logo
لماذا نعود دوما إلى هؤلاء الفلاسفة المسلمين؟

لماذا نعود دوما إلى هؤلاء الفلاسفة المسلمين؟

Independent عربية١٨-٠٣-٢٠٢٥
بلغت الحضارة الإسلامية ذروة المجد، فيما كان الغرب يعيش في عصور الظلام والجمود، وكان "الدين" جوهر هذه الحضارة بما رسخه من منهج تجريبي - عقلي، وذلك حين دعا الإسلام المسلمين أن ينتشروا في الأرض، لطلب العلم، وترتب على ذلك ظهور مجموعة كبيرة من العلماء في شتى فروع العلم الطبيعي مثل جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وأبي بكر الرازي، كذلك برز فيهم المفكرون والفلاسفة مثل الفارابي الذي لقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو، والكندي وابن سينا وأبي حامد الغزالي وابن رشد وابن خلدون، والفقهاء مثل أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ومالك والشافعي والليث بن سعد، والشعراء مثل بشار بن برد والبحتري وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري، والكتاب مثل عبدالحميد الكاتب وابن المقفع والجاحظ وأبي حيان التوحيدي.
كتاب الفلاسفة العرب (دار روابط)
واللافت أن الصناع الأوائل للحضارة الإسلامية كانوا يعون أنهم قادرون - بأصالتهم الفكرية والدينية - على أن يهضموا التراث الفكري السابق عليهم ويتجاوزوه، فنقلوا عن اليونان في شتى فروع المعرفة من المنطق والفلسفة إلى السياسة والأخلاق وشرحوا كل ذلك وتجاوزوه، وكان ذلك سبباً رئيساً في نهضة الغرب وبدء حضارته بعدما شرح ابن رشد فلسفة أرسطو حتى لقب بالشارح الأعظم، والمؤسف أنه في وقت كان فيه ابن رشد مشعل الحضارة الأوروبية بدأ العالم الإسلامي في تكفيره وتحريم قراءته وحرق كتبه، وبدأ عصر الجمود الذي كان فيه ابن خلدون هو الاستثناء الوحيد له بما قدمه من مبادئ علم الاجتماع والعمران في مقدمته الشهيرة.
الفارابي وأصالته السياسية
الفارابي (صفحة الفلسفة العربية - فيسبوك)
تجتمع الآراء حول المكانة الفلسفية الكبيرة للفارابي، لكن الخلاف بين مؤرخي الفلسفة من المستشرقين والمسلمين هو حول مدى أصالته، إذ رأوا أنه تابع للفكر اليوناني شرحاً وتأليفاً، ففي المنطق يتبع أرسطو، وفي السياسة هو تابع لأفلاطون في كتابه "الجمهورية" الذي ألف على غراره كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة". والحقيقة هي أن الفارابي، كما ورد في كتاب مصطفى النشار "فلاسفة أيقظوا العالم" الذي صدر عام 1988 عن دار الثقافة في القاهرة، وتتالت طبعاته، ومنها طبعة في إطار "مكتبة الأسرة" عام 2016 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لم يكن إلا فيلسوفاً إسلامياً مجدداً في كل مؤلفاته التي تختلف عن شروحه، فرحلته في الكتابة الفلسفية تدرجت من الشرح والتلخيص إلى التأليف، وبهذا يمكن القول إنه ليس مجرد موفق بين آراء فلاسفة العالم بعضهم بعضاً أو بينهم وبين الإسلام، بل كان رائداً للفلسفة السياسية الإسلامية بعدما هضم التراث اليوناني السابق عليه وتجاوزه تجاوزاً ملحوظاً، ويرجع ذلك إلى أن تنقله بين أقطار الدولة الإسلامية بهدف دراسة أحوالها لعب الدور الرئيس في تشكيل فكره السياسي الذي تمثل - إضافة إلى كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" - في رسالتيه "تحصيل السعادة" و"السياسة المدنية" وكتاب "الفصول المدنية". وبهذه المؤلفات كان الفارابي أول فيلسوف إسلامي يتناول السياسة بالبحث المتعمق المستفيض حتى انفردت فلسفته بطابعها السياسي دون غيره من فلاسفة الإسلام حتى أصبح من الصعب فهم هذه الفلسفة من دون جانبها السياسي، فالسياسة هي نقطة البداية كما أنها الغاية التي استهدفها الفارابي من تفلسفه.
الغزالي ونظرية المعرفة
الغزالي (صفحة الفلسفة العربية - فيسبوك)
أما الغزالي، حجة الإسلام، فامتاز بكونه شخصية موسوعية لها مكانتها الدينية الكبيرة عند كل المسلمين، فهو المتكلم والفيلسوف والمنطقي والفقيه والإمام الصوفي، كما أنه العقلاني صاحب منهج الشك في كتابه "المنقذ من الضلال"، والمجادل الذي يهابه الجميع ويرضخون لحجته وقوة منطقه وهو صاحب الرؤى الصوفية في ما عرف بالتصوف السني، غير أن الغزالي انتصر لإسلام العوام والمتصوفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي اضطر ابن رشد إلى الرد عليه بكتابه "تهافت التهافت"، وكان الغزالي يتمثل جيداً الآية الكريمة: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وذلك في جداله مع غلاة المتكلمين من الشيعة والباطنية ومن رأى أنهم خارجون على الإسلام، فضلاً عن المشركين والملحدين.
وكان يرى أن المواجهة الحضارية بينه وبين غيره إنما أساسها الجدل بلا تعصب، والفهم بلا مغالاة والإبداع بدلاً من الاتباع والاجتهاد بدلاً من الجمود، ويمكن - لكي نفهم الغزالي بصورة أعمق - أن نقسم فلسفته إلى قسمين، الأول هو الجانب السلبي النقدي ويتمثل في نقد الفرق المتطرفة من منطلق واحد هو إخلاصه للإسلام، والثاني هو الجانب الإيجابي البنائي، ويتمثل في منهج المعرفة الذي يعبر بصدق عن روح الغزالي الفكرية المغامرة الحرة، ونعني به المنهج العقلي الذي يقوم على فكرتين أساسيتين: "الشك" و"الحدس الذهني"، وهكذا يمكن وصف رحلة الغزالي الفكرية بأنها بدأت بالحس والمحسوسات ثم انتقلت إلى الإيمان بالعقل وأخيراً يقينها في الحدس والتجليات الصوفية، ومن جانب آخر نجده مشابهاً لديكارت ومن قبله فرنسيس بيكون في أن صدق الفكرة لا يقام على قائلها مهما يكن شأنه بل يقام على البرهان.
ابن خلدون والعصبية
ابن خلدون (صفحة الفلسفة - العربية)
ظهر ابن خلدون في وقت ظن فيه الجميع أن الفلسفة الإسلامية ماثلة إلى الزوال بعدما جف معينها تقريباً بوفاة ابن رشد. ظهر هذا الفيلسوف وعالم الاجتماع الكبير بمقدمته الشهيرة التي كانت - بشهادة أرنولد توينبي - أعظم كتاب من نوعه أبدعه إنسان في كل زمان ومكان، ولم تقتصر المقدمة على علم الاجتماع أو علم العمران كما يسميه ابن خلدون فحسب، بل شملت أسس علم وفلسفة التاريخ وعلم الاقتصاد السياسي وعلم النفس السياسي، وكانت فكرة العصبية التي اهتم بها كثيراً تمثل - عنده - أساس الحكم أو الملك وقد بدأ نظريته تلك بملاحظة سديدة حين أكد أن البدو هم الأصل في العمران البشري وليس الحضر، وهو يقصد بالبدو "أولئك البشر المقتصرين على الضروري في أحوالهم"، فيما الحضر هم "المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بهذه الملاحظة الذكية ومن خلال هذا المنطق العقلي السلس انتهى ابن خلدون إلى أن البداية كانت تلك المجتمعات البدوية التي تقابل في الاصطلاحات الحديثة المجتمعات البدائية، ومع ذلك يرى ضرورة الانتقال من المجتمعات البدائية إلى المجتمعات الحضرية المتمدنة، لأن المجتمع المدني هو الذي سيتشكل من خلال التمييز بين حاكم ومحكوم وبين دولة وأفراد.
وما يقوله ابن خلدون سابق - بداهة - على ما قاله بعض المفكرين الغربيين مثل فون كرامر حين حاول تطبيق مفهوم العصبية على المجتمعات الأوروبية بخاصة ألمانيا وفرنسا التي استعبدها الرومان ففقدت عزتها وعصبيتها، كذلك وجدت الفكرة نفسها طريقها إلى فلاسفة من أمثال ميكيافيللي، لكن يظل هناك فارق مهم بين ابن خلدون وبينه، حين أباح العنف والخيانة والقتل إذا ما اقتضتها مصلحة الحاكم، فقد رأى ابن خلدون أن ذلك يعد من الأعمال الشريرة، وهكذا فإنه لم يفصل في فلسفته بين الأخلاق والسياسة، فسبق كثيرين إلى كثير من المفاهيم الفلسفية العمرانية والاجتماعية وحتى السياسية، برؤية إسلامية واضحة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الكوزميك مايند اتصال كوني!
الكوزميك مايند اتصال كوني!

الرياض

time٢٤-٠٧-٢٠٢٥

  • الرياض

الكوزميك مايند اتصال كوني!

تنزح معرفة عصر المعلومات إلى الجماعية، ويشهد على ذلك شيوع عدد من المصطلحات التي لم تكن تذكر إلا لماماً فيما مضى، من قبيل العقل الجمعي، والذكاء الجمعي، والذاكرة الجمعية، والوعي الجمعي، والتعلم التكافلي، والتعلم المؤسسي، والإبداع الاجتماعي. قضية المعرفة وارتباطها بالإلهام هي قضية تتصل بالألفة والأنس وتبتعد عن الغربة والاغتراب، وهي قضية أزلية من قبل أفلاطون وحتى الآن. وقد تناول أفلاطون هذه القضية في محاورة (أيون) حين برهن بالحجة والمنطق على أن كلاً من الشاعر أو المنشد لا يعي ولا يفهم تماماً حقيقة الموضوعات التي قد يتناولها في الإبداع.. وطالما افتقدا للفهم الكامل فإنهما يفتقدان للصدق فيما يقدمان من موضوعات، وهكذا توصل لمبدأ عام وهي بلا شك انعدام ثقة الأنس المفعمة بالمعرفة. "إن الشاعر والمنشد –أو قل المبدع والمؤدي– لا يعيان الحقيقة، وبالتالي فإن الإبداع والشعر لا يوصل إلى معرفة الحقيقة". فهو هنا يتهم المبدع بالبعد عن الحقيقة وبالتالي فهو بعيد عن متلقيه، لأنه في حالة من الغربة وعدم المعرفة الكافية، وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه، فهو لا يستطيع توصيل المعرفة وبالتالي الألفة في التلقي، وهكذا يطالب الشاعر إذا ما تكلم عن الطب أن يكون على دراية تامة بعلوم الطب، وإذا تناول التاريخ فيجب أن يدرس التاريخ بتفاصيله، أما كيف يستطيع المبدع أن يصيغ فكرة ما قد لا يدرك تفاصيلها تماماً في قالب فني مؤثر، فهذا ما تناوله أفلاطون في كتاب "الجمهورية" تحت عنوان الجنون أو الإلهام أو الجنون المقدس. أقرَّ أفلاطون أن الشاعر -أو المبدع بصفة عامة- يعمل تحت تأثير قوة إلهية تحرك الشاعر كما يحرك حجر المغناطيس برادة الحديد، أي أنه يتعاطى ثقافة لا يفقه كنهها، ولذلك اعتبرها ضارة، فهذه القوة تنتقل من الشاعر للمنشد ثم للمستمع كما تنتقل قوة الجذب المغناطيسي من الحجر إلى قطعة الحديد إلى قطعة أخرى، وهكذا أطلق أفلاطون على هذه القوة "لمسة الجنون المقدس" فهو لا يعترف بها، فيقول: "إن الشعر يوحى به إلى الرجال بسبب لمسة من الجنون المقدس". ولذا يرى أفلاطون أن الشاعر والمستمع عند صياغة أو توصيل الفن (الإبداع) يكوًّنان -فيغيبه عن الوعي-، ولذا فإن الشاعر وهو في غير قواه الواعية يكون غير قادر على التمييز بين الخير والشر، وبالتالي يؤثر في كل من المنشد والمتلقي تأثيراً ضاراً، ولذلك استبعد أفلاطون الشعراء والمنشدين فهو يطمح إلى التغيير. ولقد ربط أفلاطون فكرة التغيير بالماضي، ويرد فريدريك معتوق -في كتابه المعرفة والمجتمع والتاريخ- ذلك إلى أنه ينتمي إلى عائلة أرستقراطية، هذا التفاوت الطبقي قد يخلق نوعاً من التعالي في الخطاب وبالتالي الغربة في التلقي، إنما في الواقع هو حرص أفلاطون على تلك الحميمية الشديدة والألفة التي تؤتي أكلها. فإذا ما أصدر الشاعر أو العالم خطابه عن علم ووعي سيكون أكثر نفعاً من عالم يرسل خطابه ارتجالاً دون الاستناد على مفاهيم مدروسة. وقد فند النقاد أغراض أفلاطون إلى مفاهيم ونقاط عدة، إذ يتهمونه بالتعالي النخبوي كونه ينتمي إلى عائلة أرستقراطية. "لذلك فإن أفكار أفلاطون ليست بريئة، فمن خلال نظرية عالَم المثل، يهدف أفلاطون، في رأي بوبر إلى ثلاثة أهداف: إرساء أسس مقاربة منهجية محددة صالحة للتطبيق على مجالات المعرفة كافة، وتحديد معالم نظرية التغيير والتقهقر البشريين، وتبرير جمهورية تتناسق مع نظرية عالم المثل". وأفلاطون قبل أن يكون فيلسوفاً فهو عالم اجتماعي يعي ذلك الدور المعرفي في التواصل والتماس في دائرة اجتماعية ومعرفية متماسة، وبالتالي يدرك ذلك الدور التي تلعبه الغربة في إحداث فجوات في التلقي تدمر الثقافة نفسها والتي هي بدورها قائمة على المعرفة، وفي هذا السياق فإن المعرفة لم تعد فردية بل أصبحت معرفة جماعية تحقق بذلك الأنس، والأنس بدوره أمر معدٍ. الأنس بالآخر وبأفكاره في المجتمع الواحد وفي زمن سادت فيه المعلوماتية التي تدعو إلى الاندماج في عالم واحد على الرغم من أنها لم تحقق له تلك الحالة الاندماجية بين ذواته مما يسفر عنه ثقافة النزوح عن الذات وعن الهوية إلى عالم الحلم وبالتالي الغربة. تنزح معرفة عصر المعلومات إلى الجماعية، ويشهد على ذلك شيوع عدد من المصطلحات التي لم تكن تذكر إلا لماماً فيما مضى، من قبيل العقل الجمعي، والذكاء الجمعي، والذاكرة الجمعية، والوعي الجمعي، والتعلم التكافلي، والتعلم المؤسسي، والإبداع الاجتماعي، والفن أيضاً الذي كان يزهو بفرديته وتفرده أصبح هو الآخر يمارس بصورة جماعية، فكثير من أعمال الإبداع الفني صارت تبنى من شظايا فنية، أدبية أو موسيقية أو تشكيلية، أو من موتيفات فنون الأداء الصوتي أو الحركي، تجمع من مصادر مختلفة، ليضطلع بمهمة إدماجها في عمل فني متسق، طرف أو عدة أطراف تشارك في القيام به. وهذا الإبداع الجمعي هو ما يخلق ذلك الأنس ولكن ليس فقط بين أفراد العمل الجماعي بل مع المتلقي، فنحن نرى أعمالاً جماعية في إبداع جماعي إلا أن تلك الشظايا الفنية التي ذكرها "نبيل علي" تعمل على شيء من الغربة في الخطاب لأن المتلقي لم يكن قد هضم تلك المعطيات النقدية التي تمخض عنها هذا الإبداع نتاج تلك الطفرة السريعة في عصر المعلومات والتكنولوجيا، فباتت الغربة وشيكة إن لم تكن قد دلفت إلى صدور المتلقين الباحثين عن الأنس في الخطاب الجماعي. فالفرد في بحثه عن اللذة والمتعة والأنس الناتج عن خطاب معرفي هو ذلك المجتمع برمته في نهاية الأمر، فالحلقات لا بد أن تتصل وتتماس لتكوين الهم الجمعي في آخر المطاف عبر ذلك الاتصال بالنخبة وثقافة النخبة. يقول كارل مانهايم: "إن المعرفة لا يمكن أن تنتقل تلقائياً عبر الفئات الاجتماعية التي ولدتها، في صورتها الغفل، من دون تدخل نخبة ثقافية، تخلص هذه المعرفة الغفل من الشوائب الذاتية (الفردية) والتأثيرات الاجتماعية الضارة". وهذا يسوقنا إلى الصدق الفني الذي يعمل على التماس الدائم والحميمية مع المتلقي الذي لا يتم إلا بالاتصال بحالة الأنس المتصلة بالعقل الكوني، والكثير قد تناولوا قضية الإلهام بشكل لا يتسع المقال لذكرها هنا، وإنما نحن من خلال أبحاثنا توصلنا عبر التجربة إلى ما أسميناه (الكوزميك مايند Cosmic mind) أو العقل الكوني، وطريقة الوصول لهذه الحالة بما يشبه الوجد الصوفي وهو ما استبدلنا به مصطلح الإلهام.

أعلام في ذاكرة العمران
أعلام في ذاكرة العمران

صحيفة مكة

time٢٠-٠٧-٢٠٢٥

  • صحيفة مكة

أعلام في ذاكرة العمران

أثناء انشغالي بترتيب أرشيفي الخاص كعادتي السنوية وقع بين يدي امتحان لمقرر 500 تعم: نظريات التصميم والتخطيط العمراني في جامعة الملك سعود للدكتور خالد العوهلي رحمه الله. كان الدكتور خالد أحد أبرز الأساتذة الذين وضعوا بصمتهم المتميزة في مسيرة تعليم التخطيط العمراني. اعتمد في تدريس المقرر على استعراض النظريات المتعلقة بالمدن ليس من منظور الشكل العمراني؛ بل من المنظور الاجتماعي بما في ذلك تناوله لقضايا المصلحة العامة، والمشاركة المجتمعية في صناعة القرار، والمرونة في التخطيط. تطرقت العديد من محاضراته لقضية المركزية في إدارة المدن والتخطيط المناصر لحقوق الفئات المستضعفة. كان يستعرض لنا عدة نماذج عن صياغة السياسات العمرانية القائمة على الهرمية من أعلى السلطة إلى الأسفل، وأثرها على المنتج العمراني. ويقترح إيجاد آليه للتخطيط القائم على الشراكة من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى، حيث يتم تقويم السياسات من خلال المجتمع. تناول قضايا التخطيط المحلي الذي يتأثر في كثير من الأحيان بالنظريات والأفكار الغربية، وبالتالي محاولة «تقليد» تلك التجارب وإعادة بلورتها لتخدم المجتمع السعودي بديلا عن «صناعة» نموذج محلي قادر على الاستجابة للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. كان يؤكد على أن بناء قاعدة بيانات أمر هام للوصول إلى عملية تخطيطية ناجحة، والبيروقراطية أحد العوائق التي تؤثر سلبا على المسار الإجرائي في التخطيط العمراني. أشار في كثير من المحاضرات إلى أن نظرة الجهاز التخطيطي تركز في كثير من الأحيان على الجوانب الفيزيقية، لا سيما في مشاريع التجديد العمراني التي تنظر إلى «الشكل العمراني» دون استيعاب الهياكل الاجتماعية والاقتصادية. وهو ما أفرز نسيجا عمرانيا يكرس الطبقية الاجتماعية ولا يستجيب للتنوع الاقتصادي. الدكتور خالد كان يشبه قضية «المصلحة العامة» بالرمال المتحركة؛ لأنها عنصر مرن ومتغير عبر الزمن، فقد تكون المصلحة العامة اليوم شيئا يختلف عن المصلحة العامة قبل سنة. إن مفهوم المصلحة العامة يحمل في طياته عددا من المتغيرات المتناقضة. فهل نستطيع أن نلبي احتياجات ذوي الدخل المنخفض دون أن يؤثر ذلك على المستثمرين أو التجار؟ وكيف يمكن تمثيل المجتمع في مجموعات قادرة على التأثير في صناعة القرار التنموي وصولا إلى خدمة الجميع بلا تحيز؟ وكيف يمكن وضع خطة متوازنة في ظل وجود تضارب في المصالح؟ يأخذ النظام الديمقراطي بالأكثرية على أنه الحق؛ بينما يأخذ الإسلام بهذا المبدأ من باب الترجيح فقط، فرأي الأكثرية ليس بالضرورة أن يمثل الحق، فالشورى تؤكد على استشارة أهل العلم، وتقديم الأدلة، واستيعاب المصالح والمفاسد. إن بناء نموذج نظري في التخطيط يجب أن يتسم بالمرونة والقدرة على استيعاب المتغيرات المستقبلية، وهو ينطوي على درجه من عدم اليقين. لا أبالغ بالقول إن الكثير من محاضراته كانت مصدر إلهام لي في مسيرتي العلمية، حيث لم أجد صعوبة في استيعاب مقرر النظريات حتى بعد إكمال دراستي في مرحلة الدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية. بقي أن أشير إلى نص السؤال وهو: «تعد قضية المصلحة العامة أحد أهم القضايا التي أدت إلى انهيار العديد من الأفكار النظرية في التخطيط، ولا تزال هذه القضية قائمة دون رؤية واضحة لكيفية التعامل معها. ما هي الطريقة المعيارية المناسبة لصياغة المصلحة العامة، والتي تتناسب مع مبادئ وقيم المجتمع؟» رحمك الله يا دكتور خالد العوهلي فقد وَرّثت علما يُنتفع به، ومثواك جنات الخلد والنعيم.

أهميّة مضمون محاورة «كراتيليوس»   (1)
أهميّة مضمون محاورة «كراتيليوس»   (1)

الرياض

time١٧-٠٧-٢٠٢٥

  • الرياض

أهميّة مضمون محاورة «كراتيليوس» (1)

لم تكن قيمة الكتب منوطة بتداولها؛ إذ هو مظهر من مظاهر حضورها، وكلما تقادم زمن الكتب عسر بيان أثر قيمتها العلميّة حينها؛ لذهاب المجايل لها في سياقها. ومن الكتب التي ظهر أثرها، وإن لم يكن تداولها بتلك القوّة، كتاب أفلاطون «محاورة كراتيليوس» عن فلسفة اللغة. وعند فحص مضمونها نجد سريان أثرها حتى اليوم، لنقف أمام احتمالات: إمّا أن مضمونها قد كرر في دروس أو مقامات لم تصل إلينا وبقي الأثر، وإمّا أن المضمون أخذ في كتب أخرى لم نتحقق بعد في الصلة بينها، وإمّا أن روح المضمون سرت في بقية كتب أفلاطون ومن بعده أرسطو. وإن كان أصل المسائل جُمع في هذه المحاورة الأساسية المتقدمة، ضمن الإرث العالمي الفكري، وفق أصوله الأفلاطونية والأرسطيّة. ولمركزيّة أفلاطون لا بدّ من إشارة إلى أنه ابن سياقه، الذي اعتمد سلطة علمية محددة، ولهم لغة أدبيّة أو لهجة أدبية رسمية هي «اللغة اليونانية الأتيكية الكلاسيكية» (بحسب هدى الخولي)؛ وفي هذا إشارة إلى كتابة الحوارات لا أنها شفويّة. والمحاورات تعنون باسم شخص مثل «كراتيليوس»، أو باسم موضوع معين «الجمهورية»؛ إن من وضع أفلاطون أو غيره. فلكل محاورة موضوعها، واسم شخصية محورية فيها، مع الشخصيات الأساسية الأخرى، لصياغة الرؤية العامة للمحاورة، في أسلوب حوار جدليّ. وربما محاورة «كراتيليوس» من المحاورات الأولى لأفلاطون، وما يكتبه الإنسان في أول حياته يكون أكثر ارتباطاً بما تلقاه من بيئته منه إلى نتيجة تراكم كتاباته المتقدمة. وتدور المحاورة حول أهم الموضوعات وهو «اللغة»، وتحديداً في مستواها اللفظي، المتداخل كثيراً مع الجوانب الفلسفية، سؤالاً عن أصل اللغة والأسماء. فيبدأ أفلاطون المحاورة بتساؤل عن «الأسماء» أطبيعية هي أم اصطلاحية؟» في حوار تتفجر منه أسئلة أخرى نحو: ما وظيفة الأسماء؟ وإطلاقها؟ وملائمتها لمسمّياتها؟... منطلقاً من اللغة اليونانية، فضلاً عن اعتقاد أفضليتها على الألسن الأخرى، وأصالتها، وقربها من نظريته في المثل. ودراسته للغة أول نظره وفق إشكالية حمل «الوجود» على المستوى البيانيّ، وكيفية التوصّل للحقائق الوجودية عبر اللغة، ليخلص إلى ضعف صواب هذا المسلك، وأن البحث عن الموجودات والوجود يتطلّب دراسة الوجود في ذاته. وعند استحضار قوة التداول اللغوي للمحاجّة في زمنه، مع السفسطائيين خاصّة، فإن دخول التشويش والالتباس على اللغة وجّه رؤيته للتشكيك في قيمتها المعرفيّة، ومن ثمّ التحقق من الوجود ذاته بدراسته في ذاته. لكن كيف يمكن للإنسان أن يدرس الوجود بلا أدوات؟ فالتفكير الإنساني ذاته قد صيغ في شكل لغوي ذهنيّ، وأما التعبير عنه لسانياً فهو إعادة تشكيل للفكر بموجهاته اللغوية؛ ليرتب في قوّة بيان بحسب كل مبيّن. وبحسب «عزمي طه السيد»، فالأسماء عند أفلاطون جزء من الكلام (اللغة)، والكلام نوع من الفعل، والفعل يتطلّب غاية [العلة الغائية]، وفاعلاً [العلة الفعلية]، ومستعملاً (مستفيداً من الفعل)، ومادة [العلّة المادية]، وشكلا أو صورة [العلة الصورية] (وما بين المعكوفين تذكير بالعلل عند أرسطو، وأن الرؤية الفلسفية المؤثرة في الفكر منذ اليونان هي المنبثقة من تلك الفترة). و»التسمية» أيضاً نوع من الفعل، ومن ثمّ فيصدق عليها ما يصدق على الفعل من العلل الفلسفيّة المؤثرة في «الأسماء». فالفعل (ومنه نوع الأسماء) نوع من أنواع الوجود، صادر عن الموجودات والأشياء. أي: مرتبة اللغة ليست الوجود الأول بل هي صدور عن الموجودات. وأما الموجودات أو الأشياء فحقيقتها ثابتة مستقلة عن الذوات الناظرة إلى ظواهرها، غير متأثرة بها [هنا ظهور لنفي علاقة الأثر والمؤثر]، واستقلالها عن الذوات ومعارفها؛ مجلٍ لحفظها في ذاتها، وعلاقاتها، وصورها الطبيعية. والسؤال: إن كانت الحقائق بذاتها مستقلة، فكيف يصل الإنسان لمعرفتها إن كانت معرفته بها ستغير من حقيقتها بحسب ما يظهر له؟ ما المعيار المميز بين معرفة الحقائق ومعرفة الظواهر؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store