
تقلبات النفط وشح السيولة يغذيان قلق العراقيين على الرواتب
في ظل تفاقم الضغوط الاقتصادية التي تشهدها بلاد الرافدين، عاد ملف تأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين والرعاية الاجتماعية إلى واجهة المشهد ليصبح مادة جدل سياسي واقتصادي واسع. وبينما تؤكد الحكومة واللجنة المالية النيابية أن الرواتب مؤمنة ولا داعي للقلق، يطلق خبراء الاقتصاد ونواب آخرون تحذيرات صريحة من احتمال نشوء أزمة مالية خانقة قد تهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في العراق خلال الأشهر المقبلة.
العراق، الذي يعتمد اقتصاده بصورة شبه كلية على صادرات النفط، يجد نفسه اليوم أمام معضلة مالية متشابكة، زادها تعقيداً تقلب أسعار النفط في الأسواق العالمية، وشح السيولة النقدية داخل النظام المصرفي. وعلى رغم محاولات الحكومة المستمرة طمأنة المواطنين حيال استمرار دفع الرواتب، فإن الأزمة المالية المتصاعدة تثير تساؤلات جدية حول قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها المالية مستقبلاً، من دون اللجوء إلى تدابير استثنائية قد تكون لها آثار اقتصادية واجتماعية سلبية.
جذور الأزمة وتحدياتها
عضو اللجنة المالية النيابية حسين مؤنس، أكد في تصريح صحافي، أن "رواتب الموظفين مؤمنة، ولا يوجد ما يدعو إلى القلق حيال صرفها خلال العام الحالي"، مضيفاً أن "الحكومة تمتلك كثيراً من الخيارات التي تمكنها من الاستمرار بدفع الرواتب على رغم الوضع المالي الحرج الذي تمر به البلاد".
وأوضح مؤنس أن "الوضع المالي الحرج ناجم عن تقلبات أسعار النفط وشح السيولة النقدية في السوق، وهو أمر معروف للجميع"، مشيراً إلى أن "المحاولات الحكومية لسحب الكتلة النقدية الكبيرة من المواطنين لم تحقق أهدافها بالكامل، إذ لا تزال هناك قرابة 88 تريليون دينار متداولة خارج النظام المصرفي"، ومؤكداً أن "هذا الوضع لا يعني توقف صرف الرواتب، التي ستبقى مستمرة على رغم الضائقة المالية المقلقة".
في المقابل، حذر عضو اللجنة المالية النيابية معين الكاظمي، في تصريح صحافي، من عجز محتمل في السيولة النقدية قد يؤثر في تأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين والرعاية الاجتماعية خلال الأشهر المقبلة، مشدداً على ضرورة رفع الإيرادات غير النفطية، وتخفيض الإنفاق غير الضروري.
وأوضح الكاظمي أن مجموع رواتب الموظفين والمتقاعدين والرعاية يبلغ نحو 8 تريليونات دينار شهرياً (أكثر من 6 مليارات دولار)، مما يمثل عبئاً ضخماً على الموازنة العامة، في وقت تواجه المالية العراقية تحديات جدية تتطلب إصلاحات عاجلة. وأضاف "اللجنة طلبت من الحكومة تعزيز الإيرادات غير النفطية وترشيد المصروفات، لتفادي أية أزمات مالية مقبلة، خصوصاً أن الوضع الحالي لا يحتمل مزيداً من الاعتماد على النفط وحده".
المتخصص في الشأن الاقتصادي الدولي نوار السعدي، يرى أن "معركة المعاشات الشهرية التي يشهدها العراق ليست مجرد أزمة ظرفية، بل تعكس واقعاً اقتصادياً هشاً يعانيه البلد منذ أعوام، فالحكومة العراقية تحاول تهدئة الشارع من خلال تطمينات مستمرة حول التزامها دفع الرواتب، لكنها في الحقيقة تواجه مأزقاً حقيقياً يتمثل في الإفراط بالاعتماد على الإيرادات النفطية، التي تبقى مرهونة بتقلبات السوق العالمية". ويضيف "أكثر من 70 في المئة من الموازنة التشغيلية تذهب لتغطية الرواتب والمخصصات، وهذه نسبة مرتفعة للغاية، خصوصاً لدولة لا تمتلك تنويعاً اقتصادياً حقيقياً، كذلك فإن حجم الكتلة النقدية المتداولة خارج النظام المصرفي يشير إلى مشكلة هيكلية في النظام المالي العراقي، مما يعقد جهود الدولة في تحقيق استقرار نقدي وسيولة كافية".
ويتابع السعدي "قد تتمكن الحكومة من تأمين الرواتب في الأشهر القليلة المقبلة بفضل احتياطاتها المالية أو عبر إجراءات وقتية، وربما حتى نهاية العام، لكنها إن لم تعالج الأسباب الجذرية للمشكلة، فإن الأزمة مرشحة للتفاقم في 2025 وما بعده. والمطلوب إصلاح جذري يبدأ بإعادة هيكلة منظومة التوظيف العام، وتفعيل القطاعات الإنتاجية غير النفطية، ومكافحة الفساد والهدر المالي الذي يلتهم جزءاً كبيراً من الإيرادات".
تطمينات أم إصلاحات؟
وتواجه الحكومة العراقية اليوم خيارين لا ثالث لهما: إما الاستمرار في تقديم تطمينات سياسية وإعلامية تهدئ الشارع ولكنها لا تعالج جوهر الأزمة، أو الانتظام في خطة إصلاح اقتصادي شاملة تعيد هيكلة الاقتصاد وتخفض الاعتماد على النفط.
تشمل هذه الخطة المرتقبة تنويع مصادر الدخل عبر تطوير القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية، وتحديث النظام الضريبي، وتحفيز الاستثمارات المحلية والأجنبية، إلى جانب مكافحة الفساد الإداري والمالي، كذلك يتعين على الحكومة إعادة النظر في سياسة التوظيف العام التي باتت تشكل عبئاً على الموازنة، من خلال ضبط الإنفاق، وتحسين كفاءة الإدارة المالية، وتبني برامج تقشف مدروسة بدلاً من الاستمرار في سياسة الإنفاق المفرط.
يكشف المتخصص في الشأن الاقتصادي العراقي علي حسين عن أن المشهد الحالي حول أزمة المعاشات الشهرية ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات مستمرة على مدى أعوام، مبيناً أن الحكومة العراقية، على رغم تطميناتها المتكررة بتأمين الرواتب بصورة كاملة، تواجه في الواقع تحديات اقتصادية جدية يمكن أن تؤدي في حال عدم التعامل معها بحكمة إلى أزمة مالية حادة.
وبحسب حسين، يعتمد العراق بصورة شبه كلية على الإيرادات النفطية لتمويل الموازنة، بما في ذلك رواتب الموظفين والمتقاعدين. ومع تقلب أسعار النفط في الأسواق العالمية، التي يمكن أن تهبط بصورة مفاجئة كما رأينا في أعوام سابقة، تصبح الإيرادات النفطية عرضة لأخطار غير متوقعة، وهنا يكمن جوهر تحذيرات النواب، فهم ينظرون إلى الواقع المالي بعين الحذر والقلق من مفاجآت السوق العالمية. وزاد "هناك مشكلة أخرى تتمثل في حجم الإنفاق الحكومي المتضخم، إذ تستحوذ الرواتب وحدها على نسبة كبيرة جداً من الموازنة التشغيلية. وفي غياب إصلاحات مالية وهيكلية حقيقية، سيظل هذا العبء يتفاقم مع زيادة أعداد الموظفين والمتقاعدين والتوظيف المستمر بعقود جديدة". وتابع "على رغم وجود خطط حكومية معلنة لتنويع الاقتصاد وتوسيع قاعدة الإيرادات غير النفطية، فإن تنفيذ هذه الخطط لا يزال يواجه عقبات بيروقراطية وتشريعية. وعلى أرض الواقع تبقى قدرة الدولة على تعظيم إيراداتها المحلية محدودة، مما يعزز مخاوف النواب من أزمة مالية قد تتسبب في تأخير أو تقليص الرواتب الشهرية مستقبلاً".
ونبه إلى أن الخطوات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة، مثل تعزيز الرقابة على الإنفاق، والبحث عن استثمارات جديدة، تمثل مؤشرات إيجابية نحو تحسين الإدارة المالية، بل يمكن القول إن الحكومة نجحت حتى الآن على رغم التحديات في الحفاظ على استقرار الرواتب وعدم المساس بحقوق الموظفين والمتقاعدين. وهذا بحد ذاته يعكس إرادة سياسية قوية وإدارة مالية حذرة، تسعى إلى تفادي أية صدمات اقتصادية قد تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية.
وختم حديثه بالقول إن "أزمة المعاشات الشهرية ليست أزمة آنية بل قضية متشابكة تتطلب إصلاحات اقتصادية شاملة، تشمل تقليل الاعتماد على النفط، وتعزيز الشفافية، وتنويع مصادر الإيرادات. ومع أن تحذيرات النواب من أزمة مالية تستند إلى مخاوف مشروعة، فإن الحكومة العراقية – حتى اللحظة – تظهر قدرة على إدارة هذه الأزمة بصورة متوازنة، ومع استمرار الإجراءات الإصلاحية وتعزيز الثقة بالاقتصاد الوطني يمكن للعراق أن يتجاوز هذه المرحلة بأقل الخسائر الممكنة".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوئام
منذ ساعة واحدة
- الوئام
بعد رحيل ماسك.. ما مصير إدارة الكفاءة الحكومية الأمريكية؟
قال موظف سابق في إدارة الكفاءة الحكومية في أول مقابلة له منذ ترك منصبه إن مشروع خفض الإنفاق لإدارة الكفاءة الحكومية المستحدثة سيفشل على الأرجح بدون وجود الملياردير إيلون ماسك في إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب. وأعلن ماسك الرئيس التنفيذي لشركة تسلا مساء يوم الأربعاء أنه سيرحل عن إدارة الكفاءة الحكومية لكنه تعهد بأنها ستواصل عملها بدونه. وقال ممثلو إعلام للإدارة الأمريكية في تصريحات لرويترز إن إدارة الكفاءة الحكومية ستواصل عملها. وأشرفت إدارة الكفاءة الحكومية على خفض الوظائف في جميع الوكالات الاتحادية تقريبا في إطار محاولات ترامب لإحداث تغييرات في البيروقراطية الاتحادية. ومع ذلك، قال مهندس البرمجيات ساهيل لافينجيا، الذي أمضى ما يقرب من شهرين في العمل مع مجموعة من خبراء التكنولوجيا المؤيدين لماسك، إنه يتوقع أن 'تتفكك' إدارة الكفاءة الحكومية على نحو سريع. وقال لافينجيا، الذي طُرد من الإدارة هذا الشهر، لوكالة رويترز 'ستتلاشى هذه الفكرة فجأة'. وأضاف 'كان إيلون مصدر الجذب والجاذبية الأكبر'. وقال إنه يتوقع أن 'يتوقف موظفو إدارة الكفاءة الحكومية عن الحضور إلى العمل. الأمر أشبه بانضمام أطفال إلى شركة ناشئة ستتوقف عن العمل في غضون أربعة أشهر'. ومن شأن ذلك أن يضع كلمة النهاية لتراجع ملحوظ في أداء إدارة الكفاءة الحكومية، التي تعهد ماسك عندما تولى رئاستها بخفض الإنفاق الاتحادي بنحو تريليوني دولار. لكن بدلا من ذلك، تظهر تقديرات الإدارة أن جهودها أسفرت عن توفير حوالي 175 مليار دولار حتى الآن، وأن حساباتها كانت حافلة بالأخطاء. وأشاد البيت الأبيض بإدارة الكفاءة الحكومية، لكنه لم يعقب على ما ذكره لافينجيا. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض هاريسون فيلدز 'إدارة الكفاءة الحكومية جزء لا يتجزأ من عمليات الحكومة الاتحادية، ومهمتها، كما حددها الأمر التنفيذي للرئيس، ستستمر تحت إشراف رؤساء الأجهزة والإدارات في إدارة ترمب'. وأشاد ترمب بماسك أمس الخميس وقال إنه سيعقد مؤتمرا صحفيا مع الملياردير، الذي تنتهي فترة عمله في الإدارة اليوم الجمعة في الساعة 1:30 مساء بتوقيت شرق الولايات المتحدة (1730 بتوقيت جرينتش)، في المكتب البيضاوي. وقال ترمب في منشور على موقع تروث سوشيال 'سيكون هذا يومه الأخير، ولكنه لن يكون كذلك في الواقع لأنه سيكون دائما معنا ويساعدنا طوال الوقت'.


الوئام
منذ ساعة واحدة
- الوئام
'أكوا باور' تخطط لاستثمار 10 مليارات دولار في الطاقة المتجددة بماليزيا
أبرمت شركة 'أكوا باور' للمرافق اتفاقيات غير ملزمة مع شركات ماليزية، تشمل استكشاف وتطوير نحو 13 جيجاوات من قدرة توليد الطاقة، باستثمارات إجمالية تبلغ 10 مليارات دولار بحلول عام 2040. وقالت الشركة في بيان إن هذه الشراكات 'ستشمل مجالات الطاقة المتجددة، والهيدروجين الأخضر، وحلول المياه المتقدمة'. وتُعد 'أكوا باور' واحدة من أكبر شركات تحلية المياه الخاصة في العالم، وقد وقعت الاتفاقية مع هيئة تنمية الاستثمار الماليزية يوم الخميس. وأوضحت الشركة أن هذا التعاون يهدف إلى 'دعم هدف ماليزيا المتمثل في رفع نسبة الطاقة المتجددة المركبة إلى 70% بحلول منتصف القرن'. مشاريع تساهم في تحقيق الحياد الكربوني تسعى الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا إلى التخلص من طاقة الفحم بحلول عام 2044 وتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050. وأضاف البيان أن 'أكوا باور' 'ستجري دراسات جدوى مشتركة حول مزارع الألواح الشمسية العائمة، ومحطات التحلية واسعة النطاق بالتعاون مع شركة 'تنجا ناسيونال بيرهاد' الماليزية الحكومية وغيرها من الأطراف'.


الاقتصادية
منذ ساعة واحدة
- الاقتصادية
عدم اليقين التجاري يكبد الدولار خسائر للشهر الخامس على التوالي
تذبذب الدولار اليوم الجمعة ويتجه للانخفاض للشهر الخامس على التوالي مع تأهب المتعاملين لمزيد من عدم اليقين بشأن السياسة التجارية ومتانة المالية الأمريكية في الوقت الذي ينتظرون فيه تقارير مهمة عن التضخم ستصدر في وقت لاحق من اليوم. وشهدت العملة الأمريكية أسبوعا متقلبا وانخفضت عند الإغلاق في الجلسة السابقة بعدما أعادت محكمة اتحادية مؤقتا فرض أكبر رسوم جمركية فرضها الرئيس دونالد ترمب عقب يوم واحد فقط من قرار محكمة تجارية بوقفها فورا. وعبر ترامب أمس الخميس عن أمله في أن تلغي المحكمة العليا قرار المحكمة التجارية، في حين أشار مسؤولون أيضا إلى أنهم قد يستخدمون سلطات رئاسية أخرى لضمان سريان الرسوم الجمركية. وتمكنت حالة عدم اليقين بشأن الرسوم الجمركية من الأسواق وتجنب المستثمرون الأصول الأمريكية ويبحثون عن بدائل خوفا من أن تنال سياسات ترمب المتقلبة من قوة الأسواق الأمريكية. وقال كايل رودا كبير محللي الأسواق المالية لدى كابيتال دوت كوم "قرار (المحكمة) يمثل بداية لمصدر جديد من عدم اليقين بدلا من سد مصدر آخر تماما"، مشيرا إلى أن المزاج السائد في السوق هو توخي الحذر. وارتفع اليورو قليلا اليوم الجمعة إلى 1.1378 دولار قبل صدور بيانات التضخم الألمانية لشهر مايو. ولم يطرأ تغيير يذكر على الفرنك السويسري الذي سجل 0.8225 للدولار. غير أن العملة الأمريكية تتجه لانخفاضات شهرية مقابل الفرنك السويسري واليورو والجنيه الإسترليني. ولم تفعل بيانات الطلبات الأسبوعية للحصول على إعانة البطالة وبيانات النمو الاقتصادي أمس الخميس الكثير لتهدئة المخاوف من انكماش الاقتصاد الأمريكي. وسينصب تركيز المستثمرين على بيانات التضخم وتقرير نفقات الاستهلاك الشخصي المقرر صدورهما في وقت لاحق اليوم الجمعة. وارتفع مؤشر الدولار، الذي يقيس أداء العملة الأمريكية مقابل سلة من ست عملات أخرى، بنسبة 0.16 % إلى 99.416 نقطة. ويتجه للانخفاض 0.25 % في مايو في تراجع للشهر الخامس على التوالي. وارتفع الين الياباني 0.3 % إلى 143.80 للدولار بعدما أظهرت بيانات أن التضخم الأساسي في طوكيو سجل في مايو أعلى مستوى له في أكثر من عامين مما يبقي على احتمالات أن يرفع بنك اليابان أسعار الفائدة. وقال مين جو كانج كبير خبراء الاقتصاد لدى آي.إن.جي "بنك اليابان في موقف صعب... لا تزال ضغوط التضخم شديدة والانتعاش الاقتصادي هشا ويواجه عوامل معاكسة قوية من الرسوم الجمركية الأمريكية". لكن الين يتجه لتسجيل أول انخفاض شهري له أمام الدولار هذا العام. وانخفض الدولار الأسترالي قليلا إلى 0.6431 دولار، وسجل الدولار النيوزيلندي في أحدث التعاملات 0.5968 دولار.