logo
معركة البويب.. يوم هزم المسلمون الفُرس في رمضان

معركة البويب.. يوم هزم المسلمون الفُرس في رمضان

الجزيرة١٨-٠٣-٢٠٢٥

يصف المؤرخ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" معركة البُويب التي وقعت قرب نهر الفرات في العراق بأنها تماثل معركة اليرموك ضد البيزنطيين في خطورتها وآثارها الكبيرة على المسلمين والفرس؛ فقد أحصى أن 100 مقاتل مسلم قتل كل واحد منهم 10 من الأعداء، ولذلك عُرفت هذه المعركة أيضا بيوم الأعشار.
وقعت معركة البُويب في شهر رمضان ١٣ من الهجرة عقب هزيمة المسلمين في معركة الجسر التي خاضوها أيضا ضد الفرس، حيث دعا الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- المسلمين إلى الجهاد في العراق، فتجمع 4 آلاف مقاتل من مختلف أنحاء الجزيرة العربية استجابة لندائه.
أسند الخليفة قيادة هذا الجيش إلى جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- الذي ضم عددًا كبيرًا من قومه بني بجيلة. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل أرسل قوة إضافية بقيادة عصمة بن عبد الله الضبي، كما أمر من تاب من أهل الردة بالحضور إلى المدينة ثم وجّههم إلى العراق.
في تلك الأثناء وبعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر، كان الجيش الإسلامي تحت قيادة المثنى بن حارثة -رضي الله عنه- قد انسحب إلى منطقة تُسمى مرج السباخ، الواقعة بين القادسية وخفان، اختار القائد هذا الموقع لقربه من الصحراء، وفيه يمتلك المسلمون خبرة قتالية تفوق الفُرس الذين يواجهون صعوبة في القتال هناك.
ظل المثنى ينتظر وصول الدعم العسكري من المدينة، وخلال ذلك تمكنت استطلاعات الفُرس ومخابراتهم من رصد تحركات القوات الإسلامية المتجهة إلى معسكره. وعلى إثر هذه المعلومات، اجتمع قادة الإمبراطورية الفارسية لمناقشة الوضع، وعرض قادة الفرس مثل رُستم والفيروزان على الملكة بوران ضرورة التصدي للمسلمين، فوافقت على إرسال جيش بقيادة مهران.
تلافي خطأ الجسر
تحرك الجيش الفارسي من المدائن متجها إلى الحيرة، وكان 12 ألف جندي، إذ جهزت الإمبراطورية الفارسية جيشا قويا، فكان مع كل فارس راجل، وصحب الجيش 3 أفيال، وذلك لمواجهة المسلمين.
في المقابل، علم المسلمون بتحركات جيش الفرس نحو الحيرة، وقد عزم المثنى على تلافي أخطاء معركة الجسر والاستفادة من الخبرة التي حصل عليها من مصاحبته القائد خالد بن الوليد -رضي الله عنه- سابقا، وأن يحدد هو لا العدو موقع المعركة، فتوجه بجيشه إلى منطقة تسمى "البُويب".
وجه القائد رسالة إلى جرير بن عبد الله، ورسائل أخرى إلى أمراء القوات القادمة من المدينة، يأمرهم بالتحرك إلى البويب، إذ قال لهم كما يذكر الطبري في تاريخه "إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب".
تحرك المثنى بجيشه وعسكرَ على الضفة الشرقية لنهر الفرات في البويب، ولم يعبر النهر، إذ كان قد تلقى أوامر من عمر بن الخطاب بعدم عبور أي بحر أو جسر لمواجهة الفرس، إلا بعد تحقيق النصر عليهم.
والحق أن أمر عُمر للمسلمين كان على جانب كبير من الأهمية، فقد أراد ان يتجنب المسلمون تكرار حصار الفرس لهم كما حدث في معركة الجسر، كما أنه إذا خسر المسلمون فسيتمكنون من الانسحاب بسهولة إلى قواعدهم، وذلك يسهل على الخليفة عمر إرسال الإمدادات إذا دعت الحاجة.
وصل الفرس إلى الشاطئ الغربي لنهر الفرات، فأمسى النهر فاصلا بين الجيش الإسلامي والجيش الفارسي القادم من المدائن، كأن أحداث معركة الجسر تتكرر من جديد ولكن بنتيجة مختلفة، فعندما نزل قائد الفرس مهران على شاطئ الفرات أرسل إلى المثنى قائلا "إما أن تعبر إلينا، وإما أن نَعبر إليك"، فقال المثنى: "اعبروا".
اشتداد المعركة
كان المثنى قد نظّم جيشه جيدا، فجعل على الميمنة بشير بن الخصاصية، وعلى الميسرة بُسر بن أبي رُهم، وتمركز هو في مقدمة الجيش، كما وضع فرقة احتياط في المؤخرة لا تشترك في القتال بقيادة مذعور بن عدي، وفرقة للخيول بقيادة أخيه مسعود بن حارثة، بينما أسندَ قيادة فرقة المشاة إلى أخيه الآخر الـمُعنّى بن حارثة.
وبدأ المثنى يحفز الجيش للقتال، ويمر على كل قبيلة على حدة قائلا "إني لأرجو ألا تُؤتى العرب اليوم مِن قبلكم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم".
أصبح جيش المسلمين مستعدا للقتال، وبدأ الجيش الفارسي في عبور الجسر الضيق إلى أرض حاصرها المسلمون من جميع الجهات، حيث وجد الفُرس أنفسهم شرق نهر الفرات، وفي غربهم توجد بُحيرة، وفي شمالهم نهر البويب، بينما يُحيط بهم الجيش الإسلامي بالكامل.
ومع دخول القوات الفارسية، فقدَ جيش الفرس ميزته العددية، لأن المساحة التي تركها لهم المسلمون كانت ضيقة للغاية، مما أجبرهم على الاصطفاف في 3 صفوف، وكان في كل صفٍّ فيل، وبهذه الصورة لم يكن الصفّ الأول من الفُرس يقابل الا الصفَّ الأول من المسلمين، ولم يتمكّن باقي الجيش الفارسي من الدخول إلى المعركة.
حينئذ فقدت الأفضلية العددية للفرس أهميتها، بل أصبحت النتيجة تعتمد على قوة الصفوف المتقدمة في كلا الجيشين، وكان هذا الاختيار موفّقا من المثنى، إذ عَوض به عن الخطأ الذي حدث في معركة الجسر بسبب سوء اختيار أرض المعركة.
دخل الجيش الفارسي في المصيدة، بينما تمركز الجيش الاسلامي في المقدمة، وقد تقدم الفرس وهم يطلقون صيحات عالية لإرهاب المسلمين، لكن المثنى أمر جيشه بالثبات والتكبير 3 مرات بصوت أخاف العدو، ثم بدأ القتال بعد التكبيرة الرابعة، إلا ان الفرس لم ينتظروا وهاجموا المسلمين منذ التكبيرة الأولى.
اندلعت معركة حامية، وتمكن الفرس في البداية من صد هجمات المسلمين، لكن مع استمرار القتال قاد المثنى بنفسه هجوما مباشرا على قلب الجيش الفارسي حيث كان قائدهم مهران، مما أجبره على التراجع من القلب إلى الميمنة.
وعقب ذلك تمكّن أحد المسلمين من قتل قائدهم مهران، وكان لمقتله تأثير كبير على معنويات الفرس، ومع ذلك صمدت ميمنته وميسرته بعض الوقت، لكن مع اشتداد القتال انهار جناحا الجيش الفارسي بالكامل، وبدأ الفرس في الفرار.
غير أن المثنى تمكن من قطع الطريق عليهم عندما سبقهم إلى الجسر الذي عبروا منه، وأمر بقطعه ليمنعهم من الهرب، ولم يعد أمام الفُرس سوى القتال حتى النهاية، وبدأ المسلمون معركة تصفية ضد من تبقى منهم.
حقق المسلمون انتصارا ساحقا، وأسروا نحو 3 آلاف جندي فارسي، وبسبب ضيق مساحة القتال تراكمت جثث الفرس فوق بعضها، ويذكر المؤرخون أن عظامهم ظلت متراكمة لفترة طويلة بسبب كثرتها.
رغم أن قطع المثنى للجسر كان أحد أسباب انتصار المسلمين وهزيمة الفرس، فإنه شعر بالندم على هذا القرار، وقال "لقد عجزتُ عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر وقطعه، حتى أحرجتهم، فاني غير عائد، فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنها كانت مني زلّة لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع".
فقد أدرك المثنى أن إكراه الفرس على القتال جعلهم أمام خيارين، إما الموت وإما تحقيق النصر، مما زاد من شراسة قتالهم ورفع عدد شهداء المسلمين قبل أن يسقطوا، بينما كان الأجدر به زرع الرعب في قلوب من تبقى منهم وملاحقة الفلول الهاربة.
مطاردة الفارين
وعقب هذا الانتصار ارتفعت معنويات المسلمين بشكل كبير، فتمكنوا من استعادة الأراضي التي فقدوها سابقا، بينما انهارت معنويات الفرس وهرب من نجا منهم الى المدائن قبل قطع الجسر.
ولم يكتف المثنى بما تحقّق، بل أمر قواته بمطاردة الفارين واستعادة المناطق التي انسحبوا منها، فوجّه عددًا من القادة مع جيوشهم إلى منطقة السواد الواقعة بين دجلة والفرات، حيث بدأت القوات الإسلامية بالسيطرة على هذه الأراضي التي سبق أن عاهدت المسلمين ثم نقضت عهودها.
في أثناء هذه المعركة الناجحة وبعدها وجدنا أن القائد المثنى بن حارثة كان يقاتل الفُرس وفق العديد من التكتيكات القتالية المتوازية أو المتوالية تمثلت هذه الوسائل في القتال في المواقع الكبيرة حيث تكون القوات متقابلة مثل معركة البويب ومعركة بابل سابقا.
وبالتوازي مع هذا، كان الأمر يتعلق بالسرايا والفِرق التي يمكنها مهاجمة الأماكن التي لا توجد بها قوات فارسية كبيرة، والسيطرة على هذه الأراضي وحمايتها من القوات الفارسية الضعيفة الموجودة في تلك المناطق.
واستخدم المثنى أيضا ما يُسمى في العصر الحديث "بحرب الاستنزاف"، أي شن غارات مفاجئة على الجيش الفارسي في عمق أراضيه دون الاحتفاظ بتلك الأراضي بسبب قلة القوات الإسلامية، مما يسبب نوعًا من الرعب والفزع لدى الفرس، ثم تعود القوات الإسلامية مع بعض الغنائم والأموال إلى قواعدها.
نهاية المثنّى والطريق إلى القادسية
اجتمع الأساورة اجتماعا كبيرا وأمروا رستم والفيروزان أن يجمعا أمرهما على قتال المسلمين وإلا قُتلا، وخشي الرجلان أن تكون عاقبتهما القتل أو التخلّي عن إمرة الجيوش، ومن ثم قررا التوحد والقيام بحرب ضد المسلمين.
بدأ يزدجرد كسرى فارس الجديد حينئذ ينظم الجيوش ويدير الأمور وهو حديث عهد بذلك، وأول ما فكر فيه هو القضاء على قوة المسلمين، وقد وصلت الأخبار إلى المثنى بتجمع الفرس العظيم لملاقاة المسلمين، فانسحب بجميع قواته من المناطق التي كان قد استولى عليها وهي الأنبار، وساباط، والحيرة، كما انسحب أيضا من الأبلة.
وجعل المثنى تجمُّعه هذه المرة في منطقة تُسمى "ذي قار"، الواقعة على أبواب الصحراء، والجيش الفارسي لا يجيد القتال في الصحراء، ولو وقع الاحتمال الأسوأ وهو هزيمة جيش المسلمين فيمكنه بسهولة الفرار في هذه الصحراء الشاسعة دون صعوبة.
عندئذ اتجه الجيش الفارسي من المدائن إلى "ذي قار"، وأرسل المثنى رسالة إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يُخبره فيها أن الفرس يجمعون كل عدّتهم وعتادهم لقتال المسلمين، وبمجرد أن وصلت الرسالة أعلن عمر بن الخطاب النفير العام، وأرسل الدعاة إلى كل الجهات لحث الناس على الجهاد وقتال الفرس، وكان ذلك في شهر ذي القعدة سنة 13 من الهجرة.
في المقابل، كان المثنى قد أصيب بجراحات كثيرة في بدنه في موقعة الجسر وظل متأثرا بها طوال هذه الفترة وعقب البويب وما تلاها كانت حالته تسوء حتى لقي ربه عام 14 من الهجرة.
وكان عمر قد بعث جيشا من المسلمين إلى فارس يتكون من 20 ألف جندي تحت قيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وسار سعد بالجيش حتى بلغ القادسية.
ومن اللافت أن المثنى قُبيل وفاته كان قد أرسل إلى سعد بن أبي وقاص مع أخيه المعنّى بن حارثة الشيباني ينصحه فيها أن يقاتل الفرس على حدود أرضهم، ولا يقاتلهم بعقر دارهم، وفي الوقت نفسه جاءت رسالة من عمر بن الخطاب إلى سعد تحضّه على هذا الأمر، فترحم سعدُ ومن معه على المثنى رضي الله عنه وحسن إدارته ومشورته.
وكان هذا التوافق في الرأي دليلا على بُعد نظره؛ فقد استفاد المثنى بن حارثة الشيباني كثيرًا من تجاربه السابقة، وبفضل هذا الرأي وقعت معركة القادسية التي كانت الضربة القاصمة للفرس، والتي أدت إلى هزيمتهم المفجعة في العراق وفتح الطريق أمام المسلمين للدخول في عمق إيران فيما بعد.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

‫ مجلس التعاون الخليجي .. أربعة وأربعون عاما من البناء والتكامل
‫ مجلس التعاون الخليجي .. أربعة وأربعون عاما من البناء والتكامل

العرب القطرية

timeمنذ 2 ساعات

  • العرب القطرية

‫ مجلس التعاون الخليجي .. أربعة وأربعون عاما من البناء والتكامل

قنا تحل اليوم الذكرى الرابعة والأربعون لتأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهي مناسبة تاريخية تعكس مسيرة طويلة من العمل المشترك والتكامل بين دول الخليج، ودليل يؤكد نجاح خطواته وصلابة بنيانه، بفضل السياسات الحكيمة والمتوازنة التي يتبناها، بتوجيهات كريمة وحكمة سديدة من أصحاب الجلالة والسمو قادة دول المجلس الست. ففي الخامس والعشرين من مايو، قبل أربعة وأربعين عاماً، انطلقت الخطوات الأولى للصرح الخليجي، حيث عقدت أول قمة خليجية في العاصمة الإماراتية أبوظبي، وقد تم فيها الإعلان رسمياً عن قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية ككيان إقليمي يهدف إلى تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع المجالات وصولاً إلى وحدتها. وقد جاء تأسيس المجلس انطلاقاً من إدراك قادة دول الخليج لما يربط بين دولهم من علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، والإيمان بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبهم، والرغبة في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين. ومنذ اللحظات الأولى لميلاد المجلس، لم يكن الهدف مجرد إنشاء تكتل سياسي أو اقتصادي عابر، بل كان مشروعا لتحويل حلم الأجيال الخليجية إلى حقيقة والوصول إلى وحدة الصف، وتكامل المصير، وتعزيز الهوية الخليجية الأصيلة لمواكبة متطلبات الحاضر والمستقبل ومواجهة رياح التغيير. وقد مضى المجلس في مسيرته المباركة بدعم وتوجيه ورعاية من أصحاب الجلالة والسمو قادة دوله الست، حتى أضحى اليوم مؤسسة شامخة البنيان راسخة الأركان استنادا إلى جذورها الضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا ، وعمق الأخوة وروابط الدم والدين واللغة والمصير الواحد والتطلعات والطموحات المشتركة لدول الخليج وشعوبها. وتعتبر مسيرة مجلس التعاون الحافلة بالعمل الدؤوب المشترك، وسِجل الإنجازات على مدى أربعة وأربعين عامًا، نموذجًا يُحتذى به للتكامل والترابط الناجح على المستويَيْن الإقليمي والدولي، ويعود ذلك لفضل الله –عز وجل-، ثم لإيمان قيادات دول المجلس بأهمية ودور المجلس في حماية الأمن، وترسيخ الاستقرار، وتحقيق التنمية المستدامة لأجل شعوبهم. وقد وضع مجلس التعاون منذ إنشائه رؤية واضحة لمستوى التكامل المشترك بين دوله، ترتكز على حماية مجلس التعاون من التهديدات كافة من منطلق أن أمن دول المجلس كلٌّ لا يتجزأ، ودعم وزيادة النمو الاقتصادي واستدامته من خلال تنويع القاعدة الإنتاجية، والانتقال إلى الاقتصاد المرتكز على المعرفة والابتكار، والحفاظ على مستوى عال من التنمية البشرية انطلاقًا من القناعة الراسخة بأن الإنسان هو هدف التنمية، وتمكين مجلس التعاون من التعامل مع الأزمات بأنواعها كافة، والتعافي منها، إضافة إلى تعزيز مكانة مجلس التعاون الإقليمية والدولية، ونصرة القضايا العادلة، وتقديم الدعم خلال الأزمات الدولية. وتحل الذكرى الرابعة والأربعون لقيام مجلس التعاون في وقت أثبت فيه المجلس أنه أنجح تجربة تكاملية في المنطقة، وهي تجربة باتت محط إشادة وإعجاب من القاصي والداني، وأضحت ركيزة أساسية للأمن والاستقرار، وصوتا للحكمة والاتزان، ونموذجا فريدا للحياة الكريمة، كما تأتي هذه الذكرى السنوية والمواطن الخليجي ينعم بفضل الله بالأمن والاستقرار، ويسمو بانتمائه ومبادئه، ويشعر بالفخر بمنجزاته ومكتسباته، ويمد يد العون والمساعدة لأشقائه والإنسانية جمعاء. وفي مارس الماضي قال البيان الختامي الصادر عن المجلس الوزاري لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في دورته الـ163 ، إن المجلس الوزاري اطلع على ما وصلت إليه المشاورات بشأن تنفيذ قراره في دورته الثالثة والثلاثين، بشأن مقترح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، بالانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وتوجيه المجلس الوزاري بالاستمرار في مواصلة الجهود للانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وتكليفه المجلس الوزاري ورئيس الهيئة المتخصصة باستكمال اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، ورفع ما يتم التوصل إليه إلى المجلس الوزاري في دورته القادمة. وأكد المجلس الوزاري حرصه على قوة وتماسك مجلس التعاون، ووحدة الصف بين أعضائه، وتحقيق المزيد من التنسيق والتكامل والترابط في جميع الميادين، بما يحقق تطلعات مواطني دول المجلس، مجددا تأكيده على وقوف دوله صفاً واحداً في مواجهة أي تهديد تتعرض له أي من دول المجلس. تم تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الـ25 من مايو 1981م في ظروف استثنائية نتيجة للتوترات الإقليمية في ذلك الوقت وللتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي كانت تواجه دول المنطقة مما دفع دول المجلس إلى توحيد الجهود والتعاون بينها، وتعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي والأمني لتحقيق الاستقرار والتعاون ومواجهة هذه التحديات. وتتمثل الأهداف الرئيسة لإنشاء مجلس التعاون الخليجي التي حددها نظامه الأساسي، في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين دوله الأعضاء في جميع المجالات، وتوثيق الروابط بين شعوبها، ووضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين الاقتصادية والمالية والتجارية والجمارك والمواصلات، وفي الشؤون التعليمية والثقافية، والاجتماعية والصحية، والإعلامية والسـياحية، والتشـريعية والإدارية، ودفع عجلة التقدم العلمي والتقني في مجالات الصناعة والتعدين والزراعة والثروات المائية والحيوانية، وإنشاء مراكز بحوث علمية وإقامة مشروعات مشـتركة، وتشجيع تعاون القطاع الخاص. وقد نص النظام الأساسي لمجلس التعاون على أن تأسيسه جاء إدراكا من دوله الأعضاء لما يربط بينها من علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، وإيمانا بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها، ورغبة في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين، واقتناعا بأن التنسيق والتعاون والتكامل فيما بينها إنما يخدم الأهداف السامية للأمة العربية. ولقد أنجز مجلس التعاون عبر مسيرته الممتدة لأكثر من أربعة عقود العديد من الخطوات التاريخية التي تعزز بنيان المجلس وترسخ أهدافه وطموحاته في وجدان أبناء الخليج، ومنها إنشاء السوق الخليجية المشتركة، التي توفر فوائد عديدة تشمل ضمان انسياب السلع بين دول مجلس التعاون بما يؤدي إلى زيادة التنافس بين المؤسسات الخليجية لصالح المستهلك، كما أنشأت دول المجلس "منطقة التجارة الحرة"، التي تتميز بشكل رئيسي بإعفاء منتجات دول مجلس التعاون الصناعية والزراعية ومنتجات الثروات الطبيعية من الرسوم الجمركية، وقد دخلت منطقة التجارة الحرة حيز التنفيذ في مارس 1983، واستمرت نحو عشرين عاما إلى نهاية عام 2002 حين حل محلها الاتحاد الجمركي لدول المجلس. وقد بلغ حجم التجارة البينية لدول المجلس في عام 2023 أكثر من 131 مليار دولار أمريكي بنمو 3.3%، بينما بلغ حجم التجارة الخارجية السلعية بما يصل إلى 1.5 ترليون دولار أمريكي بنمو 4%، حيث تشير هذه المؤشرات الاقتصادية إلى الفرص الواعدة التي ينبغي الاستفادة منها لتعزيز التعاون الخليجي المشترك في كافة المجالات التجارية. كما أنجز مجلس التعاون خلال مسيرته التي دخلت عقدها الخامس مشروع بطاقة الهوية الموحدة لدول المجلس (البطاقة الذكية)، والتي أسهمت بتسهيل تنقل المواطنين بين الدول الأعضاء، وتقليل فترة الانتظار أمام المنافذ عن طريق الدخول بواسطة البوابات الإلكترونية، كما ساعدت في انسيابية حركة العمالة الوطنية بين الدول الأعضاء. وفي سياق محطات ومشاريع مسيرة مجلس التعاون جاء إقرار الاستراتيجية الأمنية الشاملة لدوله الأعضاء، وكذلك الاتفاقية الأمنية لدول المجلس، كما حظي العمل العسكري المشترك باهتمام أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون منذ نشأته، ومن أبرز ما تحقق على هذا المسار إقرار اتفاقية الدفاع المشترك لمجلس التعاون، والاستراتيجية الدفاعية للمجلس، وتشكيل قوات درع الجزيرة المشتركة، والقيام بالتمارين العسكرية المشتركة. ويعتبر الربط الكهربائي بين دول مجلس التعاون من أهم مشروعات البنى الأساسية التي أقرها المجلس، وتشمل فوائد المشروع تخفيض الاحتياطي المطلوب بكل دولة، والتغطية المتبادلة في حالة الطوارئ، والاستفادة من الفائض، وتقليل تكلفة إنتاج الطاقة الكهربائية. كما أقر المجلس الأعلى الاستراتيجية الإعلامية، ومن أبرز أهدافها تعزيز التعاون وفرص الوحدة بين دول المجلس، وترسيخ الهوية الخليجية والعربية والإسلامية لدول مجلس التعاون، وتعميق المواطنة الخليجية، ودعم ترابط المجتمع الخليجي وأمنه واستقراره، وتنمية الوعي المجتمعي العام لدى المواطنين والمقيمين، ودعم مسيرة المجلس والتعاون والتكامل بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية بالدول الأعضاء. واعتمد المجلس الأعلى في دورته الثالثة والثلاثين، الاستراتيجية البترولية للدول الأعضاء، انطلاقا من أهمية دول المجلس على المستوى العالمي، سياسيا واقتصاديا، ودورها الريادي في الصناعة البترولية، وثقلها البترولي باعتبارها تملك أكبر احتياطي مؤكد من البترول، وتشكل أكبر منطقة لإنتاجه وتصديره. وعلى صعيد السياسة الخارجية عمل مجلس التعاون على صياغة مواقف مشتركة وموحدة تجاه القضايا السياسية التي تهم دوله الست في الأطر العربية والإقليمية والدولية، والتعامل كتجمع واحد مع العالم، في إطار الأسس والمرتكزات القائمة على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ومراعاة المصالح المشتركة، بما يصون مصالح دول المجلس، ويعزز أمنها واستقرارها ورخاء شعوبها، وعلى هذا المسار، نجح مجلس التعاون الخليجي في تعزيز مكانته الإقليمية وتأكيد حضوره على الساحة الدولية، وبات شريكا فاعلا وموثوقا به لترسيخ الأمن والاستقرار حول العالم، كما سعى المجلس منذ انطلاقته إلى توسيع شراكاته وحواراته الاستراتيجية مع العديد من الدول والتجمعات والدخول في مفاوضات التجارة الحرة مع الدول والمجموعات الاقتصادية الدولية تحقيقا للمصالح المشتركة، ووقعت دول المجلس على العديد من اتفاقيات التجارة الحرة مع دول أخرى حول العالم لتسهيل حركة السلع، وتعزيز التجارة البينية وتوسيع فرص الاستثمار وتنمية العلاقات التجارية القوية. ويعد مجلس التعاون لاعبا اقتصاديا موثوقا على الصعيد الدولي، فهو سوق ضخمة للصادرات من جميع أنحاء العالم، كما تلعب دول المجلس دورا متميزا في تزويد أسواق الطاقة العالمية بالنفط والغاز اللذين يعدان المحركين الرئيسيين للاقتصاد العالمي، ويشكلان قرابة ستين بالمئة من الطاقة المستهلكة على الصعيد الدولي. وتتحكم دول المجلس بنحو ثلث احتياطي النفط العالمي، وتعتبر الأولى في إنتاج النفط الخام واحتياطياته، والثالثة عالميا في إنتاج الغاز الطبيعي المسوق، والأولى عالميا في احتياطي الغاز الطبيعي، الأمر الذي يمنح المجلس نفوذا جوهريا في استقرار أسواق الطاقة، كما تحتل دول مجلس التعاون مراتب متقدمة في قائمة أكبر الصناديق السيادية في العالم، وتمتلك دول المجلس صناديق للثروة السيادية، يبلغ حجم أصولها نحو 4.4 تريليون دولار، وهو ما يعادل نسبة أربعة وثلاثين بالمئة من مجموع أصول أكبر 100 صندوق ثروة سيادي في العالم، وهو ما يمنحها تأثيرا في الأسواق العالمية والاستثمار الدولي، كما اعتمدت دول المجلس استراتيجيات للتحول إلى اقتصادات قائمة على المعرفة، وتكنولوجيا المعلومات، والطاقة النظيفة، ما يعزز موقعها كمراكز استثمار عالمي متقدم. وهكذا تمضي مسيرة مجلس التعاون بعزم وثقة من قادته وأبنائه متطلعة لغد مشرق والمزيد من الإنجازات، وتنفيذ الخطط التنموية الطموحة في كل دولة من دول المجلس لتحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة، والتي ارتكزت على المواطن الخليجي كمحور للتنمية وهدفها الرئيسي ومحركها الأساسي، والتي عكست مؤشراتها المتقدمة عالميا المكانة الاقتصادية لدول المجلس، والتي أصبحت نموذجا رائدا ليس على المستوى الخليجي فحسب، بل وعلى المستوى الإقليمي والعالمي.

‫ مجلس التعاون الخليجي .. أربعة وأربعون عاما من البناء والتكامل
‫ مجلس التعاون الخليجي .. أربعة وأربعون عاما من البناء والتكامل

العرب القطرية

timeمنذ 7 ساعات

  • العرب القطرية

‫ مجلس التعاون الخليجي .. أربعة وأربعون عاما من البناء والتكامل

قنا تحل اليوم الذكرى الرابعة والأربعون لتأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهي مناسبة تاريخية تعكس مسيرة طويلة من العمل المشترك والتكامل بين دول الخليج، ودليل يؤكد نجاح خطواته وصلابة بنيانه، بفضل السياسات الحكيمة والمتوازنة التي يتبناها، بتوجيهات كريمة وحكمة سديدة من أصحاب الجلالة والسمو قادة دول المجلس الست. ففي الخامس والعشرين من مايو، قبل أربعة وأربعين عاماً، انطلقت الخطوات الأولى للصرح الخليجي، حيث عقدت أول قمة خليجية في العاصمة الإماراتية أبوظبي، وقد تم فيها الإعلان رسمياً عن قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية ككيان إقليمي يهدف إلى تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع المجالات وصولاً إلى وحدتها. وقد جاء تأسيس المجلس انطلاقاً من إدراك قادة دول الخليج لما يربط بين دولهم من علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، والإيمان بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبهم، والرغبة في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين. ومنذ اللحظات الأولى لميلاد المجلس، لم يكن الهدف مجرد إنشاء تكتل سياسي أو اقتصادي عابر، بل كان مشروعا لتحويل حلم الأجيال الخليجية إلى حقيقة والوصول إلى وحدة الصف، وتكامل المصير، وتعزيز الهوية الخليجية الأصيلة لمواكبة متطلبات الحاضر والمستقبل ومواجهة رياح التغيير. وقد مضى المجلس في مسيرته المباركة بدعم وتوجيه ورعاية من أصحاب الجلالة والسمو قادة دوله الست، حتى أضحى اليوم مؤسسة شامخة البنيان راسخة الأركان استنادا إلى جذورها الضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا ، وعمق الأخوة وروابط الدم والدين واللغة والمصير الواحد والتطلعات والطموحات المشتركة لدول الخليج وشعوبها. وتعتبر مسيرة مجلس التعاون الحافلة بالعمل الدؤوب المشترك، وسِجل الإنجازات على مدى أربعة وأربعين عامًا، نموذجًا يُحتذى به للتكامل والترابط الناجح على المستويَيْن الإقليمي والدولي، ويعود ذلك لفضل الله –عز وجل-، ثم لإيمان قيادات دول المجلس بأهمية ودور المجلس في حماية الأمن، وترسيخ الاستقرار، وتحقيق التنمية المستدامة لأجل شعوبهم. وقد وضع مجلس التعاون منذ إنشائه رؤية واضحة لمستوى التكامل المشترك بين دوله، ترتكز على حماية مجلس التعاون من التهديدات كافة من منطلق أن أمن دول المجلس كلٌّ لا يتجزأ، ودعم وزيادة النمو الاقتصادي واستدامته من خلال تنويع القاعدة الإنتاجية، والانتقال إلى الاقتصاد المرتكز على المعرفة والابتكار، والحفاظ على مستوى عال من التنمية البشرية انطلاقًا من القناعة الراسخة بأن الإنسان هو هدف التنمية، وتمكين مجلس التعاون من التعامل مع الأزمات بأنواعها كافة، والتعافي منها، إضافة إلى تعزيز مكانة مجلس التعاون الإقليمية والدولية، ونصرة القضايا العادلة، وتقديم الدعم خلال الأزمات الدولية. وتحل الذكرى الرابعة والأربعون لقيام مجلس التعاون في وقت أثبت فيه المجلس أنه أنجح تجربة تكاملية في المنطقة، وهي تجربة باتت محط إشادة وإعجاب من القاصي والداني، وأضحت ركيزة أساسية للأمن والاستقرار، وصوتا للحكمة والاتزان، ونموذجا فريدا للحياة الكريمة، كما تأتي هذه الذكرى السنوية والمواطن الخليجي ينعم بفضل الله بالأمن والاستقرار، ويسمو بانتمائه ومبادئه، ويشعر بالفخر بمنجزاته ومكتسباته، ويمد يد العون والمساعدة لأشقائه والإنسانية جمعاء. وفي مارس الماضي قال البيان الختامي الصادر عن المجلس الوزاري لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في دورته الـ163 ، إن المجلس الوزاري اطلع على ما وصلت إليه المشاورات بشأن تنفيذ قراره في دورته الثالثة والثلاثين، بشأن مقترح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، بالانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وتوجيه المجلس الوزاري بالاستمرار في مواصلة الجهود للانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وتكليفه المجلس الوزاري ورئيس الهيئة المتخصصة باستكمال اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، ورفع ما يتم التوصل إليه إلى المجلس الوزاري في دورته القادمة. وأكد المجلس الوزاري حرصه على قوة وتماسك مجلس التعاون، ووحدة الصف بين أعضائه، وتحقيق المزيد من التنسيق والتكامل والترابط في جميع الميادين، بما يحقق تطلعات مواطني دول المجلس، مجددا تأكيده على وقوف دوله صفاً واحداً في مواجهة أي تهديد تتعرض له أي من دول المجلس. تم تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الـ25 من مايو 1981م في ظروف استثنائية نتيجة للتوترات الإقليمية في ذلك الوقت وللتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية التي كانت تواجه دول المنطقة مما دفع دول المجلس إلى توحيد الجهود والتعاون بينها، وتعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي والأمني لتحقيق الاستقرار والتعاون ومواجهة هذه التحديات. وتتمثل الأهداف الرئيسة لإنشاء مجلس التعاون الخليجي التي حددها نظامه الأساسي، في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين دوله الأعضاء في جميع المجالات، وتوثيق الروابط بين شعوبها، ووضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين الاقتصادية والمالية والتجارية والجمارك والمواصلات، وفي الشؤون التعليمية والثقافية، والاجتماعية والصحية، والإعلامية والسـياحية، والتشـريعية والإدارية، ودفع عجلة التقدم العلمي والتقني في مجالات الصناعة والتعدين والزراعة والثروات المائية والحيوانية، وإنشاء مراكز بحوث علمية وإقامة مشروعات مشـتركة، وتشجيع تعاون القطاع الخاص. وقد نص النظام الأساسي لمجلس التعاون على أن تأسيسه جاء إدراكا من دوله الأعضاء لما يربط بينها من علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، وإيمانا بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها، ورغبة في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين، واقتناعا بأن التنسيق والتعاون والتكامل فيما بينها إنما يخدم الأهداف السامية للأمة العربية. ولقد أنجز مجلس التعاون عبر مسيرته الممتدة لأكثر من أربعة عقود العديد من الخطوات التاريخية التي تعزز بنيان المجلس وترسخ أهدافه وطموحاته في وجدان أبناء الخليج، ومنها إنشاء السوق الخليجية المشتركة، التي توفر فوائد عديدة تشمل ضمان انسياب السلع بين دول مجلس التعاون بما يؤدي إلى زيادة التنافس بين المؤسسات الخليجية لصالح المستهلك، كما أنشأت دول المجلس "منطقة التجارة الحرة"، التي تتميز بشكل رئيسي بإعفاء منتجات دول مجلس التعاون الصناعية والزراعية ومنتجات الثروات الطبيعية من الرسوم الجمركية، وقد دخلت منطقة التجارة الحرة حيز التنفيذ في مارس 1983، واستمرت نحو عشرين عاما إلى نهاية عام 2002 حين حل محلها الاتحاد الجمركي لدول المجلس. وقد بلغ حجم التجارة البينية لدول المجلس في عام 2023 أكثر من 131 مليار دولار أمريكي بنمو 3.3%، بينما بلغ حجم التجارة الخارجية السلعية بما يصل إلى 1.5 ترليون دولار أمريكي بنمو 4%، حيث تشير هذه المؤشرات الاقتصادية إلى الفرص الواعدة التي ينبغي الاستفادة منها لتعزيز التعاون الخليجي المشترك في كافة المجالات التجارية. كما أنجز مجلس التعاون خلال مسيرته التي دخلت عقدها الخامس مشروع بطاقة الهوية الموحدة لدول المجلس (البطاقة الذكية)، والتي أسهمت بتسهيل تنقل المواطنين بين الدول الأعضاء، وتقليل فترة الانتظار أمام المنافذ عن طريق الدخول بواسطة البوابات الإلكترونية، كما ساعدت في انسيابية حركة العمالة الوطنية بين الدول الأعضاء. وفي سياق محطات ومشاريع مسيرة مجلس التعاون جاء إقرار الاستراتيجية الأمنية الشاملة لدوله الأعضاء، وكذلك الاتفاقية الأمنية لدول المجلس، كما حظي العمل العسكري المشترك باهتمام أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون منذ نشأته، ومن أبرز ما تحقق على هذا المسار إقرار اتفاقية الدفاع المشترك لمجلس التعاون، والاستراتيجية الدفاعية للمجلس، وتشكيل قوات درع الجزيرة المشتركة، والقيام بالتمارين العسكرية المشتركة. ويعتبر الربط الكهربائي بين دول مجلس التعاون من أهم مشروعات البنى الأساسية التي أقرها المجلس، وتشمل فوائد المشروع تخفيض الاحتياطي المطلوب بكل دولة، والتغطية المتبادلة في حالة الطوارئ، والاستفادة من الفائض، وتقليل تكلفة إنتاج الطاقة الكهربائية. كما أقر المجلس الأعلى الاستراتيجية الإعلامية، ومن أبرز أهدافها تعزيز التعاون وفرص الوحدة بين دول المجلس، وترسيخ الهوية الخليجية والعربية والإسلامية لدول مجلس التعاون، وتعميق المواطنة الخليجية، ودعم ترابط المجتمع الخليجي وأمنه واستقراره، وتنمية الوعي المجتمعي العام لدى المواطنين والمقيمين، ودعم مسيرة المجلس والتعاون والتكامل بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية بالدول الأعضاء. واعتمد المجلس الأعلى في دورته الثالثة والثلاثين، الاستراتيجية البترولية للدول الأعضاء، انطلاقا من أهمية دول المجلس على المستوى العالمي، سياسيا واقتصاديا، ودورها الريادي في الصناعة البترولية، وثقلها البترولي باعتبارها تملك أكبر احتياطي مؤكد من البترول، وتشكل أكبر منطقة لإنتاجه وتصديره. وعلى صعيد السياسة الخارجية عمل مجلس التعاون على صياغة مواقف مشتركة وموحدة تجاه القضايا السياسية التي تهم دوله الست في الأطر العربية والإقليمية والدولية، والتعامل كتجمع واحد مع العالم، في إطار الأسس والمرتكزات القائمة على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية ومراعاة المصالح المشتركة، بما يصون مصالح دول المجلس، ويعزز أمنها واستقرارها ورخاء شعوبها، وعلى هذا المسار، نجح مجلس التعاون الخليجي في تعزيز مكانته الإقليمية وتأكيد حضوره على الساحة الدولية، وبات شريكا فاعلا وموثوقا به لترسيخ الأمن والاستقرار حول العالم، كما سعى المجلس منذ انطلاقته إلى توسيع شراكاته وحواراته الاستراتيجية مع العديد من الدول والتجمعات والدخول في مفاوضات التجارة الحرة مع الدول والمجموعات الاقتصادية الدولية تحقيقا للمصالح المشتركة، ووقعت دول المجلس على العديد من اتفاقيات التجارة الحرة مع دول أخرى حول العالم لتسهيل حركة السلع، وتعزيز التجارة البينية وتوسيع فرص الاستثمار وتنمية العلاقات التجارية القوية. ويعد مجلس التعاون لاعبا اقتصاديا موثوقا على الصعيد الدولي، فهو سوق ضخمة للصادرات من جميع أنحاء العالم، كما تلعب دول المجلس دورا متميزا في تزويد أسواق الطاقة العالمية بالنفط والغاز اللذين يعدان المحركين الرئيسيين للاقتصاد العالمي، ويشكلان قرابة ستين بالمئة من الطاقة المستهلكة على الصعيد الدولي. وتتحكم دول المجلس بنحو ثلث احتياطي النفط العالمي، وتعتبر الأولى في إنتاج النفط الخام واحتياطياته، والثالثة عالميا في إنتاج الغاز الطبيعي المسوق، والأولى عالميا في احتياطي الغاز الطبيعي، الأمر الذي يمنح المجلس نفوذا جوهريا في استقرار أسواق الطاقة، كما تحتل دول مجلس التعاون مراتب متقدمة في قائمة أكبر الصناديق السيادية في العالم، وتمتلك دول المجلس صناديق للثروة السيادية، يبلغ حجم أصولها نحو 4.4 تريليون دولار، وهو ما يعادل نسبة أربعة وثلاثين بالمئة من مجموع أصول أكبر 100 صندوق ثروة سيادي في العالم، وهو ما يمنحها تأثيرا في الأسواق العالمية والاستثمار الدولي، كما اعتمدت دول المجلس استراتيجيات للتحول إلى اقتصادات قائمة على المعرفة، وتكنولوجيا المعلومات، والطاقة النظيفة، ما يعزز موقعها كمراكز استثمار عالمي متقدم. وهكذا تمضي مسيرة مجلس التعاون بعزم وثقة من قادته وأبنائه متطلعة لغد مشرق والمزيد من الإنجازات، وتنفيذ الخطط التنموية الطموحة في كل دولة من دول المجلس لتحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة، والتي ارتكزت على المواطن الخليجي كمحور للتنمية وهدفها الرئيسي ومحركها الأساسي، والتي عكست مؤشراتها المتقدمة عالميا المكانة الاقتصادية لدول المجلس، والتي أصبحت نموذجا رائدا ليس على المستوى الخليجي فحسب، بل وعلى المستوى الإقليمي والعالمي.

السلام الإقليمي في السعودية: أهمية الاعتراف بالدولة الفلسطينية
السلام الإقليمي في السعودية: أهمية الاعتراف بالدولة الفلسطينية

أخبار قطر

timeمنذ 2 أيام

  • أخبار قطر

السلام الإقليمي في السعودية: أهمية الاعتراف بالدولة الفلسطينية

لموضوع اليوم هو دعوة السعودية وفرنسا للمجتمع الدولي للمشاركة في جهود تأسيس دولة فلسطينية خلال اجتماع في الأمم المتحدة بنيويورك. يبدو أن السعودية مصممة على تحقيق السلام الإقليمي من خلال هذه الدعوة. والله أعلم، السعودية تعتبر أن تأسيس دولة فلسطينية ليس مجرد بادرة رمزية، بل ضرورة استراتيجية لتحقيق الاستقرار في المنطقة. من خلال كلمة رئيسة الوفد السعودي، يبدو أن غزة تعاني من وضع صعب للغاية، وأن الحرب يجب أن تنتهي على الفور. الوضع في الضفة الغربية أيضاً يبدو مقلقاً ومحتاجاً إلى حلول فورية. يجب أن نتذكر أن حقوق الإنسان والالتزام بالقانون الدولي ليست اختيارية، بل ضرورية لتحقيق السلام. المؤتمر المقبل في يونيو يبدو أنه خطوة هامة نحو تحقيق حل الدولتين. هذا يجعلنا نتساءل هل سيكون هذا المؤتمر بداية نهاية الصراع؟ ربما يكون هذا هو الوقت المناسب لوضع حد للصراع الذي دام لثمانية عقود. ولكن هل نحن متأكدين من أن هذا الوقت مناسب حقاً؟ الله أعلم. في النهاية، يجب على المجتمع الدولي أن يحقق التزاماته ويترجمها إلى أفعال. لا يمكننا السماح بمزيد من الحروب والصراعات. يجب علينا العمل معًا نحو تحقيق السلام والازدهار للجميع في المنطقة. الله يكون في عوننا.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store