logo
ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة والخذلان

ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة والخذلان

الجزيرةمنذ 12 ساعات

تشهد الحركة الأدبية العراقية زخما واسعا، إذ تتنوع الهموم المجتمعية التي يواجهها المواطن العراقي، وكان من الطبيعي أن يعالج الأدباء هذه الاهتمامات والشواغل، قبل أن تضاف إليها تبعات جديدة مرتبطة بالهجرة، حتى بات قدر العربي -في محيطه العربي والغربي- أن يواجه ابتلاءات كقطع الليل المظلم.
لذلك تنوع المشروع الروائي للكاتبة العراقية ميسلون فاخر، واتسع الأفق السردي الذي تشتغل عليه وتضبط إيقاعه.
و"ميسلون فاخر"، كاتبة وروائية عراقية، تنتمي إلى جيل الأدباء الذين تشكلت تجاربهم في ظل التحولات العاصفة التي شهدها العراق والمنطقة العربية خلال العقود الأخيرة.
اشتغلت على مشروع روائي يتناول قضايا الهجرة والمنفى، واهتمت بالغوص في عوالم الشخصيات النفسية والاجتماعية، مع الحرص على تناول القضايا الوجودية والهموم الفردية والجماعية بلغة سردية مشذّبة وعميقة. صدرت لها أعمال روائية من بينها "رائحة الكافور" و"صلصال امرأتين" و"زهرة"، حيث تعكس في كتاباتها هواجس الاغتراب والحنين والبحث عن الهوية في عالم مليء بالخذلان والأسئلة الصعبة.
إلى جانب عملها الروائي، خاضت ميسلون تجربة العمل في المجال الوثائقي، وهو ما أضاف بعدا بصريا وواقعيا إلى كتابتها السردية، من خلال المزج بين التخييل والتوثيق. وتحرص فاخر في مشروعها الأدبي والبحثي على مساءلة الواقع وكشف العتمة المحيطة بحياة المهمشين، مؤمنة بأن الأدب والفن هما أداتا مقاومة للخراب ومتنفس للبحث عن العدالة والمعنى وسط الفوضى.
وانطلاقا من هذه الرؤية، وتلك الخطوط العريضة عن شخصيتها ومشروعها الروائي، كان هذا حديثها مع الجزيرة نت. فإلى الحوار:
ما الأشياء التي لم تعرفيها عن نفسك إلا وأنت تكتبين؟
إعلان
الكتابة هي الطريقة الوحيدة التي يتماهى بها الكاتب مع شخوصه المخفية الداخلية لتحتشد كل الوجوه والاقنعة كأنها قادمة من العمق، من الغياب، من اللاجدوى، الكتابة هي فعل مقصود بدوافعها الموجهة في نسيج النص الروائي.
فكلما تعثر ما يراد قوله في العالم الحقيقي تجدها طليقة تتصرف بحرية تامة تصفي حسابا مؤجلا تمارس عبثية أو طفولة مصادرة، ولكن لا يعني أن كل الشخصيات المكتوبة هي بوح ذاتي للكاتب بشكل متماثل، هذه ليست الفكرة، ولكن لا بد من وشائج وصل -ولو من بعيد- تتناسب معه رغم تباين الأزمنة والأمكنة النفسية والجغرافية للطرفين بين شخصية الكاتب والشخصية الروائية.
الإبداع يكمن في كيفية تقمص الكاتب لكل هؤلاء ومعرفة ما يدور في رؤوسهم مع تطويع متواصل للغة وتنصت على حيوات لم تكن مجسدة في العالم الحقيقي وغير ظاهرة له شخصيا، حيوات تلوح له من بعيد، إنها حيوات مستلبة دون أن يدرك ذلك للوهلة الأولى لكنه يراها فجأة في سطور تنبض بالحياة، وهذه الفكرة وجدت في منجزات كثيرين ولا يفلت من تلك المرايا إلا ما ندر.
الكتابة حاجة إنسانية تندرج ضمن قائمة الاحتياجات التي ترتقي بصفاتنا الإنسانية وتدفع بنا فوق مستوى الاحتياجات البدائية للإنسان وتؤخر موتنا البيولوجي وهي علاقة مطردة تظهر نتائجها وتضفي ثمارها على الطرفين: المبدع أو منشئ النص والمتلقي.
ملامح مشروعك الروائي بدءا من "رائحة الكافور" إلى "زهرة".. ما القواسم المشتركة التي لا تتنازلين عنها؟
مثل كل البدايات لا أعتقد أن ملامح تجربتي كانت واضحة أو ذات وهج لافت، لكن المفيد منذ تلك المرحلة أنني اكتشفت قدرتي على تطويع أدواتي، ورحت أفتش في زوايا مشروعي عن دوافع الكتابة والمجدي منها، كذلك أظن أنني غدوت أكثر قدرة على التعبير واستدراك معاناة أبطالي مكتنزة بأسئلتي الفضولية ومندهشة بعالمي الفسيح.
فمن "رائحة الكافور" إلى "صلصال امرأتين" كنت كاتبة بريئة لا أجيد كل أنواع اللعب والحرفية في التظليل لأتمكن من الانقضاض على القارئ واستدراجه للقراءة بطريقة محترفة، بل أكتب بكل صدق العمل الأول، وبالإمكان تسمية هذه المرحلة هي البدايات التي أسست للتعلم ومرحلة الحبو أو الكتابة الذاتية الضيقة المنحسرة في عوالم معروفة وقريبة من النفس، يمكن تسميته بـ"البوح" أو الكتابة الذاتية الضيقة المنحسرة في عوالم الذات.
ثم تغيرت أسبابي للكتابة وأصبحت أمرا مغايرا؛ بدأت أسعى لمواضيع أكثر جراءة وإشكالية، ومن الصعب العبث بها دون بذل جهد لتحقيق ذلك، فضلا عن التماس اليومي مع الفنون والإبداع والبؤس الاجتماعي، ولم تعد النصوص تحمل في سماتها أنينا ذاتيا ونزفا شخصيا، بل ابتعدت الشخصيات عني وأتمتع برسم شخصيات بعيدة كل البعد عني، أتقمص شرها وعذابها وتناقضاتها بدافع التسلية معها والفرجة عليها من بعيد، ولم أعد حاضرة في أبعادها وأزماتها النفسية.
صرت أملك ذائقة أكثر تشذيبا للتعامل مع صوت العدالة والظلم والقدرة على التقمص العاطفي والوجداني للشخصية، وبدت مساراتي تأخذ انطباعا مختلفا بالأحداث، وصرت أتأمل بروية أكثر من الأول وأحتاج إلى أن أفكر كثيرا في ردود فعل الشخصيات التي بدت أكثر نضجا وأقل حماسة، ثم تولدت داخلي رغبة غير واعية للبحث عن مستحدثات في عالم الرواية، وربما هذه الرغبة التي تدفع أحيانا أصحابها للتورط باستخدام أنماط غير متعارف عليها.
وأتطلع إلى كتابة أتحدى بها القواعد النصية وأرجو أن أنجح في ذلك، رغم أن الاعتماد على الجهود والأدوات والأساليب مع قدر مقبول من الوعي والثقافة الشخصية والقيم الإنسانية ترفد المشروع بالمجسات الإبداعية التي تغذيه بروح حقيقية من خلال موضوعات تنقضّ بأسئلة تحاصر تفكير المتلقي، ويمكن اعتبار الأدب والفن أداة من أدوات التسامح وقبول الآخر؛ تخفيف العنف وكسر فكرة الاستعلاء على الهامش التي يمارسها المركز على الجغرافيات الهامشية، كذلك فإن العمل الذي يختزل الخبرة والمعرفة يتسم بالفضول للثورة على أنماط التفكير التقليدية.
أعتقد أن ذلك الجهد يجعل العمل مقروءا إلى درجة أسعدتني، غير أن القارئ هو صاحب الكلمة والفيصل الذي يحكم في كل هذه المحاولات والجهود.
الوطن يسكننا وليس مجرد نوستالجيا.. كيف تعالجين مشاعر الحنين إلى العراق في حياتك الشخصية وفي أعمالك؟
الوطن هو ذلك الشعور الملتبس للغياب والحضور، هو حالة من الصراع مع الخوف؛ الخوف من أصوات مجهولة لا تنتقي ضحاياها. إننا جميعا مجبولون على فكرة النهاية التي لم نقررها بأنفسنا ونضيع تحت دثار معتقدات وكم كبير من التضليل والإيهام الذي تصدّره الأيديولوجيات.
لذلك يعيش أغلبنا سوء فهم وعدم مقبولية بين فصيليْن؛ فصيل عاش الحلم وآخر أجبر عليه ولم ير منه سوى كذبة، والغالبية الآن في صراع نفسي من أجل إيجاد سبيل للهرب، أو الإقدام على التخفي والبحث عن طرق لا تخلو من الحيلة للتعامل مع الوضع الراهن بشكل أكثر مقبولية ومعقولية، من ثم لم أستطع الإفلات من فكرة ملاحقة الوطن.
وبكلمات الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي فـ"كل ما نسميه وطنا يمكن أن يؤخذ منا، إننا بحاجة إلى عالم محمول من الخيال والأفكار التي يمكن لنا اصطحابها حيثما شئنا"؛ فالأدب قادر على نقل الوطن إلى عالم الخيال وخلق بدائل ولو مؤقتة للجغرافيا، الأدب يشيد عوالم رغم أنها بدائل مؤقتة ومسكنات للفراغ العاطفي، لكنها تصنع -في أحيان كثيرة- موائل دفء تعويضية.
كلما حاولت العثور على حزمة ضوء للنجاة من منفاك، انتهبتك كفوف الشر لأن خلاصك أبكم في ضجيج العالم المتغوّل! والضعفاء -ومنهم الكتّاب، مستعمرو اللغة، وصانعو المعنى- لا يملكون سبل الغواية الكافية للظفر بوطن آمن، لأن الخوف الذي يسكننا يعرف كل مواطن خيبتنا وجبننا، إنه قريننا المختلف، إنه يشبهنا، ولكن في المقابل: أي منّا يعدّ الأصل؟!
قياسا على قول نزار "من أين يأتي الشعر؟".. أحيانا يلتقط الروائي فكرة ما من مشهد عابر.. هل تطلعينا على بعض تلك الأسرار؟
أنا لا أزعم أنني أمتلك تجربة كبيرة تسمح لي بالحديث بإسهاب، ولكن كيف تتكون الأفكار ومن أين تبدأ؟!
لكل رواية قصة أو موضوع، في بدايته كان غير واضح وملامحه كانت باهتة، ولكن كلما تقدمتُ في السرد تتفتح جيوب النص، لتمنحني لقى ذهبية تغدق عليّ بهدايا تمكن من تماسك الحكاية وتناسقها.
يحدث ذلك خلال السير في السكة الأدبيّة -أو عملية الكتابة- بقوة وإصرار، إذن ربما هي جملة عابرة، أو قصة صغيرة، أو فكرة أغنية، أو لوحة.
كل محفزات الإبداع تحت أي مسمى هي دافع قوي للكتابة، والعالم مليء بالحكايات والأفكار "الملقاة على قارعة الطريق"، هذه المقولة المنسوبة للجاحظ، المهم كيف نلتقطها، الأفكار تأتي من عالمك الخارجي الضيق والبعيد المدى، ولا يمكن التفكير في أسباب تحفيز إيقاع تدفقها الفوضوي.
والعملية الإبداعية لا تقتصر على الموهبة، بل تحتاج إلى تمرين منتظم ومزاولة لذلك الجهد الإبداعي المنظم لكي تنمو وتنضج عضلة التخيل بحسب ألبرت ريد، الذي يرى أن للإبداع عضلة يمكن تدريبها، ومن ذلك التزود بقصص الناس من حولنا، فالحياة الزاخرة بتفاصيل تجري ضمن نظام الحياة السائد من خلال الحدس الإبداعي وذاكرة نقية وإيمان بأن الأدب منقذنا من الخراب والموت.
ربما تكون القصص متخيلة أو ملفقة لغرض صنع دوائر نفسية وزمانية ومكانية يتحرك من خلالها الأبطال، وكلما كبّرت ذلك الأفق اتسعت صور الرواية بشكل مطّرد، وهنا يعد التريث مهمًّا لاستيعاب التطور المتزن للشخصية. تقول إيزابيل الليندي "لدى الكاتب حيز ووقت محدودان وضيقان، وعليه الإمساك بالقارئ من عنقه وألا يدعه يفلت منه".
تخوم الأدب والعمل الوثائقي تشتبك لتكوّن حالة تشبه قصيدة سينمائية، تتعمق الحفر في أعماقنا لتنتج تلك الصور البصرية القائمة على ثنائية التوثيق والتخيل وبث الروح في شهادات وقصص ومشاهدات، فضلا عن الاستعانة بحكايا حفرت في قلوب الناس.
حكايات تمنح صوتا لمن لا صوت لهم ممن يستهان بكيانهم الإنساني، هؤلاء هم جسد الحقيقة لتاريخ أي أمة، ترسم على قصصهم لوحات تظل عالقة في ذاكرة مروية موسومة بالتخييل والتوثيق؛ لتصنع عالما موازيا للثأر من الظلم والطغيان.
إنه تاريخ للألم والوجع والمشاعر المهدورة والمستهان بها، كلها توثيق للعالم الحسي الذي أحاط بالأحداث والتمرد على التدوين المتعالي على روح الإنسان المستباحة كرامته وحقوقه جراء لعنة الحروب.
تدوين يبحث عن الحقيقة وروحها لا صورتها المشوهة، إنها نبش وحفر دؤوب في الذات الإنسانية تعتمد وسائلها الخاصة من خلال التخييل الإبداعي وتوسيع مساحة المعرفة البشرية ومساءلة العقل المنمّط وتوريط المتلقي بالمشترك الإنساني بينه وبين الضحايا؛ لتجعل تلك العَلاقة قصة تربط بين زمنين.
البحث في جدران الواقع ليس بالأمر الهين، لذا يتكاتف الإبداع بكل أجناسه للعثور عليه مختبأ في أردية الفقراء، الإحساس بأن كل شيء على ما يرام فكرة ساذجة جدا، هنا يحضرني قول للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش مُفاده أنها لا تكتب، بل تحفر بإزميل الشهادات المؤثرة!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة والخذلان
ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة والخذلان

الجزيرة

timeمنذ 12 ساعات

  • الجزيرة

ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة والخذلان

تشهد الحركة الأدبية العراقية زخما واسعا، إذ تتنوع الهموم المجتمعية التي يواجهها المواطن العراقي، وكان من الطبيعي أن يعالج الأدباء هذه الاهتمامات والشواغل، قبل أن تضاف إليها تبعات جديدة مرتبطة بالهجرة، حتى بات قدر العربي -في محيطه العربي والغربي- أن يواجه ابتلاءات كقطع الليل المظلم. لذلك تنوع المشروع الروائي للكاتبة العراقية ميسلون فاخر، واتسع الأفق السردي الذي تشتغل عليه وتضبط إيقاعه. و"ميسلون فاخر"، كاتبة وروائية عراقية، تنتمي إلى جيل الأدباء الذين تشكلت تجاربهم في ظل التحولات العاصفة التي شهدها العراق والمنطقة العربية خلال العقود الأخيرة. اشتغلت على مشروع روائي يتناول قضايا الهجرة والمنفى، واهتمت بالغوص في عوالم الشخصيات النفسية والاجتماعية، مع الحرص على تناول القضايا الوجودية والهموم الفردية والجماعية بلغة سردية مشذّبة وعميقة. صدرت لها أعمال روائية من بينها "رائحة الكافور" و"صلصال امرأتين" و"زهرة"، حيث تعكس في كتاباتها هواجس الاغتراب والحنين والبحث عن الهوية في عالم مليء بالخذلان والأسئلة الصعبة. إلى جانب عملها الروائي، خاضت ميسلون تجربة العمل في المجال الوثائقي، وهو ما أضاف بعدا بصريا وواقعيا إلى كتابتها السردية، من خلال المزج بين التخييل والتوثيق. وتحرص فاخر في مشروعها الأدبي والبحثي على مساءلة الواقع وكشف العتمة المحيطة بحياة المهمشين، مؤمنة بأن الأدب والفن هما أداتا مقاومة للخراب ومتنفس للبحث عن العدالة والمعنى وسط الفوضى. وانطلاقا من هذه الرؤية، وتلك الخطوط العريضة عن شخصيتها ومشروعها الروائي، كان هذا حديثها مع الجزيرة نت. فإلى الحوار: ما الأشياء التي لم تعرفيها عن نفسك إلا وأنت تكتبين؟ إعلان الكتابة هي الطريقة الوحيدة التي يتماهى بها الكاتب مع شخوصه المخفية الداخلية لتحتشد كل الوجوه والاقنعة كأنها قادمة من العمق، من الغياب، من اللاجدوى، الكتابة هي فعل مقصود بدوافعها الموجهة في نسيج النص الروائي. فكلما تعثر ما يراد قوله في العالم الحقيقي تجدها طليقة تتصرف بحرية تامة تصفي حسابا مؤجلا تمارس عبثية أو طفولة مصادرة، ولكن لا يعني أن كل الشخصيات المكتوبة هي بوح ذاتي للكاتب بشكل متماثل، هذه ليست الفكرة، ولكن لا بد من وشائج وصل -ولو من بعيد- تتناسب معه رغم تباين الأزمنة والأمكنة النفسية والجغرافية للطرفين بين شخصية الكاتب والشخصية الروائية. الإبداع يكمن في كيفية تقمص الكاتب لكل هؤلاء ومعرفة ما يدور في رؤوسهم مع تطويع متواصل للغة وتنصت على حيوات لم تكن مجسدة في العالم الحقيقي وغير ظاهرة له شخصيا، حيوات تلوح له من بعيد، إنها حيوات مستلبة دون أن يدرك ذلك للوهلة الأولى لكنه يراها فجأة في سطور تنبض بالحياة، وهذه الفكرة وجدت في منجزات كثيرين ولا يفلت من تلك المرايا إلا ما ندر. الكتابة حاجة إنسانية تندرج ضمن قائمة الاحتياجات التي ترتقي بصفاتنا الإنسانية وتدفع بنا فوق مستوى الاحتياجات البدائية للإنسان وتؤخر موتنا البيولوجي وهي علاقة مطردة تظهر نتائجها وتضفي ثمارها على الطرفين: المبدع أو منشئ النص والمتلقي. ملامح مشروعك الروائي بدءا من "رائحة الكافور" إلى "زهرة".. ما القواسم المشتركة التي لا تتنازلين عنها؟ مثل كل البدايات لا أعتقد أن ملامح تجربتي كانت واضحة أو ذات وهج لافت، لكن المفيد منذ تلك المرحلة أنني اكتشفت قدرتي على تطويع أدواتي، ورحت أفتش في زوايا مشروعي عن دوافع الكتابة والمجدي منها، كذلك أظن أنني غدوت أكثر قدرة على التعبير واستدراك معاناة أبطالي مكتنزة بأسئلتي الفضولية ومندهشة بعالمي الفسيح. فمن "رائحة الكافور" إلى "صلصال امرأتين" كنت كاتبة بريئة لا أجيد كل أنواع اللعب والحرفية في التظليل لأتمكن من الانقضاض على القارئ واستدراجه للقراءة بطريقة محترفة، بل أكتب بكل صدق العمل الأول، وبالإمكان تسمية هذه المرحلة هي البدايات التي أسست للتعلم ومرحلة الحبو أو الكتابة الذاتية الضيقة المنحسرة في عوالم معروفة وقريبة من النفس، يمكن تسميته بـ"البوح" أو الكتابة الذاتية الضيقة المنحسرة في عوالم الذات. ثم تغيرت أسبابي للكتابة وأصبحت أمرا مغايرا؛ بدأت أسعى لمواضيع أكثر جراءة وإشكالية، ومن الصعب العبث بها دون بذل جهد لتحقيق ذلك، فضلا عن التماس اليومي مع الفنون والإبداع والبؤس الاجتماعي، ولم تعد النصوص تحمل في سماتها أنينا ذاتيا ونزفا شخصيا، بل ابتعدت الشخصيات عني وأتمتع برسم شخصيات بعيدة كل البعد عني، أتقمص شرها وعذابها وتناقضاتها بدافع التسلية معها والفرجة عليها من بعيد، ولم أعد حاضرة في أبعادها وأزماتها النفسية. صرت أملك ذائقة أكثر تشذيبا للتعامل مع صوت العدالة والظلم والقدرة على التقمص العاطفي والوجداني للشخصية، وبدت مساراتي تأخذ انطباعا مختلفا بالأحداث، وصرت أتأمل بروية أكثر من الأول وأحتاج إلى أن أفكر كثيرا في ردود فعل الشخصيات التي بدت أكثر نضجا وأقل حماسة، ثم تولدت داخلي رغبة غير واعية للبحث عن مستحدثات في عالم الرواية، وربما هذه الرغبة التي تدفع أحيانا أصحابها للتورط باستخدام أنماط غير متعارف عليها. وأتطلع إلى كتابة أتحدى بها القواعد النصية وأرجو أن أنجح في ذلك، رغم أن الاعتماد على الجهود والأدوات والأساليب مع قدر مقبول من الوعي والثقافة الشخصية والقيم الإنسانية ترفد المشروع بالمجسات الإبداعية التي تغذيه بروح حقيقية من خلال موضوعات تنقضّ بأسئلة تحاصر تفكير المتلقي، ويمكن اعتبار الأدب والفن أداة من أدوات التسامح وقبول الآخر؛ تخفيف العنف وكسر فكرة الاستعلاء على الهامش التي يمارسها المركز على الجغرافيات الهامشية، كذلك فإن العمل الذي يختزل الخبرة والمعرفة يتسم بالفضول للثورة على أنماط التفكير التقليدية. أعتقد أن ذلك الجهد يجعل العمل مقروءا إلى درجة أسعدتني، غير أن القارئ هو صاحب الكلمة والفيصل الذي يحكم في كل هذه المحاولات والجهود. الوطن يسكننا وليس مجرد نوستالجيا.. كيف تعالجين مشاعر الحنين إلى العراق في حياتك الشخصية وفي أعمالك؟ الوطن هو ذلك الشعور الملتبس للغياب والحضور، هو حالة من الصراع مع الخوف؛ الخوف من أصوات مجهولة لا تنتقي ضحاياها. إننا جميعا مجبولون على فكرة النهاية التي لم نقررها بأنفسنا ونضيع تحت دثار معتقدات وكم كبير من التضليل والإيهام الذي تصدّره الأيديولوجيات. لذلك يعيش أغلبنا سوء فهم وعدم مقبولية بين فصيليْن؛ فصيل عاش الحلم وآخر أجبر عليه ولم ير منه سوى كذبة، والغالبية الآن في صراع نفسي من أجل إيجاد سبيل للهرب، أو الإقدام على التخفي والبحث عن طرق لا تخلو من الحيلة للتعامل مع الوضع الراهن بشكل أكثر مقبولية ومعقولية، من ثم لم أستطع الإفلات من فكرة ملاحقة الوطن. وبكلمات الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي فـ"كل ما نسميه وطنا يمكن أن يؤخذ منا، إننا بحاجة إلى عالم محمول من الخيال والأفكار التي يمكن لنا اصطحابها حيثما شئنا"؛ فالأدب قادر على نقل الوطن إلى عالم الخيال وخلق بدائل ولو مؤقتة للجغرافيا، الأدب يشيد عوالم رغم أنها بدائل مؤقتة ومسكنات للفراغ العاطفي، لكنها تصنع -في أحيان كثيرة- موائل دفء تعويضية. كلما حاولت العثور على حزمة ضوء للنجاة من منفاك، انتهبتك كفوف الشر لأن خلاصك أبكم في ضجيج العالم المتغوّل! والضعفاء -ومنهم الكتّاب، مستعمرو اللغة، وصانعو المعنى- لا يملكون سبل الغواية الكافية للظفر بوطن آمن، لأن الخوف الذي يسكننا يعرف كل مواطن خيبتنا وجبننا، إنه قريننا المختلف، إنه يشبهنا، ولكن في المقابل: أي منّا يعدّ الأصل؟! قياسا على قول نزار "من أين يأتي الشعر؟".. أحيانا يلتقط الروائي فكرة ما من مشهد عابر.. هل تطلعينا على بعض تلك الأسرار؟ أنا لا أزعم أنني أمتلك تجربة كبيرة تسمح لي بالحديث بإسهاب، ولكن كيف تتكون الأفكار ومن أين تبدأ؟! لكل رواية قصة أو موضوع، في بدايته كان غير واضح وملامحه كانت باهتة، ولكن كلما تقدمتُ في السرد تتفتح جيوب النص، لتمنحني لقى ذهبية تغدق عليّ بهدايا تمكن من تماسك الحكاية وتناسقها. يحدث ذلك خلال السير في السكة الأدبيّة -أو عملية الكتابة- بقوة وإصرار، إذن ربما هي جملة عابرة، أو قصة صغيرة، أو فكرة أغنية، أو لوحة. كل محفزات الإبداع تحت أي مسمى هي دافع قوي للكتابة، والعالم مليء بالحكايات والأفكار "الملقاة على قارعة الطريق"، هذه المقولة المنسوبة للجاحظ، المهم كيف نلتقطها، الأفكار تأتي من عالمك الخارجي الضيق والبعيد المدى، ولا يمكن التفكير في أسباب تحفيز إيقاع تدفقها الفوضوي. والعملية الإبداعية لا تقتصر على الموهبة، بل تحتاج إلى تمرين منتظم ومزاولة لذلك الجهد الإبداعي المنظم لكي تنمو وتنضج عضلة التخيل بحسب ألبرت ريد، الذي يرى أن للإبداع عضلة يمكن تدريبها، ومن ذلك التزود بقصص الناس من حولنا، فالحياة الزاخرة بتفاصيل تجري ضمن نظام الحياة السائد من خلال الحدس الإبداعي وذاكرة نقية وإيمان بأن الأدب منقذنا من الخراب والموت. ربما تكون القصص متخيلة أو ملفقة لغرض صنع دوائر نفسية وزمانية ومكانية يتحرك من خلالها الأبطال، وكلما كبّرت ذلك الأفق اتسعت صور الرواية بشكل مطّرد، وهنا يعد التريث مهمًّا لاستيعاب التطور المتزن للشخصية. تقول إيزابيل الليندي "لدى الكاتب حيز ووقت محدودان وضيقان، وعليه الإمساك بالقارئ من عنقه وألا يدعه يفلت منه". تخوم الأدب والعمل الوثائقي تشتبك لتكوّن حالة تشبه قصيدة سينمائية، تتعمق الحفر في أعماقنا لتنتج تلك الصور البصرية القائمة على ثنائية التوثيق والتخيل وبث الروح في شهادات وقصص ومشاهدات، فضلا عن الاستعانة بحكايا حفرت في قلوب الناس. حكايات تمنح صوتا لمن لا صوت لهم ممن يستهان بكيانهم الإنساني، هؤلاء هم جسد الحقيقة لتاريخ أي أمة، ترسم على قصصهم لوحات تظل عالقة في ذاكرة مروية موسومة بالتخييل والتوثيق؛ لتصنع عالما موازيا للثأر من الظلم والطغيان. إنه تاريخ للألم والوجع والمشاعر المهدورة والمستهان بها، كلها توثيق للعالم الحسي الذي أحاط بالأحداث والتمرد على التدوين المتعالي على روح الإنسان المستباحة كرامته وحقوقه جراء لعنة الحروب. تدوين يبحث عن الحقيقة وروحها لا صورتها المشوهة، إنها نبش وحفر دؤوب في الذات الإنسانية تعتمد وسائلها الخاصة من خلال التخييل الإبداعي وتوسيع مساحة المعرفة البشرية ومساءلة العقل المنمّط وتوريط المتلقي بالمشترك الإنساني بينه وبين الضحايا؛ لتجعل تلك العَلاقة قصة تربط بين زمنين. البحث في جدران الواقع ليس بالأمر الهين، لذا يتكاتف الإبداع بكل أجناسه للعثور عليه مختبأ في أردية الفقراء، الإحساس بأن كل شيء على ما يرام فكرة ساذجة جدا، هنا يحضرني قول للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش مُفاده أنها لا تكتب، بل تحفر بإزميل الشهادات المؤثرة!

التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي
التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي

الجزيرة

timeمنذ 21 ساعات

  • الجزيرة

التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي

تظل التعبيرية في الأدب على اختلاف المكان والزمان تشكل نزعة شمولية صارخة تطمح إلى الكشف بطريقة درامية ومؤثرة عن معاناة الإنسان المعاصر، وتنعكس آثارها على النتاج الأدبي بشتى أنواعه، وتمتد لتشمل الفنون الأخرى كالرقص والرسم والموسيقى. والتعبيرية بمعناها اللغوي تعني تصوير ما يعتمل في النفس الإنسانية من مشاعر محيطة، وإحساسات مقهورة واعية وغير واعية، يتضح من خلالها جوهر الإنسان وحقيقة ذاته الحية بأنماطها الغريزية والخلقية، ولا يعني ميلنا إلى التفسير اللغوي المبسط للتعبيرية أنها نزعة انطوائية مرتدة إلى الداخل، وإنما هي من أرحب الحركات الفنية استيعاباً لأعباء الأنا الجماعية، واستقطاباً لما يحيط بها من إرهاصات وتحديات يجتمع على تجسيد انعكاساتها أكثر من كاتب وفنان. نشأة التعبيرية ومصادرها الفكرية ولتوضيح هذه الظاهرة المرحلية الغامضة في الأدب العالمي، لا نجد أنسب من هذه الفقرة التي يسوقها الدكتور عبد الغفار مكاوي على لسان الناقد "هرمان بار" الذي كان من أبرز المعاصرين للحركة التعبيرية ومن أكثر الداعين لها حماساً، بقول بار "الإنسان في هذه الفترة يصرخ بحثاً عن نفسه، والعصر كله أصبح صرخة واحدة تنطق بالمحنة، والفن كذلك يصرخ معه ويطلق صيحته في أعماق الظلام، يستغيث يستنجد بالروح" وهذه هي التعبيرية. لقد اختلف النقاد ومؤرخو الأدب في تحديد مكان نشأة التعبيرية وزمانها كحركة فنية قائمة بذاتها، إلا أن معظمهم يقر بأن ألمانيا هي المنبع الأول لهذا النهج الفكري الوجداني الصارخ، والذي يرفض جميع المعالجات السطحية لخلفية القضايا الإنسانية ومكوناتها الداخلية. فبعد أن ظهرت نظريات فرويد ونضجت تجاربه في ميدان التحليل النفسي، أخذ نفر من الكتاب الساخطين يلتقطون باهتمام لاهف هذه الاستكشافات الباطنية ليوظفوها في كتاباتهم، كما أخذوا يغوصون في أعماق النفس البشرية، ويحيلون انطباعاتهم المضطربة والمتوترة إلى صرخات واحتجاجات معبرة تتصدى بعنف لانجراف الحضارة التكنولوجية المادية، هذه الحضارة التي أحالت القيم والمثل الأخلاقية إلى أرقام ومعادلات مدرجة في جداول الربح والخسارة من وجهة نظر الأفكار النفعية. وبهذا فقد ظهرت التعبيرية أواخر القرن الـ19 دعوة إلى الاهتمام باختزانات النفس الاجتماعية والسياسية، ثم تحددت هذه الحركة بشكل أقوى وأعم في الربع الأول من القرن العشرين، حيث اندفع المزيد من الشباب الألمان ما بين 1915 و1925 ليرفعوا أصواتهم عالياً، وليحشدوا صيحاتهم التعبيرية في جو دخاني فاسد زاخر بالصراعات القومية الطاحنة، والتيارات المادية الضاغطة، والويلات الناجمة عن الحرب العالمية الأولى. التعبيرية في الشعر والرواية والقصة القصيرة ففي مجال الشعر ظهرت في ألمانيا 3 أصوات شابة جعلت من القصيدة لوحة صارخة الألوان، متسمة بالإيحاء، مليئة بالاحتجاج على زخمة الواقع، غنية بالشوق إلى عالم يوتوبي جديد يتسم بالمثالية والنقاء المنشود. وتتمثل هذه الأصوات البارزة في أشعار كل من "جورج هايم" و"جورج تراكل" و"جو تغريدبن" ونكتفي في هذه العجالة أن نورد مقطعاً من قصيدة "هايم" قام بترجمتها ملكاوي في كتابه "التعبيرية" وذلك للتدليل على طبيعة الشعر التعبيري في مقطع يصف فيه الشاعر آلهة الحرب في الطغيان والجبروت، فيقول: "نهض من رقاده من طال نومه نهض من الأقباء المنخفضة العميقة يقف في الشفق ضخماً ومجهولاً يسحق القمر في اليد السوداء" أما في مجال الرواية والقصة القصيرة، فمع أن الإبداع التعبيري كان أقل أثراً من غيره وأبطأ نظراً لما تحتاجه طبيعة العمل القصصي من أناة وتدبر، ومع ذلك فقد برز في هذا الميدان عدد لا بأس به من كتاب القصة بتقدمهم كل من "ألفريد دوبلين" و"كاريل آينشتاين" و"فرانز كافكا" الذي كان على اتصال وثيق بالروائيين التعبيريين، بالإضافة إلى "روبروت موزيل" و"توماس مان". المسرح التعبيري أما على صعيد المسرح، فقد كانت الحركة التعبيرية أكثر بروزاً وتبلوراً، حيث أعلن رواد المسرح التعبيري ثورتهم على الدراما الكلاسيكية المقتدية بكل من "ليسنج" و"غوته" و"شيلر" كما رفضوا المذهب الطبيعي المتمثل في المنهج الواقعي عند "إبسن". وإن كان للتعبيريين دور ظاهر في حقل الشعر والقصة، فإن دورهم على خشبة المسرح كان أعظم أثراً في بث روح الحيوية والإثارة في طبيعة الأداء المسرحي الذي طالما سيطرت عليه الرتابة المملة، والقيود التقليدية المتحكمة في التأليف والإخراج، فجاء حصاد الكتاب التعبيريين في حقل الدراما فائضاً بكل دفعات الاحتجاج المنتصرة لإرادة النفس الإنسانية، ولمعاناته العاطفية والذهنية. ولم يبدأ هؤلاء المسرحيون المجددون من الفراغ، فقد وجدوا في أعمال الكاتب المسرحي "جورج بوشنر" ما يغذي طموحهم كما وجدوا في إنتاج "سترند برغ" و"فرانك ديكند" الكثير من الصراعات الداخلية والاتجاهات التحليلية الزاخرة بالرموز التعبيرية والمونولجات المتعددة الطويلة. وقد جاءت المسرحية التعبيرية مستمدة من دوي الحرب وصخب التقدم التكنولوجي وحمى التعصبات القومية المتصاعدة، ومن الطبيعي أن يتميز هذا اللون من المسرحيات بالرفض الصارخ والتمرد على الواقع المعاش، والحنين الجارف إلى عالم هادئ جديد يستعيد فيه الإنسان جوهره المفقود. إن قراءة أولية لبعض المسرحيات التعبيرية تجعلنا نتوصل إلى أن المسرحية التعبيرية قد تشكلت على خشبة المسرح بسمات فنية جديدة تقوم على التجريب، وبوسعنا أن نلمس هذا التجديد والتجريب في بعض المسرحيات التي تركها "بروتولد برخت" لعشاق المسرح التعبيري رغم انشغاله بالشعر الملحمي والمسرح الذهني، وهي "طبول الليل" و"أحراش المدن" و"القروش الثلاثة". كما يشير الدكتور مكاوي -في دراسته للمسرح التعبيري في ألمانيا- إلى أن المسرحية الثلاثية "غاز" للكاتب "جورج كايزر" تعتبر نموذجاً فريداً للمسرحية التعبيرية الغنية بالمواقف المتصارعة والإيحاءات العميقة الموحية. وفي كتابه "أشهر المذاهب المسرحية" يتعرض الناقد دريني خشبة لأبرز السمات الفنية التي تمتاز بها المسرحية التعبيرية عن غيرها، ويهمنا أن نزاوج بهذا الصدد بين ما أورده خشبة وبين ما تكوَّن لدينا من انطباعات واستنتاجات قرائية لنماذج من المسرح التعبيري على صعيد العمل الدرامي الذي أصبح في مقدمة الفنون الأدبية. السمات الفنية للمسرحية التعبيرية تدور أحداث المسرحية التعبيرية عادة حول شخصية محورية تحمل في ذاتها مشكلة تنعكس آثارها السيكولوجية على حركات البطل ومنطوقاته. أما بقية الشخصيات فهي بعيدة عن الضوء متحركة في الظل، وإذا ظهرت فهي تظهر ظهوراً جانبياً، يأتي مساعداً لدور الشخصية المحورية وخادماً للفكرة العامة. وفي المسرحية التعبيرية يستريح البطل لالتقاط الأنفاس، ومن ثم يواصل الحركة في الطريق المرسومة والمؤدية إلى الخلاص من الأزمة الحادة والتي يكون البطل المحوري قد طرح أبعادها على الجمهور منذ البداية، وبشكل عاطفي مثير يهدف إلى إيجاد الاندماج بين المسرح والجمهور. ولا يعني هذا أن المسرحية التعبيرية -لدى محاولاتها لامتلاك وجدان الجمهور- تعتمد على بهرجة شكلية أو تصنُّع ميلو درامي في الأداء، وإنما تأتي بطبيعتها مشحونة بالصرخات العميقة المتزنة والإيماءات الصادقة المصحوبة بإيقاع معبر إلى جانب الحيل المسرحية والأقنعة والتحولات الضوئية من جانب إلى آخر، حيث يشكل عنصر الإضاءة ركيزة أساسية في إخراج المسرحية التعبيرية، فيتعاون كل من المؤلف والمخرج ومهندس الإضاءة على تسليط الأضواء على البطل المحوري، وذلك بما يتناسب مع الحالة النفسية التي يمر بها، فنرى المشاهد حافلة بالإنارة والتعتيم، ورسم الخيالات والظلال والأشباح، حيث يساعد ذلك كله في الإيحاء بأسرار النفس وخلجاتها المكبوتة. وفي معرض التمرد الحر على الكلاسيكية الرتيبة، ونتيجة للاحتجاج الشامل على المدرستين الطبيعية والرمزية الغامضة، لم يكن كتاب المسرح التعبيري في حاجة إلى شخصيات فردية خاصة وتقديمها بأسمائها المحددة وبصورتها الطبيعية، ولذلك نراهم قد مالوا إلى رسم الصورة النموذج للشخصية، واكتفوا بإسداء الألقاب عليها كالأب والابن والرجل والشبح والرئيس وهكذا.

التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا
التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا

ولد الروائي التشادي روزي جدي، كما يقول، في نفس العام الذي صدرت فيه رواية "الكتاب الأسود" للتركي أورهان باموق، الذي يعتبر أصغر روائي في العالم يحصل على جائزة نوبل في الأدب. وروزي، الذي توج عام 2024 بجائزة التميز في الأدب، وهي أعلى جائزة في تشاد تمنحها وزارة الثقافة، تزامن ميلاده مع كتابة نجيب محفوظ رواية "صدى النسيان". وكانت ذات السنة أيضا التي نشر فيها الكاتب اللبناني ربيع جابر روايته الأولى. يستطرد روزي، بينما يستذكر كل هذه الأعمال يردف: "لأنني أحببتها". الكاتب والروائي الفتى يذكر بشجاعة واستبسال "المحاربين القدامى"، والمواطن الذي استعمرت فرنسا بلاده أكثر من نصف قرن. ولكي تسيطر عليها بأسرع ما أمكنها، كما يقول جدي، فقد قتلت خيرة سكان البلاد، وعلى رأسهم علماء تشاد، في مجزرة مروعة عرفت بمجزرة "الكبكب"، راح ضحيتها 400 عالم ودارس في الدين واللغة العربية، ومن تبقى منهم لجأوا إلى الجوار السوداني. ليكتب الروائي التشادي، في سياق من هذه السردية الأفريقية، روايته المعروفة بـ "ارتدادات الذاكرة"، مستلهما قصة وتاريخا ظل متواريا عن كثيرين، إذ يروي فيه تفاصيل حادثة كهذه، مدركا ما تفعله الرواية، إذ تتناول قصص الناس وترصد حياتهم، كما تسعى إلى فهم دوافع أفعالهم، بحثا عن أسئلة أو إجابات. قابلت "الجزيرة نت" الروائي روزي جدي في حوار خاص، ناقش فيه العديد من المواضيع التي تمس الأدب، والذاكرة التاريخية، ودور الرواية في كشف المظلومات الاجتماعية والسياسية. كما تناول الحوار تجربته الشخصية، ورؤيته للكتابة، إضافة إلى التحديات التي تواجه الأدب الأفريقي في الوقت الراهن. فإلى الحوار: حين يتعلق الأمر بالرواية الراهنة في بلدك تشاد، فأنت تصنف من أبرز الأصوات الروائية الحديثة، ومن المؤسسين للرواية المكتوبة بالعربية. هل تجد أن النقد الأدبي أنصف تجربتك على هذا النحو؟ أعتقد أنني راض عن الاهتمام الذي أبداه العديد من القراء تجاه أعمالي. لم أتوقع هذا الصدى في هذا الوقت، رغم أنني كأي كاتب طموح، حين جلست للكتابة أردت أن أكتب ما لم يكتب من قبل. الآن أفكر في هذا السؤال وأجدني ممتنا؛ لأن نقادا وكتابا لا أعرفهم كتبوا عن رواياتي في جرائد القدس العربي والقبس ومجلة المجلة وجسكا والعربي الجديد والعديد من الجرائد والمجلات، وهذا الحوار للجزيرة. صحيح أننا في هامش الهامش كأفارقة نكتب باللغة العربية، وبعيدون جدا عن القاهرة والدوحة والشارقة ودور النشر الكبيرة، لكني راض بما وصلت إليه، وأتطلع للمزيد؛ لأن هذا غير كاف. النقد يأتي متأخرا نوعا ما، إلا أنني سعيد بكل كلمة قيلت في أعمالي؛ لأنه من المدهش أن يقرر قارئ عربي القراءة لكاتب يعيش في بلاد تدعى تشاد، ربما لم يسمع عنها بينما لديه عشرات الأعمال الأخرى. اعتقدت دائما، أن علينا بذل المزيد من الجهد، وكتابة نصوص جيدة جدا، ونترك الباقي للزمن، الذي أؤمن بأنه ينصف النصوص الجيدة عاجلا أم آجلا. عشت في بلاد فقيرة تابعة لفرنسا ولو بشكل غير مباشر؛ يعتقد فيها أن الشخص ذكي إذا تحدث الفرنسية بلكنة صافية، ويمكن لفرنسا أن تتدخل وتنصّب في تشاد من تشاء، وتقرر من يحكم وماذا يفعل؟. فهذا وضع يزعج أي شخص يكتب الأدب بوعي لا يحيل تاريخ ميلادك إلى مرحلة مبكرة، كتلك التي تحيل إلى رصيد "النضال وثورات الاستقلال والتحرر الوطني الأولى في المنطقة العربية وأفريقيا منذ الخمسينيات وما تلاها". أليس كذلك؟ ولدت في سنة ليست هادئة؛ في عام 1992. سأعرف لاحقا أنني ولدت في نفس الفترة التي تتفكك فيها يوغوسلافيا، وتصدر فيها رواية "الكتاب الأسود" لأورهان باموق، ويكتب نجيب محفوظ روايته "صدى النسيان"، وهي نفس السنة التي نشر فيها ربيع جابر روايته الأولى. أتذكر هذه الأعمال لأني أحببتها. بيد أن الكاتب يتأثر بما عاشه وبتاريخ بلاده أكثر من أي شيء آخر. عشت في بلاد فقيرة تابعة لفرنسا ولو بشكل غير مباشر؛ يعتقد فيها أن الشخص ذكي إذا تحدث الفرنسية بلكنة صافية، ويمكن لفرنسا أن تتدخل وتنصّب في تشاد من تشاء، وتقرر من يحكم وماذا يفعل؟. فهذا وضع يزعج أي شخص يكتب الأدب بوعي. هناك كثير من النقد السياسي في رواياتي وروايات جيلي، ذلك أن السياسة في أفريقيا جنوب الصحراء تؤثر في كل نواحي حياتنا. فالسياسة هي التي تقرر ما إذا كنت ستحصل على تعليم أم لا، وهل ستصبح غنيا أو تظل فقيرا، بل حتى من يموت ومن يبقى. هناك كثير من النقد السياسي في رواياتي وروايات جيلي، ذلك أن السياسة في أفريقيا جنوب الصحراء تؤثر في كل نواحي حياتنا. فالسياسة هي التي تقرر ما إذا كنت ستحصل على تعليم أم لا، وهل ستصبح غنيا أو تظل فقيرا، بل حتى من يموت ومن يبقى. تجربتك الروائية فتية، وهي من بين تجارب قليلة امتازت برؤية نقدية وطليعية للأمور منذ روايتك الأولى. ما تعليقك على ذلك؟ لم أعتبر الكتابة ترفا أو هواية، وإنما اعتبرتها دوما طريقتي للاحتجاج ولقول ما لا يمكن قوله باللسان. لذا كانت كتاباتي كلها عصارة تجربة أو مشاهدة ومعايشة. من الواضح أن رواياتي متأثرة جدا بالتاريخ السياسي في تشاد، لأنه تاريخ عنيف؛ فالحكومات استبدلت بعضها بعضا بالعنف، ورأيت الموت والرصاص والدماء. عرفت أصدقاء التحقوا بالجيش أو المتمردين وماتوا في الحروب الأهلية، وعشت في حارة سقط نصف شبابها في المخدرات لأسباب أغلبها اقتصادية وأسرية. إضافة إلى ذلك، أنا مواطن في بلاد استعمرتها فرنسا أكثر من ستين سنة، ولكي تفعل ذلك وتسيطر بأسرع ما يمكن، قتلت خيرة سكان البلاد، وعلى رأسهم علماء تشاد، حين نفذت مجزرة الكبكب التي مات فيها قرابة 400 عالم في الدين واللغة العربية، وفر من تبقى منهم إلى السودان. رواياتي متأثرة جدا بالتاريخ السياسي في تشاد، لأنه تاريخ عنيف؛ فالحكومات استبدلت بعضها بعضا بالعنف، ورأيت الموت والرصاص والدماء. عرفت أصدقاء التحقوا بالجيش أو المتمردين وماتوا في الحروب الأهلية، وعشت في حارة سقط نصف شبابها في المخدرات لأسباب أغلبها اقتصادية وأسرية. إضافة إلى ذلك، أنا مواطن في بلاد استعمرتها فرنسا أكثر من ستين سنة، ولكي تفعل ذلك وتسيطر بأسرع ما يمكن، قتلت خيرة سكان البلاد، وعلى رأسهم علماء تشاد، حين نفذت مجزرة الكبكب التي مات فيها قرابة 400 عالم في الدين واللغة العربية، وفر من تبقى منهم إلى السودان. وهي القصة التي تناولتها في روايتي "ارتدادات الذاكرة"، حيث سردت الرواية كيف أن تشاد، التي كانت فيها ممالك إسلامية تعتمد اللغة العربية لغةً للديوان والمراسلات، أصبحت دولة تتحدث بالفرنسية خلال عقود، لدرجة أن متعلميها بلغة المستعمر يعتقدون أن الدارس بالعربية أقل منهم معرفة وذكاء. تسمح الدولة للفرنسية بالسيطرة على الإدارة حتى يصبح الدارس بالعربية لا يفهم القرارات التي تصدرها الدولة، ولا ما يقال في الجريدة الرسمية! كل هذه أحداث ومآس عشناها أو نعيش آثارها؛ لذا أتت أعمالي بهذه الحمولة النقدية، على أمل أن يأتي التغيير بالإصلاحات. الرواية ليست تاريخا، أدري ذلك، لكني اخترت بوعي كتابة هذه الرواية؛ لأني أردت ألا ينسى الناس ما حصل، ألا ينسى التشادي ما فعله فينا المستعمر، والكيفية التي جعلت الفرنسية تغلب العربية في تشاد، لنصبح نحن الدارسين بالعربية أقلية في بلاد عرفت بممالك إسلامية عاشت قرونا قبل أن يطأ الفرنسيون هذه الأراضي. ما يقرأه المرء كقصة ورواية لا ينساه ويتأثر به، عكس ما يمر به في برديات التاريخ؛ لذا أكرر بأننا نحن الروائيين نكتب التاريخ في هذا العصر. الرواية ليست تاريخا، أدري ذلك، لكني اخترت بوعي كتابة هذه الرواية؛ لأني أردت ألا ينسى الناس ما حصل، ألا ينسى التشادي ما فعله فينا المستعمر، والكيفية التي جعلت الفرنسية تغلب العربية في تشاد، لنصبح نحن الدارسين بالعربية أقلية في بلاد عرفت بممالك إسلامية عاشت قرونا قبل أن يطأ الفرنسيون هذه الأراضي. السرد الروائي في تشاد اليوم، كيف تراه من زاويتك بالنظر إلى مرآة النقد وأجناس الأدب الأخرى وثنائية اللغة والهوية في اقترانهما بالأدب؟ أعتقد أن الرواية تعيش إحدى مراحل ازدهارها في تشاد. قبل سنوات، حين كنت أقول إنني سأصبح روائيا، كان بعضهم يعجز عن فهم ما أقصده؛ لأن الشعر كان على العرش، ولا وجود لروائيين معروفين. أول رواية تشادية صدرت بالعربية كانت في سنة 2004، أي أن عمر الرواية العربية في تشاد 21 سنة. لكن الجيل الثاني للرواية العربية، والذي أعتبر نفسي منهم، أصدر في بضع سنوات ما يقارب العشرين رواية، ساهمت بأربع روايات منها. اليوم، يقرأ الناس أعمالنا وينتقدوننا، نمدح ونعتبر من أفضل ممثلي البلاد، ونشتم ونتعرض لحملات تشويه، وهذه دلائل على وصول أعمالنا وعلى نبشها للجرح السياسي وعرضها مشاكل اجتماعية تعيشها مجتمعاتنا. وحين نتحدث عن مرآة النقد، فإنها عرضت أعمالنا وناقشتها وتحدثت عن غرائبيتها وجمالها. ورغم أن الحلم لم يتحقق بعد، إلا أننا نشعر بالإنجاز لمجرد أننا كتبنا أعمالا مدهشة ولافتة بشهادات النقاد، وتشارك في معارض كتب دولية، وتقرأ من آلاف الناس الذين لا نعرفهم. أما الأجناس الأخرى، فالقصة القصيرة هي التي تتقدم جيدا بعد أن "هربنا" منها نحن الروائيين. نحن بدأنا الكتابة بالقصة القصيرة، وثلاثة روائيين أصدروا أكثر من عشر روايات، ظهرت موهبتهم في مسابقات القصة القصيرة التي تنظمها جامعة الملك فيصل. اليوم هناك كتاب قصة قصيرة جيدون في تشاد وهم من جيل آخر، وأعتقد أنهم سيعلنون عن فتوحات في هذا الجنس الأدبي. يعتقد أغلب التشاديين الشماليين أنهم أتوا من اليمن أو أن أصولهم عربية، وأنا أستبعد ذلك، لكني أفريقي أكتب باللغة العربية. القضايا التي أكتب فيها، هي قضايا تشادية أفريقية، والمكان أيضا فضاء أفريقي، لكني أكتب باللغة العربية، ما يجعلني قريبا من المصري والقطري أكثر من أي شخص من "التوغو" أو "الكونغو" أما عن ثنائية اللغة والهوية، فهي قضية شائكة بالنسبة لنا. أذكر أنني قلت مرة لصديق بأنني "أفروعربي". يعتقد أغلب التشاديين الشماليين أنهم أتوا من اليمن أو أن أصولهم عربية، وأنا أستبعد ذلك، لكني أفريقي أكتب باللغة العربية. القضايا التي أكتب فيها، هي قضايا تشادية أفريقية، والمكان أيضا فضاء أفريقي، لكني أكتب باللغة العربية، ما يجعلني قريبا من المصري والقطري أكثر من أي شخص من "التوغو" أو "الكونغو". هذه هي معضلة تشاد؛ فالبلاد فيها عرب، وأغلب سكانها من الشمال، دماؤهم عربية وحضارتهم إسلامية، ويتحدثون العربية، وقريبون من السودان أكثر من الكاميرون. إلا أن هناك سكانا في الجنوب يدينون بالمسيحية والوثنية، ويتشاركون في العرق والملامح والثقافة مع سكان الكاميرون وأفريقيا الوسطى. هذه هي معضلة تشاد؛ فالبلاد فيها عرب، وأغلب سكانها من الشمال، دماؤهم عربية وحضارتهم إسلامية، ويتحدثون العربية، وقريبون من السودان أكثر من الكاميرون. إلا أن هناك سكانا في الجنوب يدينون بالمسيحية والوثنية، ويتشاركون في العرق والملامح والثقافة مع سكان الكاميرون وأفريقيا الوسطى. لدينا أزمة هوية. المشكلة التي لا يعرفها الآخر، هي أن أفريقيا وحدها يعيش فيها 70% من الأعراق، وأنه في بلاد واحدة، ربما يعيش عدد من الأعراق لا تجمعهم ثقافة ولا دين ولا يتشابهون، لكن الاستعمار لا يرى سوى اللون، ولم يراع هذه الأمور. أعتقد أن علينا في أفريقيا أن نناضل من أجل تنوعنا كما نناضل من أجل توحيد كل هؤلاء الأعراق في لون، إذ لا يمكن أن تشكل هوية باللون وحده. إعلان وأنا أجيب عن هذا السؤال، أترحم على روح نغوغي واثيونغو الذي ناضل من أجل الكتابة بلغته، لكني في الوقت نفسه أدرك أننا في أفريقيا نتحدث العديد من اللغات الأوروبية والشرقية، وهي معضلة لا أعرف كيف نجد لها حلا. هل ألقى تخصصك ودراستك القانون بظلاله على التجربة، فدمغها بميسم نضال مدني ناشط ترافق مبكرا مع طموح كبير استنهضه فعل الكتابة ذاتها لديك، على الأرجح؟ أعتقد أن دراسة القانون شيء يحفز الذاكرة والخيال ويدفع الإنسان إلى التفكير كشخص آخر؛ أعني يجعلك تضع نفسك في مكان الآخر ويقربك من الناس؛ لأنك تدرس سلوكياتهم وتشاهدهم في أضعف لحظاتهم، وهو شيء يساعد الكاتب في الغوص في الذات وفي فهم البشر. عدا ذلك، لم أستخدم معارفي القانونية في عمل حتى الآن. ربما سيحدث ذلك حين أصبح قاضيا. "زمن الملل" صدرت عام (2021)، وكتب عنها بعض النقاد كرواية "تتناول القلق الوجودي والتشظي النفسي". هل باتت الرواية تلعب دور الأنثروبولوجي في استقصائها المجتمع والبيئة التي يعيش فيها الإنسان؟ طبعا، ما الذي تفعله الرواية غير ذلك؟ إنها تتناول قصص الناس وترصد حياتهم وتسعى إلى فهم دوافع أفعالهم، بحثا عن أسئلة أو إجابات. زمن الملل، هي رواية تتحدث عني وعن أقراني وعن جيلي الذي عاش سنوات صعبة في البطالة بسبب أزمة اقتصادية ضربت البلاد، حيث طبقت الدولة إجراءات تقشفية، وغادرت الشركات، ولم يكن هناك من عمل يمكننا ممارسته، وكنا خريجين للتو. هنا تبدأ المشاكل؛ أعني وجود آلاف الشباب الذين لا يجدون ما يفعلونه. كنا نحمل شهادات وآمالا كبيرة، لكن الواقع كان قاسيا معنا. تقريبا ست سنوات من الفاقة والتيه والملل والموت في البحر والغوص في عالم المخدرات وعوالم الجريمة عشناها مع جيلي. كنت محظوظا أنني خرجت منها سليما. رأيت أصدقائي يدخلون السجن، رأيت أشخاصا لعبت معهم يتسولون الناس وينامون تحت الجسور، ورأيت ما يفعله الفراغ والملل بالناس. وقفت على آثار هذا الفراغ وعلى ما تفعله نظرة المجتمع بالعاطل، والأذى النفسي الذي يتعرض له بسبب عجزه وقلة حيلته. تقريبا ست سنوات من الفاقة والتيه والملل والموت في البحر والغوص في عالم المخدرات وعوالم الجريمة عشناها مع جيلي. كنت محظوظا أنني خرجت منها سليما. رأيت أصدقائي يدخلون السجن، رأيت أشخاصا لعبت معهم يتسولون الناس وينامون تحت الجسور، ورأيت ما يفعله الفراغ والملل بالناس. وقفت على آثار هذا الفراغ وعلى ما تفعله نظرة المجتمع بالعاطل، والأذى النفسي الذي يتعرض له بسبب عجزه وقلة حيلته تقارب روايتك ارتدادات الذاكرة، الصادرة في (2023)، "حقبة الاستعمار الفرنسي لتشاد". ألا تتطلب كتابة الرواية الحذر كلما تعلق الأمر بالتاريخ؟ التاريخ اليوم نكتبه نحن الروائيين. صحيح أن ما نكتبه لا يعد تاريخا بالمعنى الأكاديمي، وينبغي الحذر لأننا لا نكتب ما حدث فقط ونسرد وقائع معينة ورزنامة من التواريخ، وإنما نعيد كتابة التاريخ ونرمم الفراغات التي لم يتمكن المؤرخ من سدها. هناك اتفاق ضمني بين القارئ والروائي بأن ما منحه ليس تاريخا، وإنما يمكن أن يكون أو يفترض أنه وقع. لكن الروائي ليس ملزما بأن يكون دقيقا في الترتيب الكرونولوجي أو يجعل السلطان بطلا للقصة؛ فالرواية تذهب أبعد من ذلك، وتركز على الناس العاديين، وتناقش هموم البسطاء، مع تقديم حياة كاملة ليعرف القارئ ما كان يأكله الناس وقتها، وماذا يرتدون، وكيف يتزاوجون، اتكاء على شذرات تركها مؤرخ أو اعتمادا على الخيال. صحيح أن كتابة رواية تاريخية يحتاج إلى الحذر الشديد، خاصة حين تكتب عن حادثة تاريخية يعرفها آلاف الناس ويمكنهم مجادلتك في سير الأحداث وتواريخ الوقائع ومآلات الشخصيات؛ والأسوأ ألا يقتنعوا! لكننا نكتب تاريخا جديدا حين نكتب رواية تاريخية، نضيف سردية إلى السرديات القديمة، والهدف هو بناء جسر بين الأجيال القادمة وتاريخها ورموزها الوطنية. لا وجود لسردية تاريخية موحدة عن تشاد، عدا أنه كانت هناك ممالك إسلامية معروفة بالاسم فقط، والناس يحفظون أسماء الملوك فقط، ولا يعرفون عن الشعب كيف كان يعيش. ثم إنني كتبت هذه الرواية كي لا ننسى ورواية ارتدادات الذاكرة، هي إضافة للسرد التشادي، وإضافة للهوية التشادية، كذاكرة، وكشيء يجمع التشاديين ويوحدهم حول سردية تاريخية، فلا وجود لسردية تاريخية موحدة عن تشاد، عدا أنه كانت هناك ممالك إسلامية معروفة بالاسم فقط، والناس يحفظون أسماء الملوك فقط، ولا يعرفون عن الشعب كيف كان يعيش. ثم إنني كتبت هذه الرواية كي لا ننسى. الرواية ذاتها تميل إلى استخدام تقنية "البوليفونية" (الرواية متعددة الأصوات)، وهو ما غدا يستخدمه كثيرون. فهل ترى أن تعدد الأصوات يتيح للكاتب فرصة للتعمق عبر شخصياته والكشف عن مكنوناتها النفسية أكثر؟ إعلان نعم، ولهذا السبب اخترت تقنية البوليفونية. الشخصيات التي تناولتها في الرواية هي شخصيات حقيقية وتاريخية يعرفها أغلب المتعلمين في تشاد. ليس كل الشخصيات، وإنما أهمهم؛ فهناك شخصيات اخترعتها من أجل تقوية القصة وتحريك الأحداث. لم أرد استخدام الروائي العليم لأتحدث عن شخصيات تاريخية حتى لا يظن القارئ أنني أفرض وجهة نظري في القصة أو أركز على سردية محددة من السرديات المكتوبة والمنتشرة بخصوص المذبحة. تركت الشخصيات تتحدث وتقول رأيها عن بعضها بعضا، كما يفعل الناس عادة، كي أظهر سلبياتهم وأغوص في نفسياتهم وأبرز ضعفهم، ليدرك القارئ أنهم أشخاص مثلنا: يأكلون، ويخونون، ويتزاوجون، ويكذبون، ويصدقون، قبل أن يكونوا أبطالا في حادثة. استخدمت تقنية البوليفونية من أجل إظهار وجهات النظر المختلفة إبان فترة مهمة جدا، وتركت الجميع يتحدث كي يحكي ما كان يفكر فيه. كما أن التقنية سمحت لي بإيراد وجهة نظر المستعمر على لسان "جيراد" الذي كان يرى أنه جاء للتنوير ولتعليم الناس وإيصالهم إلى الحضارة. فرنسا كانت مسيطرة عسكريا على كامل الأراضي التي تسمى اليوم بتشاد، لكنها لم تكن تملك سيطرة ثقافية. ففي الجنوب وجد المستعمر أناسا بسطاء بلا دين، فكانت المهمة سهلة، رغم أن العديد منهم تمسك بوثنيته. بيد أن العلماء كانوا عقبة أمام الاستعمار الثقافي، فارتكبت المجزرة بعد جمع العلماء من كل أقطار البلاد للتخلص منهم، وهو ما حصل بالفعل؛ لأنه بموت العلماء وهروب التلاميذ أصبح الميدان فارغا لإنشاء المدارس الفرنسية وتعليم الناس. وهو الذي أدى إلى غلبة وطغيان اللغة الفرنسية وإضعاف اللغة العربية التي واصلت تراجعها. برأيك، ما كان دافع الاحتلال الفرنسي في جريمته اغتيال علماء يمثلون الثقافة العربية والإسلامية؟ برأيي أن الدافع كان القضاء على أهم قوة سياسية تقف ضد أهداف المستعمر الذي جاء لاستعمار الأرض ولتنصير الناس. فالعلماء كانوا متعلمين، وهم من يقفون بين المستعمر والناس ويكافحون رغبات المستعمر من تنصير وبناء للمدارس الفرنسية وإغلاق للخلاوي وحلقات العلم. فرنسا كانت مسيطرة عسكريا على كامل الأراضي التي تسمى اليوم بتشاد، لكنها لم تكن تملك سيطرة ثقافية. ففي الجنوب وجد المستعمر أناسا بسطاء بلا دين، فكانت المهمة سهلة، رغم أن العديد منهم تمسك بوثنيته. بيد أن العلماء كانوا عقبة أمام الاستعمار الثقافي، فارتكبت المجزرة بعد جمع العلماء من كل أقطار البلاد للتخلص منهم، وهو ما حصل بالفعل؛ لأنه بموت العلماء وهروب التلاميذ أصبح الميدان فارغا لإنشاء المدارس الفرنسية وتعليم الناس. وهو الذي أدى إلى غلبة وطغيان اللغة الفرنسية وإضعاف اللغة العربية التي واصلت تراجعها. تنطوي العديد من أعمالك على سمات مضمرة من نقد اجتماعي وسياسي. كيف تتأسس علاقتك بالنقد كموقف يتطلب شجاعة وجرأة في الكتابة؟ الكتابة تحتاج إلى الشجاعة قبل كل شيء. لا بد من الشجاعة لقول رأيك بصوت عال عن السلطة والسياسة والواقع والمجتمع في بلادك. ولفعل ذلك تحتاج إلى الصبر والتحمل والجرأة؛ لأنك توجه رصاصتك تجاه جماعات تمتلك القدرة على تصفيتك ماديا ومعنويا. ككاتب روائي، أدري أنني أمارس الفن الأكثر قدرة على رصد التأثيرات التي تحدثها القرارات السياسية والسلطة. الروائية الأمريكية توني موريسون قالت ذات مرة: "السياسة تطارد الروائي أينما ذهب، ولا يستطيع الفكاك منها". ولذا، ورغم أنك تمارس فنا ينبغي ألا يصبح بيانا سياسيا أو دعما لإيديولوجيا، إلا أنك تكتب عن الناس، والسياسة هي التي تقرر كيف يتصرف هؤلاء. في النهاية، أنا روائي متمرد على التقاليد الفنية وعلى السلطة والمجتمع، ولتأكيد ذلك ينبغي أن تكون شجاعا وجريئا؛ لأن قول الحقيقة يحتاج إلى هاتين. الروائية الأمريكية توني موريسون قالت ذات مرة: "السياسة تطارد الروائي أينما ذهب، ولا يستطيع الفكاك منها". ولذا، ورغم أنك تمارس فنا ينبغي ألا يصبح بيانا سياسيا أو دعما لإيديولوجيا، إلا أنك تكتب عن الناس، والسياسة هي التي تقرر كيف يتصرف هؤلاء. هل تتعمد توظيف الخيال كأداة مثلى في الكتابة، بينما تقارب المدينة روائيا؟ نعم، لا بد من الخيال لكتابة رواية. هو زادنا. لكن الخيال لا بد أن يصبح واقعيا حين تقارب مدينة. وهنا يأتي دور الذاكرة؛ تتذكر مدينتك وطفولتك، ما رأيته وجربته وسمعته، وترمم فجوات الذاكرة بالخيال لتكتب عن فضاء روائي. لكن الواقع يبدو مختلفا في خيال الرواية التي تكتبها. هل تكون الغاية هنا ما ترومه من خلال تعبيرات الفن ذاته كهدف تتغياه في كتابة السرد؟ كروائي من تشاد، لا أعتقد أنني أملك ترف "الفن للفن"؛ لأنني أكتب قضايا وتأثيرات، وعشت وأعيش في بلاد فقيرة تعرضت لعنف وحروب أهلية، وفيها الكثير من القضايا الاجتماعية التي أعتقد أنها تجذب الكاتب إلى تناولها. ولذا جاءت أغلب أعمالي متأثرة بالسياسة والعنف الاجتماعي والنضال. لكن ذلك لا يمنع من وجود فصول أو قصص وشخصيات كتبتها لغاية المتعة ولأسباب فنية بحتة. فأحيانا نكتب لأننا نستمتع. لذا كتبت قصصا لأنني فقط كنت أستمتع بممارسة الكتابة، وبعد أن انتهيت تخلصت منها. كروائي من تشاد، لا أعتقد أنني أملك ترف "الفن للفن"؛ لأنني أكتب قضايا وتأثيرات، وعشت وأعيش في بلاد فقيرة تعرضت لعنف وحروب أهلية، وفيها الكثير من القضايا الاجتماعية التي أعتقد أنها تجذب الكاتب إلى تناولها. ولذا جاءت أغلب أعمالي متأثرة بالسياسة والعنف الاجتماعي والنضال. تتعاطى مع الكتابة كنوع من "احتجاج". هل قصدت بها وسيلة إدانة لما يرتكبه العدوان الصهيوني على غزة مثلا؟ نعم، أعتبر الكتابة نضالا ومقاومة؛ لأنها سبيل إلى التوثيق والرفض والبقاء والمقاومة. لا تقدم الكتابة الكثير من النتائج الآنية لأن "السيف أصدق إنباء من الكتب"، لكن على المدى الطويل فهي أيضا سلاح فتاك. ما يرتكبه العدوان الصهيوني تجاه غزة هو شيء فظيع، وأعتقد أننا جميعا سنسأل، والتاريخ سيعاقبنا جميعا على بقائنا مكتوفي الأيدي بينما مليون إنسان سجين يتم قصفهم وقتلهم بشكل يومي، وتنفذ ضدهم إبادة جماعية. ما الذي يمثله لك التجريب؟ هل يحفز الكتاب الشبان؟ وهل يشترط التجريب الحرية؟ ويدعو إلى أدب جديد يتجاوز القوالب التقليدية؟ يمثل لي التجريب الحرية. أعتقد أن أهم صفة يجب أن يمتلكها الكاتب هي الحرية. لا بد أن نجرب أساليب جديدة وفضاءات بعيدة لنبدع. لا بد من التمرد وتجريب الجديد لكي نبدع. أغلب مدعي التجريب يكتبون أشياء غير مفهومة لعدم امتلاكهم قصة قوية تجبرهم على الكتابة؛ ولذا لم تعجبني أغلب الأعمال التي روج لها على أنها تجريبية. برأيي، التجريب موجود في أغلب الروايات. فكسر التسلسل الزمني وتعدد الأصوات هي أفكار لها أكثر من نصف قرن ومقبولة. لكني لا أحب الكتابات التي تدور بلا هدف، والتي تشعر أن كاتبها لا يدري كيف ينهيها ولم بدأها. تتطلع بإلحاح إلى وصول الأدب الإفريقي عبر الترجمة إلى جمهور محلي وعالمي أوسع. وغير مرة أكدت على: "أن الترجمة تعتبر الجائزة الكبرى للكاتب". كل كاتب يتمنى أن تقرأ أعماله من أكبر عدد ممكن من الناس. الجائزة الكبرى للكاتب هي أن تقرأ أعماله في أنحاء العالم وبمختلف اللغات. لكني أتمنى أن تحصل التفاتة إلى الأدب الإفريقي؛ لاعتقادي بأن ما نكتبه يستحق ذلك. ما يرتكبه العدوان الصهيوني تجاه غزة هو شيء فظيع، وأعتقد أننا جميعا سنسأل، والتاريخ سيعاقبنا جميعا على بقائنا مكتوفي الأيدي بينما مليون إنسان سجين يتم قصفهم وقتلهم بشكل يومي، وتنفذ ضدهم إبادة جماعية. إلى أي مدى تدرك تجربتك الروائية أهمية الكتابة كأداة لفهم الذات والمجتمع والأفراد؟ الكتابة تعرية أيضا. هناك أفكار لا تأتيك إلا حين تجلس للكتابة. وحين نكتب فإننا نفكر بطريقة مختلفة تجعلنا شفافين وصادقين مع ذواتنا، وواضحين في سرد تجاربنا أو معارفنا أو ما نفكر فيه، وكأن الكتابة تزيل المكابح التي وضعت بين عملية التفكير وقرار القول أو الفعل. الكتابة ممارسة صعبة، ولهذا سوف تعلمك أشياء كثيرة، من بينها الصبر والجدية والتحمل. لكن الأكيد أن من يكتب يقرأ، وإذا جمعت بين هذين فأنت ستزداد ذكاء وفهما لنفسك وللمجتمع وللأفراد الذين تفكر فيهم كثيرا وتراقبهم لتخلق منهم شخصيات. تلقي رواياتك عند فحصها الضوء على قضايا العنف السياسي والهوية الثقافية في تشاد، وهو ما أضاف بعدا جديدا إلى الأدب العربي في أفريقيا؟ أعتقد ذلك، فالمستعمر هو الذي خطط لهذا كي نكتوي بآثار أفعاله. تأثرت بهذه الأحداث التي انعكست على حياتنا اجتماعيا وسياسيا، فكتبت عنها. حتى يومنا هذا ينقسم التشاديون إلى جنوبيين مسيحيين وشماليين مسلمين، وينقسم الفريقان إلى عشائر وقبائل، ولم نتجاوز الانتماء القبلي حتى اليوم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store