
سعفة فلسطين المقدسة في الوعي الروسي
كانت هذه المؤسسات التابعة للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية قد وصلت في نهاية عهدها إلى مستوى متقدم من الاكتفاء الذاتي على صعيد الزراعة وتربية المواشي بما يكفي الحجاج والعاملين فيها. كذلك توقفت رحلات سفن "الجمعية الروسية للملاحة والشحن" التي أقلّت الحجاج وعادت بهم بين ميناءي أوديسا ويافا لأكثر من 70 عاماً.
في المقابل، تغيرت روسيا جذرياً في تلك الحقبة الصعبة من تاريخها، فبعد الثورة البلشفية سنة 1917، غرقت في أتون حرب أهلية استمرت نحو 6 سنوات خلفت الكثير من المآسي وغيرت خرائط المنطقة بعد إعلان الاتحاد السوفياتي.
هكذا طويت صفحة تاريخية مهمة استمرت قروناً من الزمن، كان الحاج الروسي فيها يعود إلى دياره حاملاً سعفة من نخلة فلسطينية دليلاً على زيارته الأراضي المقدسة، فكان يحافظ عليها طوال الطريق ليضعها فوق باب داره ليعرف الجيران بعودته ليباركوا له ويتباركوا به، أو يضعها قرب أيقونة قديسه.
تلك السعفة المقدسة احتلت حيزاً في الوعي الروسي حتى بعد توقف الرحلات المنظمة، فلفظة حاج بالروسية مشتقة من سعفة النخل، "بالمونيك"، أي ما يعرف مجازاً بحامل السعفة. كما انعكست قداسة هذه السعفة المباركة في أعمال الشعراء والكتّاب وفي مذكرات الحجاج إلى الديار المقدسة.
رسم الشعراء الروس معالم فلسطين المقدسة في أشعارهم الروحية، وكان للنخلة وسعفها حيزاً مهماً فيها. ومنهم الشاعر فيودور نيقولايفيتش غلينكا (1786-1880)، الذي عاصر ألكسندر بوشكين، الذي استمع إلى وجيب القلب في قصائده الروحية (1839)، وقال: "وبعدما هدأنا صوت القلب تبعناه عبر فلسطين".
ويتحدث عن السيّد المسيح التي سُمعت تعاليمه ووصلت إلى "الجبال في فينيقيا السورية/ وإلى شواطئ صور وصيدون.../ فكان يعمل طوال النهار، ويصلي في الليل/ تحت أشجار نخيل فلسطين المقدسة/، تحت ظلال أشجار التين والزيتون...".
وتبقى قصيدة "سعفة فلسطين" التي نظمها الشاعر الروسي، ميخائيل ليرمنتوف، في 20 شباط/فبراير عام 1837، الأكثر شهرة. وتجدر الإشارة إلى الخطأ الذي وقع فيه بعض أساتذة التعريب، حين ترجموا عنوان القصيدة بـ"غصن فلسطين"، وكان الأحرى بهم أن يستخدموا "سعفة" فلا أغصان للنخلة.
في القصيدة، يخاطب ميخائيل ليرمنتوف هذه السعفة المقدسة، يقول:
"أخبريني يا سعفة فلسطين
أين نموت وأينعت؟
أي وديان وهضاب زيّنت؟
أكانت مياه الأردن الطاهرة قربك؟
أداعبتك شمس الشرق؟
أصلّى أبناء القدس الفقراء همساً،
أم رتّلوا ترانيم الزمن الغابر،
وهم يجدلون جريدك؟
أما زالت النخلة التي قطعت منها
بهامتها العالية وسعفاتها العريضة
تبعد قيظ الصيف
عمّن يجوب الصحراء؟
أم أنها ذبلت مثلك،
وأماتها ألم الفراق؟
قولي لي يا سعفة فلسطين:
أي يد ورعة حملتكِ إلى هذه الأرض؟
أغرق صاحبها في الحزن وهو يحملك؟
أتختزنين أثر دموعه الحارقة؟
أكان جندياً خيّراً من جنود الربّ؟
يداني صفاء جبينه صفاءك؟
أكان جديراً بحملك،
ترضى عنه السماوات وعيون البشر؟
وأنت يا سعفة فلسطين،
أتنتصبين أمام أيقونة مذهبة
حارسة وفيّة للمقدسات
مكللة بعناية خفية؟
خلف جريدك الشفاف ضوء القناديل
والأيقونة والصليب رمز القداسة،
وأمامك المسرّة والسلام".
يخبرنا الكاتب الروسي، إيفان يوفاتشيف (1860-1940) كيف اشترى سعفته. كان يوفاتشيف يرغب في تحديث دليل الحاج الروسي، أو كما قال وفق تعبيره: "لاستكمال صورة فلسطين، أعددت أوصافاً لجميع أماكن العبادة الرئيسة للحاج الروسي تقريباً، ولكن مع حذف العديد من التفاصيل والإشارات التاريخية الطويلة، والتي تتكرر كثيراً في الأعمال الموجودة المخصصة للأرض المقدسة. لكنني سمحت لنفسي أن أفسح بعض المجال للذكريات الكتابية المتعلقة بالأماكن التي يمرّ بها الحجاج. باختصار، حاولت أن أعبر في مقالاتي بشكل رئيسي عن انطباعاتي الشخصية ودونت ما رأيته بعيني وسمعته بأذني خلال شهري الرحلة في الشرق".
في الطريق من الناصرة إلى القدس، وبعد عبوره مرج بني عامر، في الأسبوع الأخير من آذار/مارس 1900، يقول يوفاتشيف: "وصلنا إلى قرية برقين، حيث كانت توجد كنيسة أرثوذكسية صغيرة بالقرب من مدينة جنين، التي تقع أيضاً على الطريق من الناصرة إلى القدس. القرية على تلة فوق واد يتدفق فيه نهر جبلي صغير. حولنا غابة كثيفة من جميع الجهات. وتظهر الحبوب غير المحصودة، وأشجار النخيل، وأشجار التين والزيتون. على الرغم من التعب الذي أصابني، إلا أنني شعرت برغبة في التجول في المنطقة. نزلت من الجبل إلى النهر. هناك وجدت نساء عربيات يسكبن الماء في جرارهن الطينية السود، ويضعنها فوق رؤوسهن بمهارة، ويدخلن إلى القرية. تحلق حولي الأطفال وجاء أحد العرب يحمل حزمة من سعف النخيل، اشتريت منه سعفة طولها نحو قامتين. قطعت قسمها العلوي للحفاظ عليه، باعتباره سعفة من فلسطين، ومن طرفها السميك صنعت عصا أتكئ عليها".
في تلك الحقبة كان الحجاج يشترون سعف النحيل من الفلسطينيين على طول مسار الحج من القدس وإليها، لكن الجمعية الفلسطينية افتتحت في خريف 1906 متاجر خاصة بمستلزمات الحج.
ففي رسالة مدير مزارع الجمعية في فلسطين، نيقولاي ميخائيلوف، إلى مفوض الجمعية في أوديسا، ميخائيل أوسيبوف، بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1906 (المتحف الديني، الوثيقة 248)، نجد أن سعف النخيل باتت من أبرز ما تبيعه تلك المتاجر إلى جانب الأيقونات والصلبان والمسابح والبخور والشموع.
بطبيعة الحال لم يكن توفير سعف النخيل للحجاج هو ما دعا إدارة الجمعية إلى افتتاح المتاجر، حيث تخبرنا الوثيقة بعض الأسباب: "أوقف وجود المتاجر الروسية غزو التجار عديمي الضمير، الذين افتتحوا متاجرهم مقابل مآوي الحجاج الروس مباشرة. وغالباً ما كانوا يبيعون كتباً دينية مليئة بالأخطاء المطبعية وجميع أنواع الرسومات ذات الروح الكاثوليكية، على ورق رديء الجودة وبطباعة رديئة. وقد دعت الجمعية إلى توخي الحذر عند شراء مثل هذه السلع".
ومع افتتاح متاجرها وجدت الجمعية نفسها مضطرة إلى تأمين سعف النخيل للحجاج إلى جانب السلع الأخرى المتوفرة لديها. فكان عليها تأمين آلاف السعف عبر شرائها من الفلسطينيين لبيعها إلى الحجاج الروس بأسعار مقبولة كي يحملوها معهم إلى ديارهم البعيدة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الميادين
منذ 4 أيام
- الميادين
سعفة فلسطين المقدسة في الوعي الروسي
إثر احتلال البريطانيين أرض فلسطين توقفت رحلة الحج الروسي المنظم إلى الديار المقدسة. آنذاك، أخليت المؤسسات التي كانت تؤوي عشرات آلاف الحجاج وتعالجهم وتطعمهم وتسهر على راحتهم من العمال والمشرفين. كانت هذه المؤسسات التابعة للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية قد وصلت في نهاية عهدها إلى مستوى متقدم من الاكتفاء الذاتي على صعيد الزراعة وتربية المواشي بما يكفي الحجاج والعاملين فيها. كذلك توقفت رحلات سفن "الجمعية الروسية للملاحة والشحن" التي أقلّت الحجاج وعادت بهم بين ميناءي أوديسا ويافا لأكثر من 70 عاماً. في المقابل، تغيرت روسيا جذرياً في تلك الحقبة الصعبة من تاريخها، فبعد الثورة البلشفية سنة 1917، غرقت في أتون حرب أهلية استمرت نحو 6 سنوات خلفت الكثير من المآسي وغيرت خرائط المنطقة بعد إعلان الاتحاد السوفياتي. هكذا طويت صفحة تاريخية مهمة استمرت قروناً من الزمن، كان الحاج الروسي فيها يعود إلى دياره حاملاً سعفة من نخلة فلسطينية دليلاً على زيارته الأراضي المقدسة، فكان يحافظ عليها طوال الطريق ليضعها فوق باب داره ليعرف الجيران بعودته ليباركوا له ويتباركوا به، أو يضعها قرب أيقونة قديسه. تلك السعفة المقدسة احتلت حيزاً في الوعي الروسي حتى بعد توقف الرحلات المنظمة، فلفظة حاج بالروسية مشتقة من سعفة النخل، "بالمونيك"، أي ما يعرف مجازاً بحامل السعفة. كما انعكست قداسة هذه السعفة المباركة في أعمال الشعراء والكتّاب وفي مذكرات الحجاج إلى الديار المقدسة. رسم الشعراء الروس معالم فلسطين المقدسة في أشعارهم الروحية، وكان للنخلة وسعفها حيزاً مهماً فيها. ومنهم الشاعر فيودور نيقولايفيتش غلينكا (1786-1880)، الذي عاصر ألكسندر بوشكين، الذي استمع إلى وجيب القلب في قصائده الروحية (1839)، وقال: "وبعدما هدأنا صوت القلب تبعناه عبر فلسطين". ويتحدث عن السيّد المسيح التي سُمعت تعاليمه ووصلت إلى "الجبال في فينيقيا السورية/ وإلى شواطئ صور وصيدون.../ فكان يعمل طوال النهار، ويصلي في الليل/ تحت أشجار نخيل فلسطين المقدسة/، تحت ظلال أشجار التين والزيتون...". وتبقى قصيدة "سعفة فلسطين" التي نظمها الشاعر الروسي، ميخائيل ليرمنتوف، في 20 شباط/فبراير عام 1837، الأكثر شهرة. وتجدر الإشارة إلى الخطأ الذي وقع فيه بعض أساتذة التعريب، حين ترجموا عنوان القصيدة بـ"غصن فلسطين"، وكان الأحرى بهم أن يستخدموا "سعفة" فلا أغصان للنخلة. في القصيدة، يخاطب ميخائيل ليرمنتوف هذه السعفة المقدسة، يقول: "أخبريني يا سعفة فلسطين أين نموت وأينعت؟ أي وديان وهضاب زيّنت؟ أكانت مياه الأردن الطاهرة قربك؟ أداعبتك شمس الشرق؟ أصلّى أبناء القدس الفقراء همساً، أم رتّلوا ترانيم الزمن الغابر، وهم يجدلون جريدك؟ أما زالت النخلة التي قطعت منها بهامتها العالية وسعفاتها العريضة تبعد قيظ الصيف عمّن يجوب الصحراء؟ أم أنها ذبلت مثلك، وأماتها ألم الفراق؟ قولي لي يا سعفة فلسطين: أي يد ورعة حملتكِ إلى هذه الأرض؟ أغرق صاحبها في الحزن وهو يحملك؟ أتختزنين أثر دموعه الحارقة؟ أكان جندياً خيّراً من جنود الربّ؟ يداني صفاء جبينه صفاءك؟ أكان جديراً بحملك، ترضى عنه السماوات وعيون البشر؟ وأنت يا سعفة فلسطين، أتنتصبين أمام أيقونة مذهبة حارسة وفيّة للمقدسات مكللة بعناية خفية؟ خلف جريدك الشفاف ضوء القناديل والأيقونة والصليب رمز القداسة، وأمامك المسرّة والسلام". يخبرنا الكاتب الروسي، إيفان يوفاتشيف (1860-1940) كيف اشترى سعفته. كان يوفاتشيف يرغب في تحديث دليل الحاج الروسي، أو كما قال وفق تعبيره: "لاستكمال صورة فلسطين، أعددت أوصافاً لجميع أماكن العبادة الرئيسة للحاج الروسي تقريباً، ولكن مع حذف العديد من التفاصيل والإشارات التاريخية الطويلة، والتي تتكرر كثيراً في الأعمال الموجودة المخصصة للأرض المقدسة. لكنني سمحت لنفسي أن أفسح بعض المجال للذكريات الكتابية المتعلقة بالأماكن التي يمرّ بها الحجاج. باختصار، حاولت أن أعبر في مقالاتي بشكل رئيسي عن انطباعاتي الشخصية ودونت ما رأيته بعيني وسمعته بأذني خلال شهري الرحلة في الشرق". في الطريق من الناصرة إلى القدس، وبعد عبوره مرج بني عامر، في الأسبوع الأخير من آذار/مارس 1900، يقول يوفاتشيف: "وصلنا إلى قرية برقين، حيث كانت توجد كنيسة أرثوذكسية صغيرة بالقرب من مدينة جنين، التي تقع أيضاً على الطريق من الناصرة إلى القدس. القرية على تلة فوق واد يتدفق فيه نهر جبلي صغير. حولنا غابة كثيفة من جميع الجهات. وتظهر الحبوب غير المحصودة، وأشجار النخيل، وأشجار التين والزيتون. على الرغم من التعب الذي أصابني، إلا أنني شعرت برغبة في التجول في المنطقة. نزلت من الجبل إلى النهر. هناك وجدت نساء عربيات يسكبن الماء في جرارهن الطينية السود، ويضعنها فوق رؤوسهن بمهارة، ويدخلن إلى القرية. تحلق حولي الأطفال وجاء أحد العرب يحمل حزمة من سعف النخيل، اشتريت منه سعفة طولها نحو قامتين. قطعت قسمها العلوي للحفاظ عليه، باعتباره سعفة من فلسطين، ومن طرفها السميك صنعت عصا أتكئ عليها". في تلك الحقبة كان الحجاج يشترون سعف النحيل من الفلسطينيين على طول مسار الحج من القدس وإليها، لكن الجمعية الفلسطينية افتتحت في خريف 1906 متاجر خاصة بمستلزمات الحج. ففي رسالة مدير مزارع الجمعية في فلسطين، نيقولاي ميخائيلوف، إلى مفوض الجمعية في أوديسا، ميخائيل أوسيبوف، بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1906 (المتحف الديني، الوثيقة 248)، نجد أن سعف النخيل باتت من أبرز ما تبيعه تلك المتاجر إلى جانب الأيقونات والصلبان والمسابح والبخور والشموع. بطبيعة الحال لم يكن توفير سعف النخيل للحجاج هو ما دعا إدارة الجمعية إلى افتتاح المتاجر، حيث تخبرنا الوثيقة بعض الأسباب: "أوقف وجود المتاجر الروسية غزو التجار عديمي الضمير، الذين افتتحوا متاجرهم مقابل مآوي الحجاج الروس مباشرة. وغالباً ما كانوا يبيعون كتباً دينية مليئة بالأخطاء المطبعية وجميع أنواع الرسومات ذات الروح الكاثوليكية، على ورق رديء الجودة وبطباعة رديئة. وقد دعت الجمعية إلى توخي الحذر عند شراء مثل هذه السلع". ومع افتتاح متاجرها وجدت الجمعية نفسها مضطرة إلى تأمين سعف النخيل للحجاج إلى جانب السلع الأخرى المتوفرة لديها. فكان عليها تأمين آلاف السعف عبر شرائها من الفلسطينيين لبيعها إلى الحجاج الروس بأسعار مقبولة كي يحملوها معهم إلى ديارهم البعيدة.


الميادين
منذ 4 أيام
- الميادين
في مخيمنا فئران جائعة
أنا كلّي أسف أيها القارئ، فما قرأته في العنوان صحيح. تخيل الكارثة التي تُرتكب بحق الفئران. ربما تسأل: كيف يجوع فأر في هذا العالم؟ وحشية حرب التجويع التي يمارسها الاحتلال بحقنا طالت حتى الفئران. لا تقلق أيها القارىء، فإنني مثلك، لا أقبل أن يُظلَم مخلوق في هذا العالم. فأنا ضدّ الظلم والظالم، وأسعى للقضاء عليهما، لأنني على قناعة تامة بأن كل شبر في هذا العالم يستحق السلام. أنت توافقني، أليس كذلك؟ الفأر القابع في مطبخنا المتواضع ألقى نحوي نظرة جعلتني أعتقد أنني يجب أن أكون صوته اليوم. وفأرُنا المسكين حين كنت أختلس الطعام عصراً، نظر إلي بعينين دامعتين وحزينتين، كأنه يقول لي: "لماذا سرقتِ دوري في الحياة؟". تمنّيت لو كان له لسان لينطق ذلك بنفسه. كما أنني كنت أنتظر منه تحية لأنني أدركت مغزى نظراته من دون أن يتكلم. لكن، قبل أن يحييني، ربما كان عليه أن يعتذر لي. فسؤاله هو الشماتة بعينها، كما أنه يتصورني فأرة أنا الأخرى. حاشاني أن أكون فأرة! هل تعلم أيها الفأر أنني لا أعرف إن كان عليّ أن أشكرك لتنازلك عن المركز الأول في الاختلاس لصالحي أنا؟ هل ستسامحني لأنك تعرف أن الجوع أرهق معدتي ومزقها مثل خنجر يطعن أحشائي الخاوية وذلك كان لا بد من إخماد جوعي؟ حسناً، سأكمل الحديث عن جوعك، وكلي أمل أن يتفاعل العالم مع مأساتك. كما أنك أصبحت أقرب إلى حيوان أليف. لقد قام الفأر، لشدة جوعه، بقضم كل أغظية المُعلبات البلاستيكية. الجوع جعل أسنانه كأنياب الأسد. لقد قام أيضاً بقضم أجزاء من أرضية خيمتنا البلاستيكية، وكل يوم، كل صباح، كل ثانية، يشمشم الأرض ويدور بحثاً عن طعام بلا جدوى. ذلك أن أصحاب المكان، أي نحن، إن كان يهمّكم أمرنا، لا نجد طعاماً يكفينا ويفيض عنا ليأكل هذا الفأر المسكين. كل يوم، بحمد الله وتيسيره، نجد ما نسد به رمقنت لنوقف "عصافير بطوننا" عن الزقزقة. ومثلما يشم الفأر الأرض، نحن أيضاً نجوب أرض قطاع غزة بحثاً عن طحين. كل يوم، في بعض الأحيان ننجح. لقد أسرّ لي الفأر في الحلم أمس بأننا حرمناه من رائحة الطعام الملتصقة في الأواني أيضاً. لا أريد أن أكون قاسية عليك، لكن هناك فئران تموت جوعاً. بدأت أسمع صوتك، أيها القارئ، وأنت تلومني قائلاً: "أهل غزة يُجَوّعون الفئران؟ يا لهم من أشرار". لكن أعذرني: كيف يُجَوّع المُجَوَّع؟ كيف يُجَوّع الفئران من دون إرادته؟ لا تلُمني وعائلتي. لا تظلمنا. وإذا كانت مشاعرك الحساسة قد تدفعك الآن إلى البكاء على هذا الفأر التعيس، ربما يجدر بك أن تتخذ موقفاً لكسر جوع غزة وكل ما يمشي على أرضها. عليك أن تختار. هل تنصر فئراناً مظلومة ذنبها أنها موجودة في قطاع غزة الذي يُجَوَّع بتصميم وإرادة من الاحتلال الصهيوني الذي يُهندِس ويخطط لتجويعهم، بطريقة لا يُعلى على شرّها شر؟ أم ستصمت وتتجاهل موت الفئران جوعاً، كما صمت من قبل، ووقّعت بصمتك موافقاً على موت البشر — أطفال دون الخامسة وفوقها — جوعاً؟ ووافقت على انقضاض وحش المجاعة على كل الخيام في قطاع غزة. لا بد أن تعلم أن الحل الجذري لكسر تجويع الفئران، يكمن في كسر تجويع أهل غزة. لا مشكلة إن تحركت لأجل فأر، فهو حيوان... ونحن بشر. فلتختر يا صاحب الإنسانية!


LBCI
٢٧-٠٧-٢٠٢٥
- LBCI
رويترز عن مصدر رسمي أردني: طائرتان أردنيتان وطائرة إماراتية تسقط إجمالي 25 طنًا من المساعدات على غزة في أول عملية إنزال جوي منذ أشهر
برنامج الأغذية العالمي: لدينا ما يكفي من الغذاء في المنطقة أو أن هناك كميات في الطريق إلى قطاع غزة لإطعام السكان جميعهم لثلاثة أشهر تقريبا السابق