logo
لماذا نعود دوما إلى هؤلاء الفلاسفة المسلمين؟

لماذا نعود دوما إلى هؤلاء الفلاسفة المسلمين؟

Independent عربية١٨-٠٣-٢٠٢٥

بلغت الحضارة الإسلامية ذروة المجد، فيما كان الغرب يعيش في عصور الظلام والجمود، وكان "الدين" جوهر هذه الحضارة بما رسخه من منهج تجريبي - عقلي، وذلك حين دعا الإسلام المسلمين أن ينتشروا في الأرض، لطلب العلم، وترتب على ذلك ظهور مجموعة كبيرة من العلماء في شتى فروع العلم الطبيعي مثل جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وأبي بكر الرازي، كذلك برز فيهم المفكرون والفلاسفة مثل الفارابي الذي لقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو، والكندي وابن سينا وأبي حامد الغزالي وابن رشد وابن خلدون، والفقهاء مثل أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ومالك والشافعي والليث بن سعد، والشعراء مثل بشار بن برد والبحتري وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري، والكتاب مثل عبدالحميد الكاتب وابن المقفع والجاحظ وأبي حيان التوحيدي.
كتاب الفلاسفة العرب (دار روابط)
واللافت أن الصناع الأوائل للحضارة الإسلامية كانوا يعون أنهم قادرون - بأصالتهم الفكرية والدينية - على أن يهضموا التراث الفكري السابق عليهم ويتجاوزوه، فنقلوا عن اليونان في شتى فروع المعرفة من المنطق والفلسفة إلى السياسة والأخلاق وشرحوا كل ذلك وتجاوزوه، وكان ذلك سبباً رئيساً في نهضة الغرب وبدء حضارته بعدما شرح ابن رشد فلسفة أرسطو حتى لقب بالشارح الأعظم، والمؤسف أنه في وقت كان فيه ابن رشد مشعل الحضارة الأوروبية بدأ العالم الإسلامي في تكفيره وتحريم قراءته وحرق كتبه، وبدأ عصر الجمود الذي كان فيه ابن خلدون هو الاستثناء الوحيد له بما قدمه من مبادئ علم الاجتماع والعمران في مقدمته الشهيرة.
الفارابي وأصالته السياسية
الفارابي (صفحة الفلسفة العربية - فيسبوك)
تجتمع الآراء حول المكانة الفلسفية الكبيرة للفارابي، لكن الخلاف بين مؤرخي الفلسفة من المستشرقين والمسلمين هو حول مدى أصالته، إذ رأوا أنه تابع للفكر اليوناني شرحاً وتأليفاً، ففي المنطق يتبع أرسطو، وفي السياسة هو تابع لأفلاطون في كتابه "الجمهورية" الذي ألف على غراره كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة". والحقيقة هي أن الفارابي، كما ورد في كتاب مصطفى النشار "فلاسفة أيقظوا العالم" الذي صدر عام 1988 عن دار الثقافة في القاهرة، وتتالت طبعاته، ومنها طبعة في إطار "مكتبة الأسرة" عام 2016 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لم يكن إلا فيلسوفاً إسلامياً مجدداً في كل مؤلفاته التي تختلف عن شروحه، فرحلته في الكتابة الفلسفية تدرجت من الشرح والتلخيص إلى التأليف، وبهذا يمكن القول إنه ليس مجرد موفق بين آراء فلاسفة العالم بعضهم بعضاً أو بينهم وبين الإسلام، بل كان رائداً للفلسفة السياسية الإسلامية بعدما هضم التراث اليوناني السابق عليه وتجاوزه تجاوزاً ملحوظاً، ويرجع ذلك إلى أن تنقله بين أقطار الدولة الإسلامية بهدف دراسة أحوالها لعب الدور الرئيس في تشكيل فكره السياسي الذي تمثل - إضافة إلى كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" - في رسالتيه "تحصيل السعادة" و"السياسة المدنية" وكتاب "الفصول المدنية". وبهذه المؤلفات كان الفارابي أول فيلسوف إسلامي يتناول السياسة بالبحث المتعمق المستفيض حتى انفردت فلسفته بطابعها السياسي دون غيره من فلاسفة الإسلام حتى أصبح من الصعب فهم هذه الفلسفة من دون جانبها السياسي، فالسياسة هي نقطة البداية كما أنها الغاية التي استهدفها الفارابي من تفلسفه.
الغزالي ونظرية المعرفة
الغزالي (صفحة الفلسفة العربية - فيسبوك)
أما الغزالي، حجة الإسلام، فامتاز بكونه شخصية موسوعية لها مكانتها الدينية الكبيرة عند كل المسلمين، فهو المتكلم والفيلسوف والمنطقي والفقيه والإمام الصوفي، كما أنه العقلاني صاحب منهج الشك في كتابه "المنقذ من الضلال"، والمجادل الذي يهابه الجميع ويرضخون لحجته وقوة منطقه وهو صاحب الرؤى الصوفية في ما عرف بالتصوف السني، غير أن الغزالي انتصر لإسلام العوام والمتصوفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي اضطر ابن رشد إلى الرد عليه بكتابه "تهافت التهافت"، وكان الغزالي يتمثل جيداً الآية الكريمة: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وذلك في جداله مع غلاة المتكلمين من الشيعة والباطنية ومن رأى أنهم خارجون على الإسلام، فضلاً عن المشركين والملحدين.
وكان يرى أن المواجهة الحضارية بينه وبين غيره إنما أساسها الجدل بلا تعصب، والفهم بلا مغالاة والإبداع بدلاً من الاتباع والاجتهاد بدلاً من الجمود، ويمكن - لكي نفهم الغزالي بصورة أعمق - أن نقسم فلسفته إلى قسمين، الأول هو الجانب السلبي النقدي ويتمثل في نقد الفرق المتطرفة من منطلق واحد هو إخلاصه للإسلام، والثاني هو الجانب الإيجابي البنائي، ويتمثل في منهج المعرفة الذي يعبر بصدق عن روح الغزالي الفكرية المغامرة الحرة، ونعني به المنهج العقلي الذي يقوم على فكرتين أساسيتين: "الشك" و"الحدس الذهني"، وهكذا يمكن وصف رحلة الغزالي الفكرية بأنها بدأت بالحس والمحسوسات ثم انتقلت إلى الإيمان بالعقل وأخيراً يقينها في الحدس والتجليات الصوفية، ومن جانب آخر نجده مشابهاً لديكارت ومن قبله فرنسيس بيكون في أن صدق الفكرة لا يقام على قائلها مهما يكن شأنه بل يقام على البرهان.
ابن خلدون والعصبية
ابن خلدون (صفحة الفلسفة - العربية)
ظهر ابن خلدون في وقت ظن فيه الجميع أن الفلسفة الإسلامية ماثلة إلى الزوال بعدما جف معينها تقريباً بوفاة ابن رشد. ظهر هذا الفيلسوف وعالم الاجتماع الكبير بمقدمته الشهيرة التي كانت - بشهادة أرنولد توينبي - أعظم كتاب من نوعه أبدعه إنسان في كل زمان ومكان، ولم تقتصر المقدمة على علم الاجتماع أو علم العمران كما يسميه ابن خلدون فحسب، بل شملت أسس علم وفلسفة التاريخ وعلم الاقتصاد السياسي وعلم النفس السياسي، وكانت فكرة العصبية التي اهتم بها كثيراً تمثل - عنده - أساس الحكم أو الملك وقد بدأ نظريته تلك بملاحظة سديدة حين أكد أن البدو هم الأصل في العمران البشري وليس الحضر، وهو يقصد بالبدو "أولئك البشر المقتصرين على الضروري في أحوالهم"، فيما الحضر هم "المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم".

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بهذه الملاحظة الذكية ومن خلال هذا المنطق العقلي السلس انتهى ابن خلدون إلى أن البداية كانت تلك المجتمعات البدوية التي تقابل في الاصطلاحات الحديثة المجتمعات البدائية، ومع ذلك يرى ضرورة الانتقال من المجتمعات البدائية إلى المجتمعات الحضرية المتمدنة، لأن المجتمع المدني هو الذي سيتشكل من خلال التمييز بين حاكم ومحكوم وبين دولة وأفراد.
وما يقوله ابن خلدون سابق - بداهة - على ما قاله بعض المفكرين الغربيين مثل فون كرامر حين حاول تطبيق مفهوم العصبية على المجتمعات الأوروبية بخاصة ألمانيا وفرنسا التي استعبدها الرومان ففقدت عزتها وعصبيتها، كذلك وجدت الفكرة نفسها طريقها إلى فلاسفة من أمثال ميكيافيللي، لكن يظل هناك فارق مهم بين ابن خلدون وبينه، حين أباح العنف والخيانة والقتل إذا ما اقتضتها مصلحة الحاكم، فقد رأى ابن خلدون أن ذلك يعد من الأعمال الشريرة، وهكذا فإنه لم يفصل في فلسفته بين الأخلاق والسياسة، فسبق كثيرين إلى كثير من المفاهيم الفلسفية العمرانية والاجتماعية وحتى السياسية، برؤية إسلامية واضحة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

وزارة الشؤون الإسلامية تختتم الدورة العلمية التأصيلية الأولى في سريلانكا
وزارة الشؤون الإسلامية تختتم الدورة العلمية التأصيلية الأولى في سريلانكا

المناطق السعودية

timeمنذ 7 أيام

  • المناطق السعودية

وزارة الشؤون الإسلامية تختتم الدورة العلمية التأصيلية الأولى في سريلانكا

المناطق_متابعات اختتمت وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد – ممثلةً بالملحقية الدينية في الهند، وبالتعاون مع إدارة الشؤون الإسلامية بوزارة الأديان في جمهورية سريلانكا، وتحت إشراف سفارة المملكة العربية السعودية في كولمبو – الدورة العلمية التأصيلية الأولى، التي أُقيمت يومي 14 و 15 مايو 2025م، بمشاركة قرابة (1800) من العلماء والأئمة، ورؤساء الجامعات والجمعيات والمراكز الإسلامية، وعدد من المسؤولين في الوزارات السريلانكية وطلبة العلم. وقدّم خلال الدورة أربع محاضرات علمية متخصصة، ألقاها مدير فرع الوزارة بمنطقة الرياض محمد البريه، ومدير الإدارة العامة للدعوة الرقمية محمد الشهري، تناولوا خلالها أبرز القضايا الشرعية والفكرية المعاصرة، وسبل تعزيز الوعي الديني ونشر منهج الوسطية والاعتدال، إذ شهدت حضورًا وتفاعلًا لافتًا. وعبّر سفير خادم الحرمين الشريفين لدى جمهورية سريلانكا خالد بن حمود القحطاني، عن اعتزازه بهذه الدورة، رافعًا الشكر للقيادة الرشيدة- أيدها الله- على ما تقدمه من دعم ورعاية لبرامج الدعوة والإرشاد، وجهود المملكة المباركة في نشر الإسلام الوسطي وتعزيز التعايش السلمي بين الشعوب، مشيدًا بالتعاون المثمر الذي أبدته إدارة شؤون المسلمين في وزارة الأديان والثقافات السريلانكية، وما وفرته من تسهيلات كان لها بالغ الأثر في تنظيم هذه الدورة على الوجه الأمثل. وأعرب المشاركون عن تقديرهم العميق للمملكة على ما تقدمه من مبادرات نوعية في خدمة الإسلام والمسلمين، مثمنين جهود وزارة الشؤون الإسلامية في نشر منهج أهل السنة والجماعة، وترسيخ خطاب ديني معتدل يسهم في بناء مجتمعات متماسكة، ويحصّن الأفراد من الانحرافات الفكرية، معبرين عن تطلعهم لاستمرار هذه البرامج في المستقبل، لما لها من أثر ملموس في واقع العمل الإسلامي في سريلانكا. يُذكر أن هذه الدورة تأتي ضمن سلسلة من البرامج الدعوية والعلمية التي تنفذها وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالتعاون مع الجهات الإسلامية الرسمية في عدد من الدول، تعزيزًا لدور المملكة الريادي في خدمة الإسلام والمسلمين، وترسيخًا لنهج الوسطية والاعتدال الذي تمثله في المحافل الدولية.

د. العتيبي يستعرض تاريخ اللغة والهوية قبل الإسلام
د. العتيبي يستعرض تاريخ اللغة والهوية قبل الإسلام

سعورس

time١٣-٠٥-٢٠٢٥

  • سعورس

د. العتيبي يستعرض تاريخ اللغة والهوية قبل الإسلام

جاء هذا اللقاء ليس فقط لتقديم كتاب، بل لإحياء أسئلة كبرى عن الوجود العربي، وتكوّن الهوية، ونشأة اللغة، ومسيرة الكتابة في قلب الجزيرة قبل بزوغ الإسلام. وقدّم العتيبي عبر فصول الكتاب الستة رحلة علمية ممتدة، تمزج بين البحث التاريخي الصارم والرؤية الثقافية المستنيرة، في عمل يقع في 453 صفحة من التوثيق والتحليل والاستقراء. وفي رحلة في عمق الجزيرة قبل الإسلام ابتدأ الكتاب بفصل تأصيلي يرسم الإطارين الزماني والمكاني لتاريخ الجزيرة العربية، متتبعاً تصورات الجغرافيين القدامى – من اليونان والرومان إلى الجغرافيين المسلمين – عن تقسيم الجزيرة، مروراً بأحوالها البيئية وتأثيرها على الإنسان في عصور ما قبل التاريخ. وفي فصلٍ آخر اعتُبر غير مسبوق في الطرح، تناول العتيبي الخريطة اللغوية للجزيرة قبل الإسلام، مبرزاً تعددية اللهجات واللغات التي سكنت الرمال والجبال، من العربية الشمالية والجنوبية إلى النقوش التي دونت بلغات قديمة، شكّلت لاحقاً المهاد الذي نهضت عليه اللغة العربية الفصحى. أما الكتابة، فتناولها المؤلف بوصفها شاهداً على الوعي، لا مجرد أداة توثيق. فتحدث في فصليه الثالث والرابع عن بدايات الخط العربي، وتطوره، والكتابات التي سبقت الإسلام، مستعرضاً قرابة عشرة نقوش، بينها نقش رقوش المكتشف في مدائن صالح (267م)، ونقش القاهرة (652م)، الذي يُعد أول نقش عربي في العصر الإسلامي، واستُخدم في الكتاب كمحطة انتقالية بين زمنين لا يفصل بينهما إلا الحرف والنبوة. قدم عشرة نقوش بينها رقوش في مدائن صالح وعلى اعتبار أن الكتابة كمُكوِّن اجتماعي والهوية كحصيلة حضارية فقد انتقل العتيبي في الفصلين الأخيرين إلى أبعاد أعمق، حيث ناقش الكتابة كفعل اجتماعي في حياة العرب قبل الإسلام، وكيف لعبت دوراً في بنية المجتمع، ووسمت بعض القبائل والمناطق بخصوصية ثقافية. ليختم بالفصل السادس الذي تناول فيه نشأة الهوية العربية قبل الإسلام، موضحاً كيف تخلّقت تلك الهوية من رحم اللغة والبيئة والكتابة، قبل أن يعززها الوحي ويؤطرها الإسلام. بعدها فتح باب المداخلات ليستهلها الزميل عبدالله الحسني، مدير تحرير الشؤون الثقافية في جريدة الرياض ، الذي أثنى على الطرح العلمي الدقيق والمتوازن، قائلاً: هذا العمل أعاد الاعتبار لتاريخ الجزيرة العربية، ولكنه في الوقت ذاته لم يُقص أحدًا، بل قدّمه بطرح رصين وعقلاني يعكس وعياً حضارياً، فضلاً عن الدقة والأمانة العلمية والموضوعية، وأضاف الحسني: لقد أكد الدكتور العتيبي من خلال كتابه أن تقبّل الآخر ليس ضعفاً في الهوية بل تجليّاً لقوّتها، وهذا ما تنتهجه المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها، بانفتاحها على ثقافات متعددة دون تفريط في ثوابتها. بعدها، عبّرت الدكتورة ندى الشنار عن إعجابها بمحتوى الكتاب، قائلة: هذا الكتاب لا يروي التاريخ، بل يُعيد تشكيل الوعي به، ويمنح القارئ مفاتيح لفهم أعمق للهوية العربية. أما الكاتبة والإعلامية الدكتورة وسيلة محمود الحلبي، فقد باركت للمؤلف صدور هذا العمل النوعي، وأشادت بفوزه بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، مشيرة إلى أن هذا الكتاب يجب أن يكون مرجعاً معرفياً للأجيال الصاعدة، لأنه لا يوثق الماضي فقط، بل يرسم جذور الحاضر. وفي ختام الأمسية، تم تكريم الأستاذ الدكتور فهد بن مطلق العتيبي والدكتورة ندى الشنار بدرعين تذكاريين قدمهما الدكتور عبدالله الحيدري نيابة عن المشرف العام على قيصرية الكتاب تقديراً لمساهمتهما في إثراء الوعي الثقافي والمعرفي. كما تم التقاط الصور التذكارية. تجدر الإشارة إلى أن الكتاب قد حظي باهتمام أكاديمي وثقافي واسع، وتم اعتماده ضمن مقررات مناهج اللغة العربية في وزارة التعليم، لما يمثله من قيمة علمية عالية وإضافة نوعية للمكتبة العربية في مجال الدراسات اللغوية والتاريخية للجزيرة العربية. لقطة تذكارية عقب الأمسية

مؤتمر مكة منصة لتجديد الخطاب وتعزيز القيم الإنسانية
مؤتمر مكة منصة لتجديد الخطاب وتعزيز القيم الإنسانية

سعورس

time٢٣-٠٤-٢٠٢٥

  • سعورس

مؤتمر مكة منصة لتجديد الخطاب وتعزيز القيم الإنسانية

ويشتمل المؤتمر على العديد من الجلسات العلمية والملصقات العلمية وورش العمل التدريبية التي يقدمها باحثون ومختصون من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات الحكومية والأهلية بالعالم العربي والإسلامي ودعاة وأئمة وعلماء وطلاب دراسات عليا. ويستمد المؤتمر أهميته الكبيرة من كونه يأتي في منعطف تاريخي بالغ الأهمية تمر به الأمة الإسلامية، لا سيما في ظل التراجع الحاد الذي تشهده في كثير من المجالات العلمية، وحالة التشظي والخلاف بين المدارس الفقهية والتي أنتجت حالة من عدم اليقين أمام المسلم العادي. ومن أبرز ملامح قوة المؤتمر أنه يناقش قضية بالغة الأهمية تؤرق بال الكثيرين، وهي فتح آفاق للاجتهاد والتجديد في العلوم الإسلامية بمختلف مجالاتها، ووضع الحلول لكثير من المشكلات التي يعاني منها العالم الإسلامي والمجتمعات الإنسانية الأخرى. فعالمنا المعاصر يشهد ظهور كثير من المحدثات التي لم يكن للعلماء السابقين عهد بها، لذلك فإن هناك حاجة للتوسع فيما يسميه العلماء «فقه النوازل» الذي يدعو لإيجاد معالجات إسلامية مناسبة للمستجدات التي تطرأ على حياة الناس. ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بإثراء البحث العلمي واستثمار مخرجاته لمعالجة واقع المسلمين لمواكبة قضايا العصر. ولأن الإسلام هو الدين السماوي الوحيد الذي يمتاز بصلاحيته لكل زمان ومكان، وذلك من واقع مرونته الكبيرة، فهو يدعو لتنمية الإنسان وتحسين مستوى وظروف عيشه ويفتح أمامه أبواب المستقبل. لذلك فقد اعتنى بصيانة الكرامة الإنسانية والقيم المشتركة كالعدل والسلام والحرية والمساواة والبِر ومكارم الأخلاق بشكل عام. لذلك دعا إلى تعزيز التعاون الذي يحقق خير الإنسانية أجمع. فما أحوجنا في هذا العصر إلى إعادة تفعيل نصوص الوحي وتطبيقها في واقعنا الحالي حتى نستطيع السير وفق خطة ربانية واضحة المعالم تغنينا عن اجتهادات بشرية قد تخطئ وقد تصيب. وقد حاول كثير من العلماء والمُفكرين الإسهام في هذا الجانب عبر مبادرات واجتهادات شخصية، وكعادة أي فعل بشري فإن هناك من أصاب ومنهم من أخطأ وكلاهما مأجور ما دام قد ابتغى وجه الله. لكننا في حاجة ماسة إلى فعل جماعي منظّم يتبنى أسلوب التفكير بصوت مسموع وعصف ذهني يدلي فيه كل مختص بدلوه حتى نصل في النهاية إلى نتيجة مرضية تلبي التطلعات وتحقق المقاصد. ولأن الإسلام هو الدين الجامع الذي يحمل في طياته كل عناصر الثراء الفقهي فقد احتوت كثير من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على تقدير كبير للعلماء ودعوات واضحة للاجتهاد وإثراء المجال العلمي وفق ثوابت واضحة. لكن رغم ذلك نشهد للأسف تراجعا في مجال الدراسات الإسلامية التي ينبغي أن توحد قلوب أهل القبلة الواضحة. واستلزم هذا الوضع من بعض الغيورين التفكير في إيجاد منصة مشتركة مثل هذا المؤتمر لتحفيز طاقات العلماء والباحثين لمواجهة حالات الضعف والتراجع التي تشهدها الدراسات الإسلامية، وتوظيف البحث العلمي للاستفادة من مقاصد الشريعة في تطوير واقع الأمة، واستشراف رؤية إسلامية أصيلة للقضايا الإسلامية المعاصرة. كما يهدف المؤتمر إلى عرض أحدث الأبحاث العلمية في مجال الدراسات الإسلامية، والاستفادة من التجارب الناجحة في مواجهة المشكلات والتحديات الفكرية. وتسليط الضوء على المعاني والقيم الإنسانية في الإسلام. كذلك فإن المؤتمر يحقق مكسبا في غاية الأهمية هو أنه يوفر فرصة لا تقدر بثمن لعلماء بارزين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي للاجتماع والتلاقي لتدارس الأوضاع الحالية وتبادل وجهات النظر حول القضايا العاجلة التي نشهدها في هذا العصر المتسارع، والذي تطفو على السطح فيه الكثير من المتغيرات بصورة شبه يومية. وربما يقلل البعض من قيمة الدراسات والجوانب العلمية بوصفها ترفا تحتاج الأمة بدلا عنه إلى خطوات عملية ملموسة، وهذا تصوّر خاطئ تماما وعلى جانب كبير من الخطورة، فالفكر هو أساس أي نهضة واللبنة الأساسية لعمليات التطور والنماء. لذلك فإن أول آية نزلت في القرآن الكريم هي (اقرأ باسم ربك الذي خلق). كما يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام (العلماء ورثة الأنبياء). وحتى تكتمل الفائدة القصوى من جهود العلماء ومناقشاتهم، فإنه من الضرورة أن نبحث عن كيفية الاستفادة من الجهود التي تبذل في مثل هذه المؤتمرات وإنزالها على أرض الواقع وتطبيقها في حياة الناس حتى لا تتحول إلى مجرد أرشيف، وحتى لا تصبح مثل هذه اللقاءات نوعا من الحوار النخبوي الذي يدور بين الصفوة في قاعات مغلقة. لذلك أقترح أن تصدر مثل هذه اللقاءات العلمية المرموقة، إضافة إلى بياناتها الختامية آليات واضحة عن كيفية تحويل مخرجاتها إلى خريطة عمل تلامس واقع الناس وتناقش مشكلاتهم بطريقة عملية، إضافة إلى تبسيط المخرجات وصياغتها بلغة مفهومة لدى المتلقي العادي. ختاما، فإن المملكة تثبت مرة أخرى علو كعبها في المسارعة إلى إيجاد حلول عملية لمشكلات الأمة عبر المبادرة بعقد مثل هذه المؤتمرات المرموقة، وترحيبها باجتماع صفوة الأمة وعلمائها ومفكريها، حيث دأبت على احتضانهم بكل أريحية وكرم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store