
في حضرة العروي.. كيف التهمت الأيديولوجيا أوطاننا؟
في مثل هذه اللحظات، أستحضر فكر عبد الله العروي، لأن منهجه التاريخاني وأدواته المفاهيمية تمنحني إطارًا لفهم ما يدور من حولنا بوعي أعمق.
يرى العروي أن بناء الدولة الحديثة يستلزم فهمًا تاريخانيًا للمفاهيم، باعتبارها نتاجًا لسياقات اجتماعية وثقافية محددة. لذا، لا يجوز استيرادها أو استعادتها دون نقد تاريخي. فالتاريخانية شرط لبناء دولة وطنية عقلانية، تقوم على المواطنة والقانون، وتتجاوز الانتماءات التقليدية والخطاب الميتافيزيقي نحو مشروع تحديثي لا يعيد إنتاج الماضي. الدولة الحديثة، كما يفهمها العروي، لا تكتفي بالمؤسسات والقوانين، بل تحتاج إلى فكر يحمل مشروعها، ويمنحها معناها، ويؤطّر علاقتها بالمجتمع والماضي والمستقبل. فكرٌ تاريخاني يؤمن بأن القيم والنُظُم تتغير، ويُوظّف التاريخ لا لتكراره بل لتجاوزه، وينقل الدولة من البُنى التقليدية إلى أفق حداثي عقلاني.
بناء دولة حداثية لا يستقيم على أسس دينية أو قبلية أو مذهبية، لأنها تُكرّس الانقسام وتُعيق المواطنة. من هنا تبرز الحاجة إلى أيديولوجيا تاريخانية تُعيد قراءة الماضي بعقلانية، وتضع التحديث في صلب مشروعها. فالدولة الحديثة تفترض فكرًا سياسيًا يتجاوز البُنى التقليدية، وهو ما تفتقر إليه كثير من الدول العربية التي بقيت رهينة لأيديولوجياتها القديمة.
التصوّر العقلاني للدولة والأيديولوجيا، كما يطرحه العروي، يصطدم بواقع عربي يتسم بالاضطراب؛ فبعض الأنظمة تتبنى خطابات متناقضة، وأخرى تتحوّل إلى وسطاء بين قوى اجتماعية ودينية متصارعة، بينما تُوظّف الأيديولوجيا أحيانًا كغطاء للسلطة بدل أن تكون أداة للوعي. والنتيجة دول هشّة، بلا سردية موحّدة أو مشروع جامع، ما يُبرز أهمية أطروحة العروي كأداة نقدية لفهم هذا الواقع وأسباب تعثّره.
هذا ما نراه بوضوح في السودان واليمن، حيث تتنازع أيديولوجيات متصارعة (قبلية، دينية، جهوية) كيان دولة مفككة أصلًا، فتصبح النتيجة كما نرى: حربًا أهلية بلا مشروع وطني. وفي العراق، الدولة موجودة شكليًا، لكنها رهينة ولاءات طائفية تتنازع على السلطة باسم أيديولوجيات داخلية وخارجية فقدت قدرتها على إنتاج أفق جامع.
في سوريا، مثّل حزب البعث نموذجًا لدولة ترفع شعار القومية العربية، لكنها في العمق كانت تُدار وفق منطق طائفي أمني مركزي. هذه الأيديولوجيا القومية، بدل أن توحّد الشعب، أصبحت غطاءً لاحتكار السلطة وإقصاء المختلف. مع اندلاع الثورة السورية، انكشفت هشاشة الدولة وتحوّلت سوريا إلى ساحات نفوذ داخلية وخارجية، تتنازعها أيديولوجيات متضاربة، بعضها ديني، وبعضها انفصالي. اليوم، ما نشهده من محاولات السلطة الجديدة لإشراك كل المكونات السياسية والاجتماعية والمذهبية، يواجه تحديات، أبرزها الطائفية ومشاريع التقسيم، بينما تفقد الأيديولوجيا القومية التي حكمت سوريا لعقود طويلة قدرتها على توحيد الرؤية أو استعادة الشرعية.
في غزة، لا تغيب الأيديولوجيا هناك أيضًا، رغم أن الطابع العام المُحرّك تأسس على قضية وجودية نضالية بامتياز في مواجهة احتلال، لكنها هي الأخرى ليست بعيدة عن نماذج الأيديولوجيا التي حكمت ولا زالت المجتمعات العربية، كما وصفها العروي: بين حماس بخطابها الإسلامي المقاوم، وفتح بخطابها الوطني التقليدي، وحركات أخرى تلوّن الصراع الفلسطيني بلغة دينية أو ثورية أو حتى شعبوية. المشكلة أن هذه الأيديولوجيات تتحول في كثير من الأحيان إلى أداة لإدامة الانقسامات، أكثر من كونها مشروعًا جامعًا للتحرير وبناء الدولة.
أما في لبنان، فحدّث ولا حرج، فالدولة تتنازعها الطوائف، وكل طائفة تحمل أيديولوجيا خاصة بها: دينية أو سياسية أو ثقافية، بل ومرتبطة بولاءات خارجية تجعل من فكرة الدولة مجرد توازن للمصالح لا أكثر، سحبت لبنان ومؤسساته إلى الهاوية. وهذا هو النموذج الذي ينتقده العروي، حيث تتحول الأيديولوجيا من أداة لبناء الدولة إلى عامل يُعطّل حركتها ويُكرّس عجزها.
في الحالة الأردنية، تبرز أزمة غياب الأيديولوجيا كما يُحلّلها عبد الله العروي بوضوح لافت. فالدولة لم تُنتج بعد فكرًا عقلانيًا حديثًا يُوحّد المجتمع ويوجّه وعيه، بل اكتفت بإدارة توازناته التقليدية القائمة على الدين والعشيرة والشرعية التاريخية. ومع اندلاع حرب غزة، ظهر هذا الخلل بشكل ملفت: تشتّت المواقف، وانقسم الشارع، واهتزّت الثقة بالخطاب الرسمي. الإعلام أخفق في بلورة موقف وطني واضح، وانشغل بالتبرير أو الصمت، وخطاب السياسيين والمثقفين ضعيف وعاجز.
بهذا المعنى، فإن الدولة الأردنية، في ظل غياب أيديولوجيا عقلانية تُشكّل وعيًا جمعيًا، بدت عاجزة عن قيادة الناس، مكتفية بإدارة الأزمة لا بتوجيهها، تاركة المواطن يتأرجح بين الولاءات الضيقة وغياب الانتماء الفعلي للدولة الوطنية الحديثة.
لهذا، حين أعود إلى فكر عبد الله العروي، أفهم أكثر كيف وصلت أوطاننا إلى هذا الحال. لم تكن الأيديولوجيا في ذاتها هي المشكلة، بل غياب الفكر العقلاني الذي يوحّدها في مشروع وطني جامع. في غياب هذا الإطار، تحوّلت الأيديولوجيا إلى ساحة صراع، لا أداة وعي. وهكذا، لا أجد وصفًا أدق لما حدث لنا سوى أن الأيديولوجيا التهمت أوطاننا، لا لأنها كانت قوية، بل لأن الدولة كانت ضعيفة، بلا رؤية، بلا فكر، وبلا مشروع.
صحفية وكاتبة أردنية
نقلا عن رأي اليوم
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


تونس تليغراف
منذ 2 ساعات
- تونس تليغراف
Tunisie Telegraph تسميات جديدة برئاسة الحكومة
صدر بالعدد الاخير للرائد الرسمي للجمهورية التونسية قرار من رئيسة الحكومة مؤرخ في 1 أوت 2025 ينص على تعيينات جديدة وفي ما يلي التفاصيل..


تونس تليغراف
منذ 2 ساعات
- تونس تليغراف
Tunisie Telegraph شواطئ الموت والعنف: أوروبا عاجزة أمام زحف قوارب اليأس
رغم تشديد الإجراءات البريطانية وتكثيف التعاون الأمني مع فرنسا، تشهد القناة الإنجليزية (المانش) موجة غير مسبوقة من عبور المهاجرين. فقد سجلت السلطات البريطانية أكثر من 25 ألف عملية عبور بواسطة قوارب صغيرة منذ بداية عام 2025، وهو رقم يتجاوز ما تم تسجيله خلال نفس الفترة في العامين السابقين، ما ينبئ بأن الرقم القياسي المسجل في 2022 (45 ألف عبور) مرشّح للتحطيم. ووفقًا لبيانات وزارة الداخلية البريطانية، تمكّن 898 مهاجرًا يوم 30جويلية وحده من الوصول إلى الأراضي البريطانية على متن 13 قاربًا صغيرًا. أما خلال الأسبوع الممتد من 24 إلى 30 يوليو، فقد بلغ العدد الإجمالي 1,772 مهاجرًا. ورغم أن فصل الصيف يمثل عادة ذروة محاولات العبور بحكم الظروف الجوية المواتية، إلا أن وتيرة التدفقات هذا العام تشير إلى زيادة بنسبة 51٪ مقارنة بعام 2024، و73٪ مقارنة بـ2023، حسب ما نقلته صحيفة The Guardian البريطانية. فرنسا تغيّر سياستها في اعتراض المهاجرين وسط ضغوط بريطانية تحت ضغط لندن، قررت فرنسا تعديل سياسة اعتراض القوارب في عرض البحر. وكانت الشرطة الفرنسية سابقًا ممنوعة من التدخل بعد نزول القوارب إلى المياه، وذلك لتفادي وقوع حوادث. لكن ارتفاع حصيلة الوفيات — التي بلغت 78 مهاجرًا لقوا حتفهم في 2024، معظمهم قرب الشواطئ الفرنسية نتيجة الاكتظاظ والظروف السيئة — دفع باريس إلى إعادة النظر في استراتيجيتها الأمنية. أوضاع مزرية وتدهور إنساني على السواحل الفرنسية في المقابل، يعيش آلاف المهاجرين أوضاعًا مأساوية على امتداد الساحل الفرنسي الشمالي، خاصة بين بولوني سور مير ودنكرك، في انتظار فرصة العبور. وتقوم قوات الأمن بتفكيك المخيمات المؤقتة فور نموها. ففي منطقة كالاي، يعيش مئات السودانيين في مستودع مهجور متهالك من المنتظر إخلاؤه نهاية الصيف. وتتزامن هذه الظروف الإنسانية مع تصاعد العنف بين شبكات تهريب المهاجرين، والتي تتصارع على سوق تدرّ عشرات الملايين من اليوروهات سنويًا. فقد شهد مخيم Loon-Plage خمس حوادث إطلاق نار خلال شهر يوليو فقط، من بينها حادثة دامية قُتل فيها شاب بعد إصابته بسبع رصاصات. وفي منتصف يونيو، أودى إطلاق نار مزدوج بحياة شخصين وأصاب ستة آخرين، بينهم امرأة وطفل يبلغ عامين. ردود فعل بريطانية: عقوبات وقلق من أعمال عنف عنصرية من جانبها، أعلنت الحكومة البريطانية مؤخرًا عقوبات بحق 25 شخصًا ومنظمة يشتبه بتورطهم في شبكات تهريب البشر، شملت تجميد أصول وحظر دخول البلاد. غير أن هذه الإجراءات لم تمنع اندلاع أعمال شغب ذات طابع عنصري في محيط عدد من الفنادق التي تستقبل طالبي اللجوء في لندن، ما أعاد للأذهان أحداث صيف 2024 التي شهدت تصعيدًا مشابهاً. ومع استمرار التوتر على ضفتي المانش، يبدو أن أزمة الهجرة غير النظامية مرشحة لمزيد من التعقيد، خاصة في ظل تزايد أعداد العابرين وغياب حلول أوروبية منسقة.


ديوان
منذ 3 ساعات
- ديوان
واشنطن تعتزم فرض شرط جديد للحصول على تأشيرات العمل والسياحة
وأوضحت الوزارة أنه سيتم إدراج الدول الخاضعة لهذه الشروط بمجرد دخول البرنامج حيز التنفيذ في حين لن يُطبق هذا الضمان على مواطني الدول المسجلة في برنامج الإعفاء من التأشيرة ويمكن إعفاء غيرهم منه أيضا وفقا للظروف الشخصية لمقدم الطلب .