
«غيتو رفح» أو مدينة الجريمة ضد الإنسانية
إقامة غيتو رفح ليس قدرا محتوما، ويمكن بعمل فلسطيني وعربي ودولي إفشاله، فهو مشروع خطير وإحباطه مساهمة جدّية في منع التهجير من غزة
أثار كلام زامير غضب نتنياهو وسموتريش، وطلب رئيس الوزراء الإسرائيلي من الجيش تحضير خطّة عملية «أرخص وأسرع». وقد عقد الثلاثاء الماضي، اجتماع جديد للكابينيت المصغّر، لبحث خطة الجيش الجديدة، ويبدو أن الجيش عرض خطّة معدّلة، يمكن تنفيذها بتكلفة أقل وبمدة تتراوح بين شهرين لأربعة أشهر. من جهته نتنياهو لا ينتظر وهو ماضٍ في محاولاته تطبيق الخطّة، وقام بتعيين المدير العام لوزارة الأمن والنائب السابق لرئيس الأركان الجنرال-احتياط أمير برعام، مسؤولا عن المشروع. في المقابل تتزايد الشكوك بإمكانية تنفيذ الخطّة وتشتد المخاوف من تداعياتها على الساحة الدولية، في ظل التقييمات القانونية، التي تصنّفها كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية واضحة المعالم ومكتملة الأسس.
وكان وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، قد أعلن في السابع من يوليو الحالي أن حكومته تنوي إقامة «مدينة إنسانية» فوق ركام مدينة رفح وأنها أوّلا: ستكون معدّة في المرحلة الأولى لاستيعاب 600 ألف من سكّان القطاع، ولاحقا لبقية السكّان؛ وثانيا: لن يسمح لمن يدخلها أن يخرج منها؛ وثالثا: العمل بها سيبدأ خلال شهري الهدنة المؤقّتة المتوقّعة تبعا للصفقة؛ ورابعا: تعمل إسرائيل على تجنيد أطراف دولية للمشاركة في التنفيذ؛ ورابعا: الجيش سيديرها من بعيد، ولن يكون شريكا مباشرا في الإدارة وتوزيع الطعام (هكذا قال كاتس، ربّما لامتصاص معارضة العسكر)؛ وخامسا: سيخضع كل من يدخلها لفحص أمني دقيق، للتأكّد من عدم ارتباطه بحركة حماس. وتنوي إسرائيل «اجتذاب» السكّان إلى غيتو رفح من خلال «هندسة الجوع»، وتحويل غالبية المساعدات الإنسانية إلى منطقة الغيتو، لإجبار الناس على القدوم إليها بحثا عن القوت. واستمرار لما قاله عن «المدينة الإنسانية، تحدّث كاتس عن «إحراز تقدم» في مشروع التهجير، مشيرا إلى أن نتنياهو يجري اتصالات مثمرة بهذا الشأن مع دول أخرى. ويبدو أن الهدف الحقيقي لخطة «غيتو رفح» هو التهجير وفرض الاحتلال. والاثنان مرتبطان، لأن إسرائيل لا تريد فرض حكم عسكري وإدارة حياة مليوني فلسطيني في غزة، بكل ما يعنيه ذلك من تكاليف باهظة ومن استنزاف للوحدات العسكرية. وإعادة الاحتلال المباشر لقطاع غزة مرهون بتخفيف عدد السكان وبتنفيذ مشروع الترانسفير، وتجميع أهالي غزة في «المدينة الإنسانية» هو محطّة للتهجير والإبعاد.
ما يمنع التهجير الجماعي إلى الآن هو صمود أهالي غزّة، المقوّى بآلام النكبة والمحفَّز بآمال إعادة الإعمار، ورفض مصر وبقية الدول العربية وكذلك دول العالم استقبال من تسعى آلة الحرب الإسرائيلية الى تهجيرهم. لكن إسرائيل المصابة بنشوة «القدرة على كل شيء» لم ولن تتخلّى عن التهجير، وتعمل على استغلال أقرب فرصة لتنفيذه، حتى لو كلّفها ذلك ثمنا في علاقاتها الإقليمية والدولية. من هنا فإن المطلوب فورا هو خطّة عربية – فلسطينية مضادة للتصدّي له ولإفشاله ولزرع اليأس في قلوب وعقول القيادة الإسرائيلية من إمكانية تنفيذه.
معارضة إسرائيلية
يخشى المعارضون لنتنياهو من أن خطة «المدينة الإنسانية» أعدّت لإطالة أمد الحرب، وأن الإصرار على الإسراع في تنفيذها خلال فترة الهدنة المؤقّتة المقترحة، هو مؤشّر قوي إلى أن حكومة نتنياهو تتجه إلى تجديد القتال، بعد انتهاء فترة وقف إطلاق النار، كما فعلت في المرتين السابقتين. وتوالت تصريحات النخب الأمنية ضد الخطّة، وكان من أبرزها ما قاله قائد سلاح البحرية الأسبق الجنرال احتياط إليعزر مروم- تشيني من أن مصطلح «مدينة إنسانية» هو «غسيل كلام» للتغطية على المقصد الفعلي وهو «حكم عسكري كامل وسيطرة على حياة السكان». وسبقه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، الذي قال إنها في الحقيقة «معسكر اعتقال»، وانضم إلى رفض المشروع قادة أحزاب المعارضة يئير لبيد وأفيغدور ليبرمان ويئير غولان والكثيرون غيرهم. وعبر عدد من المحاضرين المختصين الإسرائيليين في القانون الدولي، عن قلق شدد من تناقض مشروع «المدينة الإنسانية» مع القانون الدولي الإنساني والجنائي، ما قد يعرّض قيادات الجيش والحكومة للملاحقة القانونية في المحاكم الدولية، ويضع إسرائيل-الدولة مجددا في قفص الاتهام. وممّا جاء في الرسائل التي سطّرها فقهاء القانون الإسرائيليون، تأكيد على أن إجبار السكّان للانتقال إلى المدينة الإنسانية هو خرق واضح للقانون الدولي، وكذلك منعهم من مغادرتها ناهيك عن التخطيط لها كمحطّة للتهجير إلى خارج القطاع. وأشار القانونيون الإسرائيليون إلى أن تهجير السكان إلى منطقة جديدة ومنعهم من العودة إلى موقعهم الأصلي يعد جريمة «تطهير عرقي» بنظر القانون الدولي.
من المهم أن من بين مجموعة القانونيين من شارك في طاقم الدفاع عن إسرائيل في لاهاي (البروفيسور إيال بنبنستي مثلا)، ومن المهم أيضا أنهم تعمّدوا توجيه الرسالة إلى المسؤولين العسكريين يسرائيل كاتس، وزير الأمن، والميجر جنرال إيال زامير رئيس أركان الجيش الإسرائيلي. وشرح أحد الموقعين على الرسائل أن القيادة العسكرية تتحمل المسؤولية الجنائية كاملة، حتى لو صدرت تعليمات من المستوى السياسي، لأن «علما أسود من عدم الشرعية» يرفرف فوق المشروع، ما لا يعفى المستوى العسكري من المسؤولية بالقول «قمت بتنفيذ الأوامر». وجاء في الرسالة أنه إذا جرى تنفيذ الخطة فهي تشكل «سلسلة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وقد تصل إلى حد اعتبارها جريمة إبادة شعب». ويبدو أن من اعتبارات الجنرال زامير أنّه يخشى محكمة الجنايات الدولية، لذا يحاول بوسائل شتّى عدم التورّط في تنفيذ مشروع يعرف تماما أنه قد يتسبب في إصدار أوامر من لاهاي لاعتقاله. في الواقع أنه بالإمكان إفشال مشروع غيتو رفح، انطلاقا من أرادة قوية وعمل سريع وجدّي بعدة اتجاهات، منها:
أولا: يمكن التوجّه إلى محكمة العدل الدولية لإصدار قرار احترازي يحرّم على إسرائيل إقامة «المدينة الإنسانية»، لتعارضها الصارخ مع القانون الدولي. وفي الواقع لا حاجة لدعوى جديدة، وتستطيع جنوب افريقيا والدول التي انضمت إلى التماسها في لاهاي، تقديم طلب جديد، يضاف إلى دعواها الأصلية، لإصدار قرار قضائي دولي لمنع إقامة غيتو رفح، والأسس القانونية كثيرة وواضحة ومقنعة.
ثانيا: يجب أن يكون الموقف العربي، وبالأخص المصري أكثر حزما في معارضة مشروع التهجير الجديد. لقد تناقلت وسائل الإعلام تهديدات مصرية قوية تتجاوز الاحتجاج الدبلوماسي، وإذا شعرت إسرائيل بأنها ستخسر الكثير في علاقتها بمصر، فهي قد تعيد النظر.
ثالثا: صرح وزير الأمن الإسرائيلي أن البدء في إقامة «المدينة الإنسانية» سيكون خلال الهدنة المؤقتة، وعليه يمكن وضع عدم إقامتها جزءا من شروط التوصل إلى صفقة. ومن المهم ألّا يكون ذلك موقفا لحماس وحدها، بل للوسيطين المصري والقطري أيضا.
لقد وصلت الوقاحة بأحد المسؤولين الإسرائيليين، أن يرد على سؤال حول تمويل هذا المشروع الضخم، أن إسرائيل سوف تسترجع ما سوف تستثمره فيه من الدول العربية عند البدء في إعادة الإعمار في غزة، وذكر تحديدا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات. من المستبعد أن يحدث ذلك، لكن في الأمر تنويه إلى مستوى الصلف والغرور الإسرائيليين ومستوى الاستهتار الإسرائيلي بالعرب. إن إقامة غيتو رفح أو مدينة الجريمة ضد الإنسانية ليس قدرا محتوما، ويمكن بعمل فلسطيني وعربي ودولي إفشاله، فهو مشروع خطير وإحباطه سيكون مساهمة جدّية في منع التهجير من غزة.
كاتب وباحث فلسطيني

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 40 دقائق
- القدس العربي
البنود الرئيسية في الاتفاق التجاري بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا
بروكسل: توصلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى اتفاق تجاري إطاري الأحد، مما أنهى حالة من الغموض كان تثقل كاهل الصناعات والمستهلكين على جانبي الأطلسي خلال الشهور الماضية. وفيما يلي البنود الرئيسية للاتفاق: ستخضع جميع صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة تقريبا لرسوم جمركية أساسية 15 بالمئة، ومنها السيارات التي تُفرض عليها الآن رسوم 27.5 بالمئة بالإضافة إلى أشباه الموصلات والأدوية. والرسوم البالغة 15 بالمئة هي الحد الأقصى ولن تُضاف إلى أي رسوم قائمة. مع ذلك، ستعلن الولايات المتحدة نتائج تحقيقاتها التجارية (البند 232) خلال أسبوعين وستتخذ قرارا منفصلا بشأن الرسوم الجمركية على الرقائق الإلكترونية والأدوية. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن أي قرارات أمريكية لاحقة بشأن هذه القطاعات ستكون 'في ورقة مختلفة'. لن تفرض الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أي رسوم جمركية على جميع الطائرات ومكوناتها وبعض المواد الكيماوية وبعض الأدوية المقلدة التي لا تحمل اسما تجاريا ومعدات أشباه الموصلات وبعض المنتجات الزراعية والموارد الطبيعية والمواد الخام الأساسية. وستُضاف منتجات أخرى لاحقا. أما بالنسبة للمشروبات الروحية، فلم يُحدد وضعها بعد. ستبقى الرسوم الجمركية على صادرات أوروبا من الصلب والألمنيوم عند 50 بالمئة لكن فون دير لاين قالت إن هذه الرسوم ستخفض لاحقا وسوف تستبدل بنظام الحصص. تعهّد الاتحاد الأوروبي بشراء الغاز الطبيعي المسال الأمريكي مقابل 250 مليار دولار سنويا لثلاث سنوات، بقيمة إجمالية 750 مليارا ليحل محل الغاز الروسي. كما سيشتري الاتحاد الأوروبي وقودا نوويا من الولايات المتحدة. تعهد الاتحاد الأوروبي بموجب الاتفاق بشراء عتاد عسكري أمريكي، فضلا عن استثمار الشركات الأوروبية 600 مليار دولار في الولايات المتحدة خلال فترة ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثانية. (رويترز)


العربي الجديد
منذ 2 ساعات
- العربي الجديد
بعد عقود... هل قطف الأردن "ثمار" التطبيع مع "إسرائيل"؟
في السادس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 1994، وقع الأردن وإسرائيل معاهدة السلام، أو ما تعرف باتّفاقية " وادي عربة "، وسط وعودٍ رسميةٍ بأن السلام سيفتح أبواب التنمية والازدهار الاقتصادي، وسيحول الأردن إلى نقطة وصلٍ إقليميٍ واستثماريٍ. اليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقودٍ، يكشف الواقع الاقتصادي والمؤشرات الرسمية حتّى عام 2025 أنّ المكاسب بقيت محدودةً، فبينما تكبدت البلاد تكاليف سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، لم تحقق للمواطن الأردني "ثمار السلام" الموعودة. تضمنت المعاهدة بنودًا تتعلق برسم الحدود بين البلدين، واستعاد الأردن بموجبها أراضيٍ، ثمّ أجّرها لإسرائيل لسنواتٍ، أيضًا؛ نصت المعاهدة على "تطبيعٍ كاملٍ يشمل فتح سفارةٍ إسرائيليةٍ وأردنيةٍ في البلدين، وإعطاء تأشيرات زيارةٍ للسياح، وفتح خطوطٍ جويةٍ وتبادلٍ اقتصاديٍ". مكاسب ماليةٌ مشروطةٌ وغير مستدامةٍ أوّل ما جناه الأردن بعد الاتّفاقية كان إعفاءاتٌ لديونٍ تجاوزت الثلاثة مليارات دولار، وارتفاع المساعدات الأميركية من 35 مليون دولار عام 1993 إلى 1.6 مليار دولار سنويًا في عام 2024 –2025. لم تكن هذه المساعدات نتيجة تبادلٍ تجاريٍ نشطٍ، أو مشاريع استثماريةٍ مشتركةٍ مع إسرائيل ، بل مكافأةً سياسيةً للاستمرار في مسار التسوية، وبقيت رهينة التطورات الإقليمية والتوازنات الأميركية. شعبيًا، ورغم ما نصّت عليه معاهدة وادي عربة من ضرورة التطبيع الشامل في مختلف المجالات، ما زال الشارع الأردني يرفض الانخراط في أي نمطٍ من أنماط العلاقات التطبيعية مع إسرائيل ظلّت السوق الإسرائيلية شبه مغلقةٍ؛ إذ لم تتجاوز صادرات الأردن إلى إسرائيل، وفق بيانات دائرة الإحصاءات العامة الأردنية (2024)، حوالي 280 مليون دولار فقط، وهو رقمٌ متواضعٌ مقارنةً بحجم التجارة الأردنية مع دولٍ أخرى، مثل الولايات المتّحدة أو الاتّحاد الأوروبي، التي تصل إلى ما يقارب ملياري دولار ونصف. أسفرت المعاهدة أيضًا عن إنشاء "المناطق الصناعية المؤهلة (QIZ)"، التي تأسست على إقامة مصانع (معظمها في قطاع الغزل والنسيج) بشرط تضمين منتجاتها مكوناتٍ إسرائيليةٍ بنسبة لا تقلّ عن 9%، مقابل تمكينها من التصدير مباشرةً إلى السوق الأميركية ومن دون رسومٍ جمركيةٍ. لاحقًا؛ شهدت هذه المناطق تراجعًا ملحوظًا في عدد المصانع، وفقًا لما أوضحه نقيب العاملين في الغزل والنسيج، فتح الله العمراني، إذ بدأت بعددٍ يصل إلى 117 مصنعًا منذ تأسيسها عام 1995، ثمّ انخفضت إلى 75، لتتراجع لاحقًا إلى أرقامٍ محدودةٍ جدًا. يُعزى ذلك إلى انتقال الاستثمارات نحو دولٍ تتسم بانخفاض كلفة العمالة ومدخلات الإنتاج، مثل مصر وغيرها. أما في ما يتعلق بالعمالة التي استوعبتها تلك المصانع، فيُقدَّر عددها بنحو 40 ألف عاملٍ، معظمهم من العمالة الوافدة. ملحق فلسطين التحديثات الحية الإبادة الجماعية: التبرير القانوني وتأثيراتها على حق العودة مؤشراتٌ اقتصاديةٌ تتوالى الأرقام الرسمية لتكشف هشاشة مكاسب السلام الاقتصادية، حيث ارتفع الدين العام الأردني من 7.5 مليارات دينار عام 1994 إلى 41.3 مليار دينار (حوالي 58 مليار دولار) مع نهاية 2024، أي ما يعادل نحو 89% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق بيانات وزارة المالية الأردنية الصادرة عام 2025. كما استمر معدل البطالة في الارتفاع ليصل إلى 21% بين عموم الأردنيين، وأكثر من 40% بين الشباب، وفق دائرة الإحصاءات العامة، في حين سجل في عام 2024 نمو الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 2.8% فقط، مقارنةً بالهدف الحكومي البالغ 5%. هذه الأرقام تعكس بوضوحٍ أنّ السلام لم يكن محفزًا لتنميةٍ اقتصاديةٍ مستدامةٍ، ولم يخفف من الأزمات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد الأردني. مقاطعةٌ شعبيةٌ شعبيًا، ورغم ما نصّت عليه معاهدة وادي عربة من ضرورة التطبيع الشامل في مختلف المجالات، ما زال الشعب الأردني يرفض الانخراط في أي نمطٍ من أنماط العلاقات التطبيعية مع إسرائيل. كما تشهد المملكة باستمرارٍ مسيراتٍ، ووقفاتٍ احتجاجيةً وحملاتٍ شعبيةً تدعو إلى إلغاء المعاهدة، ومقاطعة أيّ نشاطٍ تطبيعيٍ. على الرغم من مرور أكثر من 30 عامًا على التطبيع، لم يحقق الأردن الرخاء الاقتصادي الموعود، فبينما كانت المكاسب محدودةً ومشروطةً، كانت التحديات السياسية والشعبية والاقتصادية أكثر وضوحًا. وظلّ التطبيع في إطاره الرسمي فقط، ولم يتحول إلى شراكةٍ شعبيةٍ أو تنمويةٍ حقيقيةٍ، بل زاد من تعقيد العلاقة بين السيادة الوطنية والمصالح الاقتصادية. إذ يرى الخبير والمحلل السياسي منذر الحوارات أن هذه الاتّفاقية "لم تحقق سلامًا ولا أمنًا ولا رخاءً اقتصاديًا". فحسب عضو حملة (غاز العدو احتلال) محمد العبسي "معاهدة وادي عربة المشؤومة هي أصل كلّ ما نعانيه اليوم؛ إذ فتحت الباب واسعًا أمام رهن الأردن وأمنه الطاقي وسيادته وكرامة شعبه لصالح العدو الصهيوني كما أضاف الحوارات موضحًا: "ما يزال الأردن يواجه أزماتٍ اقتصاديةً وانخفاضًا في دخل الفرد، بل إنّه يتعرض أيضًا لتهديداتٍ إسرائيليةٍ متواصلةٍ، وأبرز مثالٍ على ذلك: ضغوط إسرائيل على الولايات المتّحدة، وإلغاء أونروا. وهذا يعني عمليًا حرمان اللاجئين من منصةٍ سياسيةٍ، بما يؤدي إلى توطينهم في الأردن، وهو ما يمس بالأمن الاستراتيجي للمملكة". كما نصت المعاهدة على "إزالة كافة أوجه التمييز التي تعتبر حواجز ضدّ تحقيق علاقاتٍ اقتصاديةٍ طبيعيةٍ، وإنهاء المقاطعات الاقتصادية الموجهة ضدّ الطرف الآخر، والتعاون في مجال إنهاء المقاطعات الاقتصادية المقامة ضدّ أحدهما الآخر من قبل أطرافٍ ثالثةٍ". لكن على الصعيد السياسي، تكبد الأردن أثمانًا باهظةً نتيجة استمرار العلاقة مع إسرائيل، إذ شهدت السنوات الماضية أزماتٍ متكررةً عمّقت حالة الغضب الشعبي، ورفض التطبيع، أبرزها الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المقدسات الإسلامية في القدس ، في تناقض مع نص معاهدة السلام، الذي يُقرّ بالوصاية الهاشمية على هذه المقدسات؛ إضافةً إلى حادثة مقتل مواطنين أردنيين برصاص حارس السفارة الإسرائيلية في عمان عام 2017، والذي لم يتبعه محاسبة حقيقية للجاني؛ فضلًا عن التصريحات الإسرائيلية المتكررة بشأن ضمّ منطقة غور الأردن، ما أثار قلقًا رسميًا وغضبًا واسعًا في الشارع الأردني. الغاز والمياه: اتّفاقياتٌ عمقت التبعية في عام 2016، وقع الأردن اتّفاقيةً لاستيراد الغاز الإسرائيلي، بنحو 10 مليارات دولار، لتغذية محطات الكهرباء حتّى عام 2035. دخلت الاتّفاقية حيز التنفيذ الكامل مطلع 2020، لتغطي نحو 40% من احتياجات الأردن من الكهرباء. رغم تبرير الحكومة بأنّ الاتّفاقية تحقق وفرًا ماليًا سنويًا بنحو 300 مليون دولار، يرى خبراء واقتصاديون أنّ هذه الصفقة قد حرمت الاقتصاد الأردني من فرصة ضخ استثماراتٍ محليةٍ بديلةٍ في الطاقة الشمسية والرياح، وهو ما كان سيوفر آلاف الوظائف ويحقق سيادةً اقتصاديةً أكبر. تقارير عربية التحديثات الحية المغرب: وقفات وتظاهرات في 60 مدينة ضد جرائم الاحتلال في غزة فحسب عضو حملة (غاز العدو احتلال) محمد العبسي "معاهدة وادي عربة المشؤومة هي أصل كلّ ما نعانيه اليوم؛ إذ فتحت الباب واسعًا أمام رهن الأردن وأمنه الطاقي وسيادته وكرامة شعبه لصالح العدو الصهيوني. وبعد أن عجزت الحكومات المتعاقبة عن فرض التطبيع على المستوى الشعبي، لجأت إلى إبرام صفقةٍ تُرغمنا جميعًا على المشاركة في تمويل الإرهاب الصهيوني عبر الكهرباء، التي تصل إلى كلّ بيتٍ وقطاعٍ وتمس حياة كلّ مواطنٍ". كما تابع العبسي قائلًا: "في المقابل، تحرمنا هذه الاتّفاقية — في ظلّ اقتصادنا المنهك والمفقَر — من استثمار نحو 10 مليارات دولار محليًّا في مشاريع قادرة على تعزيز أمننا الطاقي، وتنمية اقتصادنا، وخلق عشرات آلاف فرص العمل لأبناء وطننا". أما في ما يتعلق بتقاسم حصص المياه بين الأردن وإسرائيل، فقد نصّت المادة السادسة من معاهدة وادي عربة على "تحقيق تسويةٍ شاملةٍ ودائمةٍ لكافة مشكلات المياه القائمة بين الطرفين، واتّفاقهما على الاعتراف بتخصيصاتٍ عادلةٍ لكلٍ منهما، سواء من مياه نهري الأردن واليرموك أو من المياه الجوفية في وادي عربة، وفق مبادئ متفق عليها وبالكميات والنوعية المحددة". غير أنّ خبراء المياه لا يرون أن تقسيم يحقق العدالة على أرض الواقع، إذ يوضح الخبير البيئي والمائي الدكتور سفيان التل أن "إسرائيل تستنزف الموارد الجوفية في وادي الأردن، عبر حفر عددٍ كبيرٍ من الآبار، بالرغم من أنّ نص المعاهدة سمح لها بحفر آبارٍ جديدة فقط في حال جفّ أيٌّ من الآبار المتفق عليها في وادي عربة". على الصعيد السياسي، تكبد الأردن أثمانًا باهظةً نتيجة استمرار العلاقة مع إسرائيل، إذ شهدت السنوات الماضية أزماتٍ متكررةً عمّقت حالة الغضب الشعبي، ورفض التطبيع كما يُحمّل التل إسرائيل مسؤولية التراجع الحاد في منسوب مياه البحر الميت، مرجعًا ذلك إلى "قيامها بسرقة روافد نهر الأردن باستخدام أنابيب شفطٍ، وتحويل مجرى المياه، ما حوّل النهر إلى ما يشبه المكرهة الصحية". تترافق هذه المعطيات الاقتصادية مع رفضٍ شعبيٍ وسياسيٍ واسعٍ لعلاقات التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل، خصوصًا مع تصاعد حرب الإبادة في قطاع غزّة، والصراعات الإقليمية. وبسبب هذا الموقف، لم تستطع الحكومات المتعاقبة فرض قبولٍ شعبيٍ حقيقيٍ على الشراكات الاقتصادية مع الجانب الإسرائيلي. بعد أكثر من ثلاثة عقودٍ على توقيع اتّفاقية وادي عربة، يكشف الميزان بوضوحٍ أنّ "السلام الاقتصادي" الذي وُعد به الأردنيون ظلّ حبيس الشعارات، في حين بقيت الأثمان الحقيقية ملموسةً سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. فلا التنمية تحقّقت على الأرض، ولا الازدهار وصل إلى المواطن، وازدادت تبعية الاقتصاد الأردني لمعادلاتٍ خارجيةٍ، واستمرت حالة القطيعة الشعبية مع التطبيع.


العربي الجديد
منذ 2 ساعات
- العربي الجديد
هل ينجح مخطط التهجير الصهيوني في قطاع غزة؟
كشفت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية في السادس من يوليو/تموز 2025، أنّ شركةً أميركيةً تدعى "مجموعة بوسطن للاستشارات"، قد وقّعت عقدًا بملايين الدولارات لتطوير مشروع "مؤسسة غزة الإنسانية" (جي إتش إف) المثيرة للجدل، كما عملت على رسم خطةٍ لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة تحت مسمى " إعادة التوطين ". في اليوم التالي قالت مقررة الأمم المتّحدة الخاصّة، المعنية بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان ماري لولور، إن ما يسمى "مؤسسة غزّة الإنسانية" تستخدم المساعدات سلاح حربٍ لتهجير الناس وإذلالهم، وأوضحت المقررة الأممية أن الحقّ في تلقي المساعدات ينبغي ألا يُنتزع من أي شخصٍ في أيّ مكانٍ في العالم، كما أنّ ما يحدث في قطاع غزّة هو تجويعٌ قسريٌ للمدنيين. مخططات تهجير الشعب الفلسطيني ليست وليدة لحظة الإبادة الحاصلة، والكشف عنها لم يكن يحتاج تحقيقًا ولا إقرارًا أمميًا، فمنذ بدأت نكبة فلسطين عام 1948م ومخططات التهجير تتدافع تباعًا كل عام، وعند كل مواجهةٍ، وهي موغلةٌ في العقلية الصهيونية منذ 1920، والحركة الصهيونية تضع في أولوية أجنداتها تهجير الشعب الفلسطيني، ما حدث الآن هو استدعاء المخططات القديمة، وتوظيف المتغيرات المستجدة. وبالتالي هذا هو مصير مخططات التهجير كلّها على مدار أكثر من نصف قرن، لم يقاتل الفلسطيني للتوطين في مكانٍ آخر، أو لتحسين ظروف حياته، بل قدم حياته وأولاده وتضحياته من أجل أرضه ومقدساته وتقرير مصيره وحريته واستقلاله قبل احتلال إسرائيل قطاع غزّة عقب نكسة 1967، كانت مخططات التهجير حاضرةً، ففي 1953 كُشف عن مخطط تهجيرٍ تقوده وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ويقضي بتوطين نحو 12 ألف أسرةً من لاجئي قطاع غزّة على أراضٍ في شمال غرب صحراء سيناء، حينها خصصت الإدارة الأميركية 30 مليون دولار لتنفيذ المخطط، فشل المخطط وتصدى له الشيوعيون والإسلاميون في قطاع غزّة. جمدت المخططات لفترةٍ مؤقتةٍ ثّم عادت في السبعينيات ومنتصف الثمانينيات، كما تعددت التسميات، إذ كان قبل الطوفان مخططٌ لتوسعة قطاع غزّة باتجاه سيناء، أطلق عليه "فلسطين الجديدة"، أجهض هو الآخر، ليعاد الآن إنتاج مخططٍ جديدٍ تحت اسم "مدينة الخيام" في رفح، مقدمةً لمخطط تهجيرٍ جديدٍ. لسنا هنا بصدد استدعاء مخططات التهجير الإسرائيلية المتعددة والممتدة واستذكارها، لكن هل تنجح إسرائيل في تنفيذ وتمرير مخططات التوطين والتهجير الحالية؟ الإجابة باختصار تتلخص في ثلاثية "الوعي والهوية والذاكرة"، هذه الثلاثية التي اعتمدتها العبقرية الفلسطينية في مواجهة مخططات التهجير، وسأختصر توضيحها من خلال أمثلةٍ عدّة، أوجزها في التالي: ملحق فلسطين التحديثات الحية مخططات الاحتلال الإسرائيلي تجاه الضفة الغربية مرّت على نكبة فلسطين أكثر من سبعة عقودٍ، وُلدت أجيالٌ ورحلت أجيالٌ، لكنك إذا سألت عائلةً فلسطينيةً في قطاع غزّة ستجيبك فورًا بأنّ جذورها وأصولها وامتدادها يعود إلى قريةٍ الجورة أو حمامة أو دير سنيد، حتّى لو تشابهت أسماء العائلات، وقد حدث أن سألت صديقي عن اسم عائلةٍ يتشابه مع اسم عائلته فقال لي "هذه العائلة من بيت دراس إحنا من الجورة"، وصديقي مواليد سبعينيات القرن الماضي في غزّة، أي ولد بعد النكبة بربع قرنٍ تقريبًا؛ هذا مثالٌ يستحضر كيف يُعرف الفلسطيني نفسه، وكيف يقدم ذاته وهويته. بعد شهرين من حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 دفعت إسرائيل أكثر من مليون فلسطيني من شمال قطاع غزّة إلى جنوبه، وعندما نزح هؤلاء على مدار عامٍ كاملٍ تقريبًا كان تعريفهم يتم بناءً على المناطق التي نزحوا منها، "حانونية" نسبةً إلى بيت حانون، "لاهوانية" نسبة إلى بيت لاهيا وهكذا، حتّى أثناء النزوح المؤقت حافظ الفلسطيني على علاقته بالمكان بالجغرافيا بالهوية بالذاكرة. بالمناسبة؛ حصرت إسرائيل وحشرت مليون فلسطيني في لحظةٍ معينةٍ في محافظة رفح، وأقاموا خيامهم على مسافة صفرٍ من السياج الحدودي مع مصر، بل كانت بعض العائلات تشحن هواتفها المحمولة من الكهرباء المصرية، وخلال هذا الحشر قامت إسرائيل بتجويع هؤلاء ومحاصرتهم ومنع الماء والكهرباء والغاز عنهم، وقصفت خيامهم واحرقتهم على مدار الساعة؛ وما زالت تفعل ذلك، فهل فكر هؤلاء بالنزوح والهجرة باتجاه مصر، أم عادوا إلى بيت حانون وجباليا والشجاعية مع أول هدنةٍ حدثت؟ مخططات تهجير الشعب الفلسطيني ليست وليدة لحظة الإبادة الحاصلة، والكشف عنها لم يكن يحتاج تحقيقًا ولا إقرارًا أمميًا، فمنذ بدأت نكبة فلسطين عام 1948م ومخططات التهجير تتدافع تباعًا كل عام، وعند كل مواجهةٍ وبالتالي هذا هو مصير مخططات التهجير كلّها على مدار أكثر من نصف قرن، لم يقاتل الفلسطيني للتوطين في مكانٍ آخر، أو لتحسين ظروف حياته، بل قدم حياته وأولاده وتضحياته من أجل أرضه ومقدساته وتقرير مصيره وحريته واستقلاله. ولن تمر مخططات التهجير بعد كلّ هذه التضحيات، ومصيرها كسابقاتها التلاشي والفشل.