
فرقة أدونيس... بين «وديان» الموسيقى وسهولها والقمم
تستوحي فرقة «أدونيس» ألبومها الجديد من الحياة بدروبها الشاقّة، بوديانها وسهولها وقممها الشاهقة. لم يُطلق الموسيقيون اللبنانيون الأربعة على مجموعتهم الغنائية عنوان «وديان» عبثاً. للألبوم حكايةٌ يشبه بطلُها البشرَ العاديين الذين يصلون إلى حافة الهاوية ويختبرون قعرها.
«الناس عموماً، والجيل الصاعد خصوصاً، يريدون موسيقى تشبه الحقيقة وكلاماً مقتبساً من الواقع، وهذا ما نحاول تقديمه». يتحدّث أنطوني خوري، مغنّي الفرقة، لـ«الشرق الأوسط»، عشية إطلاق ألبوم «أدونيس» السابع، والذي يضمّ 12 أغنية.
الرحلة عبر الألبوم والانتقال من أولى أغانيه إلى آخِرها، كما الخروج من مكانٍ صاخب مليء بالناس، والذهاب طوعاً نحو العزلة. لدى «أدونيس» حرصٌ على سرد الحكايات من خلال الموسيقى: «تتنوّع المشاهد أمام عينيْ بطل الألبوم. يسير نحو مكانٍ غير مأهول، يجد نفسه حيناً في الوادي السحيق فينتابه الخوف، وأحياناً على قمة الجبل فتتغيّر انطباعاته».
غلاف ألبوم «وديان» لفرقة أدونيس اللبنانية (إدارة الأعمال)
هذه المشهديّة الطبيعية المتبدّلة انعكست حتماً على مزاج الألبوم وألوانه الموسيقية. صحيح أنّ الهوية الأساسية هي «الإندي روك»، كما في «ناديني»، و«لو بدّك ياني»، إلّا أنّ للـ«RnB» مساحته كذلك في أغانٍ مثل «ما اعرفها». تخوض الفرقة أيضاً تجربة الـbaroque pop حيث يتداخل البوب الهادئ والموسيقى الأوركسترالية في أغنية «الطريق السريع». ومهما تعدّدت الأنواع الموسيقية في «وديان»، يبقى الثابت ذلك الدمج المتقَن والسلس بين الغربي والشرقي، والذي يبلغ ذروته في «خود ساعات».
وفق أنطوني، فإنّ الفرقة حريصة على الهوية التي عُرفت بها، منذ انطلاقتها قبل 14 عاماً؛ أي الروك الكلاسيكي المستقل والناطق باللهجة اللبنانية. لكن في مقابل هذا الثبات، ثمة كثير من التحوّلات. سارت «أدونيس» على إيقاع التجديد في موسيقاها. يعدّد أنطوني مفاتيح التطوّر: «أوّلاً نحب أن نتسلّى بالموسيقى ونصنع ما ليس متوقّعاً. ثم إننا نفتح دائماً باب التعاون مع موسيقيين آخرين آتين من خلفيّات ثقافية متعددة». هذا ما حصل في «وديان»، حيث كانت للمنتج الأردني عمرو الشوملي اليد الطولى في العملية الإنتاجية، إلى جانب المنتجيْن اللبنانييْن تَيم وروبير الأسعد.
في «وديان»، كما في سائر أعمال «أدونيس»، لا يقتصر اللهو بالموسيقى على اللحن، بل ينسحب على الكلام. ليس مستغرباً مثلاً أن تتداخل اللهجتان اللبنانية والأردنية في أغنية مثل «ما اعرفها»؛ «ما المانع في ذلك؟»، كما يعلّق أنطوني مبتسماً. هو الذي أمضى فترات طويلة في عمّان لإنجاز الألبوم، كان لا بدّ من أن يتأثّر باللهجة ويضمّنها إحدى الأغاني.
يتولى أنطوني إضافة إلى الغناء كتابة الأغاني وتلحينها (إدارة الأعمال)
يكتب الكلام مستنداً إلى موهبةٍ تتمازج فيها لغة الناس مع مستوى عالٍ من الشاعريّة. يؤلّف الموسيقى كذلك. أما المنتَج النهائي من ألبومات وحفلات، فلا يكتمل دون رفاقه الذين يستمدّ منهم أنطوني الطمأنينة والرغبة في الاستمرار؛ هم عازفو فريق «أدونيس» وشركاء الرحلة الطويلة: نيكولا حكيم، وجويي أبو جودة، وجيو فيكاني.
بعد إطلاق الألبوم، في 10 أبريل (نيسان) الحالي، تقوم الفرقة بجولةٍ تأخذها من أبوظبي والقاهرة، إلى أوروبا وكندا، مروراً بالرياض. كلّما حطّ أنطوني في المملكة العربية السعودية، استرجعَ سنواتٍ من طفولته ومراهقته أمضاها في منطقة الدمّام. «أذكر الهدوء والشعور بالأمان والسكون. في الخُبَر، حصل احتكاكي الأول بالموسيقى. هناك، قررت تطوير موهبتي ومنحتُها مساحتها». ومنذ ذلك الحين، لم يفارق الشاب الثلاثينيّ البيانو، لتنسكب كلماته فوق النغم لاحقاً وتكتمل الخلطة بصوته المتأرجح بين الأداء القويّ والنبرة الحزينة التي لا بدّ منها.
من إحدى حفلات الفرقة (إدارة الأعمال)
بما أنّ قبالة كل وادٍ جبل، لا تغيب الإيقاعات المرحة والراقصة عن الألبوم، كما في أغنية «نانسي». هي مستوحاة ببساطة من مزحة أطلقتها الفنانة نانسي عجرم عندما قالت إنها لا تحب الرقص. وحتى في أغنية مثل «خود ساعات»، والتي تتطرّق إلى الفراق والصمت بين الحبيبَين، لا مفرّ من إيقاع الفرح المستوحى من أغاني الفنانين اللبنانيين التي ضربت في فترة عام 2000.
يلفت أنطوني إلى أنّ العمل على ألبوم «وديان» استمرّ سنتَين، وقد تأخّر الإصدار بسبب ما مرّ به لبنان والمنطقة من عدوان إسرائيلي. ولكل مَن عبَروا وادي الحرب بصلابة وعزيمة، تُهدي الفرقة أغنية «أبطال»؛ «لأنّ الأبطال ليسوا فحسب مَن يقاتلون على الجبهة، بل كل مَن واصل أداء رسالته الإنسانية، رغم الخطر والخوف، كالأطباء والمُسعفين والطيّارين والصحافيين»، وفق تعبيره.
تتكلم «أدونيس» لغة الشباب اللبناني والعربي وتريد لأغانيها أن تشبه الواقع (إدارة الأعمال)
لا تقتصر التحيّات القلبيّة على أبطال الحرب، بل يخصّ أنطوني كذلك كلاً من جدّته جانو وابن أخيه تيمو بمعزوفتَين. «أثّرت بي وفاة جدّتي جانو كثيراً، وهي كانت في طليعة مَن شجّعوني على خوض الموسيقى، فقررت إهداءها هذه المعزوفة. ثم وُلد تيمو، الحفيد الأول في العائلة، الذي جاء ليذكّرنا بأنّ بعد الموت حياة، وبعد الوديان سهولاً».
الإرث، وانقضاء الزمن، والبقاء، واستدامة الطبيعة مقابل فناء الإنسان، كلّها موضوعات تعبر بين سطور أغاني «وديان». وعندما يُسأل أنطوني عن أولويات «أدونيس»، بعد 14 سنة على انطلاقتها، يعود ليشدّد على فكرة الإرث تلك، رغم أنّ الفرقة ما زالت شابّة. يقول: «نفكّر حالياً بالموسيقى التي سنترك خلفنا، نريد أن يليق ما نقدّم، الآن، بمَن قد يسمعوننا بعد 20 أو حتى 100 عام».
«أدونيس» في مهرجانات بعلبك الدولية عام 2022 (إدارة الأعمال)
يخطّط الشبّان الأربعة للاستمرارية كذلك، متحصّنين بشراكتهم المتينة وصداقتهم الحقيقيّة. يؤمنون بالانفتاح على فنانين آخرين آتين من خلفيات ثقافية متنوّعة ومن تجارب موسيقية مختلفة. «لا نقلق من المنافسة»، كما يقول أنطوني. «ننظر بفضول إلى التجارب الموسيقية الصاعدة، هي تُلهمنا وتحفّزنا على التحدّي والتجديد».
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 5 أيام
- Independent عربية
قاتل كخنزير بري... لافونتين وقصيدة الغرام المستحيل
هو من دون أدنى ريب واحد من أشهر شعراء التاريخ في مجال الكتابة بألسنة الحيوانات وعنها. صحيح أنه استلهم التراثين اليوناني واللاتيني في هذا المجال، وربما كذلك التراث العربي، كما يرى البعض، لكنه كان إلى ذلك النقطة الانعطافية التي راح يستلهمها من بعده معظم الذين، وفي مختلف اللغات، كتبوا الأشعار المتحدثة عن المملكة الحيوانية. كما كان الشاعر الذي خلف مئات الأمثلة الشعبية الأخلاقية المستوحاة من أشعاره أو المأخوذة منها حرفياً. وفي لغتنا العربية حسبنا أن نقارن بين عشرات القصائد التي كتبها، على سبيل المثل، أمير الشعراء أحمد شوقي متناولاً فيها حكايات الحيوانات، وأشعار لافونتين كي ندرك اتساع حضور هذا الأخير. لقد كان حضوره في مجال أشعار عالم الحيوان من الضخامة والاتساع بحيث ينسى كثر أنه كتب في مجالات أخرى، ولا سيما استلهاماً من الأساطير القديمة التي أعاد صياغتها بلغة فرنسية جميلة ومعاصرة لزمنه لتصبح بالنسبة إلى كثر، هي الأساس وحتى ما سبقها زمنياً ينهل منها! ولعل في إمكاننا هنا أن نتوقف عند واحدة من قصائد لافونتين في هذا المجال كنموذج على شعره المأخوذ من أساطير الأقدمين، ونعني بهذا قصيدته "أدونيس" التي كتبها عام 1657، ولكنها لم تنشر إلا عام 1669. قصيدة صغيرة في عمل كبير من ناحية مبدئية تعد قصيدة "أدونيس" للافونتين جزءاً مكوناً من قصيدته الطويلة "الحب وبسيكيه"، فتعرف بكونها "قصيدة صغيرة ترد ضمن عمل أطول"، بيد أن طول هذه "القصيدة الصغيرة" لا يقل عن 600 بيت من الشعر المقفى والموزون، الذي سيكون بول فاليري لاحقاً من أبرز مكتشفيه ومادحيه ودارسي دلالاته وأهميته. غير أن لافونتين حين كتب "أدونيس" إنما كتبها كتحية وهدية إلى الوزير فوكيه. ولم يكن قصده منها أول الأمر أن تنشر، بل أن تكون نصاً خاصاً موجهاً إلى رجل الدولة الذي كان معروفاً بحمايته له وتقريبه من القصر الملكي. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وفي تقديمه للقصيدة يعرفها الشاعر بقوله "إنها حكاية غراميات فينوس وأدونيس، حكاية الخاتمة التعيسة التي كانت من نصيب ذلك الصياد الوسيم، والذي شاهدنا حول قبره كل نساء الإغريق ينتحبن، بينما نشاهد أم الحب المقدسة منكبة على مقارعة ندمها طوال الزمن الوثني، هي التي لم يكن من عوائدها أن تذرف أية دمعة حزناً على فقدانها عشاقها...". إذاً، ما لدينا هنا هي حكاية أدونيس المعروفة منذ أوفيد الذي ذكرها وأسهب في وصفها في كتابه "مسخ الكائنات"، ومن ثم راح يرويها من بعده عشرات الكتاب والشعراء، ويرسمها فنانو أمم كثيرة، وبعد ذلك يموسقها مبدعو الأوبرات وغير الأوبرات. من بعد أوفيد نعرف أن حكاية أدونيس وفينوس - المسماة أحياناً عشتروت، إذ تنتقل الحكاية من الإغريقية إلى اللاتينية أو العكس بالعكس - لئن كان معظم هؤلاء المبدعين قد اشتغلوا عليها تعديلاً وتبديلاً، فإن لافونتين حين انصرف إلى كتابتها شعراً فرنسياً، آثر أن يتركها كما هي في حذافيرها الأصلية الأوفيدية، مكتفياً بنظمها بشعره الإيقاعي الموقع الجميل، فهو حين نظمها كان لا يزال في بداياته لا يجرؤ على إحداث تبديلات أساسية في عمل سابق الوجود. فاتن نساء الإغريق هكذا ظلت القصيدة تتحدث في صورة أساسية عن أدونيس متوقفة عند وسامته وحسن طلعته اللتين فتنتا كل نساء الإغريق والمناطق المجاورة التي كانت تسمع به، فتتقاطر نساؤها وأجمل فتياتها إلى حيث يمكنهن أن يرونه ويتمتعن ببهاء طلته وتحلم كل واحدة منهن بأن يكون رجلها ذات يوم. أما هو فإنه لم يكن ليعبأ بذلك كله. كان كل ما يهمه أن يمارس صيده ويلتحم بالطبيعة الغناء ناهلاً من سحرها وحالماً بأن يبقى على هذه الحال من السعادة الرعوية. لكنه ذات يوم، وإذ كان جالساً قرب مياه النهر يحلم ويتأمل المناظر الجميلة من حوله، تمر فينوس (عشتروت، أو حتى عشتار الفينيقية بالنظر إلى أن ثمة كذلك نسخة يقال لها إنها نسخة فينيقية عن الحكاية نفسها وتدور حوادثها افتراضياً في منطقة ما مما هو اليوم شمال لبنان، مجاورة للنهر المسمى اليوم نهر إبراهيم والمفترض أنه كان نهر أدونيس، لكن هذه ليست حكايتنا هنا ولا ترد على الإطلاق عند لافونتين بالطبع)، تمر فينوس بالمكان وإذ تشاهد الفتى الوسيم تنبهر به وتغرم من فورها عاملة على إغوائه. وهو يستجيب إلى ذلك الإغواء لتنشأ بينهما حكاية الحب الشهيرة. تلك الحكاية التي يتخللها حوارات بين الكائنين العاشقين وكلام عن الزمن يرد في ما تقوله فينوس لأدونيس بخاصة أن عليه أن يحذر غدر الزمن، منبهة إياه من أن هذا الأخير يمر من دون أن ننتبه إليه لنجدنا واقعين في أسره وقد ذوي شبابنا - ومن الجلي هنا بالطبع أن تلك السطور الحكيمة التي من الواضح أن لافونتين قد أقحم معظمها على نص أوفيد الأصلي إنما كانت من نوع الحكمة الشعرية الموجهة إلى الوزير الذي أهدي النص إليه، بأكثر مما كانت موجهة من الفاتنة فينوس إلى الصياد الشاب. استدعاء العاشقة ومهما يكن من أمر هنا، نعود إلى الحكاية المعروفة نفسها لنرى كيف أن العاشقين في ما كانا ينهلان من غرامهما عند ضفة النهر وسط جمال الطبيعة ووعودها، حدث أن استدعت الآلهة فينوس بوصفها الإلهة المولجة بأمور الحب لمهمة عاجلة إلى بافوس، فتستأذن أدونيس وتعانقه عناقاً أخيراً طالبة منه أن ينتبه لنفسه وينتظرها، إذ إنها ستعود فور انتهائها من مهمتها. وترحل تاركة إياه وقد جن هياماً بها. ونعرف بالطبع منذ أيام الدراسة بقية الحكاية: بعد رحيل فينوس يغوص أدونيس في دموعه باكياً لفراق حبيبته أول الأمر. لكنه بعد ذلك، إذ يهدأ بعض الشيء يقرر تزجية الوقت في اصطياد الخنزير البري. وإذ يبدأ في مطاردة أول خنزير يراه وقد تملكته شجاعة استثنائية، لا يكون من ذلك الخنزير إلا أن يرديه قتيلاً. والحقيقة أن لافونتين يصل في وصف الطراد والعراك بين أدونيس والخنزير البري إلى ذروة مدهشة لدرجة أن تلك الأشعار القوية سيجدها بول فاليري بعد قرون من الزمن جديرة بأن تشكل جزءاً من أرقى وأقوى أشعار المعارك الواصفة القتال بين الإنسان والحيوان وصفاً مدهشاً، بيد أن ما سيكون أقوى من هذا إنما هو توقف الشاعر إثر ذلك عند ما يمكن استخلاصه من ذلك القتال من هشاشة السعادة البشرية، فهذا هو الأساس بالنسبة إلى لافونتين هنا. هشاشة الحب القاتل الأساس هو الدرس المعنوي الذي يمكن استخلاصه من حكاية أرادت أن تصور قبل أي شيء آخر هشاشة الحب نفسه، إذ ها هو الشاعر يذكرنا هنا بأن أدونيس حتى ولو كان قد سقط مضرجاً بدمائه بفعل تفوق الخنزير البري عليه، فإن ما قتله قبل أي شيء آخر، كان الحب ولا سيما حبه المستحيل لفينوس التي، وهذا ما لا ينبغي أن ننساه أبداً، لم تترك في حياتها، من قبل أدونيس، سوى ضحايا لغرامها من كبار الأبطال الذين يتساقطون واحدهم بعد الآخر من دون أن ينالوا سعادتهم المطلقة معها. لكن الذنب ليس أبداً ذنبها وها هي إذ تعود إلى المكان وتكتشف جثة حبيبها المضرجة بالدماء إلى درجة اصطباغ مياه النهر بلون أحمر قان، تبكي عليه دموعاً حقيقية غزيرة وتشكو الآلهة في لغة ينقلها إلينا لافونتين بأداء رائع لن يفوت بول فاليري أن يرى فيه استباقاً لتلك اللغة الوصفية الرائعة التي تسم قصيدة "البحيرة" للامارتين بين نصوص أخرى. طبعاً، على رغم تلك المقاطع الشعرية التي تتسم بالروعة وأشرنا إليها أعلاه، لن نزعم أن قصيدة لافونتين هذه هي الأفضل بين ما كتب عن أدونيس، وحسبنا أن نقرأ مثلاً قصيدة "أدونيس" التي كتبها برسي شيلي حول موت صديقه الشاعر جون كيتس، أو قصيدة الإيطالي جان باتيستا مارينو، أو بخاصة نص شكسبير حول "فينوس وأدونيس"، للتيقن من هذا. مع ذلك فإن قصيدة "أدونيس" لجان دي لافونتين (1621 - 1695) تبقى في سياق أعماله، نصاً كبيراً، وفي سياق الأدب الفرنسي، نصاً مؤسساً لطريقة بارعة في استخدام الأساطير القديمة لكتابة أشعار - ومسرحيات - بدت حديثة، في زمنها.


الشرق الأوسط
منذ 7 أيام
- الشرق الأوسط
الأميركي الذي حدّث القصيدة
أصعب الأشياء في الزاوية اليومية هو الحيرة. ليس في قلة المواضيع، بل في كثرتها. وليس في أذواق القراء، بل في تعددها. وكيف تستطيع أن تحصر مواضع الاهتمام، خصوصاً في جريدة هي حقاً صحيفة جميع العرب، على اختلاف منابعهم ومشاربهم. عدد من الزملاء والأصدقاء يصرّ عليّ منذ سنوات أن أكرّس حيِّزاً دائماً للكتب بسبب كثرتها في حياتي. وأن أتوقف عند تلك الأعمال الأدبية التي غيرت في حياة الإنسان والتاريخ الإنساني، كمثل الشعر الحديث، أو الرواية الروسية، أو السوريالية الفرنسية. وكيف، مثلاً، كانت حياة دوستويفسكي أكثر مأساوية وفظاعة من أي رواية كتبها، أو كان يمكن أن يكتبها. سوف أحاول، بين فترة وأخرى، القيام برحلة في أعماق الأدب الكبير. أن أعود إلى ذوي الأسماء الذين غيروا مفهوم العالم إلى الأبد، متمنياً أن تكون المحاولة على خير ما تحب النفوس، بادئاً بالرجل الذي أعطى الشعر الحديث لقبه... وحداثته. القرن الماضي كان الأكثر ازدهاراً سواء بما ظهر من بدايات الشعر الحديث، أو أواخر جماليات الشعر التقليدي. والحداثة لم تكن فقط في الصياغة والشكل وإغفال الأوزان والقوافي، بل في حركة حداثية عامة متعددة التيارات والأساليب. ومع الحداثة في الأدب، نشأت تيارات سياسية كثيرة، كان أبرزها الاشتراكية، التي أهلكها الجمود أو الجلمود الشيوعي. إذ كيف يمكن أن تكون حداثة من دون حرية؟ شهدت حركة الحداثة في العالم العربي بعد الخمسينات حيوية طفولية، لكنها جمالية أيضاً. وبسبب رعاتها الأوائل: أدونيس، ويوسف الخال، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وخليل حاوي، وتوفيق صايغ، اندفع كتّاب تلك المرحلة في بناء مدرسة صغيرة ومتواضعة. ومنهم تعرفنا إلى أركان المدرسة الشعرية المؤسسة مثل عزرا باوند، وتي إس إليوت، الذي أهدى إلى باوند «الأرض اليباب» أجمل قصائد القرن الماضي. كانت «شعر» تختار لنا شعراء نقرأهم ونحبهم. ولا أدري لماذا أهملت عزرا باوند ومرتبته. لكن كل ما قرأت عند النقاد والأدباء، فيما بعد، يعلي شِعره إلى حد بعيد. وكم هو مغرٍ أن تقرأ قصة الشعر الحديث بدءاً منه، وبالتحديد، من منزله الذي تحول إلى متحف في إيطاليا. إلى اللقاء...


الرياض
١٤-٠٥-٢٠٢٥
- الرياض
وداعاً يوسف عبدالصمد
يرحل جسد الشاعر، لكنّ روحه تبقى زاخرة بالضوء، ويظل صوته فيّاضاً يتلو الأناشيد، ويعزف على لحن الخلود. هكذا يتراءى لي الشاعر الكبير يوسف عبدالصمد وهو يودع الدنيا ميمماً نحو عالم البقاء والأبدية. أما عطاءات الشاعر وإبداعاته وحراكه، فتظل تتحدث عنه، بصفته أحد أعلام الأدب العربي في المهجر، وأحد السُبّاك المَهرَة للقصيدة بأشكالها المتعددة. رحل يوسف عبدالصمد أواخر أبريل الماضي، في مدينة نيويورك، بالولايات المتحدة، ففقدت العربية شاعراً، وقيمة فكرية كبيرة. تلقيت نبأ رحيله المؤلم بحزن شديد، ما أحالني إلى تلك الأيام الخوالي التي كانت لنا مع روحه المرحة أطيب اللحظات التي لا تمحى، فكان يؤانسنا بقصائده، بخاصة تلك التي يهجو بها مجلس الأمن الدولي. كما ظل يتحفنا بمعارضاته الشعرية ومناكفاته الأدبية التي يعبق منها العطر والمسرّة. مسيرة الشاعر يوسف عبدالصمد ذات بصمات إبداعية مضمّخة بشجن إنساني، حيث يستوقفك في هذه الرحلة مدى تعلقه بضيعته اللبنانية "راس المتن" في قضاء بعبدا بمحافظة جبل لبنان. كان ضيعة تتعلق بأهداب القمر، وكانت زوجته "نورة" صاحبةُ الاخلاق الرفيعة الشعلة المتوهجة في مجمل قصائده، باعتبارها الملهمة الدائمة. امتلك الشاعر الراحل موهبة فريدة سواء في القصيدة الفصحى، أو في العامية اللبنانية (الزجل) فتجلت في كليهما بصمة واضحة في اللفظة الإبداعية والصورة الجمالية والمِسحة الإنسانية. لم يكن الشاعر يوسف عبدالصمد إلا واحداً من أولئك الشعراء الذين صقلت موهبتهم الثقافة اللبنانية في حقبة السبعينات؛ تلك المتدفقة بالعطاء الأدبي، ولا سيما الشعر، وشكلت منارة لكل العرب. وكان للراحل صداقات واسعة مع الكثير من شعراء لبنان ذلك الحين، كسعيد عقل، ونزار قباني، وأدونيس وطارق آل نصر الدين، وياسر بدر الدين، وجورج شكور، وغيرهم من القامات الأدبية التي تزخر بها الساحة اللبنانية. اشتملت روح الشاعر يوسف عبدالصمد على الكثير من المزايا والمقومات؛ فظل شاعراً تنصاع له القوافي فيُنزِلُها منازلَها، وصاحب مشاريع خلاقة يتدفق منها العطاء، فضلاً عمق الشخصية وتطلعها إلى الإنجاز والترقي. وظلت مشاريعه الثقافية تتحدث عنه؛ إذ كان له حضور لافت في إيجاد مؤسسة تعنى بالثقافة؛ حيث كان المشهد الثقافي العربي في مدينة نيويورك يفتقر لأية مؤسسة ثقافية أو اجتماعية، وكان الحضور العربي ضحلاً، وهو ما لم يقبله، فعقد العزم على تغييره، فأنشأ مؤسسة "أقلام مهاجرة" للثقافة، إلا أنّ هذه الفكرة لم تخرج إلى حيز الوجود، بيْد أنّ هذا لم يفتّ في عضده، فاغتنم لقاء بعض الأدباء والشعراء في مناسبة عشاء في منزلي، على شرف السفير فؤاد الترك، حيث تم التطرق لاهتمامات الشاعر يوسف عبدالصمد الثقافية، ورغبته في تبادل الأفكار حول أهمية تفعيل الجهود والحركة الثقافية في نيويورك. وفي ذلك اللقاء ولدت فكرة الرابطة القلمية الجديدة، بناءً على اقتراح من السفير فؤاد الترك، تأسيّاً بالرابطة الجُبرانية التي أنشئت في الفترة بين 1920- 1931 من القرن المنصرم. وقد اتفق أن يكون يوسف عبدالصمد عميداً لها، والدكتور جورج يونان نائباً للعميد. الفضل الأول في قيام الرابطة وحيويتها يعود للجهود التي لا تفتر للشاعر يوسف عبدالصمد، إذ أصبحت الرابطة الجديدة، بفضل هذه الجهود، أحد المشاعل المضيئة لتعزيز الثقافة العربية في نيويورك، فقد كرس لراحل جل وقته، وعمل من دون كلل أو ملل، لإبراز أنشطة الرابطة الفتية، مما أهّلها للمضي والاستمرار، كما أصدر مجلة إلكترونية باسم "أقلام مهاجرة"، لكي تكون صوتاً للرابطة وأنشطتها، وكان له دور كبير في استنهاض الهمم للمشاركة في فعاليات الرابطة. وللحق، كان اهتمامه بالرابطة جدياً حد الاشتعال. لروح عبدالصمد الرحمة، ولأسرته أعظم العزاء، لكنّ ما يواسي النفس في هذا الحدث الجلل أنّ الشاعر ترك إرثاً من الإبداع والإنجاز والذكريات تؤهله أن يظل باقياً مشعاً في القلوب والأذهان، كيف لا وقد حباه الله بقدرة فائقة على سبك المعاني، واستظهار أجمل الصور وأعذب القوافي. لا يرحل مَن كان صاحب شعر صافٍ، وقدرة خلاقة على التصرف بعناصر الجمال ومفردات الوجود، لترقد روحك بسلام، أيها الصديق الشاعر. *كاتب وسفير سعودي سابق