logo
بين الخيانة والبطولة.. ضابط صربي يختار الدفاع عن سراييفو التي أحبها

بين الخيانة والبطولة.. ضابط صربي يختار الدفاع عن سراييفو التي أحبها

الجزيرة١٧-٠٧-٢٠٢٥
تجسد مسيرة الجنرال الصربي يوفان ديفياك الذي دافع عن المدنيين البوسنيين إبان حصار سراييفو واحدة من أكثر التجارب الإنسانية تعقيدا في تاريخ حروب البلقان المعاصرة.
وتمثل هذه القصة نموذجا لرجل واجه خيارا مصيريا بين الانصياع للضغوط القومية والتمسك بالمبادئ الإنسانية، فاختار طريقا وعرا جعله مثار جدل واسع لعقود.
وتنطلق هذه الملحمة الإنسانية من جذور عميقة في التاريخ الشخصي لديفياك، إذ تشكلت شخصيته في ظروف صعبة منذ الطفولة، فقد شهدت سنوات تكوينه الأولى تجربة مؤلمة عندما تركت والدته زواجا غير سعيد وهو في الـ13 من عمره، مما حرمه من وجود الأب في حياته.
هذا الفراغ العاطفي المبكر ربما كان له الأثر الأكبر في تشكيل شخصيته المتعاطفة مع الآخرين وميله لحماية الضعفاء، وهو ما ظهر جليا في مراحل لاحقة من حياته.
واستعرضت حلقة (2025/7/10) من سلسلة "أفلام الجزيرة" هذه القصة بعمق، مسلطة الضوء على التحولات الجذرية في مسيرة ديفياك من ضابط في النخبة العسكرية اليوغوسلافية إلى مدافع عن المدنيين في سراييفو المحاصرة.
ولفهم هذا التحول، لا بد من العودة إلى السياق التاريخي الذي شهدته يوغوسلافيا في النصف الثاني من القرن الـ20، إذ عاش ديفياك سنوات الشباب في ظل النظام الشيوعي الذي أسسه الرئيس يوسيب بروز تيتو، إذ كانت التقسيمات القومية منضبطة تحت مظلة الأيديولوجية الموحدة.
ووصل إلى سراييفو عام 1966 كضابط واعد في الجيش اليوغوسلافي، وسرعان ما وقع في حب المدينة التي وصفها بأنها أجمل ما رآه في حياته.
ومع بداية التسعينيات، شهدت المنطقة تحولات جذرية عقب وفاة الزعيم الشيوعي تيتو وانهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية، وصعدت إلى السلطة أحزاب قومية متطرفة استغلت المشاعر العرقية والدينية لتحقيق أهدافها السياسية.
الهجوم على سراييفو
وانهار حلم الوحدة اليوغوسلافية تحت ضغط هذه التوترات، وبدأت الجمهوريات المختلفة تعلن استقلالها الواحدة تلو الأخرى، وهذا أدى إلى اندلاع سلسلة من الحروب الدموية، وواجه ديفياك أصعب قرار في حياته عندما هاجم الجيش اليوغوسلافي، الذي كان يخدم فيه، مدينة سراييفو عام 1992.
ورفض الرجل أن يكون جزءا من هذا الهجوم ضد المدينة التي أحبها، واختار البقاء مع سكانها المحاصرين، فاستدعته القيادة البوسنية وعرضت عليه منصب نائب قائد الجيش، وهو ما قبله رغم إدراكه للتعقيدات الهائلة التي ستواجهه كضابط صربي يحارب ضد جيش بلاده.
وامتد حصار سراييفو لما يقارب 4 سنوات، شهدت خلالها المدينة معاناة إنسانية لا توصف، وعاش ديفياك هذه المعاناة بشكل مباشر في الخطوط الأمامية، إذ كانت المسافة بين القوات المتحاربة لا تتجاوز 100 متر أحيانا.
وشارك المدافعون عن المدينة طعامهم القليل ونام معهم في الخنادق، وتحمل مثلهم ضراوة القصف اليومي وقسوة الشتاء بلا تدفئة كافية، وتعرض ديفياك لنقطة تحول عاطفية عميقة عندما زار أسرة فقدت 3 أطفال في قصف صربي.
وكانت الأم المنكوبة، هاليدا دابوياتشي، تتوقع أن يرفضها الجنرال الصربي أو يتجاهل معاناتها، لكنه فاجأها بدموعه الصادقة وتعاطفه العميق، وشكل هذا اللقاء بداية علاقة إنسانية استثنائية امتدت لعقود، إذ شجع ديفياك المرأة لاحقا على الإنجاب مرة أخرى رغم كبر سنها.
وحدث ما لم يكن متوقعا عندما أنجبت هاليدا توأمين في سن الـ45، لكنها فقدت أحدهما أثناء القتال ونجا الآخر بأعجوبة بعد أسابيع من العلاج المكثف.
ومر ديفياك بتجربة مؤلمة أخرى خلال حادثة تبادل الأسرى الشهيرة عام 1992، عندما تم احتجاز الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش رهينة.
وسعى ديفياك بكل قوته لحل الأزمة وحقن الدماء، لكن العملية انتهت بمأساة عندما قُتل جنود من الطرفين في ظروف غامضة، واتهمته السلطات الصربية بتدبير الحادث، بينما شكك بعض البوسنيين في ولائه، وهذا وضعه في موقف صعب للغاية.
وتأزم موقف ديفياك أكثر عندما استدعاه الرئيس بيغوفيتش عام 1994 وطلب منه التقاعد، وترك هذا في نفسه جرحا عميقا لم يندمل بسهولة، واختار الرجل البقاء في سراييفو رغم صعوبة الوضع، في حين غادر ولداه المدينة غير قادرين على تحمل التعقيدات والضغوط المحيطة بوالدهما.
نهاية الحرب
وانتهت الحرب عام 1995 بتوقيع اتفاقية دايتون للسلام ، تاركة وراءها أكثر من 10 آلاف قتيل في سراييفو وحدها ومئات الآلاف من الأيتام في جميع أنحاء البوسنة، ووجد ديفياك في هؤلاء الأطفال المنكوبين رسالة حياته الجديدة، فأسس منظمة غير حكومية لمساعدة أيتام الحرب من جميع القوميات والأديان.
وأنفقت مؤسسة ديفياك على تعليم أكثر من 5 آلاف يتيم على مدى عقدين، مقدمة لهم المنح الدراسية والدعم النفسي والتوجيه المهني، وأصبح الرجل أبا بديلا لمئات الأطفال، يحضر حفلات تخرجهم ويفرح بإنجازاتهم ويساعدهم في بناء مستقبلهم.
وتعرض ديفياك لمحنة جديدة عام 2011 عندما اعتُقل في مطار فيينا بطلب من السلطات الصربية التي أرادت محاكمته بتهمة جرائم الحرب، وقضى 4 أشهر في الاحتجاز من دون معرفة مصيره، لكن حملة شعبية واسعة في سراييفو نجحت في الإفراج عنه من دون توجيه تهم.
وكانت هذه الحملة دليلا قاطعا على مكانة الرجل الخاصة في قلوب البوسنيين الذين اعتبروه واحدا منهم، وعاد ديفياك إلى سراييفو وسط استقبال شعبي حافل، وواصل عمله مع الأطفال الأيتام ونشر مذكراته عن تجربة الاعتقال.
ورغم تجاوزه الـ80 من العمر، يؤكد الرجل أنه لا يشعر بالندم على خياراته، ويفخر بدفاعه عن مجتمع تعددي وجد في البوسنة منذ قرون.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مظاهرات غاضبة في عدة دول احتجاجا على تجويع غزة
مظاهرات غاضبة في عدة دول احتجاجا على تجويع غزة

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

مظاهرات غاضبة في عدة دول احتجاجا على تجويع غزة

شهدت عدة مدن حول العالم مظاهرات حاشدة وغاضبة احتجاجا على سياسة التجويع التي تمارسها إسرائيل بحق سكان قطاع غزة ، والتنديد بالدعم الأميركي المستمر لحرب الإبادة الإسرائيلية. وشارك مئات التونسيين مساء السبت في فعالية أطلق عليها اسم "حصار السفارة الأميركية" بالعاصمة تونس، بدعوة من منظمات مناهضة للتطبيع. وندد المحتجون بدور واشنطن في دعم ما وصفوه بـ"حرب الإبادة والتجويع" التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة. وقرع المحتجون أواني فارغة رمزا للجوع، ووضعوا مجسمات لأطفال شهداء على الطريق، مرددين شعارات مثل "الصهاينة والأميركان شركاء في العدوان" و"مطلب واحد للجماهير: غلق السفارة وطرد السفير" و"الجريمة صهيونية والقذيفة أميركية". كذلك، خرج عشرات المواطنين في العاصمة البوسنية سراييفو بمسيرة من ميدان باسكارسييا إلى النصب التذكاري للأطفال، حاملين لافتات كُتب عليها "غزة تتضور جوعا والعالم يكتفي بالمراقبة" و"أوقفوا قتل الأطفال الأبرياء". كما قرع المشاركون أواني الطبخ رمزا للجوع المتفشي في القطاع. طلاب الجامعات ضد التجويع وفي العاصمة الموريتانية نواكشوط ، تظاهر مئات الطلاب أمام السفارة الأميركية، رافعين الأعلام الفلسطينية ومرددين هتافات تندد بالمجازر والتجويع، مثل "أميركا شريكة في تجويع غزة" و"غزة تتعرض لحرب إبادة". ودعا الطلاب الجامعات في العالم العربي إلى التحرك لمساندة غزة ووقف الدعم الأميركي لإسرائيل. وشهدت مدينة ميلانو شمالي إيطاليا، مظاهرة احتجاجية، تنديدا بحرب الإبادة المتواصلة في غزة، وللمطالبة بإنهاء سياسة تجويع سكان القطاع. وردد المتظاهرون شعارات تنتقد بشدة الحكومة الإيطالية لرفضها الاعتراف بالدولة الفلسطينية ولرفضها تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل. وفي النمسا، عرقل ناشطون مؤيدون لفلسطين حفل افتتاح مهرجان سالزبورغ، رافعين لافتات "أوقفوا الإبادة الجماعية" و"أيديكم ملطخة بالدماء". وأوقِف خطاب أندرياس بابلر، نائب المستشار النمساوي وزعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بينما عبّرت المؤرخة الأميركية-البولندية آن أبلباوم في كلمتها عن صدمتها من صور الأطفال الجائعين في غزة، مطالبة إسرائيل باحترام القانون الإنساني الدولي. كما شهدت العاصمة الألمانية برلين مظاهرة دعمًا للشعب الفلسطيني، وللمطالبة بوقف إبادة جماعية في غزة، ورفع الحصار المفروض على سكان القطاع، ورفع المحتجون شعارات طالبت بوقف ألمانيا تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، ولافتات تندد بالصمت الدولي. "لا خبز في غزة ولا خجل في العالم" كذلك، نظمت منصة التضامن الإسلامي في إسطنبول مسيرة احتجاجية انطلقت من مسجد خير الدين برباروس باشا إلى مبنى القنصلية الإسرائيلية. ورفع المشاركون لافتات كُتب عليها "لا مستشفيات ولا أدوية في غزة، بل هناك مجزرة". وقرعوا الطناجر الفارغة أمام القنصلية، في مشهد رمزي لأزمة المجاعة في غزة. وشهدت مدينة فانكوفر الكندية مظاهرة للتضامن مع الشعب الفلسطيني وللمطالبة برفع الحصار عن قطاع غزة. وقد جاب المشاركون في المظاهرة شوارع المدينة حاملين أكياس القمح والطحين تعبيرا عن تضامنهم مع سكان قطاع غزة، ومؤكدين رفضهم سياسة التجويع الممنهجة التي تمارسها قوات الاحتلال بحق أكثر من مليوني فلسطيني في غزة. كما طالب المتظاهرون بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة ووقف تصدير السلاح لإسرائيل. وتعاقد المتظاهرون مع إحدى شركات الإعلان لتأجير طائرة تحمل لافتة مكتوب عليها "إسرائيل تجوّع غزة" وبالتوازي مع المظاهرات الدولية، خرج آلاف الإسرائيليين إلى الشوارع في تل أبيب مطالبين بإنهاء الحرب والتوصل إلى اتفاق لإعادة الأسرى. وشهدت العاصمة الإندونيسية جاكارتا تجمعات ومسيرات ومهرجانات خطابية مؤيدة للفلسطينيين. ورفع الإندونيسيون شعارات تقول "غزة تموت من الجوع" و"الموت لجيش الاحتلال". كما حمل المشاركون أوانيَ طبخ في إشارة إلى سياسة التجويع التي تتبعها إسرائيل هناك، إضافة إلى استمرار إغلاق المعابر المؤدية إلى القطاع. وتوجه المتظاهرون إلى السفارة الأميركية، داعين واشنطن إلى الضغط على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإبرام الاتفاق، حتى لو تطلب ذلك وقف العمليات العسكرية. وتأتي هذه التحركات الدولية في وقت أعلنت فيه وزارة الصحة في غزة عن استشهاد 127 فلسطينيا، بينهم 85 طفلا، جراء المجاعة وسوء التغذية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نتيجة الحصار المشدد وإغلاق المعابر ومنع دخول الغذاء والدواء. ووصفت منظمات دولية الوضع في القطاع بأنه "كارثي وغير مسبوق"، وسط استمرار إسرائيل في تجاهل قرارات محكمة العدل الدولية ونداءات المجتمع الدولي لوقف الإبادة وتجويع المدنيين.

بين الخيانة والبطولة.. ضابط صربي يختار الدفاع عن سراييفو التي أحبها
بين الخيانة والبطولة.. ضابط صربي يختار الدفاع عن سراييفو التي أحبها

الجزيرة

time١٧-٠٧-٢٠٢٥

  • الجزيرة

بين الخيانة والبطولة.. ضابط صربي يختار الدفاع عن سراييفو التي أحبها

تجسد مسيرة الجنرال الصربي يوفان ديفياك الذي دافع عن المدنيين البوسنيين إبان حصار سراييفو واحدة من أكثر التجارب الإنسانية تعقيدا في تاريخ حروب البلقان المعاصرة. وتمثل هذه القصة نموذجا لرجل واجه خيارا مصيريا بين الانصياع للضغوط القومية والتمسك بالمبادئ الإنسانية، فاختار طريقا وعرا جعله مثار جدل واسع لعقود. وتنطلق هذه الملحمة الإنسانية من جذور عميقة في التاريخ الشخصي لديفياك، إذ تشكلت شخصيته في ظروف صعبة منذ الطفولة، فقد شهدت سنوات تكوينه الأولى تجربة مؤلمة عندما تركت والدته زواجا غير سعيد وهو في الـ13 من عمره، مما حرمه من وجود الأب في حياته. هذا الفراغ العاطفي المبكر ربما كان له الأثر الأكبر في تشكيل شخصيته المتعاطفة مع الآخرين وميله لحماية الضعفاء، وهو ما ظهر جليا في مراحل لاحقة من حياته. واستعرضت حلقة (2025/7/10) من سلسلة "أفلام الجزيرة" هذه القصة بعمق، مسلطة الضوء على التحولات الجذرية في مسيرة ديفياك من ضابط في النخبة العسكرية اليوغوسلافية إلى مدافع عن المدنيين في سراييفو المحاصرة. ولفهم هذا التحول، لا بد من العودة إلى السياق التاريخي الذي شهدته يوغوسلافيا في النصف الثاني من القرن الـ20، إذ عاش ديفياك سنوات الشباب في ظل النظام الشيوعي الذي أسسه الرئيس يوسيب بروز تيتو، إذ كانت التقسيمات القومية منضبطة تحت مظلة الأيديولوجية الموحدة. ووصل إلى سراييفو عام 1966 كضابط واعد في الجيش اليوغوسلافي، وسرعان ما وقع في حب المدينة التي وصفها بأنها أجمل ما رآه في حياته. ومع بداية التسعينيات، شهدت المنطقة تحولات جذرية عقب وفاة الزعيم الشيوعي تيتو وانهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية، وصعدت إلى السلطة أحزاب قومية متطرفة استغلت المشاعر العرقية والدينية لتحقيق أهدافها السياسية. الهجوم على سراييفو وانهار حلم الوحدة اليوغوسلافية تحت ضغط هذه التوترات، وبدأت الجمهوريات المختلفة تعلن استقلالها الواحدة تلو الأخرى، وهذا أدى إلى اندلاع سلسلة من الحروب الدموية، وواجه ديفياك أصعب قرار في حياته عندما هاجم الجيش اليوغوسلافي، الذي كان يخدم فيه، مدينة سراييفو عام 1992. ورفض الرجل أن يكون جزءا من هذا الهجوم ضد المدينة التي أحبها، واختار البقاء مع سكانها المحاصرين، فاستدعته القيادة البوسنية وعرضت عليه منصب نائب قائد الجيش، وهو ما قبله رغم إدراكه للتعقيدات الهائلة التي ستواجهه كضابط صربي يحارب ضد جيش بلاده. وامتد حصار سراييفو لما يقارب 4 سنوات، شهدت خلالها المدينة معاناة إنسانية لا توصف، وعاش ديفياك هذه المعاناة بشكل مباشر في الخطوط الأمامية، إذ كانت المسافة بين القوات المتحاربة لا تتجاوز 100 متر أحيانا. وشارك المدافعون عن المدينة طعامهم القليل ونام معهم في الخنادق، وتحمل مثلهم ضراوة القصف اليومي وقسوة الشتاء بلا تدفئة كافية، وتعرض ديفياك لنقطة تحول عاطفية عميقة عندما زار أسرة فقدت 3 أطفال في قصف صربي. وكانت الأم المنكوبة، هاليدا دابوياتشي، تتوقع أن يرفضها الجنرال الصربي أو يتجاهل معاناتها، لكنه فاجأها بدموعه الصادقة وتعاطفه العميق، وشكل هذا اللقاء بداية علاقة إنسانية استثنائية امتدت لعقود، إذ شجع ديفياك المرأة لاحقا على الإنجاب مرة أخرى رغم كبر سنها. وحدث ما لم يكن متوقعا عندما أنجبت هاليدا توأمين في سن الـ45، لكنها فقدت أحدهما أثناء القتال ونجا الآخر بأعجوبة بعد أسابيع من العلاج المكثف. ومر ديفياك بتجربة مؤلمة أخرى خلال حادثة تبادل الأسرى الشهيرة عام 1992، عندما تم احتجاز الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش رهينة. وسعى ديفياك بكل قوته لحل الأزمة وحقن الدماء، لكن العملية انتهت بمأساة عندما قُتل جنود من الطرفين في ظروف غامضة، واتهمته السلطات الصربية بتدبير الحادث، بينما شكك بعض البوسنيين في ولائه، وهذا وضعه في موقف صعب للغاية. وتأزم موقف ديفياك أكثر عندما استدعاه الرئيس بيغوفيتش عام 1994 وطلب منه التقاعد، وترك هذا في نفسه جرحا عميقا لم يندمل بسهولة، واختار الرجل البقاء في سراييفو رغم صعوبة الوضع، في حين غادر ولداه المدينة غير قادرين على تحمل التعقيدات والضغوط المحيطة بوالدهما. نهاية الحرب وانتهت الحرب عام 1995 بتوقيع اتفاقية دايتون للسلام ، تاركة وراءها أكثر من 10 آلاف قتيل في سراييفو وحدها ومئات الآلاف من الأيتام في جميع أنحاء البوسنة، ووجد ديفياك في هؤلاء الأطفال المنكوبين رسالة حياته الجديدة، فأسس منظمة غير حكومية لمساعدة أيتام الحرب من جميع القوميات والأديان. وأنفقت مؤسسة ديفياك على تعليم أكثر من 5 آلاف يتيم على مدى عقدين، مقدمة لهم المنح الدراسية والدعم النفسي والتوجيه المهني، وأصبح الرجل أبا بديلا لمئات الأطفال، يحضر حفلات تخرجهم ويفرح بإنجازاتهم ويساعدهم في بناء مستقبلهم. وتعرض ديفياك لمحنة جديدة عام 2011 عندما اعتُقل في مطار فيينا بطلب من السلطات الصربية التي أرادت محاكمته بتهمة جرائم الحرب، وقضى 4 أشهر في الاحتجاز من دون معرفة مصيره، لكن حملة شعبية واسعة في سراييفو نجحت في الإفراج عنه من دون توجيه تهم. وكانت هذه الحملة دليلا قاطعا على مكانة الرجل الخاصة في قلوب البوسنيين الذين اعتبروه واحدا منهم، وعاد ديفياك إلى سراييفو وسط استقبال شعبي حافل، وواصل عمله مع الأطفال الأيتام ونشر مذكراته عن تجربة الاعتقال. ورغم تجاوزه الـ80 من العمر، يؤكد الرجل أنه لا يشعر بالندم على خياراته، ويفخر بدفاعه عن مجتمع تعددي وجد في البوسنة منذ قرون.

ناجون بوسنيون يروون شهاداتهم على أهوال معسكر الموت بأومارسكا
ناجون بوسنيون يروون شهاداتهم على أهوال معسكر الموت بأومارسكا

الجزيرة

time١٦-٠٧-٢٠٢٥

  • الجزيرة

ناجون بوسنيون يروون شهاداتهم على أهوال معسكر الموت بأومارسكا

تحولت مدينة بريدور البوسنية من واحة للتعايش الحضاري بين الأديان والأعراق إلى مسرح مروع للتطهير العرقي والإبادة الجماعية خلال الحرب البوسنية في التسعينيات. وشهدت هذه المدينة، التي كانت تجسد نموذجا مشرقا للتنوع الثقافي، حيث تتجاور المساجد والكنائس، تحولا جذريا عندما سيطرت القوات الصربية عليها في أبريل/نيسان عام 1992، وهذا أدى إلى إنشاء شبكة من معسكرات الاعتقال أشهرها معسكر أومارسكا سيئ الصيت. وكانت الحياة في بريدور قبل الحرب تمثل نموذجا حيا للانسجام البوسني، حيث عاش المسلمون والصرب والكروات جنبا إلى جنب لعقود طويلة، يتشاركون الأفراح والأحزان ويتزاوجون فيما بينهم دون اعتبار للانتماءات الدينية أو العرقية. ولكن تغير كل ذلك بشكل جذري عندما نفذت القوات الصربية انقلابا مسلحا أطاح بالسلطة المنتخبة، واستولت على المؤسسات الحيوية من شرطة ومحاكم وبنوك، وسيطرت على الإذاعة المحلية التي أصبحت بوقا للدعاية الصربية. واستعرضت حلقة (2025/7/10) من سلسلة "أفلام الجزيرة" هذه المأساة الإنسانية من خلال شهادات مباشرة من الناجين والوثائق التاريخية التي تكشف الطبيعة المنهجية للجرائم المرتكبة. وأوضحت الحلقة كيف تم تحويل منجم الحديد السابق في أومارسكا إلى معسكر اعتقال ضم آلاف المعتقلين من المسلمين والكروات، تحت إدارة قادة مثل ميلادو راديتش الملقب بـ"كراكان" وزوران جيجيتش، الذين أشرفوا على عمليات تعذيب وقتل منهجية. وشكل معسكر أومارسكا نقطة تحول في الكشف عن حقيقة ما كان يجري في البوسنة، خاصة بعد زيارة الصحفيين الأجانب عام 1992. وجاءت هذه الزيارة استجابة لتحدي زعيم صرب البوسنة رادوفان كراديتش ، الذي نفى وجود معسكرات اعتقال ودعا المراسلين الأجانب لزيارة المناطق الصربية والتحقق بأنفسهم. ولكن ما شاهده الصحفيون كان صادما، حيث رأوا مئات الرجال النحيلين في حال يرثى لها، يتناولون وجبة واحدة يوميا من حساء مائي مع قطعة خبز صغيرة. وكشفت الشهادات المروعة للناجين عن طبيعة الحياة داخل المعسكر، إذ تم حشر 600 شخص في غرفة لا تتجاوز مساحتها 150 مترا مربعا، في ظروف لا إنسانية تفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة. وتعرض المعتقلون لعمليات تعذيب وحشية على يد الحراس، خاصة في مكان يسمى "البيت الأبيض" حيث كانت تتم عمليات الإعدام الجماعي تحت جنح الظلام. ووصف الناجون كيف كان الحراس يختارون ضحاياهم بشكل عشوائي لممارسة أشكال مختلفة من التعذيب النفسي والجسدي. واستهدفت عمليات الاعتقال والقتل بشكل خاص المثقفين والمتعلمين من أبناء المجتمع البوسني، في إطار إستراتيجية منهجية تهدف إلى تدمير النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع المسلم والكرواتي في المنطقة. وشملت هذه الإستراتيجية أيضا تدمير المعالم الدينية والثقافية، وطرد السكان من منازلهم، وارتكاب جرائم اغتصاب جماعية ضد النساء. وتمكن الصحفيون الأجانب من توثيق جزء من هذه الجرائم رغم القيود المشددة والحراسة المكثفة التي فرضتها السلطات الصربية على زيارتهم. ولكن ما تم تصويره والكشف عنه كان مجرد قمة جبل الجليد مقارنة بحجم الفظائع الحقيقية التي ارتكبت، فقد كان المعسكر يتم تنظيفه وإخفاء الأدلة قبل وصول الوفود الإعلامية، كما تم نقل المعتقلين الأكثر تضررا إلى أماكن أخرى لإخفاء حقيقة أوضاعهم. ردود أفعال وتراوحت ردود أفعال المجتمع الدولي بين الصدمة والاستنكار، وأدى هذا في النهاية إلى تأسيس المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي. كما تمت محاكمة عدد من المسؤولين عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية، لكن أحكام المحكمة لم ترق إلى مستوى توقعات الضحايا وذويهم. وحصل زوران جيجيتش، المتهم بارتكاب أبشع الجرائم، على حكم بالسجن 27 عاما، بينما حصل آخرون على أحكام أخف بكثير مما تستحقه جرائمهم. ولا يزال الناجون يواجهون تحديات نفسية واجتماعية معقدة، إذ يعيش كثير منهم في نفس المناطق التي تضم مرتكبي الجرائم ضدهم. وتحكي إحدى الناجيات كيف اكتشفت أنها تقف في طابور شراء الزهور خلف الرجل الذي اغتصبها في المعتقل، بينما يصف ناج آخر لقاءه العرضي مع من قتل أصدقاءه وإخوانه. ويسود الإنكار ونفي ما حدث في أوساط واسعة من المجتمع الصربي المحلي، حتى من قبل الأشخاص العاديين ناهيك عن أولئك الذين في السلطة. ويرفض كثيرون الاعتراف بما شاهدوه أو علموا به، ويدعون عدم معرفتهم بأي شيء عما جرى، حتى لو كانوا يسكنون بالقرب من المقابر الجماعية أو معسكرات الاعتقال.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store