
ترسيخ العلاقات اللبنانية ــ السورية رهن الملفات المصيرية
تكتسب ملفات العلاقات اللبنانية - السورية أبعاداً سياسية وقانونية وتقنية واقتصادية وحتى اجتماعية وإنسانية، كلّ منها يحتاج إلى مقاربة مختلفة للحلّ. ويرى وزير الخارجية الأسبق فارس بويز، الذي كان شاهداً على سنوات طويلة من تحكّم الوصاية السورية في إدارة لبنان وكيفية إدارته لبلاد الأرز، أن «ترسيم الحدود وقضية المفقودين اللبنانيين أثناء الحرب ومشكلة النازحين السوريين في لبنان كلّها أمور شائكة ومعقّدة». ويكشف بويز في حوار مع «الشرق الأوسط» عن أنّ «ملكية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجر كانت العائق الأساس أمام ترسيم الحدود». ويؤكد أن «النظام السوري لم يرد يوماً ترسيم هذه الحدود كي لا يقع في إحراج بمسألة مزارع شبعا، فإذا قال إنها سوريّة يفقد ورقة الاحتفاظ بسلاح (حزب الله) بذريعة تحريرها، وإذا قال إنها لبنانية يعني أنه تنازل عنها».
ثم يشدد الوزير الأسبق على «وجود سبب إضافي يحول دون ترسيم الحدود، هو أن هذه الحدود دائماً ما شكّلت متنفّساً اقتصادياً للنظام السوري عبر التهريب. إذ إن الحدود المستباحة كانت منذ عقود معابر لتهريب البضائع والأدوية والمحروقات ومواد البناء في ظلّ اقتصاد سوري مترنّح، عدا عن أن الشبكات التي كانت تُدير عمليات التهريب محسوبة على السلطة في سوريا وتموّل النظام».
قضيّة أخرى كانت في صلب الخلل القائم وتتمثل بمياه نهر العاصي، وما يشكّله من حاجة حيوية للبلدين. وهنا لفت بويز إلى أن «تقسيم مياه نهر العاصي كان جزءاً أساسيّاً من الملفات العالقة بين البلدين قبل أن يُحلّ عبر القانون الدولي الذي كان مجحفاً بحق لبنان؛ إذ أخذ في الاعتبار طول النهر في كلا البلدين وحاجة كل دولة منهما إليه نسبةً إلى حجمها». ثم ذكر أن سوريا «أخذت الجزء الأكبر من هذا النهر؛ لكونه يمر في أراضيها لمسافة أكبر بكثير من لبنان، بجانب اعتماد المناطق الزراعية الواسعة في ريف حمص عليه».
عودة إلى الحاضر، في خطاب القسَم الذي ألقاه رئيس الجمهورية اللبناني جوزيف عون أمام المجلس النيابي يوم انتخابه، تعهّد عون بفتح حوار جاد بشأن القضايا العالقة مع سوريا، على رأسها ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية، وبناء علاقات صحية تخدم مصالح الشعبين، بعيداً عن الأجندات التي أثقلت كاهل البلدين لسنوات. وبعدها تلقى عون اتصالاً من الرئيس السوري أحمد الشرع هنأه خلاله بتوليه منصب الرئاسة، وأبدى الأخير استعداد بلاده لمعالجة الملفات الشائكة وتعزيز التعاون الثنائي، بما يحقق استقرار المنطقة، غير أن أياً من هذه الملفات لم يوضع على سكّة الحلّ.
يعتبر الدكتور زياد الصائغ، الخبير اللبناني في الشؤون الجيوسياسية، أن «إعادة الانتظام للعلاقات الدولتيّة بين لبنان وسوريا يحتاج إلى تنقية الذاكرتين، اللبنانية من ناحية والسورية من ناحية أخرى، وبالتالي الذاكرة المشتركة لديهما، وهنا أساس أي مقاربة سليمة». وقال خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، إن «آيديولوجية حزب البعث السوري الأسدي اعتدت على كيانية لبنان، فقضية المعتقلين والمخطوفين والمخفيين اللبنانيين في سوريا تركت جرحاً عميقاً، عدا عن الالتباس الحدودي الشرقي - الشمالي، وملفّ مزارع شبعا الكارثي». واعتبر في الوقت نفسه أن «تورّط فريق لبناني بأجندة إيرانية - روسية من خلال تهجير وتفكيك النسيج المجتمعي السوري على قاعدة مذهبية مدمّرة، إضافة إلى أن النزوح السوري وتغييب معالجته على مدى أكثر من 14 عاماً أمرٌ مرعب».
أما ما قد يكون أخطر ما شاب العلاقات بين لبنان وسوريا، وفق تعبير الصائغ، فهو «الاستتباع والاستزلام وجرائم الاغتيال السياسي، وتشارُك منظومتين في البلدين ضمن تحالف مافيا - ميليشيا خبيث على مدى عقود». وهنا دعا إلى «تصويب الذهنيات المرضيّة مع شبق نفوذ حكم الذاكرة اللبنانية - السوريّة المشتركة التي يُقتضى تنقيتها».
وهو يرى أن «هذه التنقية تحتاج إلى سياسة عامة، لبنانية كما سورية، تقوم على قاعدة نديّة يُحترم فيها الأمن القومي لكلّ من البلدين، وهذا يحتاج إلى مسار تراكمي لا تتوفّر له الدينامية الداخلية الكاملة في كلا البلدين في هذه الفترة، مع أن (الجيوبوليتيك) الإقليمي بقيادة المملكة العربية السعودية، والدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، يساعدان على ذلك».
يمثّل ملف المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، جرحاً مفتوحاً في وجدان اللبنانيين، وهو أكثر مرارة لدى أهالي وعائلات المفقودين الذين يعتقدون أن المخابرات السورية هي التي اعتقلتهم وأخفتهم إبان الحرب الأهلية وبعدها، وفي ذروة سيطرة القوات السورية على لبنان.
الجانبان اللبناني والسوري شكّلا لجاناً قضائية وأمنية منذ عام 2001 لاقتفاء أثر هؤلاء، إلّا أنها لم تصل إلى نتيجة. وهنا لا يخفي الوزير بويز أنّ ملف المفقودين لا يزال جُرحاً نازفاً في لبنان ولم تُحلّ هذه القضية الإنسانية المزمنة لسببين: الأول أن النظام السوري لا يعترف بوجود معتقلين لبنانيين لديه، والآخر أنه لا توجد لدى الدولة اللبنانية معطيات وأدلّة ثابتة عما إذا كان هؤلاء المعتقلون أو المفقودون أو المخفيون موجودين في السجون السورية أم ماتوا أم قُتلوا». وحسب بويز «كلّ ما حُكي عن وجود معتقلين لبنانيين في السجون السورية، بقي مجرّد خبريات ينقلها أشخاص للأهالي سواء في لبنان أو من داخل سوريا، سرعان ما يتنصّل منها أصحابها وغالباً ما يقع الأهالي ضحيتها».
يمثّل ملف المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية جرحاً مفتوحاً في وجدان اللبنانيين
من جهة ثانية، رغم إصرار نظام بشار الأسد على التنصّل من وجود أي معتقل لبناني لديه، تمّ اكتشاف عدد من المعتقلين في السجون السورية بعد سقوط نظام الأسد، وتحرير أكثر من 20 شخصاً استمعت اللجنة القضائية - الأمنية في لبنان إلى إفاداتهم. وقد أعطى هؤلاء معلومات عن وجود معتقلين آخرين كانوا معهم، لكنهم لا يعرفون أسماءهم باعتبار أن إدارة السجن كانت تعرّف السجناء بأرقامهم وليس بأسمائهم، وهو ما صّعب مهمّة كشف المزيد من المعتقلين اللبنانيين وما إذا كانوا ماتوا أو أعدموا في سجون نظام البعث.
في هذا الشأن، شدَّد الصائغ على «ضرورة إيلاء الأهمية القصوى لقضية المخطوفين والمعتقلين والمخفيين اللبنانيين في سوريا، والتعاون أيضاً مع الدولة السورية الجديدة بملفّ المسجونين السوريين في لبنان؛ كي لا يتسبب بمشكلة بين البلدين، كما أن أزمة النازحين السوريين التي تشكّل حملاً ثقيلاً على الدولة اللبنانية في كلّ النواحي لا بدّ من معالجتها»، معتبراً أن «عودة النازحين السوريين إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم في ظلّ دولتهم الجديدة تحمي الهوية الوطنية في لبنان وسوريا على حدّ سواء».
اليوم، يسكن غالبية المكوّنات اللبنانية الخوف الدائم من رفض سوريا الاعتراف بلبنان دولة مستقلّة. وهذا ما يترجَم بالرفض السوري لترسيم الحدود وحتى إقامة علاقات دبلوماسية حقيقية بين البلدين، ولا يجد وزير الخارجية الأسبق فارس بويز أنّ هناك مشكلة استراتيجية حول اعتراف سوريا باستقلال لبنان، بل «كانت هناك مشاكل تكتيكية، وهي الخوف من أن يكون لبنان مصدر قلق لأمن سوريا ومحاصرتها». ويقول: «كلّما كانت علاقة سوريا جيّدة مع الولايات المتحدة الأميركية ومع الغرب كان ذلك يُترجم استقراراً في لبنان، وهذا ما ظهر بعد عام 1990 عبر تكليف دولي وخصوصاً أميركياً لسوريا بإدارة لبنان تحت مظلّة اتفاق الطائف... ولكن كلّما توتّرت العلاقة ما بين سوريا والغرب كانت دمشق تستخدم بعض أوراقها من الجماعات الموالية لها لابتزاز الغرب على حساب لبنان واستقراره».
ويعترف بويز بأن «النظام السوري، سواءً في ظلّ حكم حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار، كان يسكنه هاجس خسارة نفوذه في لبنان... وأعتقد أن حافظ الأسد كان مُدركاً دقّة الوضع اللبناني، وكان يراعي إلى حدّ كبير التوازنات السياسية والطائفية في لبنان، في حين أن بشّار الأسد أطاح كل هذه التوازنات؛ ما جعل خروجه من لبنان حتمياً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري».
في زمن السيطرة السياسية والأمنية والعسكرية لنظام الأسد على لبنان، شُكّل ما سمّي «المجلس الأعلى اللبناني - السوري»، الذي أوكلت إليه مهام معالجة الملفات العالقة بين البلدين والتنسيق ما بين الدولتين، وعيّن اللبناني نصري خوري رئيساً لهذا المجلس الذي اتخذ مقراً له في دمشق. إلّا أن إدارة الملفات بقيت محصورة في مقرّ الاستخبارات السورية العاملة في لبنان في بلدة عنجر (البقاع)، حتى إنه بعد التوافق على إنشاء علاقات دبلوماسية وإنشاء سفارة سورية في بيروت وسفارة لبنانية في دمشق، لم يتبدّل تعاطي النظام السوري مع لبنان. ويقول زياد الصائغ، إن «المدخل الأساس لتسوية العلاقات بين البلدين يبدأ بحلّ المجلس الأعلى السوري - اللبناني، وإلغاء كل الاتفاقيات التي تضمنتها معاهدة الأخوة والتنسيق في عام 1991، وترسيم الحدود البرية والبحرية بينهما، مع وضع حد للالتباس فيما يعني ملكية مزارع شبعا، وتأكيد القناة الدبلوماسية بين البلدين في كل من سفارتيهما في بيروت ودمشق». ويشدد من ثم على «ضرورة إيلاء الأهمية القصوى لقضية المخطوفين والمعتقلين والمخفيين اللبنانيين في سوريا، والمسجونين السوريين في لبنان».
نصري خوري (أ ب)
حتى الآن تبدو عودة النازحين السوريين إلى بلادهم مستعصية، قبل إرساء الاستقرار الدائم وإطلاق ورشة الإعمار في سوريا، وتلمّس النتائج الفعلية لرفع العقوبات الأميركية عن دمشق، غير أن هذا الملفّ يجب أن يبقى متصدراً اهتمام البلدين. ويلفت الصائغ إلى «ضرورة عدم إهمال أزمة النازحين بالنظر إلى آثارها وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية على لبنان، بالإضافة إلى تنظيم العمالة السورية، وتجفيف منابع التهريب وغسل الأموال وتبييضها في شبكات إجرامية مشتركة، إلى ردع كامل لتجارة الممنوعات وتصنيعها، إلى قضية المخطوفين مع أولوية إلى أحلام الضمّ والاستتباع أو تعكير أمن كلّ من البلدين». ويشدد على أهمية «إرساء سياسة عامة تتبناها الحكومتان اللبنانية والسورية، بناءً على سلّم قيم ومصالح مشتركة، أساسه سيادة واستقلال وأمن كلّ من البلدين، ناهيك عن تجزئة الملفات العالقة ووضع مهل زمنية لحلّها».
أخيراً، السواد الأعظم من اللبنانيين يدركون أن دولتهم غير قادرة مع سوريا على معالجة هذه الملفات ولو على مراحل، وهم مقتنعون أن الأمر يحتاج إلى مساعدة ودعم عربي ودولي. في هذا المجال، لا يُغفل الدكتور زياد الصائغ «دور جامعة الدول العربية والأمم المتحدة للمساعدة في حلّ كلّ هذه الملفات، مع تعويل أساسي على رؤية المملكة العربية السعودية ووساطتها في هذا الإطار المعقّد». ويختم قائلاً: «هذا المسار الدولتيّ لا يكفي، ويجب تدعيمه بتعاون اقتصادي واجتماعي وثقافي وفني وقانوني وتربوي، بعيداً عن أي تماهٍ، فلكل من لبنان وسوريا سمات متمايزة، ولو أن بينهما مشتركات، مع الاعتراف بأن أكثر من 40 سنة من اللّادولة في كلّ منهما لا يعالج بين ليلة وضحاها».
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربية
منذ 40 دقائق
- العربية
مصدر إسرائيلي لـ "العربية": مفاوضات إيجابية مع سوريا في باريس وعواصم أخرى
كشف مصدر إسرائيلي لقناتي "العربية" "والحدث"، الأربعاء، أن "مفاوضات باريس مع سوريا كانت إيجابية"، كاشفاً عن "لقاءات مستمرة بين الجانبين تسير جيدا في عدة عواصم". وأوضح المصدر أن "المفاوضات مع الحكومة السورية تتناول نزع السلاح من جنوب سوريا". وقال المصدر الإسرائيلي إن "تل أبيب لديها إنذارات بنية جهات تابعة لإيران الاعتداء على إسرائيل من الجنوب السوري". وشدد المصدر الإسرائيلي على أن "الحديث عن اجتياح إسرائيلي للجنوب السوري عار عن الصحة". وذكر المصدر أن إسرائيل ترفض "المس بالدروز في الجنوب السوري والاعتداء عليهم". وقبل 3 أيام، أفاد مصدر دبلوماسي سوري أن اللقاء الذي جمع في باريس وفدين من سوريا وإسرائيل بوساطة أميركية تطرّق إلى إمكانية تفعيل اتفاقية فضّ الاشتباك و"احتواء التصعيد" بين البلدين، بدون أن يسفر عن "اتفاقيات نهائية"، مشيراً إلى لقاءات أخرى ستعقد مستقبلاً، وفق ما نقله التلفزيون السوري الرسمي. وشهد الخميس الماضي اجتماعاً غير مسبوق في باريس جمع وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، بينما أعلن المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم برّاك، في منشور على "إكس" أنه التقى بمسؤولين سوريين وإسرائيليين في العاصمة الفرنسية. ونقلت القناة السورية الرسمية عن المصدر الدبلوماسي أن "الحوار جمع وفداً من وزارة الخارجية وجهاز الاستخبارات العامة السوري مع الجانب الإسرائيلي بوساطة أميركية". وتابع المصدر الدبلوماسي أن "اللقاء لم يسفر عن أية اتفاقيات نهائية، بل كان عبارة عن مشاورات أولية تهدف إلى خفض التوتر وإعادة فتح قنوات التواصل في ظل التصعيد المستمر منذ أوائل ديسمبر (كانون الأول)". وقال إن الحوار تطرق إلى "إمكانية إعادة تفعيل اتفاق فضّ الاشتباك" لعام 1974 "بضمانات دولية، مع المطالبة بانسحاب فوري للقوات الإسرائيلية من النقاط التي تقدمت إليها مؤخراً". وعُقد هذا اللقاء في أعقاب الاشتباكات التي اندلعت في محافظة السويداء في 13 يوليو (تموز)، والتي دخلت إسرائيل على خطها عبر شن غارات على أهداف في جنوب سوريا وفي دمشق. وتؤكد إسرائيل أنها لن تسمح بوجود عسكري في جنوب سوريا. وشدّد الوفد السوري خلال اللقاء مع نظيره الإسرائيلي على أن "وحدة وسلامة وسيادة الأراضي السورية مبدأ غير قابل للتفاوض، وأن السويداء وأهلها جزء أصيل من الدولة السورية، لا يمكن المساس بمكانتهم أو عزلهم تحت أية ذريعة".


العربية
منذ ساعة واحدة
- العربية
الجداريات الزائفة
لأكثر من نصف قرن، غطت جدران سوريا كتاباتٍ تمجد "القيادة الخالدة" و"رسالة البعث الخالدة"، محولة الفراغ العام وشوارعه وأزقته إلى متحفٍ مفتوح للعبادة السياسية. هذه الجداريات لم تكن مجرد رسومات، بل كانت أداة منهجية لتشكيل الوعي الجمعي عبر استعمار البصر اليومي، حيث صار المواطن يتحرك في فضاءٍ بصري يكرس قداسة النظام ويوحي بأن مصير الأمة العربية برمته معلقٌ بمصير حزب البعث السوري. لكن هذه الصروح الورقية انهارت مع سقوط النظام في ديسمبر 2024، وكشفت أن الشعارات البراقة كانت ستاراً لأعظم خدعة سياسية عرفتها سوريا الحديثة. خلف الألوان الزاهية للجداريات، كانت تكمن آلية قمعية معقدة، فالمواطن السوري كان يدرك أن عدم المشاركة في تمجيد الرموز البعثية قد يعرضه لملاحقة الأجهزة الأمنية. هكذا تحولت الجداريات إلى طقس نفعي للبقاء، حيث مارس الناس "الولاء الاستعراضي" كدرع وقاية. هذا الخوف الولائي لم يكن مجرد رد فعل لحظة، بل كان جزءاً من منظومة تربوية صارمة بدأت من "طلائع البعث"، ثم "شبيبة الثورة" للمراهقين، وصولاً إلى "اتحاد الطلبة" في الجامعات. في كل مرحلة، كان الأطفال يُجبرون على ترديد أناشيد تمجد البعث، بينما صور حافظ ثم بشار الأسد تُعلَّق في كل فصل دراسي، على الدفاتر، وحتى على الزي المدرسي. هذا الغسيل اليومي للعقل حوَّل التبجيل إلى رد فعل لا واعي، حيث صار الولاء للنظام جزءاً من التركيبة النفسية للسوريين قبل أن يكون موقفا سياسياً. في ظل انهيار الهويات التقليدية الإسلامية والوطنية والمناطقية والمذهبية والعشائرية تحت شعارات القومية العربية، قدَّم النظام نفسه كحامٍ للوجود. الجداريات التي تظهر الأسد الأب محاطاً بأطفالٍ مبتسمين أو جندي يحمل بندقية في يدٍ وعلم البعث في الأخرى، كانت تُغذي وهم الحماية الوالدية، خاصة بين الأقليات التي شعرت بأن النظام حصانتها من التطرف. لكن هذا الشعور بالأمان كان وهمياً، إذ تحولت الحماية إلى استبداد، والرعاية إلى سيطرة، حيث صار المواطن رهينة في سجن كبير تزين جدرانه شعارات الحرية والوحدة بينما تقيده قيود الخوف والتبعية. جداريات رمزية تمجد العامل والفلاح كانت تنتشر في أحياء الصفيح، بينما كانت عائلة الأسد تُشيد إمبراطورية اقتصادية تُقدَّر بمليارات الدولارات. الفلاحون الذين كان الحزب يعدهم بالإصلاح الزراعي صاروا أجراء عند المنتفعين الذين كانوا يسيطرون على الاقتصاد عبر شبكة محسوبية. هذا التناقض الصارخ بين الخطاب الاشتراكي والممارسة الرأسمالية المتوحشة كشف زيف الشعارات التي رُسمت على الجدران بينما كانت الثروة تُنهب من قبل حفنة من المحاسيب. "الأسد إلى الأبد" كان أشهر شعارٍ جدارياتي، لكن النظام سقط في أحد عشر يوماً فقط، فالصور التي التقطها السوريون لتماثيل الأسد وهي تُسحَب بالحبال في الساحات، أو جدارياته التي طمست، كشفت أن "الخلود" كان مجرد أمنية طاغيةٍ في دولة شرطة. هذا السقوط المدوي لم يكن مجرد نهاية لنظام سياسي، بل كان انهياراً لأسطورة كاملة بنيت على الخداع والتضليل. ففي أحياء دمشق القديمة، حلّت الغرافيتي الساخر محل الجداريات البعثية، فهذا التحول لم يكن فنياً فحسب، بل كان استعادة للغة المسروقة من آلة الدعاية. الفن الذي استُخدم لعقود كأداة للترويج للأيديولوجيا الرسمية، صار وسيلة لمقاومتها وتفكيكها. سقوط جداريات البعث في سوريا لم يكن مجرد تغيير سياسي، بل كان انكساراً لأعظم أوهام القرن العربي الحديث: أن الأفكار الكبرى يمكن أن تُخلد بطلاءٍ وأحجار ترسم وتصف وترصف بطرق ممنهجة. اليوم، بينما يُشكل السوريون حكومتهم الانتقالية الأولى منذ ديسمبر 2024، صار بوسع طفل في العاشرة أن يسير إلى مدرسته دون أن يرفع رأسه ليرى "الزعيم الخالد"، أو يردد أناشيدَ تُمجد من قتل أهله. هذه الحرية البصرية هي أول خطوة على طريق الحرية الفردية للإنسان المظلوم لعقود.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
حكم حوثي بإعدام نجل صالح ومصادرة أملاكه
في خطوة وُصفت بأنها «تعكس الروح الانتقامية الحوثية ضد الخصوم»، أصدرت محكمة خاضعة للجماعة في العاصمة اليمنية المختطفة صنعاء حكماً بإعدام أحمد علي صالح، نجل الرئيس اليمني الأسبق، ومصادرة كافة أمواله وممتلكاته، بعد اتهامه بـ«الخيانة والعمالة والتخابر مع العدو». ويُعد هذا الحكم هو الأحدث في سلسلة أحكام أصدرتها الجماعة التي تسيطر على صنعاء منذ عام 2014، ضد قيادات سياسية وعسكرية ومدنية مناهضة لها، في سياق ما يوصف بأنه حملة انتقامية ممنهجة، تهدف إلى تصفية الخصوم سياسياً ومالياً، وإحكام السيطرة على مفاصل الدولة ومقدراتها. وصدر الحكم من قبل ما تسمى «المحكمة العسكرية المركزية» التي تديرها الجماعة في صنعاء، بحق نجل صالح الذي يقيم حالياً في أبوظبي، ويشغل منصب نائب رئيس حزب «المؤتمر الشعبي العام». آخر منصب شغله أحمد علي صالح كان منصب السفير لدى الإمارات (إعلام محلي) واتهمت النيابة الخاضعة للجماعة نجل صالح بـ«الخيانة والعمالة للعدو»، وهي التهمة التي اعتادت الجماعة توجيهها لكل من يناهض سياساتها، أو يقيم خارج مناطق سيطرتها، وبخاصة مع مخاوفها من تصاعد الدور السياسي والإعلامي لأحمد علي صالح خلال الأشهر الماضية بعد رفع العقوبات الدولية عنه. وصف مراقبون يمنيون الحكم الصادر «غيابياً» بأنه خطوة تصعيدية تنذر بتصفية بقية قيادات حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرة الجماعة؛ إذ يتوقع المراقبون أن تضغط الجماعة على قيادات الحزب للتبرؤ من نجل صالح. وبينما لم يصدر تعليق فوري من نجل صالح، تداول ناشطون في حزب «المؤتمر الشعبي» البيان الذي كان قد أصدره سابقاً، والذي أكد فيه أن اليمن لن يكون رهينة لميليشيا طائفية (في إشارة إلى الحوثيين)، داعياً إلى وحدة الصف الجمهوري لاستعادة مؤسسات الدولة وإنهاء الانقلاب. ويحذر حقوقيون وسياسيون يمنيون من أن استمرار الجماعة الحوثية في تسخير القضاء الخاضع لها كأداة للقمع السياسي، يهدد بتقويض مساعي السلام. وإثر جهود رئاسية يمنية ودعم سعودي وإماراتي، كانت لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن الدولي قررت قبل نحو عام إزالة اسمَي الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح ونجله أحمد من قائمة العقوبات التي كانت قد فُرضت عليهما مع قادة حوثيين منذ نحو 10 سنوات. عناصر حوثيون على متن عربة أمنية في أحد شوارع صنعاء (إ.ب.أ) وكان والده صالح قد قُتل في 4 ديسمبر (كانون الأول) 2017 إثر انتفاضة ضد الحوثيين، في حين نجا ابن عمه طارق صالح وانخرط في صفوف الشرعية حتى أصبح عضواً في مجلس القيادة الرئاسي الحالي. وقاد أحمد علي صالح قوات «الحرس الجمهوري» و«القوات الخاصة» اليمنية أيام حكم والده حتى إزاحته من المنصب في 2013 وتعيينه سفيراً لليمن لدى الإمارات التي بقي فيها بعد عزله من منصب السفير حتى اللحظة.