
القوى السودانية تنسق لحوار في القاهرة فهل من جديد؟
مع تزايد حدة التصعيد العسكري بصورة متسارعة في الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" المستعرة منذ أكثر من عامين، لا يزال الجمود يخيم على الساحة السياسية السودانية، على رغم الدعوات المتكررة إلى حوار سوداني شامل لا يقصي أحداً بوصفه المخرج من المأزق الراهن الذي تعيشه البلاد، لكن تلك الدعوات سرعان ما تتحول إلى نداءات فضفاضة ومناورة موسمية تتلاشى في وقتها، فكيف ينظر المراقبون والسياسيون للحوار السوداني الشامل الذي ينادي الجميع، لكنه يستعصى على الانعقاد؟ وكيف يؤثر التصعيد العسكري التواصل في مستقبله وفرص نجاحه؟
عقبات وانقسامات
يرى رئيس حزب الأمة مبارك الفاضل المهدي أن هناك عقبات عدة تعترض الحوار السوداني بعضها ناتج من انقسامات القوى السياسية وحالة السيولة التي تعتري الساحة السياسية، التي أفرزت بدورها أحزاباً وحركات وهمية يمثلها أفراد قابلون للاستمالة من السلطة في بورتسودان.
ويعتقد المهدي أن أهم العقبات أمام الحوار هي الرفض المبطن له من السلطة في بورتسودان، لأن الفريق عبدالفتاح البرهان يريد الاستمرار في الحكم، لذلك يعمل على تعطيل البديل الديمقراطي ويدفع بإغراءات كبيرة لأحزاب وهمية وأخرى كبيرة وعدد من الشخصيات لشراء ولائها.
ويتابع المتحدث "كذلك هناك الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا وغير الموقعة التي ليس لها مصلحة في أية عملية سياسية حتى تتمكن من الاستمرار في الحكم مع قائد الجيش، فضلاً عن خلل آخر يعرقل الحوار، وهو ضعف اللجنة العليا للاتحاد الأفريقي التي فشلت في التعامل مع هذه المشكلات ولم تعقد سوى اجتماعين خلال عام كامل".
الأحزاب الحقيقية
وأضاف رئيس حزب الأمة أن "الجولة الأولى لمؤتمر القوى السياسية السودانية الذي نظمته واستضافته القاهرة قبل نحو عام نجحت في تحقيق مصالحة بيننا والأحزاب المكونة لتحالف القوى الديمقراطية الثوري (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، ونحن الآن في تنسيق مستمر حول بناء العملية السياسية والتحضير للنسخة الثانية من مؤتمر القاهرة التي تسبب موقف المجموعة التي تقف مع البرهان في تردد القاهرة في الدعوة لها".
وأوضح المهدي "أدرك الاتحاد الأفريقي في الآونة الأخيرة طبيعة المشكلة، لذلك قرر استبعاد الأحزاب الوهمية التي ليست سوى مجرد لافتات والحركات واقتصرت الدعوة على الأحزاب الحقيقية والقوى المجتمعية الفاعلة والمؤثرة، في مقابل موقف الفريق البرهان نفسه الذي يخطط لعقد مؤتمر حوار داخل السودان حتى يتمكن من التحكم في قراراته ومخرجاته".
في يوليو (تموز) العام الماضي استضافت القاهرة مؤتمراً للقوى السياسية السودانية تحت شعار "معاً لوقف الحرب في السودان"، بمشاركة واسعة من القوى السياسية والمدنية السودانية، وأفضت الجهود إلى توافق بين معظم المشاركين حول ضرورة وقف الحرب، والمحافظة على وحدة السودان ومرور المساعدات الإنسانية، على رغم ذلك رفضت بعض القوى السياسية التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر.
انعدام الثقة
على الصعيد نفسه يقول أستاذ العلوم السياسية سعيد على الحسين "على رغم الدعوات المتكررة إلى عقد مؤتمر للحوار السوداني الشامل من دون إقصاء لأحد، لكن انعدام الثقة المتجذر بين أطراف القوى السياسية والمدنية والعسكرية بسبب تجارب سابقة من الإقصاء والتنصل من الالتزامات والانقلابات، يشكل حاجزاً سميكاً أمام التقاء الفرقاء وإتمام تلك الدعوات".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشير الحسين إلى وجود عدد من الأسباب التي تحول دون نجاح الحوار الشامل في السودان، أهمها كثرة وتتعدد تحفظات القوى السياسية على بعضها بعضاً، بحسب موقع كل طرف من الحرب الراهنة، فهناك بعض القوى مدنية أو مسلحة، تخشى فقدان نفوذها، لا تزال تتحفظ على الحوار خوفاً من فقدان ما حصلت عليه من مكاسب في السلطة في أي من مستوياتها.
تابع المتحدث "لم يغادر الحوار السوداني حتى هذه اللحظة محطة القطيعة السياسية برفض بعض الأطراف الجلوس مع أخرى، مثل رفض العسكريين الجلوس مع قوى مدنية رئيسة في التحالف الثوري الديمقراطي (صمود)، ورفض الكتلة الديمقراطية التي تضم الحركات المسلحة الجلوس على منضدة واحدة مع القوى السياسية المكونة لذات التحالف، كما أن هناك قوى سياسية رئيسة ترفض مشاركة أطراف بعينها، ممن تعتبرهم مسؤولين بقايا وفلول وقيادات النظام السابق وتحملهم مسؤولية نشوب الحرب، أو تلك المتهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مثل قوات 'الدعم السريع' أو قيادات من النظام السابق".
تباين الأجندات
ويرى الأكاديمي أن هذه الانقسامات والتباين الكبير في الأجندات وسعي كل طرف إلى تحقيق أهدافه وبرامجه الخاصة، أيديولوجية كانت أم جهوية أم سلطوية أم عسكرية، تعتبر من أكثر المعضلات التي ظلت تحول دون توصل القوى السياسية إلى الحد الأدنى من التوافق على رؤية موحدة لبرنامج وطني قومي.
ونوه الحسين إلى أن "إصرار المؤسسة العسكرية والحركات المسلحة والميليشيات أحياناً، على لعب أدوار سياسية يضيف مزيداً من التعقيد على المشهد، على رغم أن وضعها الطبيعي أن تكون خارج العملية السياسية، لكن أدوارها ونواياها السياسية تضعف من فرص الحوار السياسي وتفقده الضمانات الأمنية".
ووفق الحسين في مثل هذه الأجواء السياسية المضطربة تلعب التأثيرات والتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية دوراً ملاحظاً لا تخطئه العين في التأثير في معظم مكونات الوسط السياسي السوداني بمختلف توجهاته، وتدفع ببعض القوى السياسية في كثير من الأحيان إلى التمسك بمواقف متشددة إرضاء لأطراف خارجية أملاً في كسب دعمها لاحقاً".
ضعف الإرادة
يشير الأكاديمي إلى أن تلك التقاطعات تسببت في ضعف وتغييب الإرادة السياسية الحقيقية، الظاهرة التي باتت ملازمة لمعظم القوى السياسية السودانية، فهناك بعض الأطراف السياسية تتخذ من شعار الحوار وسيلة للمناورة وكسب الوقت أو لمجرد تحسين صورتها أمام الرأي العام الداخلي أو المجتمعين الإقليمي والدولي.
مع كل تلك التعقيدات فإن تواصل الحرب والتصعيد الميداني للمعارك وتدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية بحسب الحسين، يقضي بصورة مستمرة على البيئة الآمنة المطلوبة للعمل للسياسي، وتجعل من الصعب إجراء حوار حقيقي داخل السودان، وتلاحق ظلال تلك المصاعب الحوار حتى في حالة انعقاده خارج الأرض السودانية.
ترف بلا قيمة
على النحو ذاته يبدو بكري الجاك، وهو قيادي في التحالف المدني الديمقراطي الثوري (صمود)، متشائماً إزاء إمكان إجراء الحوار السوداني السوداني، إذ لا يرى سبيلاً أو أية قيمة لهذا الحوار أو "المائدة المستديرة"، ما لم يصاحبها وقف شامل لإطلاق النار بالبلاد.
ويرى ألجاك أن المجتمع السوداني بات يشهد انقساماً كبيراً، كما أن القوى السياسية التي تدعم طرفي الصراع لا يمكن لها أن تتوافق على رؤية لإيقاف القتال ما دام أنها تدعم أحد أطرافها ولديها تصوراتها الخاصة حول كيفية إيقاف أو إنهاء الحرب تتطابق بصورة كاملة مع حليفها العسكري.
وتابع المتحدث "أفهم أن الحوار السوداني أو المائدة المستديرة هي ضمن ترتيبات اليوم التالي لما بعد الحرب، ولا يوجد يوم تال ما دام أن الحرب تدور والتصعيد مستمر، لذلك وبغض النظر عن شمول الحوار من عدمه أو النقاش حول أطرافه، فالأمر كله يبدو ضرباً من الترف السياسي في الظرف الحالي الذي تعيشه البلاد".
جولة ثانية
على صعيد ذي صلة كشفت مصادر سياسية عن مشاورات مصرية لعقد جولة ثانية من مؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية خلال الفترة المقبلة، بهدف تشجيع الحوار السوداني ودفع جهود التسوية السياسية للحرب الداخلية.
توقعت المصادر أن توافق معظم القوى السياسية على جولة المؤتمر الثانية بسبب تحفظاتها على حوار الداخل، ستركز على القضايا الإنسانية وقف إطلاق النار والحل الداخلي بتوافق الأطراف كافة على رؤية سودانية سياسية خالصة من دون أي تدخلات خارجية تؤسس للعملية الانتقالية.
وكان وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي عقد جلسة تشاورية في شأن التطورات السياسية والميدانية في السودان مع المبعوث الشخصي لسكرتير عام الأمم المتحدة للسودان رمطان لعمامرة، مطلع هذا الشهر، أكد خلالها حرص مصر على أمن واستقرار ووحدة السودان والحفاظ على مؤسساته الوطنية.
سيولة سياسية
من جانبه يقول الكاتب السوداني عبدالله حسن محمد سعيد إن "الواقع السياسي في السودان اليوم يعكس حالة من السيولة السياسية يعجز كثيرون عن فهم أسبابها العميقة على رغم الجهود العديدة التي بذلت من أجل تأسيس دولة ديمقراطية مدنية، ولا أحد يدري ما إذا كانت هذه السيولة ناجمة عن أزمة فكرية لدى الفاعلين السياسيين، أم أن المشكلة تكمن في غياب المشروع الوطني الجامع الذي يعيد توجيه دفة البلاد نحو الاستقرار والتنمية".
التمزق والعجز
وتابع سعيد "أعاق الإرث الاستعماري الذي أسس للتمكين السياسي من خلال السياسات المركزية تطور الأحزاب السياسية السودانية في فترة ما بعد الاستقلال، غير أن هذا الجمود تعمق مع تطور الحركات الأيديولوجية، من الإسلام السياسي إلى الاشتراكية والليبرالية، التي نمت على حساب بناء المؤسسات السياسية الوطنية المستقلة عن الأيديولوجيات المتباينة".
وأشار الكاتب إلى أن حالة السيولة السياسية مع التراكمات التاريخية السابقة جعلت القوى السياسية السودانية عاجزة عن التوصل إلى إجماع فكري حول شكل الدولة، أو الاتفاق على كيف تحكم البلاد، بينما ظل التمزق الأيديولوجي يعرقل أي تقدم نحو مشروع سياسي شامل، معتبراً أن غياب الاتفاق على مثل هذا المشروع أحد أبرز أوجه الأزمة في السودان اليوم، إذ تغلب الرؤى السياسية المتناقضة على المشهد، ولم تتمكن حتى المبادرات الوطنية من تقديم رؤية متكاملة تتجاوز الأيديولوجيا.
وحذر سعيد من أن السودان يقف الآن على مفترق طرق، فإما أن تستعيد القوى الوطنية زمام المبادرة وتؤسس لمشروع وطني متكامل، أو يستمر غارقاً في السيولة السياسية التي تغذيها التناقضات الفكرية وغياب المشروع الوطني، مشدداً على القوى السياسية بضرورة الاتفاق على إعادة بنائه بالحوار الوطني، وفق مصالحه الداخلية بعيداً من الضغوط الخارجية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 2 ساعات
- عكاظ
احتفالان بلقب واحد.. نهاية مثيرة للجدل في الدوري المصري !
تابعوا عكاظ على شهد الدوري المصري الممتاز لموسم 2024-2025 واحدة من أكثر نهاياته إثارة للجدل، بعد أن أسدل الستار على المنافسات باحتفال مزدوج باللقب من قبل ناديي الأهلي وبيراميدز، في مشهد استثنائي يعكس تعقيد المشهد القانوني والرياضي معاً. الأهلي أنهى الموسم بانتصار كاسح على فاركو بنتيجة 6-0، رافعاً رصيده إلى 58 نقطة في صدارة جدول الترتيب، بفارق نقطتين عن بيراميدز الذي تغلب بدوره على سيراميكا كليوباترا بنتيجة 5-1، لكنه لم يكتف بالحسابات الميدانية، بل لجأ إلى المسار القانوني، مطالباً بإعادة خصم 3 نقاط من الأهلي، بناءً على خلفية انسحاب الأخير من مواجهة الزمالك في الجولة الرابعة عشرة، وهي المباراة التي لم يحضرها الأهلي في 11 مارس الماضي. الواقعة المثيرة كانت قد شهدت في بدايتها قراراً من رابطة الأندية باعتبار الأهلي خاسراً بنتيجة اعتبارية 0-3 مع خصم 3 نقاط من رصيده، قبل أن يتم لاحقاً إلغاء الخصم والإبقاء فقط على النتيجة الاعتبارية، في ظل وجود بند تنظيمي يُحصّن قرارات مجلس إدارة الرابطة. هذا التحول دفع بيراميدز إلى تصعيد القضية إلى محكمة التحكيم الرياضية الدولية «كاس»، التي رفضت تعليق إعلان البطل، لكنها قررت فتح ملف القضية بالكامل ومواصلة النظر فيها، ما أبقى احتمالية التعديل في ترتيب البطولة قائمة من الناحية القانونية. أخبار ذات صلة وبينما يحتفل الأهلي بتتويجه رقم 45 وسط تهانٍ واسعة داخل الوسط الرياضي، وتأكيده أن حسم البطولة جاء على أرض الملعب، أطلق بيراميدز احتفالاته الخاصة باعتباره «البطل المنتظر للعدالة»، مستنداً إلى احتمالية صدور قرار من «كاس» بإعادة خصم النقاط من الأهلي، الأمر الذي سيمنحه اللقب الأول في تاريخه بفارق نقطة وحيدة. وفي ظل عدم صدور حكم نهائي من المحكمة الدولية حتى اللحظة، يبقى تتويج الأهلي فعلياً دون أن يغلق الباب تماماً أمام سيناريو مغاير قد تفرضه الكلمة الأخيرة للقضاء الرياضي الدولي، في سابقة قد تترك أثراً بالغاً على مشهد التتويج في كرة القدم المصرية. /*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;}


الشرق السعودية
منذ 6 ساعات
- الشرق السعودية
شاهد.. مدرب بيراميدز يحتفل بلقب الدوري المصري رغم تتويج الأهلي
انطلق كرونسلاف يورتشيتش مدرب بيراميدز للاحتفال مع لاعبيه بعد الفوز 5-1 على سيراميكا كليوباترا في ختام الدوري المصري الممتاز اليوم الأربعاء. أنهى بيراميدز الدوري في المركز الثاني برصيد 56 نقطة بفارق نقطتين عن الأهلي المتوج باللقب للمرة 45 في تاريخه، لكنّ النادي السماوي ينتظر قرار المحكمة الرياضية بشأن خصم 3 نقاط إضافية من رصيد الأهلي بسبب أحداث مباراة القمة. ونزل يورتشيتش إلى أرض الملعب بعد المباراة، ليحتفل مع لاعبي بيراميدز، لكن درع الدوري كان في استاد القاهرة بعد فوزه الأهلي الكبير 6-0 على فاركو، وتربعه على عرش المسابقة. وفي الوقت الذي احتفل فيه لاعبو بيراميدز والطاقم التدريبي، اكتفت حسابات النادي على منصات التواصل الاجتماعي بالإشارة إلى الفوز على سيراميكا كليوباترا. ويطالب بيراميدز باعتماد قرار رابطة الأندية الأول بخصم ثلاث نقاط إضافية من الأهلي، وهو القرار الذي تم تعديله بعد ذلك والاكتفاء باعتبار الأهلي خاسراً فقط بعد امتناعه عن خوض المباراة. وتلقى بيراميدز ضربتين من المحكمة الرياضية، الأولى برفض الشق المستعجل من الدعوى، والثانية برفض تعليق الإعلان عن بطل الدوري المصري. وكان بيراميدز والزمالك خسرا المواجهة الأولى في لجنة التظلمات بالاتحاد المصري، والتي أقرت بعدم جواز الطعن على قرارات رابطة الدوري واعتبارها نهائية.


الشرق الأوسط
منذ 8 ساعات
- الشرق الأوسط
الخرطوم تعود رغم التحديات!
بعد فترة طويلة خيم فيها الصمت على المدينة، وطغت مناظر الشوارع المهجورة، والدمار الواسع، ومخلفات الحرب في الطرقات، بدأت الخرطوم تلتقط أنفاسها وتخطو تدريجياً لاستعادة حياتها متحدية الصعوبات، ومؤكدة أن إرادة الحياة والبناء تبقى أقوى. من حملات النظافة وإزالة مخلفات الحرب من الشوارع وإصلاحها، إلى مشاريع إنارة بعض الشوارع في مدينة بحري بالطاقة الشمسية، إلى عودة فتح عدد من الأسواق، تشهد المدينة حركة نشطة تعكس عزم القيادات والمواطنين على إعادة البناء لكي تنهض العاصمة من جديد، إذ ابتعدت قليلاً عن صخب معارك السياسة، وأجواء الإشاعات وإثارة الإحباط في ساحات وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك الكثير من الخطوات والتحركات الإيجابية في سبيل استعادة الحياة وإعادة الإعمار، ربما بخطوات صغيرة، لكنها واثقة ومتحفزة لمواجهة التحديات، وهي كثيرة بلا شك. قبل أيام أعلنت إحدى عشرة جامعة وكلية سودانية أنها سوف تستأنف العملية التعليمية من مقارها في ولاية الخرطوم بعد عيد الأضحى المبارك. هذه الخطوة فيها الكثير من الدلالات الرمزية والعملية، فهي لا تقتصر على استعادة النشاط الأكاديمي فحسب، بل ستساهم في عودة الأسر التي اضطرت للنزوح، إلى منازلها، لكي يلتحق أبناؤها بالدراسة، وبذلك ترسل أيضاً إشارة قوية إلى أن عاصمة البلاد بدأت خطوات استعادة عافيتها. إلى جانب المؤسسات التعليمية، بدأت بعض الوزارات والهيئات الحكومية خطوات العودة لاستئناف عملها في الخرطوم، ما يعزز وجود الدولة ويُسرع عملية إعادة الأعمار. عودة هذه المؤسسات لن تكون مجرد خطوة إدارية، بل رسالة طمأنة للمواطنين وللمجتمع الدولي بأن العاصمة تعود إلى دورها الطبيعي بوصفها مركزاً للقرار والإدارة في السودان. من الأخبار المبشرة في مسيرة التعافي، الإعلان عن الاستعدادات لتشغيل مطار الخرطوم لاستقبال طائرات الشحن بوصفها مرحلة أولى، وهي خطوة لها دلالات معنوية وعملية كبيرة. فمن الناحية الرمزية، يعود المطار جزئياً بوابة للعاصمة نحو العالم، مما يعزز الثقة في عودة الحياة الطبيعية. أما عملياً، فإن تشغيل المطار يعني تسهيل وتسريع نقل البضائع والأدوية والمواد الإغاثية التي تحتاج إليها العاصمة والمناطق المحيطة بها. المطار ليس مجرد منشأة لوجيستية، بل هو شريان أساسي للحياة، وتشغيله يمثل رسالة بأن الخرطوم لن تبقى معزولة عن العالم، وأنها قادرة على استعادة دورها، وضخ الحياة في منافذها الحيوية. في قلب هذه التحولات، يذكر كثيرون دور والي الخرطوم أحمد عثمان حمزة، الذي ظل هو وطاقمه يعملون بكد وإصرار، وبدعم من الحكومة من أجل إعادة الحياة إلى العاصمة. لم يغادر الوالي المدينة رغم التحديات، وظل يتابع الملفات المختلفة، من إصلاح البنية التحتية إلى تنسيق الجهود بين المؤسسات الحكومية والجهات المحلية وأحياناً الدولية. وكلما حرر الجيش منطقة، ترى الوالي يسارع إلى زيارتها لبحث كيفية ضخ الحياة فيها، والتعاون مع المواطنين والجهات المختصة لاستعادة الخدمات الضرورية. هناك بالطبع عدد كبير من القيادات ومن المواطنين الذين لم يغادروا الخرطوم بمحلياتها المختلفة، على الرغم من قسوة الأوضاع، وهو ما ساعد على بقاء النسيج الاجتماعي حياً ومتماسكاً، وشجع كثيرين على العودة. اليوم ترى رحلات العائدين من مراكز النزوح واللجوء متواصلة، بينما تسمع أن كثيرين يحزمون حقائبهم استعداداً للعودة إلى ديارهم تزامناً مع فترة العيد. فالناس يعرفون أن الملاجئ لا يمكن أن تصبح وطناً، وأن إعادة البناء والإعمار تتحقق بسواعد السودانيين، وتنشط بعودتهم إلى ديارهم. كل المناطق التي عاد إليها أهلها بدأت تتعافى تدريجياً وتدب فيها الحياة. من مدينة مدني، حاضرة ولاية الجزيرة، إلى مدينتي بحري وأم درمان في ولاية الخرطوم. في هذا الصدد تبقى محلية كرري في أم درمان شاهداً على معنى صمود الناس، وبقائهم في بيوتهم رغم كل التحديات. ففي هذه المحلية بدأت مظاهر الحياة تدب منذ وقت طويل، وتدريجياً عادت أسواقها تنبض بالحركة، واكتظت شوارعها بالناس، واستعادت حركة المواصلات نشاطها. هذا التعافي يقدم نموذجاً على قدرة العاصمة على التعافي الذاتي، ويمنح باقي المحليات دفعة للمضي في المسار ذاته. الخرطوم لا تزال تواجه تحديات كبيرة، بعضها أمني، وآخر خدمي، لكن ما يجري على الأرض، يؤشر إلى بداية تحول حقيقي. فمع كل خطوة نحو إصلاح البنية التحتية وتحسين الخدمات، تشرع الخرطوم أبوابها أكثر لاستقبال العائدين، وتخطو نحو استعادة دورها بوصفها عاصمة نابضة بالحياة. العودة التدريجية للجامعات والوزارات، وتشغيل المطار تدريجياً، وحملات إزالة مخلفات الحرب، وصمود المواطنين، كلها خطوات تؤكد أن العاصمة تسير على طريق العودة إلى الحياة الطبيعية، واستعادة دورها. الخرطوم في كل خطوة تخطوها نحو التعافي، لا تعود فقط بوصفها عاصمة جغرافية أو إدارية، بل تعود بوصفها رمزاً لصمود شعب عانى كثيراً من جراء هذه الحرب، ومدينة تأبى أن تنكسر.