logo
التلفزيون المغربي: فرصة مهدورة للارتقاء الثقافي

التلفزيون المغربي: فرصة مهدورة للارتقاء الثقافي

إيطاليا تلغراف٢٨-٠٣-٢٠٢٥

إيطاليا تلغراف
عبد العزيز العمراني
أستاذ التعليم العالي
المغرب
مع اقتراب نهاية شهر رمضان المبارك، يحق لنا تقديم بعض الملاحظات العامة حول الإنتاجات الفنية التي عُرضت على القنوات الحكومية المغربية. قد يتساءل البعض: لماذا أقحم نفسي في مجال يُعد حكرًا على النقاد الفنيين؟ غير أنني، باعتباري أستاذًا للأدب والدراسات الثقافية، وأحد المساهمين في تمويل القنوات العمومية عبر الضرائب، أجد نفسي معنيًا بمستوى الرداءة التي تطغى على معظم البرامج الفنية المعروضة خلال شهر رمضان المبارك على القنوات الرسمية للدولة. فالصمت أمام هذا الانحطاط من قِبل المختصين والمثقفين لا يؤدي إلا إلى شرعنته واستمراره، مما يخلق واقعًا ثقافيًا مُشوّهًا لا يعكس عمق الهوية المغربية.
الفن ليس فقط مجرد وسيلة للترفيه والتسلية، بل هو أيضا أداة قوية تُسهم في تقدم الأمم عبر نقد البُنى السلطوية وكشف الظواهر الاجتماعية التي تعيق تطورها. فمن خلال مساءلة الوضع القائم، يساهم الفن في رفع مستوى الوعي المجتمعي، ويفضح المظالم، ويسلط الضوء على الفئات المهمشة، بل وقد يؤدي أحيانًا إلى تغييرات قانونية واجتماعية عميقة. في أوروبا، كان للأعمال المسرحية والأدبية تأثير هائل في نقد السلطة وتوجيه الرأي العام، كما هو الحال مع مسرحيات شكسبير التي كشفت خفايا الصراع السياسي، أو روايات فيكتور هوغو التي ساهمت في إثارة الوعي حول الظلم الاجتماعي، ولا سيما البؤساء التي ألقت الضوء على معاناة الطبقات المسحوقة وساهمت في تحفيز النقاش حول الإصلاحات الاجتماعية في فرنسا.
وإذا نظرنا إلى إيطاليا، نجد أن النهضة الأوروبية ذاتها لم تكن لتتحقق لولا الدور الحاسم للفن في تشكيل وعي المجتمع وإعادة تعريف القيم الجمالية والفكرية. ففي عصر النهضة، لم يكن الفن مجرد انعكاس للواقع، بل كان قوة محركة للتغيير والإبداع. لقد لعبت أعمال مايكل أنجلو ورافائيل وليوناردو دافنشي دورًا جوهريًا في ترسيخ قيم الفكر الإنساني وإعادة الاعتبار للجمال والمعرفة. كما أن المسرح الإيطالي، ممثلًا في الكوميديا ديلارتي، ساهم في توجيه النقد الاجتماعي والسياسي من خلال شخصيات ساخرة كشفت عيوب الطبقات الحاكمة وألهمت الحركات الإصلاحية لاحقًا. هذه النهضة الفنية لم تكن ترفًا، بل كانت تعبيرًا عن طموح أمة بأكملها للخروج من عصور الظلام نحو الحداثة والتقدم.
إذا كان التاريخ الأوروبي حافلًا بأمثلة تثبت قدرة الفن على قيادة التغيير، فإن المغرب، بحضارته العريقة الممتدة لآلاف السنين، يستحق أن يكون له إنتاج فني يرقى إلى مستوى هذا الإرث الثقافي. لكن، وللأسف، ما يُعرض اليوم على القنوات العمومية لا يعكس الهوية المغربية ولا يواكب التحولات الفكرية التي تشهدها البلاد، بل يساهم في تسطيح الوعي الجماعي من خلال محتوى خالٍ من العمق والإبداع.
إن المتأمل في مضامين الأفلام والمسلسلات والسيتكومات التي تُعرض على القنوات المغربية يجد أنها، بدلًا من أن تُقدم محتوى راقيًا يعزز القيم الإيجابية، تُكرّس أنماطًا اجتماعية وسلوكية غير أخلاقية لا تمتّ إلى النسيج الثقافي المغربي بصلة. نلاحظ، على سبيل المثال، الترويج لعلاقات محرّمة، مثل علاقة رجل بزوجة عمّه، أو تصوير فتاة قاصر تدخل في علاقة غير متكافئة مع رجل خمسيني، مما يُعد تطبيعًا مع ممارسات غير مقبولة اجتماعيًا. كما أن الانتشار المفرط لمشاهد العنف واستعمال الأسلحة البيضاء، إلى جانب توظيف عبارات سوقية مبتذلة، يعكس انحدارًا في الذوق العام بدلًا من الارتقاء به. والمثير للسخرية أن بعض هذه الأعمال لا تتناول أي قضية مجتمعية ذات مغزى، بل تدور في حلقات مفرغة، كما هو الحال مع بعض الإنتاجات التي لا يجد مخرجوها موضوعًا أكثر أهمية من تصوير مشاهد عشوائية لسرقة أبقار في كل حلقة!
إن خطورة هذا النوع من المحتوى لا تكمن فقط في تدني مستواه الفني، بل في تأثيره على الأجيال القادمة، حيث يُعيد تشكيل وعيهم وفق أنماط ثقافية لا تعكس واقعهم الحقيقي، بل تكرّس قيمًا سطحية تُفرغ الفن من جوهره التنويري. وقد شهد التاريخ الأوروبي فترات مشابهة، حيث انتشرت في بعض الحقب أعمال تهدف إلى الترفيه الفج دون أي قيمة فنية أو فكرية، مما دفع نخبة من المثقفين إلى المطالبة بإصلاحات ثقافية شاملة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، الحركة الأدبية والفنية في عصر التنوير، التي واجهت الرداءة السائدة آنذاك وساهمت في تطوير أعمال نقدية هادفة، مثل كتابات ديدرو ومونتسكيو التي لعبت دورًا في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي.
إن استمرار هذا التوجه في الإنتاج التلفزيوني المغربي يُعد مؤشرًا خطيرًا على انحراف الفن عن دوره الحقيقي. فبدلًا من أن يكون أداة للإبداع والتطور، أصبح وسيلة لتكريس الركود الثقافي والجمود الفكري. والأدهى من ذلك هو غياب الدراما الدينية والتاريخية التي تعكس الإسلام المغربي المعتدل والشخصية المغربية المتفردة. فالمغرب، بتاريخه العريق وإرثه الروحي والثقافي الغني، يزخر بشخصيات تاريخية تستحق أن تُقدَّم في أعمال درامية تبرز قيم التسامح والاعتدال التي ميّزت التجربة المغربية عبر العصور. لكن بدلًا من ذلك، نجد المحتوى المعروض اليوم يقتصر على أنماط نمطية مكررة، تُهمّش البعد الحضاري والديني للبلاد، ولا تُقدّم أي بديل فكري أو ثقافي يمكن أن يساهم في بناء وعي مجتمعي رصين.
رغم هذه العتمة التي تغلف المشهد الفني، إلا أن هناك نقطة مضيئة تستحق الإشادة. تتمثل هذه النقطة في بعض المحاولات الفنية الناجحة التي سعت إلى إحداث تغيير في المجتمع عبر تسليط الضوء على الظواهر القبيحة والممارسات الاجتماعية السلبية. على سبيل المثال، تناول بعض الأعمال الفنية قضايا مثل التسول، الذي أصبح ظاهرة تزداد تعقيدًا في المغرب، والرقية الشرعية التي يتم استغلالها لأغراض تجارية أو لترويج الخرافات. هذه الأعمال لم تكتفِ بتسليط الضوء على هذه الظواهر، بل دعت أيضًا إلى ضرورة معالجتها على المستوى الاجتماعي والإنساني. وعلى الرغم من أن هذه المحاولات قد تكون قليلة، إلا أنها تعكس وعيًا فنيًا حقيقيًا واهتمامًا بالقضايا المجتمعية التي تساهم في بناء ثقافة نقدية ومؤثرة.
المغرب، كأمة ذات تراث حضاري عميق، يستحق فنًا يُسهم في تطوير فكر أبنائه، لا أن يُغرقهم في مستنقع التفاهة والاستهلاك السطحي. وإذا كان الفن في أوروبا قد نجح في تجاوز مراحل الرداءة بفضل جهود المثقفين والنقاد الذين طالبوا بالإصلاح، فإن المغرب بحاجة إلى نهضة فنية مماثلة تعيد للفن مكانته كوسيلة للتنوير والتغيير.
إيطاليا تلغراف

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

التلفزيون المغربي: فرصة مهدورة للارتقاء الثقافي
التلفزيون المغربي: فرصة مهدورة للارتقاء الثقافي

إيطاليا تلغراف

time٢٨-٠٣-٢٠٢٥

  • إيطاليا تلغراف

التلفزيون المغربي: فرصة مهدورة للارتقاء الثقافي

إيطاليا تلغراف عبد العزيز العمراني أستاذ التعليم العالي المغرب مع اقتراب نهاية شهر رمضان المبارك، يحق لنا تقديم بعض الملاحظات العامة حول الإنتاجات الفنية التي عُرضت على القنوات الحكومية المغربية. قد يتساءل البعض: لماذا أقحم نفسي في مجال يُعد حكرًا على النقاد الفنيين؟ غير أنني، باعتباري أستاذًا للأدب والدراسات الثقافية، وأحد المساهمين في تمويل القنوات العمومية عبر الضرائب، أجد نفسي معنيًا بمستوى الرداءة التي تطغى على معظم البرامج الفنية المعروضة خلال شهر رمضان المبارك على القنوات الرسمية للدولة. فالصمت أمام هذا الانحطاط من قِبل المختصين والمثقفين لا يؤدي إلا إلى شرعنته واستمراره، مما يخلق واقعًا ثقافيًا مُشوّهًا لا يعكس عمق الهوية المغربية. الفن ليس فقط مجرد وسيلة للترفيه والتسلية، بل هو أيضا أداة قوية تُسهم في تقدم الأمم عبر نقد البُنى السلطوية وكشف الظواهر الاجتماعية التي تعيق تطورها. فمن خلال مساءلة الوضع القائم، يساهم الفن في رفع مستوى الوعي المجتمعي، ويفضح المظالم، ويسلط الضوء على الفئات المهمشة، بل وقد يؤدي أحيانًا إلى تغييرات قانونية واجتماعية عميقة. في أوروبا، كان للأعمال المسرحية والأدبية تأثير هائل في نقد السلطة وتوجيه الرأي العام، كما هو الحال مع مسرحيات شكسبير التي كشفت خفايا الصراع السياسي، أو روايات فيكتور هوغو التي ساهمت في إثارة الوعي حول الظلم الاجتماعي، ولا سيما البؤساء التي ألقت الضوء على معاناة الطبقات المسحوقة وساهمت في تحفيز النقاش حول الإصلاحات الاجتماعية في فرنسا. وإذا نظرنا إلى إيطاليا، نجد أن النهضة الأوروبية ذاتها لم تكن لتتحقق لولا الدور الحاسم للفن في تشكيل وعي المجتمع وإعادة تعريف القيم الجمالية والفكرية. ففي عصر النهضة، لم يكن الفن مجرد انعكاس للواقع، بل كان قوة محركة للتغيير والإبداع. لقد لعبت أعمال مايكل أنجلو ورافائيل وليوناردو دافنشي دورًا جوهريًا في ترسيخ قيم الفكر الإنساني وإعادة الاعتبار للجمال والمعرفة. كما أن المسرح الإيطالي، ممثلًا في الكوميديا ديلارتي، ساهم في توجيه النقد الاجتماعي والسياسي من خلال شخصيات ساخرة كشفت عيوب الطبقات الحاكمة وألهمت الحركات الإصلاحية لاحقًا. هذه النهضة الفنية لم تكن ترفًا، بل كانت تعبيرًا عن طموح أمة بأكملها للخروج من عصور الظلام نحو الحداثة والتقدم. إذا كان التاريخ الأوروبي حافلًا بأمثلة تثبت قدرة الفن على قيادة التغيير، فإن المغرب، بحضارته العريقة الممتدة لآلاف السنين، يستحق أن يكون له إنتاج فني يرقى إلى مستوى هذا الإرث الثقافي. لكن، وللأسف، ما يُعرض اليوم على القنوات العمومية لا يعكس الهوية المغربية ولا يواكب التحولات الفكرية التي تشهدها البلاد، بل يساهم في تسطيح الوعي الجماعي من خلال محتوى خالٍ من العمق والإبداع. إن المتأمل في مضامين الأفلام والمسلسلات والسيتكومات التي تُعرض على القنوات المغربية يجد أنها، بدلًا من أن تُقدم محتوى راقيًا يعزز القيم الإيجابية، تُكرّس أنماطًا اجتماعية وسلوكية غير أخلاقية لا تمتّ إلى النسيج الثقافي المغربي بصلة. نلاحظ، على سبيل المثال، الترويج لعلاقات محرّمة، مثل علاقة رجل بزوجة عمّه، أو تصوير فتاة قاصر تدخل في علاقة غير متكافئة مع رجل خمسيني، مما يُعد تطبيعًا مع ممارسات غير مقبولة اجتماعيًا. كما أن الانتشار المفرط لمشاهد العنف واستعمال الأسلحة البيضاء، إلى جانب توظيف عبارات سوقية مبتذلة، يعكس انحدارًا في الذوق العام بدلًا من الارتقاء به. والمثير للسخرية أن بعض هذه الأعمال لا تتناول أي قضية مجتمعية ذات مغزى، بل تدور في حلقات مفرغة، كما هو الحال مع بعض الإنتاجات التي لا يجد مخرجوها موضوعًا أكثر أهمية من تصوير مشاهد عشوائية لسرقة أبقار في كل حلقة! إن خطورة هذا النوع من المحتوى لا تكمن فقط في تدني مستواه الفني، بل في تأثيره على الأجيال القادمة، حيث يُعيد تشكيل وعيهم وفق أنماط ثقافية لا تعكس واقعهم الحقيقي، بل تكرّس قيمًا سطحية تُفرغ الفن من جوهره التنويري. وقد شهد التاريخ الأوروبي فترات مشابهة، حيث انتشرت في بعض الحقب أعمال تهدف إلى الترفيه الفج دون أي قيمة فنية أو فكرية، مما دفع نخبة من المثقفين إلى المطالبة بإصلاحات ثقافية شاملة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، الحركة الأدبية والفنية في عصر التنوير، التي واجهت الرداءة السائدة آنذاك وساهمت في تطوير أعمال نقدية هادفة، مثل كتابات ديدرو ومونتسكيو التي لعبت دورًا في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي. إن استمرار هذا التوجه في الإنتاج التلفزيوني المغربي يُعد مؤشرًا خطيرًا على انحراف الفن عن دوره الحقيقي. فبدلًا من أن يكون أداة للإبداع والتطور، أصبح وسيلة لتكريس الركود الثقافي والجمود الفكري. والأدهى من ذلك هو غياب الدراما الدينية والتاريخية التي تعكس الإسلام المغربي المعتدل والشخصية المغربية المتفردة. فالمغرب، بتاريخه العريق وإرثه الروحي والثقافي الغني، يزخر بشخصيات تاريخية تستحق أن تُقدَّم في أعمال درامية تبرز قيم التسامح والاعتدال التي ميّزت التجربة المغربية عبر العصور. لكن بدلًا من ذلك، نجد المحتوى المعروض اليوم يقتصر على أنماط نمطية مكررة، تُهمّش البعد الحضاري والديني للبلاد، ولا تُقدّم أي بديل فكري أو ثقافي يمكن أن يساهم في بناء وعي مجتمعي رصين. رغم هذه العتمة التي تغلف المشهد الفني، إلا أن هناك نقطة مضيئة تستحق الإشادة. تتمثل هذه النقطة في بعض المحاولات الفنية الناجحة التي سعت إلى إحداث تغيير في المجتمع عبر تسليط الضوء على الظواهر القبيحة والممارسات الاجتماعية السلبية. على سبيل المثال، تناول بعض الأعمال الفنية قضايا مثل التسول، الذي أصبح ظاهرة تزداد تعقيدًا في المغرب، والرقية الشرعية التي يتم استغلالها لأغراض تجارية أو لترويج الخرافات. هذه الأعمال لم تكتفِ بتسليط الضوء على هذه الظواهر، بل دعت أيضًا إلى ضرورة معالجتها على المستوى الاجتماعي والإنساني. وعلى الرغم من أن هذه المحاولات قد تكون قليلة، إلا أنها تعكس وعيًا فنيًا حقيقيًا واهتمامًا بالقضايا المجتمعية التي تساهم في بناء ثقافة نقدية ومؤثرة. المغرب، كأمة ذات تراث حضاري عميق، يستحق فنًا يُسهم في تطوير فكر أبنائه، لا أن يُغرقهم في مستنقع التفاهة والاستهلاك السطحي. وإذا كان الفن في أوروبا قد نجح في تجاوز مراحل الرداءة بفضل جهود المثقفين والنقاد الذين طالبوا بالإصلاح، فإن المغرب بحاجة إلى نهضة فنية مماثلة تعيد للفن مكانته كوسيلة للتنوير والتغيير. إيطاليا تلغراف

عندما يواجه المسرح التهميش: قراءة في رواية «السماء تدخن السجائر»
عندما يواجه المسرح التهميش: قراءة في رواية «السماء تدخن السجائر»

إيطاليا تلغراف

time٠٣-٠٣-٢٠٢٥

  • إيطاليا تلغراف

عندما يواجه المسرح التهميش: قراءة في رواية «السماء تدخن السجائر»

نشر في 3 مارس 2025 الساعة 8 و 48 دقيقة إيطاليا تلغراف منير الحايك كاتب لبناني يقول «شات جي بي تي» عندما تم سؤاله هل استوحى شكسبير «تاجر البندقية»؟ الأمر الذي توحي به رواية «السماء تدخن السجائر» (دار نوفل، سبتمبر/أيلول 2023) للكاتب اليمني وجدي الأهدل، فأعطى اختصارا بأنه فعلا استوحى من كتاب سبقوه مثل جيوفاني فيورنتينو، وجيست جيستروم وجيوفاني بوكاتشيو والعهد القديم، وبصرف النظر عن مدى دقة المعلومات، لم يذكر أي ارتباط له بأي موروث عربي أو مشرقي أو إسلامي، ومن هنا أنطلق لأقول إن جهودا كهذه، كالتي قدمها الأهدل، ضرورية لتوثيق ما لثقافة ما، ثقافتنا أو من ثقافات العالم الثالث، غير آخذة حقها، من تأثير وتأثر في الأدب والثقافة العالميين. تبدأ الرواية مع «ظافر» الذي يقرر أن يرتب مخطوطا ويعيد كتابته لحكايات كتبها والده، يقول إنها من حكايات بلاده الشعبية، ويقرر أن يكتبها ضمن قالب مسرحي، وهو الذي خالف توقعات أهله في دخول الكلية الحربية، ودخل معهد الفنون المسرحية ليحترف هذا المجال ويتمكن من الإخراج والتمثيل، بعد طفولة قضاها مع صديقه بملاحقة الصيادين.. وعندما يعرض نصه على المسؤول في المؤسسة العامة للمسرح، يأتيه الرد الصادم باتهامه بسرقة نصه من «تاجر البندقية» لوليم شكسبير، ذلك النص الذي لم يقرأه في حياته، ويعرف أن والده لم يقرأه أيضا. يقرر إنتاج المسرحية على حسابه، ويعرفنا النص بزملائه وزميلاته في العمل، سلمى وفتنة وخالد وحسن وغيرهم، ولكن الفشل يصاحب العمل واستمراره، إلى أن يظهر المخرج والمنتج الأجنبي ريغنالد، وينتهي الجزء الأول من الرواية، مع تخلي ظافر عن دوره الرئيسي في المسرحية، وقبوله بوظيفة لا تليق به، وتحسر الزملاء عليه. وفي تلك الأثناء، تحاول الرواية أن تري واقع صنعاء واليمن بشكل عام، وكيف كان للفن حضور ومتابعون ومهتمون، وكانت واقعية بأن أفشلت المسرحية مع مخرجها وممثلها اليمني ونجاحها مع الأجنبي، للتأكيد على الإيهام بالواقع الجميل والطبيعي للبلاد. في جزء الرواية الثاني، بعد عامين من نجاح المسرحية، وهو الجزء الأطول، تجري الأحداث مع ظافر، أثناء الحرب، وفي تلك الأثناء يحاول الهروب من البلاد بسبب اتهامه بفض عذرية إحدى الزميلات، ولكن تُكشَف الحقيقة فيعود عن قرار الهروب، ويعود إلى صنعاء. الرواية فيها الكثير من السرد الذي يظنه المتلقي غير مترابط، فقط عن حكايات ظافر، غير المستقر نفسيا، فهو يسرد لنا أحلاما غريبة كثيرة، وفي كامل الجزء الثاني لا يعود أبدا إلى الربط بين ما يحصل وقصة المسرح، وما جرى قبل سنتين، ولكن لطافة الشخصية، وهو الذي يعرض الزواج على كل فتاة يلتقيها ويعبر لها عن حبه، ذلك الشاب الذي يريد الزواج بأي طريقة، يجعلنا نتابع قصته مع مرارة واقع البلاد، التي يموت فيها الكثيرون، وأكثرهم، أو أكثرهن من يحبهن ظافر، بالإضافة إلى سلاسة السرد وعذوبة اللغة، تجعلان المتلقي يتعلق بالنص ولا يجد صعوبة في تتبع أحوال ظافر، الذي تكثر الشخصيات من حوله. لقد أراد الأهدل أن يقول إن لتراث بلاده ومجتمعه وثقافتهما تأثير مغبون حقه، ومن يعرف اليمن وتاريخها وحضارتها وإنجازها الحضاري، لا يستغرب أن تكون بالفعل قصصها الشعبية قد وصلت إلى أذن شكسبير، أو إلى أوراق أحد قبله فاستوحى منها، ولمَ لا! لقد أراد أن يقول كلمته تلك، ولكنه في القطيعة التي أقامها مع جزء النص الأول، الذي ركز على هذه القضية، والجزء الثاني، ما عدا صفحات الرواية الأخيرة التي تخبر بالكثير، وتوهم بالكثير عن حال الشخصية النفسية أيضا، وهنا لن أبوح بالكثير، أراد أن يعطي بعضا من أسباب الغُبن والظلم الذي تتعرض له ثقافة بلاده وتاريخها، ولعل انشغال النص بأحوال الحرب والخراب والموت، هو الرد الأقوى والأعمق على كل تساؤلات من يريد التساؤل، ومن يريد اتهام الغرب وحده بالتآمر علينا وعلى ثقافتنا، ليقول إن الأسباب تبدأ منا ومعنا، والأسباب تكمن فينا وفي قراراتنا وفي عدم محافظتنا نحن أنفسنا عليها، وهنا موقع القوة الرئيس في الرواية. يستطيع ظافر فك اللعنة، فيتزوج من ناجية، التي فقدت زوجها وجزءا من جسدها، واسمها وحده قد يحتاج إلى مقال لتحليل أسباب اختياره، وينجح زواجه وينجبان حمدي وسدرة والتوأم فارس ويزن، وتتفرغ بعدها ناجية لدار رعاية المعوقين وضحايا الألغام الذي أسساه، فتوهم الرواية بالنهاية السعيدة، وبالأمل بأن أبناء البلاد يمكن أن يعودوا ويعيدوها إلى الحياة، وفي الصفحات الأربع الأخيرة، تأخذنا الرواية إلى شك ما، وتعيدنا إلى ما بدأته مع المسرح، فتكون الصفحتان الأخيرتان فقط هما ما يربط جزء الرواية الأول بالثاني، وقد قصده الكاتب من أجل مثل هذه النهاية في لعبته الروائية التي اختارها. صحيح أن الكاتب عاد وربط بين قسمي الرواية، ولكن في رأيي هذا الجزء من حبكة النص والأسلوب كان الأضعف، فالمتلقي كان يريد أن تبقى القضية الأولى حاضرة، ويريد من الرواية أن تعطيه بعض الروابط، لا أن تكون جميعها مرتبطة بشخصية ظافر الجديدة، التي قد تكون قد دخلت مستشفى المجانين، وهو أمر قوي وفيه إيهام مطلوب، أما أن يقبل بالعودة إلى المسرح من دون أي أسباب، حتى إن كان ما قرأناه هو ما دوّنه في الكبسولة، يبقى النص، الرواية، بحاجة إلى رابط أقوى. الرواية كما سبق وذكرت محبوكة ومشغولة بلغة خاصة بكاتبها، لم يتكلف ولم يلجأ إلى العامية، كما أنه لم يُغرِق في «يمنية» النص، وهذا أمر يُحسب له ولنصه، لأنه أراد أن يقول إن الحروب والموت والخراب، لن تؤثر على الأحياء بقتلهم وبتحويلهم إلى معاقين، نفسيا وجسديا، فقط، بل إن اقتتالنا، نحن أبناء هذا المشرق، اقتتالنا الدائم، وانقسامنا الدائم، هو ما يجعلنا نخسر حضورنا التاريخي والحضاري والثقافي، وهو ما يهدد واقعنا ومستقبلنا! التالي لماذا تحتضن نيروبي مشروع حكومة الدعم السريع؟

في اليوم العالمي للّغة العربيّة.. رياضيّا نتحدّث
في اليوم العالمي للّغة العربيّة.. رياضيّا نتحدّث

الشروق

time١٨-١٢-٢٠٢٤

  • الشروق

في اليوم العالمي للّغة العربيّة.. رياضيّا نتحدّث

احتفلت شعوب المعمورة، الأربعاء، بِاليوم العالمي للغة العربية الذي يتزامن مع الـ 18 من ديسمبر من كلّ سنة. وكانت الجزائر قد تزعّمت لائحة البلدان العربية، المطالبة باستخدام لغة 'الضّاد' في دورات المجلس التنفيذي للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في عام 1974. وبِشأن استخدام لغة 'الجاحظ' في الصحافة الرياضية العربية، فالأمر يندى له الجبين، خاصة في السنوات القليلة الماضية، ويكفي القول إنها لم تعد مقياسا لا نقاش فيه وثابتا للتوظيف. كما أن الشبكة العنكبوتية ورغم أنها قدّمت خدمات جليلة للمهنة، إلا أنها ساهمت في 'تقزيم' اللّغة العربية، وصدّ الناشئة عن استعمالها. وبعيدا عن هذا الواقع البئيس، نُحيلكم إلى بعض المشاهد المضيئة في ساحة الصحافة الرياضية الجزائرية، وتعاملها مع اللغة العربية. – في مارس 1990، قدم وفد منتخب مصر لكرة القدم إلى الجزائر للمشاركة في نهائيات كأس أمم إفريقيا. وكان رئيس الوفد يتحدّث بِالعامّية (دلوقتي، النهارده، ازّاي، كده، الفانيلا…) مع خليط من لغة 'شكسبير'. وكان بِالمقابل، الإعلامي الجزائري يسأله (في مؤتمر صحفي) بالعربي الفصيح، والأمر يتعلّق هنا بفيصل غامس من القناة الإذاعية الأولى. ويجب الاعتراف بأن القناة الإذاعية الأولى كانت في تلك الفترة صارمة جدّا بِخصوص اللغة العربية. – نبقى مع القناة الإذاعية الأولى، فقد استضافت الإعلامية سكينة بوطمين في إحدى برامجها مسؤولا رياضيا فرانكفونيَّ الهوى (وربّما الهُوِّية!)، وعندما تقدّم للردّ على أوّل سؤال لها، راح ينطّ ويتحدّث باللغة الفرنسية وباستفزاز، فأوقفته عند حدّه، ونبّهته إلى أنه يوجد منبر آخر للغة الفرنسية وهو القناة الإذاعية الثالثة، ويمكنه هناك استعراض مهاراته في لغة 'موليير'. – 'غزالة سمراء تائهة في الصّحراء'! هذا ليس عنوانا لمسلسل تلفزيوني مشرقي، أو رواية لأحلام مستغانمي، أو شيء من هذا القبيل. بل عنوان لِتقرير صحفي عن عدّاءة في ألعاب القوى من الجنوب الجزائري الكبير، موهوبة تُعاني نقص الإمكانيات، نشرته أسبوعية 'المنتخب' (الصحيفة الرياضية الجزائرية وليست المرّوكية)، في تاريخ سابق. – نشرت سفارة فرنسا بالأردن، الأربعاء، تغريدة عبر منصّة التواصل الاجتماعي 'تويتر' (سابقا)، وكان يُمكن لها أن تتجاهل هذا اليوم وليتها لازمت الصمت. لكنها تدخّلت، ونهقت تُزّين اللهجة الأردنية (المنشور أدناه)! وهكذا هي فرنسا ذات الماضي الاستعماري الدموي الأسود، تُزعجها العربية، فتعمل بِخبث على نشر لهجات ميّتة أو هجينة في البلدان العربية. لكن هذا النظام الفرنسي يرفض رفضا قاطعا التعدّدية اللغوية في بلده!

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store