, and space explorer. He was 97. We are enormously proud of… — NASA (@NASA) August 8, 2025 وداع أسطورة ومصدر إلهام لا ينضب أعلنت وكالة ناسا ببالغ الحزن عن وفاة جيمس لوفيل، ووصفت حياته بأنها نموذج للقيادة والشجاعة. وصرح شون دافي، المدير المؤقت لناسا: "لقد ألهمت حياة وعمل الكابتن جيم لوفيل ملايين الناس عبر عقود. كان رجلاً ذو شخصية متينة وشجاعة ثابتة ساعدت أمتنا على الوصول إلى القمر وتحويل مأساة محتملة إلى نجاح علمنا منه الكثير. نحتفي بإنجازاته وننعي رحيله". كما نعته عائلته في بيان، جاء فيه: "كان والدنا، وجدو، وقائد عائلتنا. كان بطلاً حقيقيًا، سنفتقد تفاؤله الذي لا يتزعزع وروحه المرحة وطريقته في جعل كل منا يشعر بأنه قادر على تحقيق المستحيل". وقدم توم هانكس، الذي مثل شخصية لوفيل في الفيلم، رسالة وداع مؤثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، معبرًا عن امتنانه لتكريم إرث رائد الفضاء العظيم. إرث خالد ويعتبر جيمس لوفيل، أحد أبرز رموز عصر الفضاء، وصُنف كواحد من أعظم رواد الفضاء الذين ساهموا في دفع البشرية خطوة نحو النجوم. كما كانت مساهمته في المهام الفضائية الأربع التي شارك فيها، خاصة رحلتي "أبولو 8، وأبولو 13"، حجر الأساس في تقدم البرنامج الفضائي الأمريكي. حيث إن رحلة "أبولو 8" التي دارت حول القمر لأول مرة في التاريخ كانت الخطوة الأولى التي مهدت لهبوط "أبولو 11" التاريخي، فيما أثبتت مهمة "أبولو 13" قدرة الإنسان على مواجهة الأزمات والتغلب عليها بقوة القيادة وروح الفريق. وتعكس قصة لوفيل كيف يمكن للشجاعة والهدوء تحت الضغط أن يتحولوا إلى مصدر أمل ملهم، وترك بصمة لا تمحى على أجيال من رواد الفضاء والمهندسين والباحثين والعامة الذين رأوا فيه تجسيدًا للقيم الإنسانية في مواجهة المجهول.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store