logo
هرميةُ السرد والحبكةُ الدائريّةُ في رواية «ماندالا» لمخلد بركات

هرميةُ السرد والحبكةُ الدائريّةُ في رواية «ماندالا» لمخلد بركات

الدستورمنذ 6 أيام
منال العباديعندما يجمع الكاتبُ في روايته بين التعقيد ومحاولة إدراك ما لا يُدرك (البعد الروحي) كما في «اللامرئي» للروسي كليمون، والتشظّي و(تعدّد الرموز) كما في «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، والجرأة و(نقد السياسة عبر الجسد) كما في «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي؛ ويبني روايته على أساس هرمي تكون رواية (ماندالا) للكاتب مخلد بركات.دلالةُ عتبة الرواية «ماندالا» تكمن في استخدام جميع العناصر المحيطة بالنصِّ لتهيئة القارئ (وخاصةً العنوان الغنيّ دلالياً) لدخول عالم روائي يتناول مفاهيم مثل البحث عن الذات، الرحلة الداخلية، التوازن، الكون المصغر للشخصية أو المكان، التناغم مقابل الفوضى، الروحانيات، والتكرار الدائري للأحداث (الحبكة الدائرية ) أو المعاناة بحثًا عن الخلاص، ثم العودة للنقطة ذاتها ما هي إلا انطلاقة للقارئ ليغوص في بحر هائج من جرعات تشويقية تغرقه ثم تحييه من جديد. نهج الكاتبُ في بناء حبكته تقنية الحبكة الدائرية كرواية (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ. وفي قصة «الشيخ والبحر» لـ(آرنست همنغواي) حيث أنَّ الصياد يعود بعد رحلة صيد طويلة ومضنية، ولكنَّه يعود بشيء من الخبرة والمعرفة الجديدة. ومسرحية «الملك لير» لشكسبير حيث تبدأ القصة بملك يعاني من جنون ويفقد كل شيء، وتنتهي به وهو يستعيد بعضًا من عقله وحكمته. تُقدّم الرواية (خريطة ماندالا) للهزيمة العربية عبر شخصيات تبحث عن اكتمال دائرة وجدت في عالم مُفكّك، حيث يصبح السجن استعارةً للوطن، والرمل قبراً للذاكرة، والماندالا خريطةً للخلاص. تميّزت رواية (ماندالا) باستخدامها البنية الدائرية؛ حيث تشكّل الماندالا (الدائرة المقدسة في البوذية والهندوسية) الإطار البنيوي للرواية، حينما تتكرر الشخصيات والأحداث بشكل دائري غير خطي، وقد تكون كما في علم النفس التأملي والتعبير عن الذات وانعكاس للعمليات العميقة في اللاوعي لتعزيز الوعي الذاتي. امتلأت الرواية بالرمزية (العامة) حيث تمثّل اكتمال الذات والبحث عن الوحدة في الفوضى، وبداية عملية الشفاء كما لاحظ (كارل يونغ) (ص5). استخدم الكاتب التقنيات السردية المعتمدة على تعدّد الأصوات (البوليفونية) حيث أنَّ السرد ينتقل بين شخصيات متعددة (صلاح، عبدالسلام، يحيى، ميساء... الخ) بضمير المتكلم، مما يخلق تشظياً صوتياً يعكس تشظي الهُوية. وتعمد إلى إبراز القفزات الزمنية والانزياح الزمني حيث تقفز الأحداث بين زمن السجن (الحاضر) وذكريات الطفولة في البادية (الماضي) وحكايات بيروت وعمان (الماضي القريب) بطريقة السهل الممتنع حيث يتنقل قلم الكاتب بكل رشاقة بين هذه الأزمنة. ليتساءل القارئ هنا: هل هذه الأزمنة هي (ماندالا الزمن) الذي يتم من خلاله تشكيل حياه الفرد؟! وهل تمثل سنوات عمره الملون بألوان أقداره التي تصطبغ بها؟!.حاول الكاتب أن يملأ روايته بالأحداث لكن هل استوعبت أوراقه كل ما أراد إيصاله؟ هل استطاع أن يكتب جميع ما شعر به من الفراغ الوجودي، أو الصمت القسري في السجون، أو مساحات الذاكرة المفقودة؟ أم أنَّ القلم والحبر عجزا عن وصفها. لكلِّ روايةٍ رموزٌ مركزية يزين فيها الكاتب نحر روايته، وكان الرمل والماء من أهم هذه الرموز عند مخلد بركات. فالرملُ قد يرمز إلى التلاشي والموت («أغرق في الصمت»، «أنا محض قبر بلا ملامح» ص22). أو جعلها وسيطًا بين عالمين (الحياة والموت) حيث يُدفن الأحياء (صلاح)؛ ويدفن به الموتى (ص23). أمَّا الماء فهو نقيضُ الرمل، يرمز للحياة والذاكرة («نوايا الرمل والماء» – العنوان الفرعي). وغيابه يعكس العطش الوجودي («سبخة العطش» ص34). إذا جمع بين الرمل (الموت) والماء (الحياة) لخلق مفارقة ثنائية بين الحياة والموت. كما لعبت الخيول البيضاء رمزية الخلاص والأمل («ستمر الخيول من هنا بيضاء كقباب الفرح» ص7) التي ينتظرها السجناء.بالنسبة للنجمة السداسية ما كانت إلا تجسيداً للماندالا (ص42-46)، التي تدلُّ على الدجّال في الكتاب المقدس 666 وحاول الكاتب الربط بين الشخصيات الست (اللوحات) كمكونات للذات المتشظّية (بالنجمة السداسية ) حيث أنَّها تدلُّ أساساً على خلق الاتزان بين الشخصيات المتضادة، وتداخل مثلثين معاً، ربما مثلث الخير والشر، أو التزاوج التكراري، ذكر- أنثى، لتدور الحياة، ومن هنا ربما تحمل رسالة الاختلاف/ التشظي والتداخل القدري، وقد استخدمها الكاتب لتدلَّ على جزء من نظرية المؤامرة التي تبناها (دان براون) في حبكة روايته شيفرة دافنشي. كانت الشخصيات في الرواية تمثيلاً وانعكاساً نفسياً؛ فمثلاً صلاح العوّاد ذلك المثقف المهزوم؛ (دكتور علم النفس) يمثّل العجز عن التغيير رغم الوعي (ص17) (تفكيك الشخصية العربية المهزومة من منظور علم النفس) أمَّا شخصية عبدالسلام العياشي ذلك المناضل الثوري (المغربي) حيث يمثل التناقض بين الماضي النضالي والحاضر السجين (ص13) أمَّا تفعيل دور المرأة الأنثى الغامضة بشخصية ميساء. وكانت تشكّل الساحرة في تجسيد الخيال والوهم (ص41: «أنت طبق في تحلل») ويحيى التنوري الشاعر البابلي (الصابئي) كان يجسّد صراع الهُوية بين التراث والمنفى (ص75) برزت في الرواية جلياً ثيمة الهزيمة الوجودية فكانت هزيمة 1967 كجرح جماعي («وقعتُ في البئر الرومانية عام 1967» ص67). وانهيار المشاريع السياسية (الشيوعية، القومية) عبر شخصيات مناضلي السجون. كما برزت ثيمة تشظي الهُوية من خلال الشخصيات التي تفقد ملامحها («ضاعت ملامحي» ص12) وتتساءل: «هل لي ذاكرة مثل البشر؟» (ص33). أمَّا الجسد يفقد معناه («أنا مشطور إلى نصفين» ص62). كما كانت ثيمة الذاكرة كسجن حيث أنَّ السجناء يعيشون عبر الذكريات («أنا ميت يعتاش على الذاكرة» ص7). وأنَّ الذاكرة تُعاد كتابتها بواسطة «القزم» الكاتب (ص60)، مما يشكّك في واقعيتها. كانت المرأة ثيمة كسرّ الغموض فالنساء (ألكساندرا، ميساء، هدية) يمثلن اللغز الأنثوي الذي لا يُحل، وتمثيل الرغبة المكبوتة. كان الأسلوب الأدبي في الرواية غنياً ومكتنزاً باللغة الشعرية واستعارة الصحراء ككائن حي («الصحراء بنت الحكمة» ص22). والعمل على تكثيف الصور («أصوات الجنازير بشعة.. وصواريخ الكاتيوشا تنير السما» ص13). كما أنَّ التناص الديني الأسطوري كان واضحاً في إشارات لجلجامش وأوتنابشتيم (ص35)، كارل يونغ (ص19)، الصابئة المندائيين (ص116). القارئ للرواية يجد العديد من اللهجات المحكية حيث مزج اللهجات (مغربية، عراقية، أردنية، لبنانية) لتعزيز الواقعية وتعدّد الأصوات وتنوع البيئات بأصوات ولهجات أصحابها.وجه الكاتب رسائل عديدة من خلال النقد السياسي وفضح قمع الأنظمة (السجن، التعذيب) وخيبة أمل المثقفين. وإثارة السؤال الوجودي: «هل نحن واقع أم خيال؟» (ص60) كما عمل على إعادة تعريف الإنسان خارج إطارات الهزيمة. وكان تفعيل قوة الفن: الماندالا واللوحات (ص42) كفنٍّ شافٍ، والرواية كخلاص من العدمية وكمحاولة للانعتاق عبر الروحانيات. «الروح الهائمة هي البديل.. لتصير نوراً من الكارما» (ص71) يجد القارئ أنَّ هناك رؤية متعمقة ومتماسكة لرواية معقّدة، ويكشف عن طبقاتها المتعدّدة (السياسية، التاريخية، النفسية، الوجودية، الروحية، الفنية) قد رسمها الكاتب ببراعة ونجح في إثبات فرضيته المركزية حول كون الرواية «تشريحاً للهزيمة العربية» عبر تحليل مدعم جيداً بالتقنيات والرموز والشخصيات.سؤالٌ يتبادر لأذهاننا: هل أصبحنا ضمن دائرة مليئة بالفراغات ولا بدَّ من ملئها بالألوان المناسبة للتخلص من جميع الأفكار السلبية التي أحاطت بنا؟ وهل نحتاج لاكتشاف عمق ذواتنا للوصول إلى مرحلة الخلاص والتشافي؟!. أم أنَّها (الماندالا الكونية) الرمزية الكونية التي تمثّل دورات الحياة (الولادة، الموت، التجدّد) ولا نملك الخلاص لأنفسنا. السؤال الذي يطرح نفسه بعد قراءة الرواية: هل الخلاص فرديٌّ أم كونيّ؟.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

هرميةُ السرد والحبكةُ الدائريّةُ في رواية «ماندالا» لمخلد بركات
هرميةُ السرد والحبكةُ الدائريّةُ في رواية «ماندالا» لمخلد بركات

الدستور

timeمنذ 6 أيام

  • الدستور

هرميةُ السرد والحبكةُ الدائريّةُ في رواية «ماندالا» لمخلد بركات

منال العباديعندما يجمع الكاتبُ في روايته بين التعقيد ومحاولة إدراك ما لا يُدرك (البعد الروحي) كما في «اللامرئي» للروسي كليمون، والتشظّي و(تعدّد الرموز) كما في «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، والجرأة و(نقد السياسة عبر الجسد) كما في «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي؛ ويبني روايته على أساس هرمي تكون رواية (ماندالا) للكاتب مخلد بركات.دلالةُ عتبة الرواية «ماندالا» تكمن في استخدام جميع العناصر المحيطة بالنصِّ لتهيئة القارئ (وخاصةً العنوان الغنيّ دلالياً) لدخول عالم روائي يتناول مفاهيم مثل البحث عن الذات، الرحلة الداخلية، التوازن، الكون المصغر للشخصية أو المكان، التناغم مقابل الفوضى، الروحانيات، والتكرار الدائري للأحداث (الحبكة الدائرية ) أو المعاناة بحثًا عن الخلاص، ثم العودة للنقطة ذاتها ما هي إلا انطلاقة للقارئ ليغوص في بحر هائج من جرعات تشويقية تغرقه ثم تحييه من جديد. نهج الكاتبُ في بناء حبكته تقنية الحبكة الدائرية كرواية (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ. وفي قصة «الشيخ والبحر» لـ(آرنست همنغواي) حيث أنَّ الصياد يعود بعد رحلة صيد طويلة ومضنية، ولكنَّه يعود بشيء من الخبرة والمعرفة الجديدة. ومسرحية «الملك لير» لشكسبير حيث تبدأ القصة بملك يعاني من جنون ويفقد كل شيء، وتنتهي به وهو يستعيد بعضًا من عقله وحكمته. تُقدّم الرواية (خريطة ماندالا) للهزيمة العربية عبر شخصيات تبحث عن اكتمال دائرة وجدت في عالم مُفكّك، حيث يصبح السجن استعارةً للوطن، والرمل قبراً للذاكرة، والماندالا خريطةً للخلاص. تميّزت رواية (ماندالا) باستخدامها البنية الدائرية؛ حيث تشكّل الماندالا (الدائرة المقدسة في البوذية والهندوسية) الإطار البنيوي للرواية، حينما تتكرر الشخصيات والأحداث بشكل دائري غير خطي، وقد تكون كما في علم النفس التأملي والتعبير عن الذات وانعكاس للعمليات العميقة في اللاوعي لتعزيز الوعي الذاتي. امتلأت الرواية بالرمزية (العامة) حيث تمثّل اكتمال الذات والبحث عن الوحدة في الفوضى، وبداية عملية الشفاء كما لاحظ (كارل يونغ) (ص5). استخدم الكاتب التقنيات السردية المعتمدة على تعدّد الأصوات (البوليفونية) حيث أنَّ السرد ينتقل بين شخصيات متعددة (صلاح، عبدالسلام، يحيى، ميساء... الخ) بضمير المتكلم، مما يخلق تشظياً صوتياً يعكس تشظي الهُوية. وتعمد إلى إبراز القفزات الزمنية والانزياح الزمني حيث تقفز الأحداث بين زمن السجن (الحاضر) وذكريات الطفولة في البادية (الماضي) وحكايات بيروت وعمان (الماضي القريب) بطريقة السهل الممتنع حيث يتنقل قلم الكاتب بكل رشاقة بين هذه الأزمنة. ليتساءل القارئ هنا: هل هذه الأزمنة هي (ماندالا الزمن) الذي يتم من خلاله تشكيل حياه الفرد؟! وهل تمثل سنوات عمره الملون بألوان أقداره التي تصطبغ بها؟!.حاول الكاتب أن يملأ روايته بالأحداث لكن هل استوعبت أوراقه كل ما أراد إيصاله؟ هل استطاع أن يكتب جميع ما شعر به من الفراغ الوجودي، أو الصمت القسري في السجون، أو مساحات الذاكرة المفقودة؟ أم أنَّ القلم والحبر عجزا عن وصفها. لكلِّ روايةٍ رموزٌ مركزية يزين فيها الكاتب نحر روايته، وكان الرمل والماء من أهم هذه الرموز عند مخلد بركات. فالرملُ قد يرمز إلى التلاشي والموت («أغرق في الصمت»، «أنا محض قبر بلا ملامح» ص22). أو جعلها وسيطًا بين عالمين (الحياة والموت) حيث يُدفن الأحياء (صلاح)؛ ويدفن به الموتى (ص23). أمَّا الماء فهو نقيضُ الرمل، يرمز للحياة والذاكرة («نوايا الرمل والماء» – العنوان الفرعي). وغيابه يعكس العطش الوجودي («سبخة العطش» ص34). إذا جمع بين الرمل (الموت) والماء (الحياة) لخلق مفارقة ثنائية بين الحياة والموت. كما لعبت الخيول البيضاء رمزية الخلاص والأمل («ستمر الخيول من هنا بيضاء كقباب الفرح» ص7) التي ينتظرها السجناء.بالنسبة للنجمة السداسية ما كانت إلا تجسيداً للماندالا (ص42-46)، التي تدلُّ على الدجّال في الكتاب المقدس 666 وحاول الكاتب الربط بين الشخصيات الست (اللوحات) كمكونات للذات المتشظّية (بالنجمة السداسية ) حيث أنَّها تدلُّ أساساً على خلق الاتزان بين الشخصيات المتضادة، وتداخل مثلثين معاً، ربما مثلث الخير والشر، أو التزاوج التكراري، ذكر- أنثى، لتدور الحياة، ومن هنا ربما تحمل رسالة الاختلاف/ التشظي والتداخل القدري، وقد استخدمها الكاتب لتدلَّ على جزء من نظرية المؤامرة التي تبناها (دان براون) في حبكة روايته شيفرة دافنشي. كانت الشخصيات في الرواية تمثيلاً وانعكاساً نفسياً؛ فمثلاً صلاح العوّاد ذلك المثقف المهزوم؛ (دكتور علم النفس) يمثّل العجز عن التغيير رغم الوعي (ص17) (تفكيك الشخصية العربية المهزومة من منظور علم النفس) أمَّا شخصية عبدالسلام العياشي ذلك المناضل الثوري (المغربي) حيث يمثل التناقض بين الماضي النضالي والحاضر السجين (ص13) أمَّا تفعيل دور المرأة الأنثى الغامضة بشخصية ميساء. وكانت تشكّل الساحرة في تجسيد الخيال والوهم (ص41: «أنت طبق في تحلل») ويحيى التنوري الشاعر البابلي (الصابئي) كان يجسّد صراع الهُوية بين التراث والمنفى (ص75) برزت في الرواية جلياً ثيمة الهزيمة الوجودية فكانت هزيمة 1967 كجرح جماعي («وقعتُ في البئر الرومانية عام 1967» ص67). وانهيار المشاريع السياسية (الشيوعية، القومية) عبر شخصيات مناضلي السجون. كما برزت ثيمة تشظي الهُوية من خلال الشخصيات التي تفقد ملامحها («ضاعت ملامحي» ص12) وتتساءل: «هل لي ذاكرة مثل البشر؟» (ص33). أمَّا الجسد يفقد معناه («أنا مشطور إلى نصفين» ص62). كما كانت ثيمة الذاكرة كسجن حيث أنَّ السجناء يعيشون عبر الذكريات («أنا ميت يعتاش على الذاكرة» ص7). وأنَّ الذاكرة تُعاد كتابتها بواسطة «القزم» الكاتب (ص60)، مما يشكّك في واقعيتها. كانت المرأة ثيمة كسرّ الغموض فالنساء (ألكساندرا، ميساء، هدية) يمثلن اللغز الأنثوي الذي لا يُحل، وتمثيل الرغبة المكبوتة. كان الأسلوب الأدبي في الرواية غنياً ومكتنزاً باللغة الشعرية واستعارة الصحراء ككائن حي («الصحراء بنت الحكمة» ص22). والعمل على تكثيف الصور («أصوات الجنازير بشعة.. وصواريخ الكاتيوشا تنير السما» ص13). كما أنَّ التناص الديني الأسطوري كان واضحاً في إشارات لجلجامش وأوتنابشتيم (ص35)، كارل يونغ (ص19)، الصابئة المندائيين (ص116). القارئ للرواية يجد العديد من اللهجات المحكية حيث مزج اللهجات (مغربية، عراقية، أردنية، لبنانية) لتعزيز الواقعية وتعدّد الأصوات وتنوع البيئات بأصوات ولهجات أصحابها.وجه الكاتب رسائل عديدة من خلال النقد السياسي وفضح قمع الأنظمة (السجن، التعذيب) وخيبة أمل المثقفين. وإثارة السؤال الوجودي: «هل نحن واقع أم خيال؟» (ص60) كما عمل على إعادة تعريف الإنسان خارج إطارات الهزيمة. وكان تفعيل قوة الفن: الماندالا واللوحات (ص42) كفنٍّ شافٍ، والرواية كخلاص من العدمية وكمحاولة للانعتاق عبر الروحانيات. «الروح الهائمة هي البديل.. لتصير نوراً من الكارما» (ص71) يجد القارئ أنَّ هناك رؤية متعمقة ومتماسكة لرواية معقّدة، ويكشف عن طبقاتها المتعدّدة (السياسية، التاريخية، النفسية، الوجودية، الروحية، الفنية) قد رسمها الكاتب ببراعة ونجح في إثبات فرضيته المركزية حول كون الرواية «تشريحاً للهزيمة العربية» عبر تحليل مدعم جيداً بالتقنيات والرموز والشخصيات.سؤالٌ يتبادر لأذهاننا: هل أصبحنا ضمن دائرة مليئة بالفراغات ولا بدَّ من ملئها بالألوان المناسبة للتخلص من جميع الأفكار السلبية التي أحاطت بنا؟ وهل نحتاج لاكتشاف عمق ذواتنا للوصول إلى مرحلة الخلاص والتشافي؟!. أم أنَّها (الماندالا الكونية) الرمزية الكونية التي تمثّل دورات الحياة (الولادة، الموت، التجدّد) ولا نملك الخلاص لأنفسنا. السؤال الذي يطرح نفسه بعد قراءة الرواية: هل الخلاص فرديٌّ أم كونيّ؟.

شهادة إبداعية للأديبة اللبنانية نجوى بركات في "شومان"
شهادة إبداعية للأديبة اللبنانية نجوى بركات في "شومان"

الرأي

time٣٠-٠٧-٢٠٢٥

  • الرأي

شهادة إبداعية للأديبة اللبنانية نجوى بركات في "شومان"

استضاف منتدى مؤسسة عبد الحميد شومان، مساء أمس، الأديبة اللبنانية نجوى بركات في حوارية حملت عنوان "محفزات الكتابة: من بيروت إلى باريس"، والتي قدمتها وأدارت حوارها مع الجمهور الأديبة الأردنية سميحة خريس، وذلك بحضور نخبة من المثقفين والمهتمين بالشأن الأدبي والفكري. وتناولت بركات في شهادتها جوانب متعددة من تجربتها الحياتية والإبداعية، منذ انتقالها من بيروت إلى باريس وهي ابنة تسعة عشر عاماً، موضحةً أن العاصمة الفرنسية، رغم كونها محطة استقرار طويلة، لم تترك أثراً مباشراً على أعمالها الروائية إلا من خلال رواية واحدة باللغة الفرنسية بعنوان "مستأجرة شارع بودو فير". واعتبرت أن فضل باريس تجلّى في منحها فرص التعرف على الآخر، والانفتاح على ثقافات متعددة، ما عمّق علاقتها بلغتها الأم، اللغة العربية. وقالت بركات: "خرجت إلى باريس. الحرب التي انتظرت انتهاءها سنوات لم تنته، وكنت أشعر بأنني ماضية إلى مزيد من التخلي والضمور والانسحاب. لم تكن هجرتي إلى باريس سهلة، ولا إقامتي فيها؛ برد وعزلة وقلق وخوف. الحرب استمرت وقد أضيف إليها صقيع الثلج، والوحدة، وعراء هائل لم أتمكن من احتوائه أبدا". وأضافت أن الكتابة دخلت حياتها في باريس دون تخطيط، واصفةً لحظة البداية بأنها كانت كـ"الحمى"، مشيرةً إلى أن نبع الكتابة تفجر من داخلها دون سابق إنذار، ولم تتمكن من إيقافه. وتحدثت بركات كذلك عن تجربتها في تأسيس محترف "كيف تكتب رواية"، مبينةً أن المشروع وُلد من رغبة حقيقية في تمكين كتّاب شباب من العالم العربي، وتقديم فرصة حقيقية لهم لتطوير مهاراتهم. ولفتت إلى أن المحترف، وبعد قرابة عشرة أعوام من انطلاقه، أسهم في إصدار أكثر من 23 رواية طبعت في دور نشر مرموقة، ونالت جوائز أدبية بارزة. ولدت نجوى بركات في بيروت عام 1966، وغادرت إلى باريس بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. حصلت على دبلوم دراسات عليا في المسرح والسينما من جامعة السوربون، وعملت صحفية حرة في عدد من الصحف والمجلات العربية، كما أعدّت وقدّمت برامج ثقافية في إذاعات دولية، مثل إذاعة فرنسا الدولية وهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وأسهمت في إعداد العديد من السيناريوهات الروائية والوثائقية، من أبرزها برنامج "موعد في المهجر" الذي عُرض على قناة الجزيرة. أصدرت بركات أولى رواياتها "المحول" عام 1986، وتوالت بعدها أعمالها التي تنوّعت بين الرواية والسرد الصحفي، ومن أبرزها: "حياة وآلام حمد ابن سلامة"، "باص الأوادم"، "يا سلام"، "لغة السر"، "مستر نون"، و"غيبة مي"، إلى جانب روايتها الفرنسية "La locataire du Pot de fer". ونالت روايتها "باص الأوادم" جائزة المنتدى الثقافي في باريس عام 1996، فيما وصلت رواية "لغة السر" إلى القائمة القصيرة لجائزة الأدب العربي في فرنسا، وأدرجت على قائمة جائزة "فيمينا" الفرنسية للأدب المترجم.

«الخماسين» لغالب هلسا وسرد ما بعد الحداثة.. قراءة ثانية
«الخماسين» لغالب هلسا وسرد ما بعد الحداثة.. قراءة ثانية

الرأي

time٢٣-٠٧-٢٠٢٥

  • الرأي

«الخماسين» لغالب هلسا وسرد ما بعد الحداثة.. قراءة ثانية

بعد مرور أزيد من عشرين عامًا على القراءة الأولى لرواية غالب هلسا الثانية (الخماسين)، والصادرة في طبعتها الأولى عام 1975 عن دار الثقافة الجديدة في القاهرة، يقودني التطواف بين الروايات العربية والعالمية إلى إعادة اكتشاف عوالم هلسا من خلال هذه الرواية التي تخضع لها من صفحاتها الأولى وتستسلم لصوت الرّاوي فيها وصوت غالب وليلى وليزا وبسيوني وسعاد وبقية الشخصيات التي حافظت على خصوصيتها وصوتها الخاص بها. الجيل الروائي ينتمي غالب إلى جيل الستينيات وهو الجيل الذي حلّق بأحلامه وآماله وتنظيره حتى جاوز الغيم ثم جاءت نكسة 67 لتعصف بكل شيء، كانت صدمة كبيرة لا يمكن للكلمات أن تصف وقعها على المثقفين والكتاب؛ فظهر تأثير هذا الزلزال على كتاباتهم التي بدأ الشك والخيبة والعدمية بالتسرب إلى مضامينها. ولا ننسى هنا الإشارة إلى أن معظم أفراد هذا الجيل تأثر بالأفكار والأيدولوجيّات الشيوعية والقومية وآمنوا بقدرتهم على التغيير ليس بالكلمة فحسب بل بالكفاح المسلح أيضًا. إن فهم السياق التاريخي والسياسي والثقافي والاجتماعي للعمل وخلفية الكاتب يساعد بلا شك في عملية التذوق والتلقي ويطرح أفكارًا وأسئلة متصلة بهذا الواقع الملتبس. ومن جهة أخرى، فإن غالب بالإضافة إلى كونه شيوعيًّا وروائيًّا وقاصًا هو مترجم عن الإنجليزية وله أيضًا مؤلفات في الفكر مما يجعل منه حالة فريدة مشتبكة مع تفاصيلها النفسية والرؤيويّة والأيدولوجيّة، وله منظوره الخاص بالإبداع وفلسفته وجدواه، وهو يرى أن الكتابة الحقيقية هي الناجمة عن تجربة شخصية ومكاشفة شفّافة يهذّبها بالخيال لتصبح فنًا روائيًا. الفضاء المصري تدور الرواية في فضاء قاهري وسكندري مشبع بتفاصيل المكان من أحياء وشوارع وميادين وأزقة والنيل والكورنيش والبحر والبلاج والشاطئ وغبار الخماسين الذي ظل يطفو على سطح السرد كل حين، وهذا يعكس اهتمام غالب المعروف بالمكان، ولعل حالة الاغتراب التي عاشها في عواصم عربية عديدة جعلته يبحث عن مكانه الأول فيما حوله من ملامح ومشاهد وأشخاص، هي حالة من الحنين والنوستالجيا إلى ذكريات الطفولة والصبا في سعي دؤوب للوصول إلى التوازن النفسي والانعتاق من هذا الحمل الثقيل. كما ظهرت اللهجة المصرية في الحوار لتساهم في كشف جوّانيّة الشخصيات وطبيعة العلاقات التي تنظم حياة الناس في ذلك الزمن الذي تحيل إليه الرواية وهو في أغلبه يتمركز حول نهاية عقد الستينيات ما عدا بعض مقاطع الاسترجاع التي تعود إلى الخمسينيات. وما شخصيّة بسيوني وعباس وقرني وليلى وسعاد والمرأة في الإسكندرية وغيرهم سوى قطع في لوحة (بزل) كبيرة تمثل أطياف المجتمع المصري ومزاجه العام ونبضه وألوانه. وفي واقع الحال كان غالب جزءًا من المشهد الثقافي المصري الزاخر بقامات إبداعية وثقافية، وليس أدل على انخراطه في الفعل الثقافي القاهري وحضوره للصالونات الثقافية المهمة في تلك الفترة أكثر مما ذكره نزيه أبو نضال في كتابه الرصين (غالب هلسا «اكتمال الدائرة») في صفحة 37: «بهاء طاهر، في شهادة إبداعية له، تناول خلالها أدب جيل الستينيات في مصر، لافتًا إلى العلاقة التي كانت تجمعه هو وأبناء جيله مع غالب هلسا، وكيف كانت شقته بالدقي ملتقى للكتاب، مشيرًا إلى أن أحدهم كتب فيما بعد رواية تحمل عنوان (شقة الدقي)، ولعله يقصد علاء الديب في روايته (أحلام وردية) التي أفرد فيها مساحة واسعة لغالب هلسا وشقة الدقي». تعريف بالشخصيات أورد هنا إضاءة بسيطة على بعض الشخصيات في محاولة لفهم العلاقات البينيّة التي تربطهم ببعض. غالب: شاب أردني يعمل مترجمًا في وكالة الأنباء الصينية ثم وكالة الأنباء الألمانية في القاهرة، تظهر في حياته أكثر من فتاة وامرأة مثل ليلى وسعاد وغيرهما، وهي علاقات ملتبسة فيها اشتهاء وتذلل وكبرياء ومعاناة في أجواء لا تظهر فيها الحدود واضحة بين الدال والمدلول، وكأنه يترك لنا المجال مفتوحًا للبحث عن معنى ما. يكتب رواية يحاول من خلالها اكتشاف ذاته القلقة والتخفّف من هذا الشعور الخماسيني الكئيب. ليلى: لديها أحلام عريضة للمستقبل وتسعى للتحرر من قبضة المجتمع الذكوري من خلال تحقيق ذاتها. أحيانًا تبدو مترددة وغير قادرة على تحديد هدف واضح في الحياة والحب والزواج، وأن كل ما تفكر فيه مجرد أحلام يقظة. بسيوني: يعمل في وكالة الأنباء الألمانية. تتبعتْ الرواية حياته من الطفولة إلى الكهولة وظهر كشخصية متقلبة وانتهازيّة يسعى لتحسين أوضاعه بغض النظر عن الثمن والوسيلة. ورد في الرواية: «إننا لا نشك لحظة أنه بسبب المعيشة المشتركة والنوم في حجرة واحدة مع الأب والأم، أن بسيوني قد شاهد الأم المشتهاة فرويديًا تغتصب أمام عينيه وتئن متعة وألمًا أكثر من مرّة». انتهى به الحال مدمنًا على الأفيون. مرسي: يعمل سائقًا في الوكالة، ويمثل الطبقة الكادحة ومعاناتها، على خلاف مع عباس. قرني: فتى أسمر البشرة في الخامسة عشرة من عمره، يعمل فرّاشًا في الوكالة. يطلب إجازة وسلفة بسبب وفاة والدته ليتّضح لاحقًا أنها تموت للمرة الرابعة. عباس: يعمل طابعًا في الوكالة وهو الشخص الذي يتقرب من صاحب العمل على حساب زملائه. سعاد: سيدة مطلقة بسبب عدم قدرتها على الإنجاب، ترتبط بعلاقة عابرة مع غالب. وهي مثال على استبداد المجتمع بالمرأة. ليزا: أمريكية تقيم في بنسيون في القاهرة ولها مجموعة من الأصدقاء مثل محمد من غانا وإدي وفريدا. تجد في الشرق مجتمعًا روحيًّا على عكس المجتمع المادي في الغرب. المرأة في الإسكندرية: جاءت في الجزء الثالث (ما بعد الرواية)، وقد احتل هذا الجزء ما يعادل سدس الرواية ولكن كل ما عرفناه عنها كان من خلال أفكار غالب وتحليله لحركاتها وسكناتها. يتحدث غالب في هذا الفصل وغيره من الفصول عن المرأة الحلم، والمرأة الواقع وشتات الرجل وشقائه بين هذين النموذجين، ولطالما شكّلت هذه الفكرة هاجسًا في كتاباته. تيار الوعي من الواضح في الخماسين وغيرها من أعماله تأثر غالب بتيار الوعي وروايات وليام فوكنر وفرجينيا وولف وجيمس جويس من خلال التداعي وانثيال الأفكار وتدفقها في حالة من تعرية الذات والكشف الطوعي عن الهواجس والقلق والأمل والخوف والحب واليأس، وهذا دليل على مواكبة غالب للتيارات الأدبية في الرواية العالمية واطلاعه عليها في فترة مبكرة من حياته ليجد نفسه قريبًا من هذا النوع من الكتابة والمكاشفة مقرونًا بلغته الخاصة وثقافته وشخصيته وفكره. رمزية الخماسين هي رواية في سرد ما بعد الحداثة تعتمد على تقنيات من الأحلام وتيار الوعي واختلاط الحلم بالحقيقة والاستباق والاسترجاع وتحييد الحكاية المركزية وتشظية الحدث والتركيز على الذات ومكابدتها وشعورها بالقلق والعدمية. ظلت أجواء الخماسين على مدار الرواية سببًا للضيق وانسداد الأفق والسوداويّة والشعور المر بالاكتئاب، ولم يكن هذا التأفّف من غبار الخماسين سوى انعكاس لشعور غالب (بطل الرواية) بالاغتراب النفسي والفكري وحنينه إلى الماضي النقي والشفاف، وربما هو شعور خفي بالهزيمة الداخلية لأنه لم يجد ما كان يبحث عنه، ونلمس هذا الأمر في تذبذب علاقاته مع النساء وتعددها. وبلا شك فإن تبعات نكسة حزيران ظهرت في إشارات سريعة هنا وهناك مثل ما ورد في أفكار غالب: «ذو العين الواحدة يطاردني من زمن: علينا ألا نجعل العرب ينسون ليوم واحد ما حدث. سوف نجعل كابوسه يجثم على قلوبهم»، ولكن ثقل الهزيمة لم يكن المحرك الوحيد لهذه القتامة، بل هي مجموعة من الظروف الخارجية (المزاج العام) والداخلية (النفسية) أدت إلى هذا الإحساس الخماسيني الكئيب. ومن الواضح تعمّد غالب ترك الباب مواربًا فيما يتعلق برمزية العنوان ليؤكد مرة أخرى أنّ العمل الذي يقتصر على تأويل واحد أصبح من الماضي؛ فالكاتب ينثر الإشارات في النص والقارئ يلتقط منها ما تسعفه لذلك ثقافته وذائقته ومدى اجتهاده في البحث والتنقيب. وعندما انتقل السرد إلى الإسكندرية اختفت أجواء الخماسين لكن ظل هذا الإحساس جاثمًا على صدره. يقول: «لكنني رغم هذا، احتفظت بجو الخماسين في داخلي، بإحساس المهانة والإرهاق اللذين يعانيهما من يعيش في قلبه». هندسة الرواية جاء بناء الرواية مندغمًا مع اللعبة السرديّة ومكملًا لبعدها الحداثي أو ما بعد حداثي؛ فقد اشتملت على ثلاثة أجزاء: الخماسين، عندما توحدت الرؤى الممزقة، ما بعد الرواية. قُسّم كل جزء إلى عدة فصول متفاوتة الطول. الجزء الثالث الذي عنوانه ما بعد الرواية مكانه الإسكندرية وليس القاهرة كما في الجزئين الأوّلين، ويتبين لدينا من خلال نص موارب أن الجزئين: الأوّل والثاني يشكّلان الرواية التي يكتبها غالب وقد جاء على ذكرها غير مرة، كما ورد على لسانه في الفصل الأخير من الرواية: «كانت تلك لحظة انبعاث. على الفور أخذ العالم المحيط بي يكتسب طابعه المزدوج: كونه واقعة عينيّة، وكونه رمزًا ومادة للفن. ثم أخذ هذا الطابع المزدوج يتوحد، ويندرج في سياق تلك الرواية التي توقفت عن كتابتها». العلاقة مع السلطة وتظهر هذه العلاقة واضحة في الفصل الخامس (عالم الطيرة والفزع) من الجزء الأول عندما يُستدعى غالب إلى وزارة الداخلية، وهناك خلال انتظار مقابلة المحقق نرى الأشخاص الذين في القاعة وحركاتهم وهيئاتهم ونعرف أنهم ينتمون لخلفيات وجنسيات مختلفة، ونرى أيضًا القمع والإذلال والتنكيل الذي يتعرض إليه الموقوفون والمساجين في مقاطع اختلط فيها الاسترجاع مع الحاضر لتؤكد أنّ العلاقة مبنية على الشك وانعدام الثقة والإقصاء. الوصف الحسي ثمة شخصية محببة للغة غالب تجذب القارئ وتشده لمتابعة السرد حتى لو غاب الحدث، فهو يرعاها بحزم الأب، ويحتضنها بعاطفة الأم فتأتي شديدة دون تيبّس ورقيقة دون ميوعة ومشرقة دون تقصّد الإبهار ومتينة دون تجبّر وإكراه. وقد برع هلسا في الوصف كأنه يرسم لوحة باهية بكلمات بسيطة وتعابير عفوية. تقاطعات الروائي والراوي من المعروف أن غالب خلال فترة إقامته في القاهرة عمل في وكالة أنباء الصين الجديدة ووكالة أنباء ألمانيا الديموقراطية، وهذا ما يظهر عليه بطل الخماسين اسمًا وصفة بل زاد على ذلك أن جعل بطله بصدد كتابة رواية فتقاطع هنا الاسم والوظيفة والشغف، وعن التقاطع في الجوانب النفسية والفكرية (الاهتمام بالماركسية والوجودية) تشير الرواية إلى ذلك في عدة مواضع. يقول غالب هلسا في معرض أفكاره ووعيه في الخماسين: «إنه ليس الواقع المحايد المبذول للجميع، بل واقعي الخاص جدًّا، عالم خام، ميت أمامي أمنحه صورته أنا، ولهذا فأنا في حقيقة الأمر لا أكتب إلا عن نفسي». غالب هلسا تجربة أردنية وعربية إبداعية أصيلة نحتاج لإعادة قراءة رواياته وقصصه وكتبه المترجمة ومؤلفاته الفكرية ومقالاته النقدية؛ فنحن في قراءاتنا في المرحلة العمريّة المبكرة نبحث أكثر عن الحكاية والشخصية الطريفة، ولكن بمضي السنين نصبح أكثر نضجًا وأكثر تطلّبًا ونبحث عن أشياء كثيرة ربما تغيب عنها الحكاية وربما تتذيل قائمة ما يثير دهشتنا ويحمّسنا للقراءة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store