logo
المنظومة "إسكندر-1000".. كيف تتهيأ أوروبا للخطر الباليستي الروسي؟

المنظومة "إسكندر-1000".. كيف تتهيأ أوروبا للخطر الباليستي الروسي؟

الجزيرة٠٥-٠٣-٢٠٢٥

في سياق الصدام الذي تخوضه الآن مع الغرب تسعى روسيا حاليًّا إلى تحديث ترسانتها من الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى؛ مما قد ينذر باشتعال حرب تسلّح صاروخي جديدة في القارة العجوز. آخر هذه المحاولات كانت الإعلان عن تطوير نسخة جديدة من منظومة صواريخها الباليستية "إسكندر-إم"، وهي نسخة تحمل الاسم -غير الرسمي- "إسكندر-1000".
ويأتي تطوير صاروخ "إسكندر-1000" بعد تقارير عن إجراء تحسينات في منظومات صواريخ "إسكندر" و"كينجال" لزيادة المدى، وتعزيز قوة الرؤوس الحربية، وتحسين القدرة على المناورة أمام منظومات الدفاع الجوي. وتتماشى هذه التطورات مع رد روسيا على إعلان الولايات المتحدة في يوليو/تموز عام 2024 عن خطط لنشر منظومات صواريخ باليستية متوسطة المدى في ألمانيا بحلول عام 2026.
على مدى الأشهر الماضية، شهدت أوروبا تحولًا إستراتيجيًّا جوهريًّا بفعل تداعيات الحرب في أوكرانيا، ومؤخرًا تم فتح جبهة جديدة في سباق تسلّح على غرار ما وقع في نهايات الحرب الباردة. يدور هذا السباق حول الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى، تلك التي يتراوح مداها بين 500 و5,500 كيلومتر، والتي لم تعد تهدد أوكرانيا وحدها، بل تضع أوروبا بأسرها تحت مرمى النيران الروسية كما ذكرنا.
تمثل الصواريخ الباليستية تحديًا مزدوجًا بفضل سرعتها الفائقة وقدرتها على المناورة مقارنة بالأسلحة التقليدية الأخرى، وهو ما يجعل مواجهتها أكثر تعقيدًا. تملك الولايات المتحدة منظومات دفاع صاروخي متطورة، أهمها منظومة "ثاد"، أما دول أوروبا، التي تعتمد في الأساس على منظومات الإنذار المبكر الأميركية لرصد هذه التهديدات، فتجد نفسها اليوم أمام تحدٍّ دفاعي خطير. فمع ندرة أنظمة الدفاع الصاروخي القادرة على اعتراض الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى، وعدم اعتبارها تهديدًا ملحًا في السابق، أصبحت أوروبا اليوم مكشوفة أمام احتمالات تصعيد عسكري غير مسبوق.
تذكرنا تلك الأجواء بما حدث في نهاية سبعينيات القرن الماضي، حيث وجدت قارة أوروبا نفسها في قلب أزمة وجودية؛ مع تصاعد حدّة مواجهات الحرب الباردة ، بدأ الاتحاد السوفياتي حينها نشر صواريخ "إس إس-20" الباليستية المتوسطة المدى، القادرة على استهداف العواصم الأوروبية خلال دقائق معدودة. جاء رد حلف شمال الأطلسي (الناتو) سريعًا عبر نشر منظومات الصواريخ الباليستية الأميركية "بيرشينغ 2″ و"كروز" في ألمانيا الغربية؛ مما أدى إلى تصعيد سباق تسلّح محموم، تحوّلت معه قارة أوروبا إلى ساحة معركة نووية محتملة على مدار عقد كامل.
تهديد نصف أوروبا
منذ أواخر عام 2023، بدأت موسكو إدخال صواريخ تكتيكية بمدى أبعد إلى الخدمة، مع تأكيد المخابرات الأميركية لنشر روسيا أنظمة الصواريخ الكورية الشمالية "كيه إن-32 بي" (KN-23B) في يناير/كانون الثاني عام 2024 . تتشابه هذه الصواريخ مع منظومة "إسكندر-إم" الروسية من حيث إمكانيات التنقل وأداء الطيران، لكنها تتفوق عليها بمدى يصل إلى 900 كيلومتر، ورأس حربي أكبر بعدة أضعاف.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي 2024، كشفت روسيا عن صاروخها الباليستي التكتيكي المتوسط المدى "أوريشنيك"، بمدى يصل إلى 4000 كيلومتر وقدرة على حمل رؤوس حربية متعددة، مع مسار طيران أقرب إلى الصواريخ الباليستية العابرة للقارات (سنتحدث عنه ببعض التفصيل لاحقا).
وفقًا للمصادر الروسية، قد تُنشر تلك المنظومات في إقليم كالينينغراد أو منطقة سمولينسك؛ مما يمنح موسكو القدرة على استهداف نحو نصف دول القارة الأوروبية، إضافة إلى الأصول المهمة في بحر البلطيق.
وفي حال نشرت روسيا صواريخ بمدى 1000 كيلومتر فقط في كالينينغراد أو سمولينسك، فستكون العديد من الدول الأوروبية في نطاقها. فمن كالينينغراد، المطلة على بحر البلطيق والحدودية مع بولندا وليتوانيا، يمكن للصاروخ استهداف بولندا وألمانيا والسويد والدنمارك والتشيك وسلوفاكيا وأجزاء من فنلندا وأوكرانيا والنرويج.
أما من سمولينسك، القريبة من الحدود الغربية لروسيا، فإن مدى الصاروخ يمكن أن يشمل بيلاروسيا وأوكرانيا وبولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا ورومانيا، إضافة إلى التأثير في حركة الملاحة في بحر البلطيق.
كما أن احتمال نشر صواريخ "إسكندر-1000" في سمولينسك قد يمثل تهديدًا مباشرًا لمقاتلات "إف-16" الأميركية التي تسلمتها أوكرانيا في أغسطس/آب العام الماضي. ففي مارس/آذار من نفس العام، حذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أن أي قاعدة جوية غربية تستضيف مقاتلات "إف-16" الموجهة إلى أوكرانيا ستُعدّ هدفًا مشروعًا للقوات الروسية، سواء داخل أوكرانيا أو حتى في دول الناتو مثل بولندا ورومانيا. لكن ما هي صواريخ "إسكندر-1000" وما أهميتها في هذا السياق؟
صاروخ إسكندر-1000
مؤخرا أجرت روسيا مراجعات عميقة بشأن خريطة الصواريخ الباليستية، لاسيما على منظومة "إسكندر-إم" الباليستية، لكنه يتميز بمدى يصل إلى 1000 كيلومتر، أي ضعف مدى النسخة الحالية، ومن هنا جاء الصاروخ الجديد "إسكندر-1000". وقد كُشف عنه لأول مرة في مايو/أيار العام الماضي 2024، خلال مقطع فيديو احتفالي بمناسبة الذكرى الـ78 لموقع اختبار الصواريخ "كابوستين يار".
وتشير التقارير الروسية إلى أن الصاروخ سيحافظ على تصميم صاروخ "إسكندر" التقليدي، وبهذا سيُطلق الصاروخ الجديد باستخدام راجمات الصواريخ المخصصة لمنظومة "إسكندر"، لكنه سيحصل على زيادة بنسبة 10 إلى 15٪ في حجم الوقود الصلب لزيادة طاقة الدفع، مع محرك مطوّر، ونظام تحكم محسّن، ورأس حربي بتصميم جديد.
تشير التقديرات الروسية إلى أن صاروخ "إسكندر-1000" سيحقق سرعة تتراوح بين نحو 8 أو 9 أضعاف سرعة الصوت. كما سيتمكّن من حمل أنواع مختلفة من الرؤوس الحربية، مثل الرؤوس الشديدة الانفجار أو العنقودية التي يصل وزنها إلى 350 كيلوغرامًا لمسافة تبلغ 1000 كيلومتر، وفي حال استخدام رؤوس حربية أخف وزنًا فقد يرتفع مدى الصاروخ ليصل إلى 1300 كيلومتر.
من المفترض أن يملك الصاروخ نظام تحكّم متطورًا يمكّنه من المناورة في أثناء الطيران؛ مما يساعده على تفادي منظومات الدفاع الجوي. كما سيُزوّد بنظام توجيه متقدم يجمع بين الملاحة بالقصور الذاتي والتصحيح عبر الأقمار الاصطناعية، إلى جانب التوجيه بالرادار في المرحلة النهائية عبر استخدام تقنية مطابقة التضاريس (TERCOM) التي ستخفّض نطاق الخطأ المحتمل في إصابة الهدف إلى أقل من 5 أمتار.
يعدّ تطوير "إسكندر-1000" تحولًا إستراتيجيًّا في ميزان القوة بين روسيا وحلف الناتو، إذ يمنح الدب الروسي ميزة مهمة مقارنة بأنظمة إطلاق صواريخ أخرى، مثل مقاتلة "ميغ-31" التي تحمل صواريخ "كينجال" الباليستية، عبر تقليل أوقات الاكتشاف والاستجابة، إذ يمكن رصد المقاتلة الروسية فور إقلاعها بواسطة رادارات الدفاع الجوي والأقمار الاصطناعية؛ مما يمنح الأهداف الإستراتيجية الأوكرانية إنذارًا مبكرًا لفترة 15 إلى 20 دقيقة، إلا أن محركات الوقود الصلب في صاروخ "إسكندر-1000" تصدر إشارات حرارية مرئية خلال المراحل النشطة من الطيران، وهو ما يقلل فترة الإنذار إلى ما بين 2 و7 دقائق وفقًا لمسافة الهدف، ومن ثم يصعّب اعتراض الصاروخ من منظومات الدفاع الصاروخي في القارة الأوروبية مثل منظومات "باتريوت" و"أستر 30 سامب/تي".
صاروخ أوريشنيك الجديد
وضمن أحدث محاولات روسيا لتطوير ترسانتها من الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى، كان استخدامها للصاروخ الجديد "أوريشنيك" كما ذكرنا. ففي 21 نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، أعلنت روسيا أنها قصفت منشأة عسكرية أوكرانية في مدينة "دنيبرو" بصاروخ باليستي فرط صوتي قيد التجربة، ووصفه بوتين بأنه "أحد أحدث أنظمة الصواريخ الروسية المتوسطة المدى المزودة برأس حربي غير نووي".
جاء استخدام روسيا لهذا الصاروخ في الحرب خطوةً تصعيدية، ردًّا على سماح أميركا والمملكة المتحدة لكييف باستخدام صواريخهما لضرب أهداف أكثر عمقًا داخل الأراضي الروسية.
صاروخ " أوريشنيك" قادر على حمل 3 إلى 6 رؤوس حربية نووية وحرارية، يمكن توجيهها بصورة مستقلة، ويزن كل واحد منها 150 كيلوغراما. وصُمّم الصاروخ لينفصل رأسه عن المحرك، ثم ينطلق كل رأس حربي ليضرب هدفا مختلفا؛ مما يجعل قوته التدميرية هائلة. يعمل الصاروخ بالوقود الصلب، وذُكر أن طاقته الحركية كافية لإحداث أضرار جسيمة.
يتراوح مداه بين 3000 و5500 كيلومتر، وحسب الصحف الروسية، إذا أُطلق الصاروخ من الشرق الأقصى الروسي فيمكنه ضرب أهداف في الساحل الغربي للولايات المتحدة الأميركية. وتبلغ سرعته 10 ماخ، أي 10 أضعاف سرعة الصوت، أي أنه يستطيع تقريبا قطع 2.5 كيلومتر أو3 كيلومترات في الثانية، ونحو 13 ألفا و600 كيلومتر في الساعة، ولديه قدرة على المراوغة والإفلات من منظومات الدفاع الصاروخي المختلفة.
في بداية ديسمبر/كانون الأول، أوضح تقرير بصحيفة واشنطن بوست أن استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صاروخ "أوريشنيك" يعد علامة واضحة على نيته إضعاف حلف الناتو وإخضاع البنية الأمنية الأوروبية لإرادة روسيا.
وفيما عدّه التقرير أكبر تصعيد نووي منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، أشاد بوتين مرارا وتكرارا بالصاروخ في تصريحات علنية، مدّعيًا أن الحلف لا يملك أي وسيلة لاعتراضه، ومحذّرًا من أن موسكو قد تستخدمه ضد "مراكز صنع القرار" في أوكرانيا.
وأشار التقرير، الذي أعدته مديرة مكتب الصحيفة في موسكو ومراسلة الشؤون الخارجية روبين ديكسون، إلى تحذير خبراء غربيين من أن صاروخ "أوريشنيك" يعد فاتحة علنية لسباق تسلح أوروبي جديد قد يدوم عقودا ويكلف دول الناتو وروسيا مليارات الدولارات.
وبعد أول إطلاق للصاروخ، يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بثت قناة "آر تي" الروسية رسما بيانيا مصورا يظهر المدة الزمنية التي يستغرقها للوصول إلى العواصم الأوروبية الرئيسية؛ فوفق التقرير يستغرق الصاروخ 20 دقيقة إلى بريطانيا وفرنسا، و15 دقيقة إلى ألمانيا، و12 دقيقة إلى بولندا.
وخلال اجتماع عقده بوتين مع كبار القادة العسكريين والأمنيين الروس في نفس الشهر، أكد قائد قوات الصواريخ الإستراتيجية الروسية سيرغي كاراكاييف أن منظومة أوريشنيك "يمكنها ضرب أهداف في جميع أنحاء أوروبا"، وأن الهجوم الشامل "سيكون له أثر مماثل لاستخدام الأسلحة النووية".
رسالة واضحة إلى أوروبا
وسط أتون الحرب المستعرة في أوكرانيا، استطاعت روسيا استخلاص دروس بالغة الأهمية حول طبيعة الحروب في القرن الحادي والعشرين، لتبدأ في إعادة تشكيل قواتها وفق مقتضيات هذا العصر الجديد من الحروب. فبعد نحو ثلاث سنوات من القتال، تعاظمت قوة الجيش الروسي على نحو ملحوظ، رغم الادعاءات الغربية التي تزعم العكس.
وقد أقر الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، ضمنًا بهذا الواقع في يناير الماضي، حين أشار إلى أن الكرملين قادر على إنتاج عتاد عسكري في غضون ثلاثة أشهر، يفوق ما يستطيع مجمع الصناعات الدفاعية للناتو تصنيعه في عام كامل. على مدار سنوات الحرب ضد أوكرانيا، أثبت الروس مرارًا أن التقليل من شأن قوتهم مغامرة يتحمل الغرب وحده تبعاتها.
ويبدو أن استخدام صاروخ "أوريشنيك" في ساحة المعركة يحمل رسالة واضحة إلى أوروبا، مفادها أن روسيا تمتلك منظومة موثوقا بها لإيصال الضربات النووية المتوسطة المدى، في خطوة تهدف إلى التأثير في ميزان القوى الإستراتيجي، خاصة مع اقتراب الجلوس على مائدة المفاوضات مع الغرب بعد انتهاء المعارك على الأرض.
وبحسب آرون ستاين، رئيس معهد أبحاث السياسات الخارجية الأميركي، فإن إطلاق هذا الصاروخ يعكس محاولة روسية للتأثير في قرارات العواصم الأوروبية بشأن مستقبل علاقاتها مع موسكو. إذ يرى أن هذه إستراتيجية روسية كلاسيكية، تذكرنا بتفكير موسكو عند تطوير ونشر صاروخ "إس إس-20" خلال الحرب الباردة.
أزمة الصواريخ الأوروبية
لطالما استند مفهوم الردع النووي إلى امتلاك الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي -ثم روسيا- ترسانات من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، القادرة على تحقيق ما يُعرف بـ"الدمار المتبادل المؤكد". الفكرة ببساطة أن امتلاك الطرفين لقوة تدميرية هائلة يجعل استخدام الأسلحة النووية خيارًا غير منطقي.
لكن مع ظهور أزمة الصواريخ الأوروبية، تغيرت موازين القوى في أوروبا. ففي مارس/آذار 1976، نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ "إس إس-20″؛ مما أخل بالتوازن العسكري في أوروبا وأحدث تحولات جوهرية في مسار الحرب الباردة.
كان هذا الصاروخ متطورًا ومزودًا برؤوس حربية متعددة، وبمدى يبلغ 5000 كيلومتر، أي أقل بقليل من 5500 كيلومتر، وهو الحد الذي كان سيخضعه لمعاهدات الحد من التسلح مثل معاهدة "سالت" (SALT). وهو ما أثار خوف الغرب من هذا الصاروخ القادر على ضرب أي نقطة في أوروبا الغربية انطلاقًا من عمق الأراضي السوفياتية، فضلًا عن دقته العالية وقابليته للنقل والإخفاء.
في ذلك الوقت، لم يملك حلف الناتو سلاحًا مماثلًا، وكانت ترسانته النووية في أوروبا ذات مدى أقصر نسبيًّا؛ مما أثار مخاوف حقيقية، لا سيما في ألمانيا الغربية، وأدى إلى معضلة خطيرة، إذ أصبح بإمكان الاتحاد السوفياتي استهداف أراضي الناتو بأسلحة نووية متوسطة المدى، واحتفظ في الوقت نفسه بقدراته على ضرب الولايات المتحدة بصواريخ بعيدة المدى.
أضحى الناتو أمام مأزق إستراتيجي: روسيا أصبحت قادرة على شن هجمات نووية على أوروبا دون الحاجة إلى استهداف الولايات المتحدة مباشرة. وهذا يعني في حال اندلاع حرب نووية محدودة في أوروبا، أنه سيتعين على الرئيس الأميركي اتخاذ قرار محفوف بالأخطار؛ إما الرد بضربة نووية ضد الاتحاد السوفياتي وتعريض بلاده لهجوم انتقامي مدمر، وإما الامتناع عن التدخل؛ مما قد يهز الثقة في الضمانات الأمنية الأميركية ويضعف تماسك الحلف، وهو ما كان هدف موسكو الأساسي، خصوصًا تجاه ألمانيا الغربية، كما أشار آرون ستاين.
كانت برلين تدفع باتجاه رد أميركي ضمن إستراتيجية "الرد المرن" لحلف الناتو، التي كانت تهدف إلى جعل الأسلحة النووية المتمركزة في أوروبا رادعًا فعّالًا لأي هجوم محدود.
اندلعت احتجاجات ضخمة مناهضة للأسلحة النووية في أوروبا، خاصة في بريطانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا الغربية، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي. وتحت هذا الضغط الشعبي، دعا المستشار الألماني هيلموت شميت إلى إعادة النظر في ارتباط أوروبا بالردع النووي الأميركي، ما أدى إلى ذروة الأزمة.
وفي النهاية، بدأ الناتو نشر منظومة صواريخ "بيرشينغ 2" الأميركية في ألمانيا الغربية، بدعم من شخصيات سياسية بارزة مثل مارغريت تاتشر وهيلموت كول، الذي خلف شميت في منصب المستشار الألماني.
استغرقت المفاوضات عدة سنوات قبل أن تُستأنف في 1985، لتنتهي بإبرام معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، التي وقعها الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف ونظيره الأميركي رونالد ريغان عام 1987، ونصّت على إزالة جميع الصواريخ الأرضية التي يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر لدى كلا الطرفين، لتضع حدًا لمرحلة من التوتر العسكري في أوروبا، على الأقل حتى انهيار المعاهدة في عام 2019.
دامت هذه المعاهدة ثلاثة عقود قبل أن تنهار بانسحاب الولايات المتحدة، في النسخة الأولى من فترة رئاسة ترامب عام 2019، ثم تبعتها روسيا بفترة زمنية قصيرة.
برغم أن الوضع الراهن لا يرقى بعد إلى أزمة "صواريخ أوروبية" جديدة، إلا أن هناك مؤشرات مقلقة تم تجاهلها، كما أشار تقرير صحيفة "لوموند" الفرنسية. ففي يوليو/تموز عام 2024، وخلال قمة الناتو في واشنطن، أعلنت الولايات المتحدة وألمانيا عن خطة لنشر منظومة "تايفون" الصاروخية متوسطة المدى على الأراضي الألمانية بحلول عام 2026.
كان هذا القرار أحد المبررات التي استند إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتسريع تطوير واستخدام صاروخ "أوريشنيك" في أوكرانيا، مما عزز المخاوف من دخول أوروبا في مرحلة جديدة من التوتر العسكري.
تطوير صواريخ جديدة
جاء انهيار معاهدة القوى النووية متوسطة المدى ليكشف عن مشهد استراتيجي معقد، ربما تتحمل روسيا مسؤوليته في المقام الأول. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل دور الولايات المتحدة في انهيار نظام الحد من التسلح، كما يشير آرون ستاين، خاصة بعد انسحابها من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية عام 2002، وهي الاتفاقية التي وضعت قيودًا صارمة على نشر أنظمة الدفاع الصاروخي، التي التزم بموجبها الطرفان بامتلاك منظومتين فقط للدفاع الصاروخي، وألا تحتوي كل منظومة على أكثر من مئة صاروخ.
كانت الفكرة الأساسية للمعاهدة هي الحفاظ على التوازن الاستراتيجي، بحيث لا يسعى أي طرف إلى حماية نفسه بالكامل من الهجمات النووية، وهو ما ضمن فعالية الردع النووي المتبادل. لكن الانسحاب الأميركي فتح الباب أمام سباق جديد في تطوير الصواريخ، إذ دفع روسيا إلى التحايل على قيود معاهدة القوى النووية متوسطة المدى عبر تطويرها لصاروخ "أر إس-26" (RS-26)، الذي جرى اختباره بمدى عابر للقارات عام 2011، ثم جرى تعديله ليصبح صاروخًا نوويًا متوسط المدى قادرًا على استهداف أوروب. وهو الصاروخ الذي يُعتقد أن روسيا تطور نسخة جديدة منه وهي نسخة "أوريشنيك".
في المقابل، ردت واشنطن بتطوير أنظمة صاروخية متوسطة المدى، مثل منظومة "تايفون"، وهي منصة إطلاق صواريخ متطورة قادرة على إطلاق صواريخ "إس إم-6" (SM-6) المضادة للطائرات، وصواريخ "توماهوك" أرض-أرض، ونشرتها في الفلبين في أبريل/نيسان عام 2024، قبل أن ترسلها إلى الدنمارك للتدريب، مع خطط لنشرها بشكل دوري في ألمانيا اعتبارًا من عام 2026. إضافة إلى أحدث جيل من الصواريخ الفرط صوتية، مثل "دارك إيغل"، التي تمتلك قدرات هجومية فائقة بمدى يتجاوز 2,700 كيلومتر.
قد يعيد مشهد اليوم أزمة الصواريخ الأوروبية في أواخر السبعينيات، لكن المتغير الأهم هو أن سباق التسلّح لم يعد حكرًا على واشنطن وموسكو. فالشركات الأوروبية والآسيوية باتت فاعلًا رئيسيًا في تطوير الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى، حيث تعمل شركة "إم بي دي أيه" (MBDA) الأوروبية على تطوير صواريخ "كروز" هجومية، بينما تتعاون كوريا الجنوبية مع بولندا لتطوير منظومات صواريخ بعيدة المدى، إلى جانب قدرات فرنسا والمملكة المتحدة في مجال صواريخ "كروز" بعيدة المدى مثل صاروخ "ستورم شادو".
مع اقتراب انتهاء الحرب في أوكرانيا، وتصاعد حدّة التوتر بين روسيا والناتو، تبدو أوروبا على أعتاب سباق تسلّح جديد، إذ تتزايد الترسانات الصاروخية، وتتضاءل فرص التوصل إلى اتفاق لضبط التسلح، في مشهد يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة في القارة العجوز.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ما هي الأسلحة النووية التي تمتلكها روسيا إذا قررت ضرب أوكرانيا؟
ما هي الأسلحة النووية التي تمتلكها روسيا إذا قررت ضرب أوكرانيا؟

الجزيرة

timeمنذ 4 أيام

  • الجزيرة

ما هي الأسلحة النووية التي تمتلكها روسيا إذا قررت ضرب أوكرانيا؟

في تصريح للرئيس الأميركي السابق جو بايدن في أكتوبر/تشرين الأول 2022 قال: "لم نواجه احتمال وقوع كارثة هائلة من هذا النوع منذ عهد كينيدي وأزمة الصواريخ الكوبية ، إنه (بوتين) لا يمزح عندما يتحدث عن الاستخدام المحتمل للأسلحة النووية أو الأسلحة البيولوجية أو الكيميائية، لأن أداء جيشه، ضعيف للغاية". جاء هذا التصريح في سياق مخاوف غربية واضحة من استخدام الروس للسلاح النووي خلال الحرب مع أوكرانيا، ولذلك كان دعم حلف الناتو لأوكرانيا محسوبا خطوة بخطوة، بهدف واحد وهو عدم استثارة الروس لأي رد فعل نووي. لكن الأمر لا يقف عند حد الحرب الأوكرانية، فقد كان السلاح النووي طوال الوقت أهم وسيلة للتفاوض لدى الروس. تاريخ طويل للخوف لفهم أعمق لتلك النقطة يمكن أن نتأمل وثيقة من 6 صفحات نشرتها الحكومة الروسية في الثاني من يونيو/حزيران 2020 تحدد منظورها بشأن الردع النووي، وعنونت رسميا المبادئ الأساسية لسياسة الدولة للاتحاد الروسي بشأن الردع النووي، وفيها يعتبر التهديد الروسي بالتصعيد النووي أو الاستخدام الفعلي الأول للأسلحة النووية هو سلوك من شأنه أن يؤدي إلى "خفض تصعيد" النزاع بشروط تخدم روسيا. لكن في هذا السياق، تعتبر روسيا الأسلحة النووية وسيلة للردع حصرا، وتضع مجموعة من الشروط التي توضح تلك النقطة، فيكون الحق في استخدام الأسلحة النووية ردا على استخدام الأسلحة النووية أو أنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضدها أو ضد حلفائها، أو هجوم من قبل الخصم على المواقع الحكومية أو العسكرية الحساسة في الاتحاد الروسي، والذي من شأنه أن يقوض أعمال رد القوات النووية، أو العدوان على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية عندما يكون وجود الدولة نفسه في خطر. على الرغم من أن هذا يعد تخفيفا لسياسة روسيا النووية المتعلقة بالردع، إلا أنه لا يزال مراوغا ويمكن أن تستخدم أي من تلك الشروط لتعني أي شيء على الأرض. في الواقع، يرى العديد من المحللين والعلماء في هذا النطاق -من الجانب الأميركي والأوروبي- أن روسيا -ومن قبلها الاتحاد السوفياتي – طالما اتبعت عقيدة تدمج الأسلحة النووية في التدريبات العسكرية الخاصة بها، ما يشير إلى أنها قد تعتمد بشكل أكبر على الأسلحة النووية، يظهر هذا بوضوح في تقارير تقول إن التدريبات العسكرية لروسيا بدت كأنها تحاكي استخدام الأسلحة النووية ضد أعضاء الناتو. لهذه العقيدة تاريخ طويل متعلق بأن السلاح النووي هو أفضل الطرق في حالات الضعف، فحينما تراجع الاتحاد السوفياتي سياسيا وعسكريا خلال الحرب الباردة ، ثم مع انهياره، كان الضامن الوحيد بالنسبة للروس هو السلاح النووي، بحيث يمثل أداة ردع رئيسة. لكن إلى جانب كل ما سبق، هناك سبب إضافي أهم يدفع بعض المحللين للاعتقاد أن روسيا تضع استخدام السلاح النووي في منطقة الإمكانية، وهو متعلق بتحديث سريع وكثيف للترسانة النووية. الثالوث النووي أجرى الاتحاد السوفياتي أول تجربة تفجيرية نووية في 29 أغسطس/آب 1949، أي بعد 4 سنوات من استخدام الولايات المتحدة للقنبلة الذرية ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية ، اختبر الاتحاد السوفياتي نسخته الأولى من القنبلة النووية الحرارية عام 1953، ومنذ ذلك الحين نما المخزون السوفياتي من الرؤوس الحربية النووية بسرعة، بشكل خاص خلال الستينيات والسبعينيات وبلغ ذروته عام 1986 بحوالي 40 ألف رأس حربي نووي. بحلول الستينيات، كانت روسيا قد طورت ثالوثا من القوات النووية مثل الولايات المتحدة الأميركية: الصواريخ الباليستية العابرة للقارات "آي سي بي إم إس" (ICBMs)، والصواريخ الباليستية التي تُطلق من الغواصات "إس إل بي إم إس" (SLBMs)​​، والقاذفات الثقيلة المجهزة بأسلحة نووية. وتسمى هذه المجموعة من أدوات الحرب بالأسلحة النووية الإستراتيجية، أي تلك التي تتمكن من الضرب على عدو يبتعد عن الدولة مسافة كبيرة (الضرب عن بعد). على مدى أكثر من نصف قرن، انخرطت روسيا في اتفاقات ومعاهدات تخفّض من أعداد الرؤوس الحربية النووية الخاصة بها، لذلك منذ الثمانينات انخفضت أعداد الرؤوس الحربية الروسية إلى حوالي 6 آلاف فقط، لكن في مقابل هذا الخفض في الأعداد اهتمت روسيا بسياق آخر يقابله، وهو تحديث الترسانة بالكامل. في ديسمبر/كانون الأول 2020، أفاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الأسلحة والمعدات الحديثة تشكل الآن 86% من الثالوث النووي لروسيا، مقارنة بنسبة 82% في العام السابق، وأشار إلى أنه يتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 88.3% خلال عام واحد، وصرح أن وتيرة التغيير في جميع المجالات الحاسمة للقوات المسلحة سريعة بشكل غير عادي اليوم، مضيفا: "لو قررت التوقف لثانية واحدة، ستبدأ في التخلف على الفور". ذراع روسيا الطويلة يبدو هذا جليا في نطاقات عدة. على سبيل المثال، تواصل روسيا حاليا سحب صواريخها المتنقلة من طراز "توبول" (Topol) بمعدل 9 إلى 18 صاروخا كل عام، لتحل محلها الصواريخ الباليستية العابرة للقارات من النوع "يارس-24" (RS-24). اختبرت روسيا يارس لأول مرة عام 2007 وتم اعتماده من قبل قوات الصواريخ الإستراتيجية الروسية عام 2010، وبدأ إنتاجه خلال نفس العام. واعتبارا من عام 2016، تتضمن الترسانة الآن ما يزيد على 147 صاروخا من هذا النوع، منها 135 يمكن أن يوضع منصة متحركة (عربة مكونة من 16 عجلة) و12 منصة ثابتة. مدى يارس يصل إلى 12 ألف كيلومتر (هذا يساوي عرض دولة مثل مصر 12 مرة)، ويمكن أن يحمل 6 -10 رؤوس نووية بقوة تتراوح بين 150- و500 كيلوطن لكل منها، والصاروخ السابق توبول كان يحمل رأسا حربيا واحدا. كذلك صمم يارس للتهرب من أنظمة الدفاع الصاروخي حيث يقوم بمناورات أثناء الرحلة ويحمل شراكا خداعية وبالتالي لديها فرصة لا تقل على 60-65% لاختراق الدفاعات المضادة، وتؤهل التقنية "ميرف" (MIRV) هذا الصاروخ لحمولة صاروخية تحتوي على العديد من الرؤوس الحربية، كل منها قادر على أن يستهدف هدفا مختلفا. ويصيب يارس الهدف بدقة تكون في حدود 100-150 مترا من نقطة الهدف فقط، كما أن إعداد الصاروخ للإطلاق يستغرق 7 دقائق، وبمجرد أن تكون هناك حالة تأهب قصوى، يمكن لصواريخ يارس مغادرة قواعدها عبر السيارات التي تجري بسرعة 45 كيلومترا في الساعة، ثم العمل في مناطق الغابات النائية لزيادة قدرتها على التخفي. إله البحار أحد الأمثلة التي يُستشهد بها على نطاق واسع أيضا هي "ستاتوس-6" (Status-6) المعروف في روسيا باسم "بوسايدون" (Poseidon) (إله البحار)، وهو طوربيد طويل المدى يعمل بالطاقة النووية والذي وصفته وثيقة حكومية روسية بشكل صارخ بأنه يهدف إلى إنشاء "مناطق التلوث الإشعاعي الواسع التي قد تكون غير مناسبة للنشاط العسكري أو الاقتصادي أو أي نشاط آخر لفترات طويلة من الزمن"، السلاح مصمم لمهاجمة الموانئ والمدن لإحداث أضرار عشوائية واسعة النطاق. بدأ السوفيات تطوير هذا السلاح عام 1989 ولكن توقف الأمر بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة وكذلك مع سياسات نزع السلاح النووي. ومع ذلك، عادت روسيا لتطوير هذا السلاح، وفي عام 2015 تم الكشف عن معلومات حول هذا السلاح عمدا من قبل وزارة الدفاع الروسية. وبحسب ما ورد من معلومات عنها، يبلغ مدى هذه المركبة 10 آلاف كيلومتر، ويمكن أن يصل إلى سرعة تحت الماء تصل إلى 200 كيلومتر في الساعة). هذا أسرع بكثير من قدرة الطوربيدات الحربية المعتادة على السفر. علاوة على ذلك، من المخطط أن يعمل بوسايدون على أعماق تصل إلى ألف متر؛ مما يجعل من الصعب اعتراضها، بل ويعتقد أنه يمكن لهذه القطعة التقنية المرعبة أن تعمل تحت صفائح الجليد في القطب الشمالي، هنا يصعب جدا اكتشافه والاشتباك معه. ومن المقرر أن يبدأ بوسايدون في العمل الفعلي داخل الترسانة النووية الروسية خلال أعوام قليلة. نار من توبوليف قاذفة القنابل الإستراتيجية فوق الصوتية ذات الأجنحة متعددة الأوضاع "توبوليف تي يو-160" كانت أيضا واحدة من مكونات أحد أطراف الثالوث النووي التي تم تطويرها مؤخرا. وعلى الرغم من أن هناك العديد من الطائرات المدنية والعسكرية الأكبر حجما إلا أن هذه الطائرة تعد الأكبر من حيث قوة الدفع، والأثقل من ناحية وزن الإقلاع بين الطائرات المقاتلة. ويمكن لكل طائرة من هذا الطراز حمل ما يصل إلى 40 طنا من الذخائر، بما في ذلك 12 صاروخ كروز نوويا يتم إطلاقها من الجو. وبشكل عام، يمكن أن تحمل القاذفات من هذا النوع أكثر من 800 سلاح. كانت هذه الطائرة آخر قاذفة إستراتيجية صممت من طرف الاتحاد السوفياتي، إلا أنها لا تزال تستخدم إلى الآن. أضف لذلك أن هناك برنامجين محدثين متميزين لتطوير الطائرة توبوليف يتم تنفيذهما في وقت واحد: برنامج أولي يتضمن "تحديثا عميقا" لهيكل الطائرة الحالي لدمج محرك من الجيل التالي، بالإضافة إلى إلكترونيات طيران جديدة وملاحة ورادار حديث يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وبرنامج آخر يتضمن دمج أنظمة مماثلة في هياكل جديدة تماما للطائرة. وفي الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أعلنت روسيا أن أحدث نسخة من توبوليف تي يو-160 (يسميها الناتو بلاك جاك) قد انطلقت من كازان مدعومة بمحركات "إن كيه-32-02" (NK-32-02) الجديدة، مع قوة دفع تبلغ 55 ألف رطل، ويعد هذا المحرك أكبر وأقوى محرك تم تركيبه على الإطلاق في طائرة عسكرية. استغرقت الرحلة الأولى للقاذفة المحدثة مع المحركات الجديدة ساعتين و20 دقيقة، وسافرت على ارتفاع 6 آلاف متر، المحرك الجديد يرفع نطاق الطائرة بحوالي ألف كيلومتر. يارس وبوسايدون وتحديثات قاذفة القنابل توبوليف هي أمثلة قليلة من حالة كبيرة من التطوير تمر بها الترسانة النووية الروسية، إلى جانب ذلك تعمل روسيا على تنويع نطاق التطوير، فهي لا تعمل فقط على السلاح النووي الإستراتيجي (الذي يضرب العدو البعيد)، بل أيضا هناك خطوات واسعة في تطوير السلاح النووي اللإستراتيجي (التكتيكي)، وهو إصطلاح يشير إلى الأسلحة النووية التي صممت لاستخدامها في ميدان المعركة مع وجود قوات صديقة بالقرب وربما على أراض صديقة متنازع عليها. مخزون روسيا من بين مخزون الرؤوس الحربية النووية الروسية، هناك ما يقرب من 1600 رأس حربي إستراتيجي جاهز للضرب، حوالي 800 رأس منها على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وحوالي 624 على الصواريخ الباليستية التي تُطلق من الغواصات، وحوالي 200 في قاذفات القنابل الإستراتيجية. إلى جانب ذلك يوجد حوالي 985 رأسا حربيا إستراتيجيا آخر في المخزن، وحوالي 1912 رأسا حربيا غير إستراتيجي (تكتيكي). بالإضافة إلى المخزون العسكري للقوات العملياتية، هناك حوالي 1760 من الرؤوس الحربية المتقاعدة ولكنها ما زالت سليمة إلى حد كبير تنتظر التفكيك وإعادة التشغيل، ما يجعل إجمالي المخزون حوالي 6 آلاف- 6300 رأس حربي، علما أن هذه فقط هي أرقام تقديرية، حيث لا تعلن الدول عن العدد الحقيقي لرؤوسها الحربية النووية. إذن الخلاصة أن برامج التحديث النووي الروسية، مع زيادة عدد وحجم التدريبات العسكرية، والتهديدات النووية الصريحة التي تلقي بها ضد دول أخرى (فما حدث في حالة أوكرانيا 2022 ليس جديدا)، والعقيدة الروسية المتعلقة بالسلاح النووي؛ كلها أمور تسهم جميعها في دعم حالة من عدم اليقين بشأن نوايا روسيا النووية. ويرى المحللون أن روسيا أبعد ما تكون عن استخدام السلاح النووي حاليا، لسبب واحد وهو أن الجيش الروسي مستقر نسبيا ولا يواجه أية تهديدات وجودية في الحرب الحالية، ومن ثم نشأت فكرة تقول إن الحرب في وجود "السلاح النووي" ممكنة، لكن في سياق ألا تزيد مساحة المعارك، والضرر المتعلق بها، عن حد معين يضع الروس في توتر. لكن على الجانب الآخر، "فعدم اليقين" كان هدف الروس الدائم في كل الأحوال، لأنه -في حد ذاته- سلاح ردع رئيسي بالنسبة لهم، وعلى الرغم من أن الأوكرانيين تلقوا المساعدات، إلا أن الروس واصلوا تقدمهم في سياق "قبة" حماية سببها الأساسي هو السلاح النووي.

الرئيس الصيني سيزور روسيا للمشاركة في احتفالات عيد النصر
الرئيس الصيني سيزور روسيا للمشاركة في احتفالات عيد النصر

الجزيرة

time٠٤-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

الرئيس الصيني سيزور روسيا للمشاركة في احتفالات عيد النصر

قال الكرملين اليوم الأحد إن الرئيس الصيني شي جين بينغ سيقوم بزيارة رسمية إلى روسيا في الفترة من 7 إلى 10 مايو/أيار الجاري، للمشاركة في احتفالات الذكرى الـ80 لهزيمة ألمانيا النازية. وأوضح الكرملين في بيان على تطبيق تليغرام أن شي سيناقش مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تطوير الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، كما سيوقعان عددا من الاتفاقيات. وأضاف "خلال المحادثات ستُناقش القضايا الرئيسية المتعلقة بتطوير الشراكة الشاملة والتفاعل الإستراتيجي، بالإضافة إلى القضايا الراهنة على الساحتين الدولية والإقليمية". وفقد الاتحاد السوفياتي 27 مليون شخص في الحرب العالمية الثانية ، لكنه نجح في إجبار القوات النازية على التراجع إلى برلين، حيث انتحر أدولف هتلر ورفعت راية النصر السوفياتية الحمراء فوق مبنى الرايخستاغ (البرلمان السابق) عام 1945. حضور قادة ومن المتوقع حضور عدد من زعماء الدول الاحتفالات، مثل رئيسي البرازيل وصربيا ورئيس وزراء سلوفاكيا. واقترح بوتين وقف إطلاق النار لمدة 3 أيام مع أوكرانيا خلال احتفالات 9 مايو/أيار، وهي من أهم المناسبات في روسيا. وردا على عرض موسكو، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنه مستعد للموافقة في حالة استمرار وقف إطلاق النار لمدة 30 يوما، وهو أمر استبعده بوتين بالفعل على المدى القريب، مؤكدا أنه يريد تسوية طويلة الأمد وليس مجرد توقف مؤقت. وأوضح زيلينسكي أن أوكرانيا في ظل استمرار الحرب مع روسيا لا تستطيع ضمان سلامة أي من الشخصيات الأجنبية التي ستزور موسكو لحضور العرض العسكري التقليدي في 9 مايو/أيار الجاري.

هل يقدم حزب العمال الكردستاني حقًا على حلّ نفسه؟
هل يقدم حزب العمال الكردستاني حقًا على حلّ نفسه؟

الجزيرة

time٠٣-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

هل يقدم حزب العمال الكردستاني حقًا على حلّ نفسه؟

منذ تأسيسها عام 1978، ارتكبت منظمة "بي كا كا" مجازر راح ضحيتها نحو 16 ألفًا من الموظّفين الرسميين في تركيا، من بينهم جنود ورجال شرطة ودرك وأطباء ومعلمون، إضافةً إلى عدد لا يُحصى من المدنيين من نساء وأطفال، وتكبّدت تركيا جرّاء هذه الحرب تكلفة اقتصادية تقدّر بنحو تريليونَي دولار. فهل وصلت المنظمة إلى نهاية الطريق؟ لطالما تلقت "بي كا كا" دعمًا ماديًا وبشريًا وتسليحيًا من قوى متعددة، من بينها روسيا، وإيران وعدد من دول حلف شمال الأطلسي التي تنتمي إليها تركيا، مثل ألمانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، والسويد، والولايات المتحدة الأميركية. وقد أُبيد نحو 60 ألفًا من عناصرها حتى الآن، فهل يعقل أن تعلن هذه المنظمة عن حلّ نفسها؟ هذا هو السؤال الذي يُطرح بإلحاح في تركيا وفي عموم منطقة الشرق الأوسط. وفي الأسبوع الماضي، ورغم أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لم يُدلِ بإجابة قاطعة عن هذا السؤال خلال مشاركته في مؤتمر صحفي مشترك في العاصمة القطرية الدوحة مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، فإنّه أعاد تأكيد تطلعاته وعزمه الثابت أمام أعين العالم بأسره، قائلًا بلهجة واضحة فيما يتعلق بالقضية السورية: "أولًا، نحن لا نقبل بأي مبادرة تستهدف وحدة الأراضي السورية. وبناءً عليه، فإننا نرفض أي تحرك من شأنه أن يتيح استمرارية وجود التنظيمات الإرهابية في سوريا. ولا يمكن قبول تغيير الأسماء أو الهياكل أو الإدارة؛ بهدف تمويه وجود منظمة "بي كا كا " الإرهابية وإطالة عمرها". وأضاف: "نتوقع تفعيل الاتفاق الموقّع بين "واي بي جي" (وحدات حماية الشعب الكردية، الذراع السورية لـ"بي كا كا") والإدارة المحلية في سوريا خلال الأشهر الماضية. ونتوقع أيضًا من "بي كا كا" أن تردّ سريعًا وبشكل إيجابي على الدعوة الموجهة إليها، وأن تتخلى عن سلاحها، وتتوقف عن كونها عقبة أمام عودة الحياة إلى طبيعتها في منطقتنا. فكما أُخرج تنظيم الدولة من المنظومة، فإنّ "بي كا كا" أيضًا ستُستأصل. فإما أن ترحل طوعًا وبسلام، وإما أن ترحل بطريقة أخرى، لكنها سترحل لا محالة". واختتم قائلًا: "سيكون لذلك تداعيات في سوريا، وإيران، والعراق. وإذا ما واصلت جهةٌ ما، ارتضت أن تكون أداة في يد قوى خارجية، الوقوف في طريقنا كمحارب بالوكالة، فإنّنا بحول الله نمتلك الوسائل والقدرات اللازمة لمواجهتها". كلمات الوزير فيدان هذه تعكس استياءه من التأخّر في تنفيذ دعوة عبدالله أوجلان، زعيم منظمة "بي كا كا" الإرهابية والمعتقل منذ عام 1999 في سجن إيمرالي، التي أطلقها في 27 فبراير/ شباط 2024، ودعا فيها إلى حلّ التنظيم. وقد مرّ على تلك الدعوة شهران كاملان دون اتخاذ خطوات فعلية. جذور الانفصال تمتد إلى 51 عامًا ترجع جذور التنظيم الإرهابي الانفصالي الذي أسّسه عبدالله أوجلان إلى 51 عامًا مضت. ففي عام 1973، تشكّل في العاصمة أنقرة ما عُرف حينها بـ"مجموعة الأبوكيين" (نسبة إلى لقب أوجلان: أبو)، وبحلول عام 1976 بدأ هذا التيار في الانتشار شرقًا وجنوب شرق الأناضول تحت اسم "ثوار كردستان". وبحلول عام 1977، انتقلت هذه الجماعة إلى تنفيذ عمليات مسلحة في المناطق الريفية، لتبدأ لاحقًا، اعتبارًا من عام 1978، نشاطها داخل المدن. وفي اجتماع سري عقده أوجلان مع 18 عضوًا في منطقة ليجه التابعة لمحافظة ديار بكر يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1978، أُعلن رسميًا تأسيس ما يُعرف اليوم بـ"حزب العمال الكردستاني – PKK" كتنظيم غير شرعي. في بداياته، استهدف "بي كا كا" الجماعات السياسية الكردية التي رآها خصمًا له في مناطق الشرق والجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية، فنفّذ ضدها اغتيالات وهجمات دامية. وفي المؤتمر التأسيسي الأول للتنظيم، تقرر تسريع عمليات التنظيم الداخلي، وإعداد البرنامج السياسي والبيان التأسيسي. لكن اعتقال أحد المشاركين في الاجتماع، ويدعى شاهين دونميز، في مايو/ أيار 1979، واعترافه بالتفاصيل الداخلية للتنظيم، تسبب بحالة من الذعر داخله. وبالتوازي مع استمرار الهجمات على الجماعات الكردية الأخرى، بدأت سلسلة من التصفيات الداخلية بذريعة "العمالة" و"الخيانة". وفي خضم هذه الفوضى، بقي أوجلان القائد الأوحد للتنظيم، واستفاد من دعم استخبارات النظام السوري لعبور الحدود في يونيو/ حزيران 1979، حيث أصدر تعليماته بإعلان تأسيس التنظيم عبر "عملية ضخمة تلفت الأنظار". في ظل حماية الاستخبارات السورية، استقرّ أوجلان في بلدة عين العرب (كوباني حاليًا)، والتي باتت اليوم مركزًا لما يُعرف بـ"بي كا كا/بي واي دي"، ثم انتقل إلى دمشق. وفي 29 يوليو/ تموز 1979، نفّذ أنصاره هجومًا مسلحًا على النائب البرلماني عن حزب العدالة وزعيم عشيرة البوجاق، محمد جلال بوجاق، ما أدى إلى إصابته، ومقتل صهره وطفل في التاسعة من عمره. وترك الإرهابيون في موقع الهجوم البيان التأسيسي لـ"بي كا كا"، الذي أعلن فيه هدفه بوضوح: "تأسيس دكتاتورية شعبية في كردستان المستقلة والموحّدة". لاحقًا، بدأ أوجلان يعدّل من طرحه السياسي، فانتقل من شعار "كردستان المستقلة والموحّدة" إلى شعارات مثل "الفدرالية" و"الحكم الذاتي الإقليمي". وخلال قرابة نصف قرن من العمل المسلح، لم تحقق المنظمة الإرهابية أيًّا من أهدافها المعلنة، باستثناء زراعة بذور القومية العرقية في أذهان فئة محدودة. ويُعزى ذلك إلى النضال المتواصل وغير المنقطع الذي خاضته ضد الدولة التركية بكل مؤسساتها. لقد بدأ أوجلان مسيرته عام 1979 بشعار: "تأسيس دكتاتورية شعبية في كردستان المستقلة والموحّدة"، ثم ختمها في 27 فبراير/ شباط 2025 بهذه الكلمات، التي تعكس بوضوح اعترافًا بفشل المشروع: "الانزلاق نحو قومية مفرطة، وما تبعها من أطروحات كالدولة القومية المستقلة، والفدرالية، والحكم الذاتي الإداري، والحلول الثقافوية، لم تعد تُلبّي متطلبات علم الاجتماع التاريخي للمجتمع". أي أن أوجلان نفسه أقرّ، بعد 45 عامًا من التمرّد المسلح، بأن لا الدولة الكردية المستقلة، ولا الفدرالية، ولا الحكم الذاتي، تشكّل حلولًا واقعية. بيان أوجلان حمل البيان الذي أصدره عبدالله أوجلان بتاريخ 27 فبراير/ شباط 2025 عنوان: "دعوة إلى السلام والمجتمع الديمقراطي"، وقد ورد فيه: "لقد نشأت منظمة بي كا كا في القرن العشرين، الذي يُعدّ أكثر القرون عنفًا في التاريخ، والذي شهد حربين عالميتين، وتجارب الاشتراكية الواقعية، وأجواء الحرب الباردة التي عمّت العالم، ووسط إنكارٍ تامٍ للواقع الكردي، وقمعٍ للحريات، وفي مقدمتها حرية التعبير. وقد تأثرت المنظمة من حيث النظرية والبرنامج والإستراتيجية والتكتيك، بتجربة الاشتراكية الواقعية آنذاك تأثرًا بالغًا. ومع انهيار الاشتراكية الواقعية في تسعينيات القرن الماضي لأسباب داخلية، ومع انحسار سياسة إنكار الهوية داخل البلاد، والتقدم الذي أُحرز في مجال حرية التعبير، دخلت منظمة بي كا كا في مرحلة من الفراغ المعنوي والتكرار المفرط، مما جعل نهايتها، كغيرها من التنظيمات المشابهة، أمرًا ضروريًا. لقد ظلت العلاقة الكردية التركية على مدى أكثر من ألف عام قائمة على تحالف طوعي، كانت فيه الغاية المشتركة هي الحفاظ على الكيان في مواجهة القوى المهيمنة. لكن الحداثة الرأسمالية، على مدى القرنين الماضيين، سعت إلى تفكيك هذا التحالف، ووجدت من يخدمها في إطار الصراع الطبقي والاجتماعي. وقد تسارعت هذه الوتيرة بفعل التفسيرات الأحادية للجمهورية. واليوم، ومع ازدياد هشاشة هذه العلاقة التاريخية، فإن إعادة تنظيمها على أساس روح الأخوّة، دون إغفال البعد الإيماني، بات ضرورة ملحّة. فحاجة المجتمع إلى الديمقراطية أمر لا مفر منه. إن صعود منظمة بي كا كا كأكبر حركة تمرد وعنف في تاريخ الجمهورية، جاء نتيجة انسداد قنوات السياسة الديمقراطية. وإن الحلول القائمة على الدولة القومية المنفصلة، أو الفدرالية، أو الحكم الذاتي الإداري، أو الأطروحات الثقافوية، الناتجة عن الانجراف القومي المفرط، لم تعد تقدم جوابًا مقنعًا لعلم الاجتماع التاريخي للمجتمع. إن احترام الهويات، وضمان حرية التعبير والتنظيم الديمقراطي، وحق كل فئة في أن تكون لها بنيتها السوسيو-اقتصادية والسياسية، لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود مجتمع ديمقراطي وساحة سياسية حقيقية". ويتابع أوجلان: "إن قرن الجمهورية الثاني لن يكون مستقرًا ومستدامًا إلا إذا تُوّج بالديمقراطية. ولا سبيل لتحقيق الأنظمة المنشودة إلا من خلال الديمقراطية، فالاتفاق الديمقراطي هو الأساس. كما يجب تطوير لغة تناسب الواقع لمرحلة السلام والمجتمع الديمقراطي. وفي هذا السياق، ومع دعوة السيد دولت بهتشلي، والموقف الذي أبداه السيد رئيس الجمهورية، والمواقف الإيجابية التي أبدتها بعض الأحزاب السياسية تجاه هذه الدعوة المعروفة، فإنني أوجه دعوة لوقف إطلاق النار وأتحمل المسؤولية التاريخية لهذه الدعوة. وكما تفعل أي جماعة أو حزب عصري لم يُجبر على إنهاء وجوده قسرًا، فإنني أطلب منكم عقد مؤتمركم واتخاذ قرار: يجب أن تضع جميع المجموعات السلاح، وأن يتم حلّ منظمة بي كا كا. أبعث بتحياتي لجميع الجهات التي تؤمن بالعيش المشترك وتصغي إلى ندائي". كان البيان المكتوب بخط يد أوجلان والمكوّن من ثلاث صفحات ونصف، بمثابة لحظة انهيار النموذج الفكري ليس فقط لتنظيم "بي كا كا/ك ج ك"، بل أيضًا لذراعه السورية "بي واي دي"، وامتداده الأوروبي، وجناحه السياسي داخل تركيا، حزب "ديم". فبهذه الدعوة، أعلن مؤسس التنظيم بنفسه انتهاء "الإستراتيجية الأساسية" المزعومة، وأقرّ بأن منظمة بي كا كا أصبحت "فاقدة للمعنى"، لأنها فقدت الهدف الذي أُسست من أجله. فبعدما حُلّت قضية الهوية في تركيا، ولم تعد هناك أهداف من قبيل الدولة المستقلة، أو الفدرالية، أو الحكم الذاتي، لم يعد للمنظمة ما تبرّر به استمرارها. وقد لخّص أوجلان ذلك بقوله: "مع انهيار الاشتراكية الواقعية في التسعينيات لأسباب داخلية، وانحسار سياسة إنكار الهوية داخل البلاد، والتقدم في حرية التعبير، فقدت بي كا كا معناها ودخلت مرحلة من التكرار، ومن ثم بات حلها ضرورة كما هو الحال مع التنظيمات المشابهة" . وأخيرًا، ختم أوجلان دعوته الحاسمة بقوله: "أتحمّل المسؤولية التاريخية لهذه الدعوة. وأدعو كل المجموعات التابعة لبي كا كا لعقد مؤتمر واتخاذ قرار نهائي: على الجميع ترك السلاح، ويجب أن تُحلّ منظمة بي كا كا". قرارات لم تلتزم بها "بي كا كا" حين تحدّث أوجلان عن "جميع المجموعات"، فقد كان يقصد كامل هيكل "بي كا كا/ ك ج ك"، سواء في تركيا، أو في سوريا، أو إيران، أو العراق، أو في الشتات الأوروبي. ومع ذلك، وبناءً على تجارب سابقة، كان يدرك أن دعوته لن تلقى الاستجابة المرجوّة، ولهذا أنهى بيانه المكتوب بخط يده بجملة ذات دلالة: "أبعث بتحياتي لجميع الجهات التي تصغي إلى ندائي". المراقبون المقربون من ملف "بي كا كا"، والذين يدركون تمامًا أنّ هذه المنظمة لم تعد تسعى بأي شكل لـ"حقوق الأكراد"، وإنما تحوّلت إلى أداة خاضعة تمامًا للولايات المتحدة، وذراع يُستخدم لصالح إسرائيل الصهيونية المنغمسة في جرائم الإبادة، يرون أنّ التنظيم لن يُقدم بسهولة على حلّ نفسه أو على تسليم سلاحه، ولن يلتزم بوقف إطلاق النار. ذلك أن "بي كا كا" سبق لها أن أعلنت عن قرارات "وقف إطلاق نار/تسليم سلاح/ حل التنظيم" ست مرات، وذلك في الأعوام: 1993، 1995، 1998، 2006، 2009، و2013، لكنها في كل مرة ما لبثت أن نكثت عهودها، واستأنفت عملياتها الإرهابية. وفي الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وهو اليوم الذي افتُتحت فيه الدورة الجديدة للبرلمان التركي، توجّه رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي إلى مقاعد نواب حزب "ديم"، الذراع السياسية لـ"بي كا كا"، وصافحهم في خطوة رمزية؛ فُسّرت بأنها البداية لمبادرة سياسية جديدة. وإن قُدّر لهذه المبادرة أن تكتمل، فستكون هذه المرة السابعة التي يُتخذ فيها قرار بحل التنظيم. لكن، وعلى الرغم من الآمال المعقودة على بناء "تركيا خالية من الإرهاب"، فإنّ التجارب المريرة السابقة تستدعي الحذر. ولهذا يتردد كثيرًا في الأوساط السياسية والإعلامية مصطلح "تفاؤل حذر". مؤشرات غير مبشّرة غير أنّ الأخبار الواردة من خلف الكواليس لا تدعو حتى لهذا القدر من التفاؤل؛ بل على العكس، فإن ما يُنقل عن اللجنة التنفيذية لـ"بي كا كا" يفيد بأنها تطرح شروطًا لقبول حلّ نفسها. ومن أكثر الشروط غرابة أنها تطلب أن يترأس عبدالله أوجلان بنفسه مؤتمر التنظيم، رغم أنه لم يُبدِ هذا الطلب أصلًا، وهو يقضي حكمًا بالسجن المؤبد! وفي بيان نُشر خلال عطلة نهاية الأسبوع، قالت اللجنة: "لا نريد أن نكون الطرف الذي يخرق العملية"، لكنها بذلك ألمحت ضمنيًا إلى احتمال عودتها إلى العمل الإرهابي مجددًا. يريدون أن يُشعلوا فتيل القتال، ولكن دون أن تُنسب إليهم المسؤولية، تمامًا كما اعتادوا، عبر سياسة كسب الوقت والمماطلة. أما تغيير الأسماء والقيادات، فهو من التكتيكات المتكررة لديهم، وإظهار العداء للعنف ما هو إلا نفاق سياسي يتقنونه جيدًا. كما يُتوقّع أن يُقدِم التنظيم على تنفيذ عمليات استفزازية في الداخل التركي، أو في الأراضي السورية، والعراقية، مع الحرص على أن تُنسب هذه العمليات زيفًا إلى الأتراك، بغرض إثارة الفتنة. وقد تكون بعض هذه الهجمات موجّهة ضد الأكراد أنفسهم، أو ضد أهداف أميركية سبق أن أعلنت نيتها الانسحاب من المنطقة، وهو ما قد يدخل في إطار التصعيد الاستفزازي. السلاح: مصدر القوة الوحيد تاريخ منظمة "بي كا كا"، الممتد لنصف قرن، يجعل جميع السيناريوهات ممكنة، غير أن أضعفها احتمالًا هو تخليها عن العنف والسلاح، وهما مصدر قوتها الوحيد. لقد استمرت "بي كا كا" طوال خمسين عامًا لسببين رئيسيين: الدعم الخارجي الذي تلقّته من دول مثل إسرائيل، إيران، الولايات المتحدة، ودول أوروبية وروسيا. الامتداد السياسي داخل تركيا، ممثلًا بحزب "ديم". ما دام هذا الدعم الدولي مستمرًا، وما دام جناحها السياسي في تركيا لم يُقطع نهائيًا، فلن يكون بمقدور أمثالنا أن نكون متفائلين. لا نملك إلا "التحفظ"، لا التفاؤل. أملي الوحيد هو أن يتمكّن حزب "ديم"، الذراع السياسية لـ"بي كا كا"، من النأي بنفسه بصدق عن التنظيم الإرهابي. غير أن المواقف الصادرة عنه حتى الآن تشير إلى غموض كبير، وعدم وضوح الرؤية. بكلمات أخرى، لا يوجد تغيير فعلي في الظروف التي أوجدت "بي كا كا". والدولة التركية على دراية تامة بذلك. وقد عبّر الرئيس رجب طيب أردوغان عن هذا الإدراك بقوله: "إذا لم تُنفَّذ الوعود، وإذا تحوّلت العملية إلى مراوغة وتسويف، أو محاولات لخداعنا بتغيير الأسماء دون تغيير الجوهر، فسيُرفع القلم عنا. وسنواصل عملياتنا الجارية بلا هوادة، حتى لا يبقى حجرٌ فوق حجر، ولا رأسٌ فوق كتف، حتى القضاء على آخر إرهابي".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store