
عزائمنا في ساحة الحرب
هذه أنا الغزيّة صاحبة الأصول المجدلاوية، ميس شحدة خليل العالول، طالبة طب بشري في المستوى الثالث في جامعة الأزهر في غزة، لي 21 عامًا من الأمل، مع سجل دراسي حافل بالنجاحات المتتالية، والحمد لله.
بين كل تلك الضغوط الاستثنائية، حيث المياه الشحيحة والجوع المتربص بنا، ورحيل الجيران من حولنا، واشتداد القصف.. كنت أدرس! بل وشكلت مجموعة لمادة "الإحصاء والبحث العلمي" لأساعد زميلاتي اللواتي دخلن متأخرات إلى الفصل الدراسي
مع بداية يونيو/ حزيران 2024 وعودة التعليم الإلكتروني بين الموت والقصف، كنتُ الوحيدة التي تحصل على كتاب من عمادة كلية الطب للسماح لي بالتدرب وأنا في السنة الثانية فقط!
وهناك في المستشفى، وبخبراتي الصغيرة وتطلعاتي الكبيرة واجتهادي العنيد، كنت أتعلم وأساعد، وأحمل شيئًا عن هؤلاء المرضى الذين أتعبتهم الحرب وأنهكتهم الحياة.
أعود إلى بيتنا شبه المقصوف، أذهب مع إخوتي لنقل الماء من مسافة بعيدة، فلي شقيق صغير وأبونا شيخ كبير.. ثم أنكبُّ على دراستي بشغفٍ يتحدى الواقع، ويسير قدمًا للحُلُم.
وبعد الاجتياح الثالث لجباليا -حيثُ كنت- في 6 من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، أجبرتُ على النزوح من شارع السكة إلى مشروع بيت لاهيا حيث منزل أخي، فكّ الله قيده.. وقد تزامن ذلك مع بداية الفصل الثاني من السنة الثانية، كنتُ هناكَ في الشمال، تحت القصف وبين أكناف النزوح، أكافح لأدرس، ويشتد الخناق ويشتد عزمي لأكمل.. تتسرب إلى أذنيّ باستمرار تلك العبارات: "رحل آل فلان".. "هل سنؤمِّن الماء غدًا".. "الجوع سيطرق بابنا قريبًا".
وبين كل تلك الضغوط الاستثنائية، حيث المياه الشحيحة والجوع المتربص بنا، ورحيل الجيران من حولنا، واشتداد القصف.. كنت أدرس! بل وشكلت مجموعة لمادة "الإحصاء والبحث العلمي" لأساعد زميلاتي اللواتي دخلن متأخرات إلى الفصل الدراسي.
لم يكن نسفُ البيوت فجرًا يمنعني من الدراسة في ذلك الوقت، ولم يمنعني من ذلك القصف المتواصل طوال الليل، ووصول الدمار إلى باب البيت، واستشهاد أحد جيراننا في ذلك الصباح المخيف.. لم يمنعني كل ذلك بفضل الله من حلّ امتحان "التغذية الإكلينيكية".. ولم يكن ذلك أصعب ما قد حدث!
تحت وطأة الجوع والعطش، والقصف الاستثنائي، والروبوتات التي تم زرعها حولنا لعدة ليالٍ متتالية، قررنا الرحيل إلى مدينة غزة صباح 27 ديسمبر/ كانون الأول 2024، حاملين الراية البيضاء، مارّين أمام تلك الدبابة التي تبعد أمتارًا قليلة عن البيت
ففي ليلة 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، اشتد الخناق كما لم يحدث من قبل، وكانت "الروبوتات المتفجرة" قريبة منا لحدٍّ لا يوصف، وصباحًا هاجمنا قصف مدفعي عنيف مع إلقاء لقنابل دخانية.. نزحنا مع جموع النازحين، ولكن غير مبتعدين (من جوار مقبرة بيت لاهيا إلى جوار مسجد صلاح شحادة).
وهناك بدأ فصل جديد من الألم والمعاناة، حيث لا كهرباء لشحن الجوال، ولا مكان للدراسة في بيت يضم 33 فردًا، وعلاوة على ذلك فقد كان يتم استهداف مَن يفتح شبكة إنترنت، ما جعل تحميل المحاضرات الدراسية في الطوابق العليا الخطيرة أمرًا مليئًا بالمجازفة، ناهيك أنه لم يكن لدينا "أساتذة جامعيون" يمكننا الرجوع إليهم فيما أشكل علينا، بل كانت الدراسة بالكامل ذاتية معتمدة على الطالب ومجهوداته، دون توجيه من الكلية، ما زاد صعوبة الأمر عليّ في أشد الأوقات حلكة.
كنت أخاطر وأذهب إلى مستشفى كمال عدوان في لحظات تبدو هادئة لأدرس.. لم يكن لديّ خيارات أخرى! وظلت مجاهدتي العظيمة لنفسي لأدرس في كل تلك الظروف حتى حلّ اختبار "موديول القلب والجهاز الدوراني" في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2024!
ما زلتُ أذكر أنني حللتُ الاختبار وأنا أختبئ من الرصاص، بينما السماء حمراء تضيئها حرائقُ مشتعلة، ولم أستطع أن أتنفس الصعداء بعدها حتى؛ ففي ساعات متأخرة من تلك الليلة تم اجتياح مستشفى كمال عدوان تحت وابل وحشي من القصف، وتجوّل الآليات حولنا.. ولم تهدأ وتيرة الأوضاع بعدها أيامًا، وكأن حظر التجوال فُرِض علينا.
تكررت زيارتي مستشفى كمال عدوان، ومخاطرتي لشحن هاتفي وجهاز الحاسوب المحمول الخاص بي، حتى كان آخرها في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، حيث تقدمت الآليات باتجاه "دوار أبو الجديان" القريب من المستشفى أثناء تواجدي فيه، وعلا صوت إطلاق الرصاص من الطائرة المسيرة من نوع "كواد كابتر" في ساحة المستشفى، مانعًا أي أحد من التفكير في الخروج. وكان من الممكن أن يتم احتجازي هناك لعدة أيام لولا أن وصل وفدٌ دولي لنقل بعض المرضى إلى غرب مدينة غزة.
جلستُ مع النازحين، الذين قرروا السير خلف ذلك الوفد ساعات طويلة في انتظار التحرك، حتى وصلت البيت ذلك اليوم مع غروب الشمس. وتحت وطأة الجوع والعطش، والقصف الاستثنائي، والروبوتات التي تم زرعها حولنا لعدة ليالٍ متتالية، قررنا الرحيل إلى مدينة غزة صباح 27 ديسمبر/ كانون الأول 2024، حاملين الراية البيضاء، مارّين أمام تلك الدبابة التي تبعد أمتارًا قليلة عن البيت الذي كنا نتواجد فيه.
رغم كل ذلك ما زلتُ أدرس.. بين ألم يعتصر الفؤاد، وجوع يتزايد، وتهديداتٍ لا تتوقف. ورغم المأساة، ما زال في جعبتي آمال وليدة، تخترق الحصار، وتنمو بين المستحيل، وتبتسم للمستقبل المجهول
جلسنا على الأرض جميعًا أمام تلك الدبابة رافعين أيدينا، وبجوارنا أمتعتنا، تلك الأمتعة التي حملت بينها أقلامي وأوراقي وتلخيصاتي، وأحلامي بأمنٍ ورغيف خبزٍ وشربة ماءٍ نقية. كل ذلك قبل أن يتم فصل النساء والأطفال عن الرجال.. وهناك ألقيت النظرة الأخيرة على أخي عبدالرحمن الذي أُسِر بعدها.
لسبب ما، كان صعبًا على كُليتي -كلية الطب- فهم تلك المعاناة التي عشتها ويعيشها كثير من الطلاب؛ فما زال الاختبار مضبوطًا بـ مؤقتٍ لا يُجاري بطءَ الإنترنت، وما زالت العلامات سيئة (لأن التعليم إلكتروني)، ولا حقّ لنا في الاعتراض أو المراجعة والمعاينة.
تستنزف الدراسة ما تركته الحرب من أمل صغير يسكننا، ووجب علينا عدم توقع الحصول على علامة جيدة نستحقها، كان من الممكن أن تشجعنا لنكمل..
آخر ما مررتُ به كان تقديمي لاختبار "موديول الجهاز البولي" في 15 مايو/ أيار 2025، بعد صدور أوامر الإخلاء ورفض تأجيل الامتحان أو تمديده مراعاة للظروف! حللتُ امتحاني تحت القصف، ونزحتُ في اليوم التالي بعد ليلة مؤلمة حاملة أقلامي وأوراقي مجددًا، لنلقى صباحًا دمويًا تستشهدُ فيه أختي بعد استهدافها أثناء رحلة النزوح المريرة.. والحمد لله رب العالمين.
ورغم كل ذلك ما زلتُ أدرس.. بين ألم يعتصر الفؤاد، وجوع يتزايد، وتهديداتٍ لا تتوقف. ورغم المأساة، ما زال في جعبتي آمال وليدة، تخترق الحصار، وتنمو بين المستحيل، وتبتسم للمستقبل المجهول.
ما زال لديّ أهداف طموحة لأنهي دراستي الجامعية بأفضل ما أستطيع، وأكون تلك الطبيبة التي تخدم وطنها الكبير، وتضمد أوجاعه الغائرة بقدر الممكن.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 42 دقائق
- الجزيرة
مظاهرة حاشدة في إيطاليا دعما للقضية الفلسطينية ورفضا لحرب الإبادة
شارك في العاصمة الإيطالية روما أكثر من 300 ألف شخص في المظاهرة التي نظمتها أحزاب يسارية عدة دعما للقضية الفلسطينية. اقرأ المزيد


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
والدة جندي إسرائيلي قُتل بكمين خان يونس: جثة ابني تلاشت وكذلك القوة التي كانت معه
نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن والدة الجندي الإسرائيلي توم روتشتين -الذي قتل مؤخرا في كمين بخان يونس-، قولها إن الجيش تعرف على ابنها بواسطة الحمض النووي، وأكدت أن جثة ابنها تلاشت، وكذلك القوة التي كانت معه. وأضافت والدة الجندي أن ابنها "تبخر من العالم"، وأنها لم تحظ حتى بالحصول على جثته. وأول أمس الجمعة، أفادت وسائل إعلام إسرائيلية بمقتل 5 جنود إسرائيليين وإصابة جنديين آخرين في كمين استهدف مبنى انهار عليهم بخان يونس جنوبي قطاع غزة. وقالت وسائل إعلام إسرائيلية إن قوة مكونة من 12 جنديا من وحدة نخبة تعرضت لكمين وانهار مبنى مفخخ عليهم في خان يونس. ولاحقا، قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي العميد إيفي دفرين إن 4 جنود قتلوا كما أصيب 5 جنود آخرين، جندي بجروح خطيرة و4 بجروح متوسطة. وأوضح أن القوة كانت تعمل في منطقة خان يونس في منشأة وصفها بـ"الإرهابية" تابعة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وأنه في نحو الساعة السادسة صباحا انفجرت عبوة ناسفة أدت إلى انهيار جزء من المبنى. وقدّم مراسل القناة الـ11 آيتيسيك زوارتس سردا أكثر تفصيلا للحادث، مؤكدا أن الواقعة وقعت عند الساعة السادسة و10 دقائق صباحا عندما دخل الجنود ومشطوا المبنى.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
مصادر في مستشفيات غزة: 21 شهيدا في غارات إسرائيلية على مناطق عدة بالقطاع منذ فجر اليوم
عاجل | مصادر في مستشفيات غزة: 21 شهيدا في غارات إسرائيلية على مناطق عدة بالقطاع منذ فجر اليوم التفاصيل بعد قليل..