
حسن الأسود أميركا وتحولات النظام الدولي بين عهد الأحلاف التقليدية المتكئة وعهد الشراكات الاقتصادية (1) الأحد 29 يونيو 2025
كانت زيارة الرئيس الأميركي ترامب مع كوكبة من أفراد حكومته ونخبة من الاقتصاديين للمملكة العربية السعودية في هذه المرحلة من متغيرات المشهد الدولي فارقة بكل المقاييس عما سبقها، وذلك لسببين رئيسين: أولهما هو ما يكتنف النظام العالمي من احتدام سرعة تفاعل متغيراته، ومنها احتدام النزال على المعادن المؤدية لقوة عجلة الإنتاج، ومن ثم السعي الحثيث للسيطرة والتحكم بالمعابر المائية الدولية كضمانة للسيطرة على الأسواق، أي الإمساك بأسباب ما يعرف أكاديميا في مجال علم الاقتصاد السياسي بمحاولة الوصول للنقطة الحدية لمعادلة فائض القيمة الإنتاجية العالمي، وذلك لا يتحقق إلا بضمان الغزارة في الإنتاج والقوة في التسويق، وهو ما سيؤدي حتما في حال تغير مشهد السيطرة الأميركية القائم إلى تغير ضمانة الدولار كعملة سيادية لمعيار التحويلات والموازنات المالية حول العالم، ناهيك عن تفاقم إشكالات السيادة الأخرى التي ستظهر في وجه الولايات المتحدة الأميركية للسيطرة على المشهد الدولي، أما السبب الثاني فيعزى لما تراكم من إشكالات بنيوية في واقع الداخل الأميركي نفسه.
وهنا في هذا المقال سنتناول هذين الملفين المهمين والضاغطين بقوة على استمرار وهج الأمة الأميركية، ومدى إمكانية أن تبقى الولايات المتحدة بهيبتها وثقلها العالمي في صدارة المشهد الدولي في العشرين عاما القادمة.
وطبعا تلك الظروف الدولية الضاغطة نحو تحول أثقال النظام الدولي تفرض على الولايات المتحدة اليوم السعي الجاد والابتعاد عن المجاملات السياسية لتنمية ذلك المزيج المركب من معايير القوة الصلبة والناعمة التي حققتها عبر عقودها الماضية، ومن ذلك التنافس على مركزية النظام العالمي الحاصل اليوم تتأكد حقائق التاريخ الصراعي للبشرية، ومن ثم يعيد التاريخ نفسه حول جدلية بروز إشكالات فراغ فضاء النظام العالمي وحتمية التنافس الحثيث من الأقطاب لملئه وصولا لنشوب الحروب العالمية، أي ما يعبر عنه اصطلاحا بأن النظام العالمي لا يحتمل الفراغ. فالثابت تاريخيا والمؤكد أكاديميا في معاهد دراسات الفكر السياسي أنه بعد أن تتصدر مشهد النظام العالمي وحركته قوة واحدة تسيطر عليه، يتزايد حجم الضغوط متعددة الأوجه على المركز، منها مثلا حجم الإنفاق المتطلب لتبقى الأمة الفارقة مسيطرة على صدارة المشهد. وكلما أدى استمرار بقاء الأمة الأقوى في الصدارة وتعاقبت أجيال البشرية في ظل هيمنة تلك القوة على مركز النظام العالمي، زادت الحجة الإنفاقية وضرورات ابتكار النظريات الفكرية لاجتراح حلول ضبط تفاعلات الشعوب وصياغة مفاهيمها حول العالم، وذلك لضمان استدامة ربطها بالمركز المحرك والمقصود هنا بالطبع الإمبراطورية المهيمنة في زمانها.
وكما هو معروف في فقه النظريات السياسية الحديثة التي تؤكد أن التحكم في حركة النظام العالمي يرتكز على عوامل أساسية عديدة لضبط إيقاع المشهد العالمي، منها مثلا التحكم في صناعة جغرافيا الكوكب وامتداداته الفضائية، وينتج من ذلك التحكم في حركة المعابر المائية والهيمنة عليها وصولا للتحكم بالأسواق وصناعة ثقافة غزارة الاستهلاك لدى الشعوب. وهنا تبرز الحاجة لتفعيل السياسات الناعمة لتنشئة أذواق الشعوب نحو عدم الاستغناء عن النمط المعيشي المتكئ على المصدر، وهو عامل أساسي من متطلبات الدولة الإمبراطورية الأقوى لتكون قادرة على السيطرة على مقاليد النظام العالمي وصنع حركة سيره.
وطبعا ذلك لا يتأتى لها إلا بامتلاك فارق سبق زمني علمي لاحتكار مزيج من معادلة القوة المحكمة التركيب والخبرة المتقدمة على باقي دول العالم في قراءة ومعالجة الأزمات الدولية.
وما هو مرصود اليوم أن الولايات المتحدة لديها الكثير من التعقيدات الداخلية التي تكبلها عن إمكانية إيقاف الآخرين عن التصدر والمنافسة في المشهد الدولي. وإذا بقيت الولايات المتحدة تنتهج سياساتها التي انتهجتها في عقودها الماضية فإن دلالات تنظير الفكر السياسي لمراكز الأبحاث المتخصصة تشي بأنها ستتراجع حتما. ومن ذلك تبرز الظاهرة الترامبية الفارقة في السياسات والمواقف داخل القرار الأميركي، ومدى مجاهرتها بالسعي لضم بعض جغرافيا العالم، وهي حتمية جيوبوليتيكية أثبتتها حقائق التاريخ للبقاء على القمة. فقد وصلت الامبراطوريات السابقة التي تحكمت في مشهد التاريخ البشري وسلفت لنفس الحتمية. والمشهد المرصود هنا أن الدولة العميقة ولوبياتها داخل الولايات المتحدة، والمتحكمة في حركة رؤوس الأموال، تدرك نخبها الفكرية جيدا تلك الحقيقة، وأن جزءا كبيرا منها اليوم يدفع بضرورة تبني السياسات الترامبية على مستوى الداخل والخارج، وذلك حتى تنجح الولايات المتحدة في ضبط المشهد الدولي منفردة لوحدها تحت شعار 'أميركا أولا'.
إن المؤشرات السياسية تشي بأن الولايات المتحدة فقدت شيئا من ذاتها على مستوى الداخل، وذلك عندما تتعالى صيحات من العرق السكسوني الأبيض تشكو من غربة في أجواء العمل أمام السيطرة الإدارية للأعراق المهاجرة الأخرى من غير أصول دم العم سام، وهذا مؤشر من عدة مؤشرات، ناهيك عن بعض الاختراقات هنا وهناك في أجهزة دوائر الحكومة الفيدرالية نفسها التي تكون عادة طرفا في تسريب بعض الملفات السرية. وتلك مؤشرات تدفع أجهزة الظاهرة الترامبية إلى تبني سياسات إغلاق الحدود وعمل موجات قسرية من الهجرات البشرية المعاكسة للخارج الأميركي، وذلك خلافا للشعارات الليبرالية القديمة التي بنيت عليها الولايات المتحدة.
والواقع يشي بأن هناك إشكالات كثيرة تولدت في الداخل الأميركي كنتاج لتراكم سياسات علم الاجتماع السياسي الأميركي في العقود الماضية، وربما كانت تلك حاجة لصناعة واقع اجتماعي مركب مناسب لصيرورته الزمانية يومها. إن حاجة أميركا اليوم للتوسع في الفراغ الجغرافي العالمي باتت ملحة، أو ما يعرف باللغة السياسية بحتمية توسع الجيوبوليتيك، فذلك يعد ركنا أساسيا لاستدامة عمر الإمبراطوريات وضرورة بقاء مجدها، وهو ما يدفع منظري البيت الأبيض ومعاهد دراساته الاستراتيجية لحمل ترامب على ضم منطقة غرينلاند وإعادة جدولة اشتراطات عقود قناة بنما والمطالبة بضم كندا كولاية أخرى تابعة للمنظومة الأميركية.
وما نريد أن نشير له هنا أيضا أن هناك مؤشرات سياسية تبرز أن الولايات المتحدة اليوم تسعى للتخلص من بعض التزاماتها الخارجية، سواء على مستوى المؤسسات الدولية أو على مستوى الأحلاف التقليدية التي هي عمليا تثقل كاهل الدور الأميركي في إعلان التفرد بقيادة النظام العالمي. إن تاريخ تدخل القوة الأميركية بشكلها الصلب والمنفرد عبر القارات كانت مردوداته السياسية والاقتصادية تصب بجزء كبير في نمو ورفاه الدول الأوروبية وانتعاش عملاتها النقدية، وهو الأمر الذي يدفع بالولايات المتحدة اليوم، وكضرورة ملحة تفرضها سياقات تحولات موازين القوة المستجدة في النظام الدولي، إلى التخلي عن مواقفها تجاه الناتو ودوله، أو على أقل تشخيص إعادة شروط موازنة الأدوار والأثقال في الحلف. وهو ما يستتبع تبدلا في حجم الانقياد والتبعية للولايات المتحدة من قبل دول الحلف، وفعلا ذلك ما طالب به ترامب الغربيين، وهو الأمر الذي جعل الأوروبيين منقسمين فيما بينهم حول الكثير من المطالب الأميركية.
فمثلا إيطاليا تتقاطع مع فرنسا ويبدو أنها أكثر ميلا من الأخرى لوجهة المتطلب الأميركي المستجد تجاه الحلف. فترامب وحكومته أكثر واقعية وإلحاحا ممن سبقه من الحكومات، فهو يجاهر بضرورة موازنة مدى ثقل كل عضو ودوره الفعلي في التصدي العسكري المباشر والإنفاق في قضايا الجيوبوليتيك التي تمس أمن الحلف مباشرة، أو أن يكون الخيار البديل التسليم والتبعية للولايات المتحدة وسياستها كمرتكز للحلف، ومن ثم يقبل ترامب بالحالة القائمة من الاتكاء التام التي مارستها دول حلف الناتو طوال العقود الماضية على أميركا، وهو الخيار الذي تستثقله الدول الأوروبية بتاريخها كفرنسا وبريطانيا مثلا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البلاد البحرينية
منذ ساعة واحدة
- البلاد البحرينية
خامنئي: ترامب يبالغ وأميركا لم تحقق أي إنجاز
ردّ المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، على كلام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حول الضربات الأميركية على إيران، بأن الأخير قد بالغ. "بالغوا لإخفاء الحقيقة" وقال خامنئي: "استخدم الرئيس الأميركي مبالغة غير تقليدية في وصف ما حدث، وهو ما اتضح أنه ضروري". كما تابع عبر حسابه في X: "كل من سمع تلك الكلمات أدرك أن هناك حقيقة أخرى خفية وراء هذه الكلمات. لم يكن بوسعهم فعل شيء، لم يحققوا أي إنجاز فبالغوا لإخفاء الحقيقة وإبقائها طي الكتمان". جاء هذا بعدما قال ترامب، الأحد، قد نرفع العقوبات عن إيران إذا أبدت حسن النية. وأضاف في مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" الأميركية، أن إيران لا تفكر الآن بالعودة إلى المشروع النووي، مضيفاً أنها "مرهقة جداً". كما تابع أن "إيران لم تملك الوقت لنقل اليورانيوم قبل الضربات الأميركية". وأوضح الرئيس الأميركي أن الحرب الأخيرة كانت مكلفة على إيران، مشيرا إلى أن طهران كانت على بعد أسابيع من الحصول على سلاح نووي. كذلك قال ترامب في المقابلة إن التخصيب كلمة سيئة يجب ألا تستخدمها إيران. مواجهات متبادلة غير مسبوقة يذكر أنه وفي 13 يونيو الجاري، اندلعت مواجهات متبادلة غير مسبوقة بين إيران وإسرائيل لمدة 12 يوماً، وأدت الحرب إلى تدخل أميركي في الصراع. إذ شنت الولايات المتحدة غارات وهجمات على 3 منشآت نووية، مساء السبت الماضي، طالت منشأة فوردو ونطنز وأصفهان. لترد طهران مستهدفة قواعد عسكرية في قطر والعراق، من دون تسجيل أية إصابات، قبل أن يعلن ترامب بعد ساعات وبشكل مفاجئ وقف إطلاق النار.


البلاد البحرينية
منذ ساعة واحدة
- البلاد البحرينية
ترامب: قد نرفع العقوبات عن إيران إذا أبدت حسن النية
قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، اليوم الأحد، قد نرفع العقوبات عن إيران إذا أبدت حسن النية. كما قال في مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" الأميركية، إن إيران لا تفكر الآن بالعودة إلى المشروع النووي، مضيفاً أنها "مرهقة جداً". وأضاف "إيران لم تملك الوقت لنقل اليورانيوم قبل الضربات الأميركية". وأوضح الرئيس الأميركي أن الحرب الأخيرة كانت مكلفة على إيران، مشيرا إلى أن طهران كانت على بعد أسابيع من الحصول على سلاح نووي. كذلك قال ترامب في المقابلة إن التخصيب كلمة سيئة يجب ألا تستخدمها إيران. ومنذ 13 يونيو الجاري اندلعت مواجهات متبادلة غير مسبوقة بين الجانبين لمدة 12 يوماً، فيما أدت الحرب إلى تدخل أميركي في الصراع، إذ شنت الولايات المتحدة غارات وهجمات على 3 منشآت نووية، مساء السبت الماضي، طالت منشأة فوردو ونطنز وأصفهان. لترد طهران مستهدفة قواعد عسكرية في قطر والعراق، من دون تسجيل أية إصابات، قبل أن يعلن ترامب بعد ساعات وبشكل مفاجئ وقف إطلاق النار.


الوطن
منذ 5 ساعات
- الوطن
خلافات داخل الجيش الإسرائيلي حول العملية الموسعة في غزة
أفادت مصادر إسرائيلية مطلعة بوجود خلافات في أوساط الجيش الإسرائيلي حول مسار الحرب في غزة، وذلك بينما يستعد الأخير لعملية عسكرية واسعة وغير مسبوقة في القطاع. إنهاء الحرب أم الاستمرار؟ فقد أكدت المصادر وجود انقسام في الآراء في أوساط الجيش بين من يدفع باتجاه مواصلة العمليات العسكرية، ومن يرى ضرورة التوجه نحو إنهاء الحرب، وفقا لموقع "والا" الإسرائيلي. كما ذكرت القناة الـ12 الإسرائيلية أن الجيش سيعرض، الأحد المقبل، أمام المجلس الوزاري المصغر (الكابينت) خيارات متعددة بشأن غزة، تتراوح بين استكمال احتلال القطاع أو التوصل إلى صفقة مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس). كذلك من المتوقع أن يبلغ رئيس الأركان، إيال زامير، الوزراء بأن الجيش يقترب من تحقيق أهدافه المعلنة. يأتي هذا بينما نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" عن قادة عسكريين إسرائيليين أن كتائب عز الدين القسام -الجناح العسكري لحركة حماس، لا تزال فاعلة، وتنتشر من خان يونس إلى مدينة غزة وضواحيها، وهو ما يعكس صعوبة المهمة العسكرية، رغم مرور أشهر على بدء العملية العسكرية. جاءت هذه التسريبات بعد تقارير أفادت بأن الجيش الإسرائيلي يدرس تحريك خمس فرق عسكرية كاملة (وليس جزئية كما في المرات السابقة)، إضافة إلى تنفيذ واحدة من أكبر عمليات إجبار السكان الفلسطينيين على الإخلاء منذ بدء الحرب، وفق ما نقله موقع "والا" الإسرائيلي. إلى ذلك، يعقد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، اليوم الأحد، جلسة حاسمة مع كبار قادة المؤسسة الأمنية لمناقشة الخطوات القادمة في الحرب على القطاع المحاصر، وذلك في ظل الجمود في مفاوضات صفقة تبادل الأسرى. وبحسب الموقع الإسرائيلي على الطاولة خياران: إما التوصل إلى صفقة مع حماس للإفراج عن الأسرى، أو العودة إلى عملية برية واسعة النطاق. كما قالت مصادر عسكرية إن الجيش يدرس الآن تنفيذ واحدة من أكبر عمليات إخلاء السكان الفلسطينيين منذ بدء الحرب، كجزء من تهيئة الأرضية لتحرك عسكري جديد. ترامب يريد اتفاقا في غضون ذلك، أصدر الجيش الإسرائيلي، الأحد، إنذارا لإخلاء مناطق في شمال غزة. وقال المتحدث باسم الجيش، أفيخاي أدرعي، إن هذا تحذير إلى كل المتواجدين في منطقة مدينة غزة وجباليا، وفي أحياء الزيتون الشرقي، والبلدة القديمة، والتركمان، والجديدة، والتفاح، والدرج، والصبرة، وجباليا البلد، وجباليا النزلة، ومعسكر جباليا، والروضة، والنهضة، والزهور، والنور، والسلام وتل الزعتر. تأتي هذه التطورات الميدانية، بينما يعمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إنجاز صفقة مع حركة حماس لإعادة المحتجزين في قطاع غزة. وكتب ترامب عبر منصة "تروث سوشيال"، اليوم الأحد: "اعقدوا صفقة غزة.. وأعيدوا المحتجزين". وفي وقت سابق، أعلن ثلاثة مسؤولين إسرائيليين كبار، أن الفجوات مع حماس لا تزال كبيرة بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في غزة. يذكر أن إسرائيل كانت استؤنفت الحرب على غزة منذ انهيار الهدنة الهشة في مارس الماضي. كما توغلت قواتها في العديد من مناطق القطاع، لا سيما في الجنوب، ودعت إلى إجلاء مساحات واسعة في الشمال. كذلك توعدت بالبقاء في غزة وعدم الانسحاب من المناطق الجديدة التي سيطرت عليها منذ مارس الفائت، فارضة حصاراً خانقاً على المساعدات الغذائية والطبية.