logo
جنوب أفريقيا تعيد فتح ملفات جرائم الفصل العنصري

جنوب أفريقيا تعيد فتح ملفات جرائم الفصل العنصري

الجزيرةمنذ 2 أيام

في خطوة وُصفت بأنها "تاريخية رغم تأخرها"، أعلن رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا تشكيل لجنة قضائية خاصة للتحقيق في الجرائم التي ارتُكبت خلال حقبة الفصل العنصري، والتي لم يُحاسب المسؤولون عنها رغم مرور أكثر من 3 عقود على انتهاء النظام العنصري رسميا.
جاء هذا القرار استجابة لضغوط متزايدة من منظمات حقوقية وناجين من تلك الحقبة، إضافة إلى دعوى مدنية رفعتها عائلات الضحايا، تطالب الدولة بالوفاء بالتزاماتها تجاه العدالة الانتقالية.
عدالة مؤجلة
رغم أن لجنة الحقيقة والمصالحة التي أُسست في تسعينيات القرن الماضي كانت خطوة جريئة نحو المصالحة الوطنية، فإنها منحت عفوا مشروطا لمن اعترفوا بجرائمهم، وأوصت بمحاكمة من لم يفعلوا. لكن تلك التوصيات لم تُنفذ، مما أبقى جراحا مفتوحة في ذاكرة الضحايا.
وبعد سنوات من الصمت الرسمي، تعود الدولة اليوم لفتح هذا الملف الشائك، في محاولة لإعادة الاعتبار للضحايا، واستعادة ثقة المواطنين بمؤسسات العدالة.
شهدت فترة الفصل العنصري (1948–1994) انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، من بينها القتل خارج نطاق القانون، والتعذيب، والاختفاء القسري.
ومن أبرز هذه الجرائم مذبحة شاربفيل عام 1960، وانتفاضة سويتو عام 1976، حيث قُتل مئات المتظاهرين السلميين برصاص قوات الأمن.
ويهدف التحقيق الجديد إلى مساءلة المسؤولين الذين لم يُحاسبوا، سواء من أفراد الأجهزة الأمنية أو من السياسيين الذين أصدروا الأوامر أو تستروا على تلك الجرائم.
بين العدالة والمصالحة
ويرى مراقبون أن هذه الخطوة قد تعيد التوازن بين مفهومي "العدالة" و"المصالحة"، اللذين لطالما كانا في حالة توتر في التجربة الجنوب أفريقية. فبينما ساعدت المصالحة على تجنب حرب أهلية، فإن غياب العدالة الكاملة أبقى شعورا بالخذلان لدى كثير من الضحايا.
ويأمل الحقوقيون أن تمثل هذه اللجنة بداية فعلية لمحاسبة المتورطين، لا أن تكون مجرد خطوة رمزية لاحتواء الغضب الشعبي.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

قصة مليون قتيل بـ100 يوم.. رواندا التي عامت على بحور من الدم
قصة مليون قتيل بـ100 يوم.. رواندا التي عامت على بحور من الدم

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

قصة مليون قتيل بـ100 يوم.. رواندا التي عامت على بحور من الدم

على مدار أيام في العاصمة الرواندية كيغالي، وعلى الشوارع ذاتها التي تدفق فيها الدم والفارون من اللهب، وتعثرت عليها أقدام الحسرى قبل أن تسحقهم آلة القتل، تتبعت قصص الآلام والأحزان. فتشت في عناقيد الذكريات عن دفاتر الموت الحمراء في هذه الأرض، التي باتت بين السواطير والحراب، أعيد المأساة سيرتها الأولى، وأسرد رواية موت مضى عليها عقود. ففي فصول القصة ما يشبه قصصا قريبة منا، عشنا وقائعها وتعرفنا على شخوصها وأبطالها، وشممنا رائحة الدم تفوح من سطورها، وملأت مشاهد الفقد أوراقها وأروقتها، لكن النهايات تباينت. التقيت ناجين من المذبحة وكثيرا من ذوي الضحايا والجلادين أيضا، استنطقت الأماكن والوثائق والشهود، وزرت النصب التذكاري للإبادة، الذي لا تزال بعض قبوره مفتوحة تنتظر استقبال رفات المزيد. وها أنا ذا أنقل لكم الرواية عن قرب كاملة، فربما هي أرحام الدم ووشائج المآسي التي تتلوّن بها شاشات حياتنا اليوم عبر شعوب ذاقت قهوة الموت القانية على حينِ تغافل من العالم. الإبادة في 10 نقاط خلال 100 يوم قُتل نحو مليون من الروانديين وتعرضت مئات الآلاف من النساء للاغتصاب. لعب الإعلام الحكومي دورا رئيسيا في التحريض على الإبادة. قتل خلال هذه المجازر نحو 75% من التوتسي. تمكن التوتسي من إعادة ترتيب صفوفهم وراء الجبهة الوطنية، التي قادها الرئيس الحالي بول كاغامي ، وتمكنوا من السيطرة على البلاد. بعد الحرب، غرقت البلاد في الفوضى تحت إدارة الرئيس باستور بيزيمونغو التي استمرت 5 سنوات، وعاشت أسوأ فتراتها على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. بعد خلاف بينهما، تنازل بيزيمونغو عن منصبه عام 2000 لنائبه كاغامي الذي حدد هدفين واضحين: أولهما توحيد الشعب، والثاني النهوض بالبلاد وانتزاعها من الفقر والفساد. تمكن كاغامي من تحقيق المصالحة المجتمعية، وأنجزت إدارته دستورا جديدا للبلاد حظر استخدام مسميات الهوتو و التوتسي ، وجرّم استخدام أي خطاب عرقي. نُظمت محاكمات دولية ومحلية للمتورطين في الإبادة الجماعية، برز خلالها دور رئيسي لمحاكم الجاكاكا. كشف عن دور فرنسا في دعم الحكومة في المذابح ضد التوتسي. برز الدور الإيجابي للأقلية المسلمة في رواندا خلال الإبادة، وأشادت الحكومة بهم. الدور الاستعماري لم تبدأ الإبادة في رواندا عام 1994، بل كانت قبل ذلك بكثير، كان ذلك حين رسمت دول الاستعمار التي توالت على البلاد إرهاصات المشهد، وسيناريوهات المذبحة، ومنحت القاتل سلاحا ليرتكب جريمته. وكما يقول المؤرخ والكاتب توم نداهيرو -الذي فقد 12 فردا من عائلته- "كنا شعبا واحدا بلا أي تقسيمات عرقية أو دينية"، حتى نهايات القرن التاسع عشر تقريبا، حين عقد مؤتمر برلين عام 1884 وبدأت الدول الاستعمارية تقتسم أراضي القارة السمراء، وكانت رواندا في البداية تحت الاستعمار الألماني. لا يكاد يشك أحد من الروانديين في الدور الذي لعبه الاستعمار بالتحضير للإبادة، حتى الرئيس بول كاغامي الذي تحدث عن دور الفترة الاستعمارية في إذكاء الصراعات في القارة السمراء. وقال خلال برنامج المقابلة الذي بثته الجزيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 إن الحرب الأهلية الرواندية كانت نتيجة حتمية للسياسات التي اتبعتها القوى الاستعمارية. العبث بالديموغرافيا كانت البداية، حين عبث الألمان في التركيبة السكانية، ودعموا جماعات من السكان في مواجهة جماعات أخرى، وقاموا من خلال ما أسموه دراسات جينية وعرقية أن يفرقوا بين الناس. وخلال الحرب العالمية الأولى، روجت القوات البلجيكية التي تمكنت من السيطرة على رواندا وبوروندي، لتفوق جماعة التوتسي على الهوتو، وقننت الفرز بين السكان على أساس ما يملكه الفرد من الماشية. كما قدمت سلطات الاستعمار الجديد بطاقات هوية تفرق بين التوتسي والهوتو، مما تسبب بحدوث فجوات اجتماعية بين السكان، وكان لهذه البطاقات الأثر الأكبر في التمييز بين السكان والتعرف على أصولهم خلال الإبادة. ويروي المؤرخ نداهيرو أن السلطات الاستعمارية كانت تستخدم أدوات ومساطر لقياس طول عظام الوجه وقطر الرأس وشكل الأنف وطول القامة لتحديد أعراق الناس وتقسيمهم بناء على ذلك، وهناك مئات الوثائق والصور التي تثبت هذه الممارسات العنصرية. واعتمد المستعمر البلجيكي على الأقلية الإقطاعية المالكة للأرض من التوتسي مقابل استعباد أغلبية الهوتو. السيطرة على الكنيسة قامت ثورة "الهوتو الكبرى" في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي ضد الاستعمار والأقلية المستبدة، مما دفع البلجيك إلى التضحية بحلفائهم التوتسي لصالح الوافد الجديد، وهرب نتيجتها نحو 100 ألف توتسي خارج البلاد آنذاك. ومنح المستعمر البلجيكي الهوتو السيطرة على الكنيسة، فأصدروا أول صحيفة باسم "كينا ماتيكا" تحت إشراف الكنيسة الكاثوليكية، واستخدمت للتحريض على التوتسي والتشكيك في مواطنتهم وفي انتمائهم إلى رواندا. وعمّقت الصحيفة الهوة بين مكونات رواندا الاجتماعية، فصورت الهوتو على أنهم أصحاب البلاد بينما صورت التوتسي على أنهم "أجانب وافدون" وإقطاعيون جاؤوا غزاة من خارج البلاد. تصاعدت التوترات بين التوتسي والهوتو، واستعرض المؤرخ نداهيرو عددا من الأحداث والصراعات التي خاضتها الجماعتان منذ عام 1961 حين ألغى الاستعمار البلجيكي النظام الملكي في البلاد، وبعدها بعام أعلن استقلال البلاد، وأدت تلك النزاعات إلى مقتل وتشريد عشرات الآلاف من الروانديين. وبين عامي (1963-1967) عاد الآلاف من جماعة التوتسي إلى رواندا، بيد أنهم تعرضوا لمجازر كبيرة راح ضحيتها نحو 20 ألف شخص، فضلا عن تهجير نحو 300 ألف من ديارهم. سيطر الهوتو على السلطة وزاد التحريض على التوتسي، خصوصا مع صعود الرئيس جوفينال هابياريمانا إلى السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1973. ونجحت مليشيات الهوتو في توجيه عصابات القتل الشبابية المعروفة بـ"إنترا هاموي" -وهو اسم يعني باللغة المحلية "أولئك الذين يهاجمون معا"- لاستهداف التوتسي، وصورت التوتسي على أنهم يملكون ثروات البلاد وأنهم "الأعداء والأشرار الذين يجب قتلهم". دور الإعلام في التحريض يشير تقرير نشرته الجزيرة نت إلى الدور الذي لعبته الصحف وإذاعة "الألف تل" في الإبادة، وكيف استغلت للتحريض على أقلية التوتسي في ظل حكم الهوتو. يقول التقرير إن الإذاعة الرواندية الحكومية -المعروفة بـ"آر تي إل إم" (RTLM)- كانت تبث أغاني الفخر التي تمجد الهوتو وتصف التوتسي بالأعداء، ووقف السياسيون المقربون من الرئيس خلفها يقدمون أنفسهم حماة لمصالح الأغلبية ويدعمون ذلك بسخاء. كما انخرطت صحيفة "كينا ماتيكا" وأكثر من 20 صحيفة محلية نشأت لاحقا في بث الكراهية والتحريض على القتل، ونشر قوائم بالأسماء والعناوين للشخصيات المستهدفة، ووصفهم بأنهم متواطئون مع الجبهة الوطنية المعارضة. بثت الإذاعات والصحف الوصايا العشر للهوتو، لتكون دليلا للتعامل مع التوتسي، وجاء فيها لا تتزوج ولا تعاشر ولا تتاجر مع التوتسي ولا تثق بهم. وأكدت بعثات المنظمات الدولية والإقليمية إلى رواندا في عام 1993 في تقاريرها أن البلاد تشهد انتهاكات جسمية ومنظمة ضد المدنيين، وأن فرق الموت تتحرك في العلن، في حين يتم التحريض على القتل عبر أمواج الإذاعة. تشكيل الجبهة الوطنية فور إعلان يوري موسيفيني رئيسا لأوغندا في عام 1986 تم تعيين كاغامي رئيسا للاستخبارات العسكرية الأوغندية. وبعد نجاحه في أوغندا، وجه كاغامي نظره واهتمامه نحو وطنه رواندا، فأسس مع زميله فريد رويجياما وعدد من قادة التوتسي الروانديين المنفيين الجبهة الوطنية الرواندية. عين رويجياما زعيما للجبهة، وخططت لخوض حرب ضد النظام في رواندا، وكان الهدف الإطاحة بجوفينال هابياريمانا والعودة إلى الوطن. في بداية أكتوبر/تشرين الأول 1990 بدأت الجبهة في مهاجمة المدن الحدودية الرواندية، وتمكن عناصر الجبهة من دخول رواندا عام 1991 في هجوم قتل فيه زعيمهم رويجياما. وبعد صراع كاد يُودي بوحدة الجبهة، عين موسيفيني بول كاغامي زعيما جديدا لها، فأعاد تنظيم الجبهة ثم عاود الهجوم مرة أخرى، ووصل قرب العاصمة كيغالي. وبعد هجمات متتالية، إضافة إلى جهود الأمم المتحدة ووساطة زعيم الهوتو باستور بيزيمونغو وضغوط الحكومة الفرنسية، وافق نظام هابياريمانا إلى الجلوس مع الجبهة في مفاوضات سميت "مفاوضات أروشا". استمرت المفاوضات بين عامي 1991 و1993 وقاد كاغامي وفد الجبهة، في غضون ذلك كانت العاصمة كيغالي تشهد اغتيالات استهدفت سياسيين وناشطين اشتهروا بمواقفهم المؤيدة للمصالحة الوطنية والتعايش بين الهوتو والتوتسي. حققت المفاوضات تقدما باتجاه تسوية سياسية تضمن عودة التوتسي إلى رواندا وتمتعهم بحقوقهم المدنية ووقّعت الحكومة مع الجبهة الوطنية اتفاق "أروشا" للسلام عام 1993، وأشرفت عليه منظمة الوحدة الأفريقية ورئيسا الولايات المتحدة وفرنسا. نصت بنود الاتفاقية على منح الجبهة الوطنية الرواندية حق المشاركة في الجمعية الوطنية (البرلمان)، وغيرها من الامتيازات، مقابل تخلي الجبهة عن سلاحها وقبولها دمج مقاتليها في الجيش الوطني، لكن بنود هذه الاتفاقية لم تطبق بشكل فعلي. شرارة الإبادة ورغم عدم التوصل إلى سلام مستقر وشامل، تم إرسال بعثة لحفظ السلام من الأمم المتحدة للمساعدة في رواندا، وفي المقابل، بلغت موجة التحريض على التوتسي بحلول مارس/آذار 1994 أوجَها. وأسهمت في حالة الاحتقان تلك مواقف القوى الدولية المتصارعة على السيطرة على المنطقة، ومنها فرنسا وبلجيكا الداعمتان لنظام الهوتو في كيغالي، والولايات المتحدة الأميركية الداعمة لنظام موسيفيني وحلفائه من التوتسي. كما أنّ المكاسب الميدانية التي بدأت الجبهة الوطنية تُحققها من أواخر 1993 كانت مقلقة للهوتو. وفي السادس من أبريل/نيسان عام 1994، كان العالم على موعد مع انطلاق شرارة الإبادة، كانت الأجواء تنبض بالحياة على أمل أن ينجح الاجتماع الإقليمي في مدينة أروشا بتنزانيا المجاورة في وضع حل للنزاع في رواندا. لكن الرياح سارت بما لا تشتهيه السفن، حيث فجر صاروخان مجهولان الطائرة التي كانت تقل الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا ونظيره البوروندي سيبريان نتارياميرا، العائدين من الاجتماع، مما أسفر عن مقتلهما على الفور. وقبل انطلاق أي تحقيق لمعرفة المتورط بإسقاط تلك الطائرة، وجهت وسائل الإعلام المحلية التي يسيطر عليها الهوتو أصابع الاتهام للتوتسي، واتهمتهم بالضلوع في اغتيال الرئيس، وحثت الهوتو على "التدخل والقيام بواجبهم". وكأن الأمر أعد له مسبقا، فعلى الفور اغتالت قوات الأمن رئيسة الوزراء، وهي من "الهوتو المعتدلين"، و10 من قوات حفظ السلام البلجيكية المكلفة بحمايتها في منزلها يوم 7 أبريل/نيسان 1994. سيول الدم أطلق الهوتو هجماتهم الأولى ضد التوتسي في منطقة كيغالي بتاريخ 6 أبريل/نيسان 1994، وخلال ساعات قليلة انتشرت الهجمات إلى عموم البلاد. إعلان تقول بعض التقارير إن الإبادة الجماعية كانت انطلقت بالفعل، ولكن اشتد جحيمها ابتداء من هذا التاريخ، فشن الجيش ومليشيات الهوتو حملات وقتل واغتصاب ضد التوتسي والمعتدلين من الهوتو. وتعاونت القوات الحكومية مع مليشيا إنتراهاموي وأقامت حواجز على الطرق في كيغالي، وبدأت في مهاجمة التوتسي و"الهوتو المعتدلين"، وسرعان ما انتشر القتل إلى مدن أخرى. كان الجنود يفتحون النار على الحشود، في وقت كان فيه مسلحون بالعصي والأسلحة البيضاء يتنقلون بين المنازل مستهدفين التوتسي ومن يحاول حمايتهم أو تقديم الملاذ لهم، واغتصبوا النساء ونهبوا الممتلكات، كما ارتكبوا أعمال قتل جماعية في الملاعب والمدارس. وفي بعض الحالات، ضلل التوتسي المطارِدين للجوء إلى الكنائس باعتبارها مواقع آمنة، مما جعلهم صيدا سهلا لمليشيات القتل والإبادة، وذكر بعض شهود عيان للجزيرة نت أن نحو5 آلاف من التوتسي قتلوا في كنيسة واحدة. بعد ذلك، بأيام أجلت الأمم المتحدة المواطنين الغربيين من البلاد، كما خفضت عدد قوات حفظ الأمن الدولية التابعة لها من 2500 جندي، إلى 250 جنديا فقط. وبلغ عدد الضحايا بحلول 12 مايو/أيار نحو 200 ألف شخص، ولكن رغم ذلك امتنعت الأمم المتحدة عن استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية"، واستعاضت عن ذلك بالقول "انتهاكات للقانون الدولي من شأنها القضاء على جماعة عرقية بشكل جزئي أو كامل". وفي منتصف مايو/أيار أصدر مجلس الأمن قرارا يقضي بحظر إرسال الأسلحة إلى رواندا، وفي نهاية الشهر نفسه أعلنت الأمم المتحدة أن أعداد الضحايا تُراوح بين (250-500) ألف مدني. وفي غضون 100 يوم، اقترب عدد ضحايا مذابح الإبادة من مليون قتيل من عدد السكان البالغ آنذاك نحو 11 مليونا. واضطر أكثر من مليونين من الهوتو إلى الهرب من شبح الانتقام إلى الكونغو الديمقراطية المجاورة، وفي الداخل ازدحمت السجون بأكثر من 120 ألفا من المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة. السيطرة على كيغالي سرَّعت المجازر -بحسب بعض المراقبين- بهجوم الجبهة الوطنية على كيغالي في يونيو/حزيران 1994، إلى أن تمكنت بدعم من أوغندا ودول أفريقية أخرى، من هزيمة الجيش الرواندي والسيطرة على الحكومة، بعد أن قتلت -بحسب مراقبين- 30 ألفا من الهوتو. وأعلن عن انتهاء أعمال القتل في 4 يوليو/تموز 1994، ولاحقا أعلن الجيش إحكام سيطرته على كامل البلاد، وخوفا من الانتقام فرّ ما يقدر بنحو مليونين من الهوتو بعضهم شارك في الإبادة الجماعية إلى الكونغو الديمقراطية، في حين نهب مسؤولون خزائن الدولة وفروا إلى فرنسا. بعد 4 أشهر، شُكلت حكومة وحدة وطنية جديدة لقيادة البلاد برئاسة زعيم الهوتو باستور بيزيمونغو، وتم تعيين فوستين تواجيرامونغو رئيسا للوزراء وبول كاغامي -البالغ من العمر آنذاك 37 عاما- نائبا للرئيس ورئيسا للأمن الداخلي. عاشت البلاد أسوأ فتراتها على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبدا الأفق ضيقا أمام مونغو وحكومته، اختلف الرئيس ونائبه في وقت لاحق، فتنازل عن منصبه لنائبه كاغامي. بعد ذلك، سُجن بيزيمونغو بتهمة التحريض على العنف العرقي، بينما انتخب كاغامي رئيسًا للبلاد في 17 أبريل/نيسان 2000، وكانت المهمة الأولى التي تنتظره سن دستور جديد قادر على مسايرة المرحلة الجديدة وتجاوز شبح المجازر. وشرع الرئيس في خطة من عدة محاور، في مقدمتها تحقيق المصالحة المجتمعية، وإنجاز دستور جديد حظر استخدام مسميات الهوتو والتوتسي، وجرّم استخدام أي خطاب عرقي. وواصل كاغامي سياسة إعادة الإعمار بعد الإبادة الجماعية، وشرع في خطة من عدة محاور في مقدمتها تحقيق المصالحة المجتمعية وإنجاز دستور جديد حظر الإشارات العرقية واستخدام مسميات الهوتو والتوتسي، وجرّم استخدام أي خطاب عرقي. ووضع أمامه هدفين رئيسيين هما: اقتلاع الفقر من بلاده، وتوحيد شعبه الذي قسمته المذبحة. كما وضع خطة من 4 بنود لتجاوز آثار الإبادة: محو الذكريات البشعة المرتبطة بالمذبحة، حيث أعلن حدادا سنويا، يلقي خلاله خطابا تذكاريا يضع فيه هدفا سنويا لتوحيد الروانديين حوله. تثقيف الشباب عن طريق التعليم وتدريس أسباب الإبادة وكيفية محوها وتلافي تكرارها. تحقيق العدالة لأولئك الذين تضرروا جراء تلك المذبحة، وتقديم كبار المجرمين للمحاكم الدولية، وإعادة تأهيل المشاركين في المذبحة ودمجهم في المجتمع بعد قضاء فترة العقوبة. وضع علم ونشيد وطني جديدين لتوحيد الروانديين، ودستور جديد يحظر استخدام المسميات العرقية مثل الهوتو والتوتسي في أي خطاب. ما بعد المجازر مع استتباب الحكم للرئيس بول كاغامي، أولت الحكومة أهمية قصوى لملف العدالة الانتقالية ومحاكمة المتورطين في المذابح، وإحلال المصالحة بين فئات المجتمع، وشكل هذا الملف هاجسا للبلاد، بسبب فظاعة الأعمال الإجرامية التي ارتكبت بحق الأبرياء. تحركت الحكومة على عدة محاور، وتواصلت مع المجتمع الدولي والأمم المتحدة التي بادرت بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، والمعروفة رسميا باسم "المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية وغيرها من الانتهاكات للقانون الدولي" ومقرها في أروشا بتنزانيا. انحصر اختصاص هذه المحكمة في ملاحقة كبار القادة المسؤولين عن الإبادة، وكان في مقدمتهم رئيس الوزراء الرواندي السابق جان كابيندا حيث أقر بأنه مذنب في 6 تهم تتعلق بالإبادة الجماعية وحكم عليه بالسجن مدى الحياة عام 2004. كما لاحقت المحكمة 4 من كبار القادة المتورطين في المجازر وهم العقيد باغوسورا الذي يعتبر المهندس الرئيسي للإبادة الجماعية، ووزيرة العدل ومحافظ كيغالي ورئيس البرلمان السابق الفريد موليرا. وحتى عام 2011 أكملت المحكمة محاكمة 80 مسؤولا من مجموع 92 متهما من كبار مسؤولي الحكومة الضالعين في الإبادة. محاكم الجاكاكا وعلى المستوى المحلي، تشكلت محاكم وطنية تخصصت في محاكمة من ثبتت إدانتهم بالتورط في المجازر في المستويات الدنيا، وحكمت على عدد منهم بالإعدام، لكن هذه المحاكم اتُّهمت في بعض الحالات بالقصور في بعض الإجراءات التي تميل إلى التحيز العرقي. كما أنشئت المحاكم القبلية التقليدية التي سميت "محاكم الجاكاكا" وتعني العشب، وتشير إلى جلوس الجميع على الأرض لمعالجة المشكلات على أسس تقليدية كانت تستخدمها المجتمعات لحل النزاعات بين العائلات. إعلان وعملت الآلاف من هذه المحاكم في الهواء الطلق، وتقمص القادة القبليون دور القضاة فيها، ونظروا في مئات آلاف القضايا، واستطاعت هذه المحاكم أن تُنهي 1.5 مليون قضية بين عامي 2001 و2010. الاعتراف والصفح كما لجأت الحكومة إلى إستراتيجية الاعتراف والصفح من أجل بث روح المسامحة عبر عدد من المشاريع التقليدية، منها مشروع أومو غومو وتعني شجرة الجميز، ويقوم الجناة السجناء ببناء منازل للمحتاجين من الناجين من المجازر، من أجل تحقيق المصالحة بمستوى أعمق. وأطلق مشروع "قرى مصالحة" التي جمعت الجناة والناجين في مكان واحد من أجل إقامة علاقات جديدة، وأعطت هذه الإستراتيجيات حوافز لمزيد من السعي نحو المصالحة بين أفراد المجتمع. بادرت الحكومة الرواندية مستفيدة من اتفاقية أروشا للمصالحة بإنشاء اللجنة الوطنية للمصالحة "سي إن يو آر" (CNUR) عام 1999، ووضعت لها عددا من الأهداف وفقا للمادة 178 من الدستور: صياغة برنامج وطني للوحدة والمصالحة. تكريس وتعزيز المصالحة الوطنية والوحدة. تقديم مقترحات حول أفضل الطرق لإزالة وإنهاء الانقسامات. تعزيز الوحدة الوطنية وتنظيم مؤتمرات وطنية تقديم مبادرات جديدة تدعم المبادرات الموجهة لمكافحة الفقر، ودعم المبادرات التي تخدم المصالحة. تمت صياغة مشروع قانون يدعو إلى إنشاء صندوق تعويضات، وفي بعض الحالات تم تفويض الحكومة الرواندية بدفع التعويضات للضحايا، ولكن لم تجد طريقها للتنفيذ، بل اكتفت الحكومة بإنشاء صندوق لتوفير الرعاية الصحية والتعليم للناجين دون الخوض في التعويض المالي. دور فرنسا في الإبادة "في حال عدم وجود إستراتيجية مباشرة في المنطقة التي قد تبدو صعبة التنفيذ سياسيا، فإن لدينا وسائل ومفاتيح إستراتيجية غير مباشرة يمكن أن تعيد توازنا معينا"، كان هذا نص برقية عاجلة من الجنرال الفرنسي كريستيان كيسنو إلى الرئيس فرانسوا ميتران في أوج حملة الإبادة الجماعية التي تعرضت لها أقلية التوتسي في رواند في التسعينيات. إعلان ويقصد الجنرال بالوسائل والمفاتيح مجموعات مرتزقة وآليات وإجراءات عسكرية غير تقليدية مكّنت السلطات الحكومية والمليشيات العرقية من تنفيذ الإبادة. وتجدر الإشارة بهذا الصدد، إلى الاتهامات التي وجهها الرئيس كاغامي، عام 2006، ضد فرنسا بشأن دعمها عملية الإبادة الجماعية، كما أعلنت لجنة مكافحة الإبادة العرقية الوطنية الرواندية، عام 2016، لائحة بأسماء 22 ضابطا فرنسيا متورطا بالمشاركة أو دعم عمليات الإبادة. وقدمت فرنسا أسلحة لحكومة الهوتو، كما قدمت البنوك الفرنسية تسهيلات واعتمادات لصفقات أسلحة أبرمتها رواندا مع الصين ومصر وجنوب أفريقيا، كما نشرت ما يصل إلى 680 جنديا ومستشارا في رواندا أثناء الحرب. وفي كتاب بعنوان "ما لا يصرّح به"، يقول باتريك دو سانت أكزيبيري إن باريس أرسلت "في أوج الإبادة الجماعية 6 شحنات من الأسلحة بلغت قيمتها نحو 5.5 ملايين دولار". ويروي جان بول غوتو في كتاب "الليلة الرواندية" أن المساعدات العسكرية الفرنسية أدت لزيادة القوات المسلحة الرواندية من نحو 5 آلاف عنصر إلى قرابة 50 ألفا تكفلت باريس بتدريبهم وتسليحهم. ولم يخجل الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران من استقبال مجرمي الإبادة الجماعية في مكتبه، بل خاطب أحد مستشاريه قائلا "لقد استقبلت في مكتبي 400 مجرم وألفي تاجر مخدرات، لا يمكن إلا أن نلطخ أيدينا في العمل مع أفريقيا.. في بلدان كهذه، الإبادة الجماعية ليست مسألة مهمة جدا". وجاء ذلك في حديث نقلته صحيفة "لوفيغارو" في عددها بشهر ديسمبر/كانون الأول 1998 عن برونو ديلاي مستشار الشؤون الأفريقية في قصر الإليزيه. وجاء في تقرير نشره مكتب "كونينغهام ليفي موس" للمحاماة في أميركا في أبريل/نيسان عام 2021، أن باريس كانت على علم باستعداد الهوتو لتنفيذ حملة الإبادة الجماعية واستمرت في تقديم "الدعم الراسخ" لنظام الرئيس هابياريمانا. وفي مايو/أيار عام 2021 اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارة تاريخية لرواندا، بدور بلاده في مقتل 800 ألف معظمهم من الروانديين التوتسي، وقال إن الناجين فقط هم من يمكنهم منح "هبة الغفران". أين الولايات المتحدة؟ في تقرير لها في عام 2009 تساءلت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" عن سبب عدم تدخل الولايات المتحدة لوقف الإبادة الجماعية التي حدثت في رواندا. وقالت الصحيفة إن إدارة الرئيس بيل كلينتون والكونغرس شاهدا ما أفضت إليه الأحداث في رواندا في أبريل/نيسان عام 1994 بنوع من الرعب المخدر. وأضافت أنه بعد أن سحبت أميركا قواتها من مهمة حفظ السلام الكارثية في الصومال، على إثر تعرضهم للقتل والمهانة، تعهدت بألا تتدخل أبدا في صراع لا تعرف كنهه، بين قبائل وعشائر لا تعرفها، في بلد ليس للولايات المتحدة مصالح وطنية فيه. ومؤخرا، كشفت الخبيرة البريطانية المتخصصة في شؤون أفريقيا بيبا لوتون عن تورط أحد عملاء المخابرات المركزية الأميركية في الإبادة التي شهدتها رواندا عام 1994. وفي حوار خاص لبرنامج "المنطقة الرمادية" الذي يبث على موقع الجزيرة نت، وصفت الخبيرة البريطانية الدور الذي لعبه روجر وينتر​ عميل المخابرات الأميركية (سي آي إيه) بالمحوري. مسلمو رواندا والإبادة من المفارقة، أن الإبادة كان لها تأثير إيجابي على أوضاع المسلمين في البلاد، نتيجة مواقفهم التي كانت محط احترام من الجميع، فقد بذلوا جهودا كبيرة لحماية أفراد أقلية التوتسي من الهجمات التي شنها متطرفو الهوتو. وتركت مواقف المسلمين -الذين تصل نسبتهم وفق التقديرات إلى نحو 15% من عدد سكان رواندا البالغ 15 مليونا- أثرا طيبا في نفس الرئيس كاغامي بشكل خاص وفي نفوس السكان بشكل عام، ودفعهم ذلك إلى إعادة التقدير للمسلمين ورفع مكانتهم التي سعى الاستعمار إلى وضعها والحط منها. ونقل لي مفتي رواندا ورئيس مجلسها الأعلى للشؤون الإسلامية الشيخ موسى سندايغايا وغيره من الدعاة الذين التقتهم الجزيرة نت أن الرئيس طلب في أكثر من مناسبة من المسلمين أن "يجتهدوا في نشر قيمهم السمحة التي أدت إلى تلك المواقف المشرفة خلال فترة الإبادة". وأذكر هنا مثالا على هذه المواقف، ما حصل للمسيحيين التوتسي الذين لجؤوا إلى مسجد النور مباري في قرية روبونا في محافظة رواماغانا بالمنطقة الشرقية، الذي زرته خلال وجودي في رواندا والتقيت عددا من مسؤولي المنطقة وسكانها. وذكر لي السكان أنهم قاموا بحماية الفارين من القتل، وأن بعضهم قُتل في سبيل الدفاع عن هؤلاء المستجيرين بالمسجد، وقد قابلت السيدة كامبيري موناعيد التي كان لها دور كبير بحمايتهم، ونقل لي السكان أن هذه السيدة قتلت بالحجارة اثنين من المهاجمين من متطرفي الهوتو.

"رايتس ووتش": القضاء الليبي عاجز عن التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان
"رايتس ووتش": القضاء الليبي عاجز عن التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان

الجزيرة

timeمنذ 6 ساعات

  • الجزيرة

"رايتس ووتش": القضاء الليبي عاجز عن التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان

قالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن قطاع العدالة في ليبيا غير قادر على إجراء تحقيقات جادة في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم الدولية، بسبب الانقسامات التي تمزقه. وسجلت المنظمة في تقرير أصدرته أمس الاثنين، أن النظام القضائي في ليبيا يتسم بـ"انتهاكات جسيمة للإجراءات القانونية الواجبة". وأكد التقرير أن المليشيات غير الخاضعة للمساءلة تسيطر على السجون ومراكز الاحتجاز التي لا تخضع إلا ظاهريا لـ"رقابة عدة وزارات وسلطات حكومية". وأوضح التقرير أن قانون العقوبات الليبي والتشريعات الأخرى ذات الصلة "قديمة ولا تتناول الجرائم الدولية، وتحتاج إلى إصلاح شامل لمواءمتها مع التزامات ليبيا الدولية في مجال حقوق الإنسان". وتتضمن التشريعات المحلية في ليبيا أحكاما وقوانين وصفها التقرير بـ"القمعية والتعسفية الموروثة من عهد الزعيم السابق معمر القذافي"، معتبرا أنها تتعارض مع القانون الدولي. كما أفادت "رايتس ووتش" بأن القوانين والأحكام القضائية الصادرة منذ الإطاحة بالقذافي "تُقيد الحريات ولا تتماشى مع القانون الدولي ، فيما تواصل المحاكم العسكرية في الشرق والغرب محاكمة المدنيين تحت ذريعة الجرائم المتعلقة بـ"الإرهاب". وأشار التقرير إلى أن الإجراءات القضائية في المحاكم المدنية والعسكرية تشوبها انتهاكات "جسيمة" للإجراءات القانونية الواجبة، حيث يحتجَز "الليبيون وغير الليبيين بشكل تعسفي لفترات طويلة". كما لفت التقرير إلى أن مرافق الاحتجاز في ليبيا "مشتتة ويسودها العنف والأوضاع غير الإنسانية للمهاجرين وطالبي اللجوء والمواطنين الليبيين على حد سواء". وأردف التقرير أن التعذيب وسوء المعاملة، والاحتجاز التعسفي، والأوضاع غير الإنسانية، بما في ذلك الاكتظاظ، ممارسات واسعة الانتشار، مؤكدًا أنها وُثقت توثيقًا جيدًا. وأفاد بأن الجماعات المسلحة والقوات شبه الحكومية التي تسيطر على مرافق الاحتجاز "لا تنفذ دائما أوامر الإفراج أو تمتثل لأوامر المحكمة باستدعاء المحتجزين"، كما أن الحق في محاكمة عادلة "لا يُحترم في ليبيا". ودعت المنظمة السلطات الليبية إلى إلغاء جميع القوانين التي تنتهك القانون الدولي "فورا" و" الإعلان الدستوري الليبي"، ووضع الأسس لإصلاح تشريعي شامل بمشاركة فقهاء القانون والمنظمات المدنية المحلية والدولية. كما طالبت بتعديل قانون العقوبات لتجريم الجرائم الدولية الخطيرة على وجه التحديد، وضمان معايير المحاكمة العادلة وحقوق الإجراءات القانونية الواجبة بما يتماشى مع القانون الدولي، وممارسة رقابة فعالة وحقيقية على جميع مرافق الاحتجاز.

القيم الإنسانية في الشورى.. (الحرية والعدالة)
القيم الإنسانية في الشورى.. (الحرية والعدالة)

الجزيرة

timeمنذ 18 ساعات

  • الجزيرة

القيم الإنسانية في الشورى.. (الحرية والعدالة)

إن شريعة الإسلام أقرّت الشورى الإنسانية في أبهى حُلة عرفها بنو البشر من حيث الشكل والمضمون؛ حيث جسدت الشورى في الإسلام قيم الحرية والعدالة والمساواة في المجتمع الإسلامي، ولم يقتصر ذلك على الرعايا المسلمين في الدولة الإسلامية، بل شمل غير المسلمين من أهل الذمة وغيرهم. فقد ركز الإسلام من خلال إقراره للشورى على أهمية حرية الإنسان، وضرورة احترام كرامته، واعتبره مسؤولًا عن أفعاله أمام الله وأمام الناس، مستهدفًا بذلك حماية النفس والمال والعرض والكرامة الإنسانية بشكل متوازن. إن من الواجب على الدولة الإسلامية أن تقيم العدل بين الناس، وتفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهدًا أو مالًا وللحرية في النظام السياسي الإسلامي أنواع تشمل الفرد والجماعة، من أبرزها الحرية الشخصية، وهي أن يستطيع الفرد فعل ما يريد بشرط ألا يضر بالآخرين، وقد كفل الإسلام حرية الأفراد في الاعتقاد والفكر.. قال تعالى: {لا إكراه في الدِّين قد تبيَّن الرُّشد من الغيِّ فمن يكفر بالطَّاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعٌ عليمٌ} [البقرة: 256] لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- سياسيًا محنكًا؛ فقد أعطى الحرية للمسلمين وغير المسلمين، وذلك من خلال دستور جامع لكل المواطنين، عندما أراد استيعاب اليهود كسكان للمدينة المنورة تحت رايته وحكمه، ولم يشأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اتخاذ سياسة الاستئصال أو التطهير الديني ضد غير المسلمين، بل كان نهجه إعطاء هامش أوسع للحريات الدينية (الشورى، د. سامي الصلاحات، ص329). دلت صحيفة المدينة بوضوح وجلاء على عبقرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في صياغة موادها، وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعض، فقد كانت موادها مترابطة وشاملة، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة، والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان، على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم، بالحقوق والحريات بأنواعها (دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، كامل الدقس، ص 420). ولا تزال المبادئ التي تضمنها الدستور -في جملتها- معمولًا بها، والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم، وقد وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها في أول وثيقة سياسية دوَّنها الرسول، صلى الله عليه وسلم (النظام السياسي لأبي فارس، ص65)؛ فقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعبادة، وحق الأمن.. إلخ. فحرية الدين مكفولة، «للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم»، وقد أنذرت الصحيفة بمعاقبة من يخالف هذا المبدأ، أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصت الوثيقة على تحقيق العدل ومبدأ المساواة بين الناس. وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل التي من شأنها أن تعوق صاحب الحق عن الوصول إلى حقه. لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم، أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يحكم بين المتخاصمين، ويحكم بالحق، ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أو عليهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء، عمالًا أو أصحاب عمل.. قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنَّكم شنآن قومٍ على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتّقوى واتّقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون} [المائدة: 8]، والمعنى: لا يحملنكم بغض قوم على ظلمهم، ومقتضى هذا أنه لا يحملنكم حب قوم على محاباتهم والميل إليهم (السيرة النبوية، د. علي الصلابي، ج1 ص 275 – 276). وقال تعالى: {فلذلك فادعُ واستقم كما أُمرت ولا تتّبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتابٍ وأُُمرت لأعدل بينكم الله ربُّنا وربُّكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجَّة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} [الشورى: 15]. وقد علق المودودي -رحمه الله- على هذه الآية قائلًا: "يعني أنني مأمور بالإنصاف دومًا، فليس من شأني أن أتعصب لأحد أو ضد أحد، وعلاقتي بالناس كلهم سواء، وهي علاقة العدل والإنصاف، فأنا نصير من كان الحق في جانبه، وخصيم من كان الحق ضده، وليس في ديني أي امتيازات لأي فرد كائنًا من كان، وليس لأقاربي حقوق وللغرباء حقوق أخرى، ولا للأكابر عندي مميزات لا يحصل عليها الأصاغر، والشرفاء والوضعاء عندي سواء، فالحق حق للجميع، والذنب والجرم ذنب للجميع، والحرام حرام على الكل، والحلال حلال للكل، والفرض فرض على الكل، حتى أنا لست مستثنى من سلطة القانون الإلهي (الحكومة الإسلامية لأبي الأعلى المودودي، ص202). وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتَّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تُعرضوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرًا} [النساء:135]. إن في فقه أهل الذمة عند علماء الشريعة والسياسة الشرعية ما يشير إلى أن علماءنا كانوا منصفين وعادلين لأهل الذمة؛ وكان لهم حقوق على أساس المواطنة والحرية الكاملة لهم، وليس على أساس الدين والقومية، ولم يشهد عصر إسلامي على مدار الحضارة الإسلامية أي عملية تطهير عرقي أو استئصال ديني لأي جماعة دينية أو عرقية، بل كانت الديار الإسلامية دائمًا الحاضنة الأولى لأي جماعة تريد أن تحتفظ بكينونتها الدينية والثقافية، كما كان الحال مع اليهود وهروبهم من الأندلس (إسبانيا الحالية) جراء القمع الصليبي والتطهير الديني إلى دار الإسلام، ولم تكن العنصرية يومًا من الأيام حاضرةً في دعوة الإسلام. وقد توفرت في ظل الحكم الإسلامي دائمًا حرية العمل وحرية التعليم، وحرية التظلم ضد من يسبب لإنسان الأذى، ولو كان حاكمًا أو مسؤولًا في السلطة، وحرية السكن والإقامة.. إلخ، وذلك للمسلمين ولغير المسلمين. كما أن حرية الفرد المسلم في إبداء رأيه والتعبير عنه مكفولة في الدولة الإسلامية، وكذلك حريته في الانتماء الفكري لأي جماعة تحت مظلة الإسلام، ما دامت هذه الجماعة تتخذ من الإسلام منهجًا فكريًا، ومن أصوله العقائدية قواعد في التفكير، فلا حرج على الفرد في هذا الانتماء، إذ إن الطبائع تختلف في الوسيلة، وتتفق في المآل والمصير، لا سيما إذا كان الطريق واحدًا، وهو طريق الإسلام. إن دعامتَي العدل والحرية أصلان أساسيان في شريعتنا، ولا يخفى أنهما دعامتا القوة والاستقامة في جميع الممالك (الشورى فريضة إسلامية، د. علي الصلابي، ص155).

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store