logo
ساحات الأسرار النووية لإيران وإسرائيل

ساحات الأسرار النووية لإيران وإسرائيل

الجزيرةمنذ 5 ساعات

رغم إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن وقف مؤقت لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران، يبقى الصراع النووي بين هذه الأطراف محتدما، إذ يتواصل عبر مفاوضات شائكة وتهديدات عسكرية متبادلة وتصريحات سياسية متصاعدة.
غير أن ما يدور خلف الكواليس يكشف عن ساحة مواجهة أكثر تعقيدا تُدار بصمت داخل الفضاء السيبراني، حيث تسود قواعد جديدة وتتلاشى الحدود التقليدية للصراع.
ففي هذا الفضاء وتحديدا عبر منصاته، ظهرت معلومات يُعتقد أنها مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، وقد طرحت للبيع بواسطة عملات مشفرة، بحسب تحقيقات استخباراتية وتقارير أمنية.
وتنسب هذه الأنشطة إلى مجموعات سيبرانية، بعضها مرتبط بجهات حكومية وأخرى تتحرك في الظل بلا تبعية واضحة، مما يجعل السوق الرقمية مساحة خصبة لتبادل معلومات حساسة، حيث تتقاطع مصالح الفاعلين الرسميين وغير الرسميين في مشهد معقد من الصعب تتبعه.
في هذه التقرير نتتبع ملامح هذه المعركة غير المرئية عن طريق تقصي أنماط النشاط المرتبط بتسريب وبيع معلومات حساسة، وتحليل الأدوار التي تلعبها المجموعات والدول في توظيف الصراع داخل معادلات أوسع.
الأسرار النووية
سبق أن كشفت قناة ميدل إيست سبيكتور الموالية لإيران، في أكتوبر/تشرين الأول 2024، عن تسرب وثيقتين استخباريتين توضحان خطط إسرائيل للهجوم على إيران، عبر قناة بمنصة تليغرام.
وأفاد تحقيق نشرته صحيفة واشنطن بوست بأن المتسبب في هذا التسريب هو محلل سابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، وقد اعترف بأنه سحب الوثائق من محطته في كمبوديا وسلمها إلى قناة تليغرام، قبل أن تنشر لاحقا في شبكات التواصل الاجتماعي.
وتشير تحليلات خبراء عسكريين إلى أن هذه الحادثة وما سبقها من تسريبات، تؤكد الواقع المزدوج للويب المظلم ومنصات تشفير مشابهة، إذ أصبحت منصات مثل تليغرام تؤدي دور منصة تسريب موازية، تتجاوز حدود الحكومة التقليدية، فلم تعد المعلومات حكرا على الدول بل تمت خصخصتها وأصبحت بيد جهات غير رسمية.
وفقًا لما يوضحه عميد كلية تكنولوجيا المعلومات محمد عطير فإن تداول البيانات النووية الحساسة على الويب المظلم يؤي إلى تهديد حقيقي على مستويات عدة، منها:
نقل المعرفة النووية إلى أطراف مشبوهة، مما يزيد من خطر الانتشار غير المشروع لهذه التكنولوجيا.
تتيح هذه البيانات استخدامات خطيرة مثل الابتزاز والهجمات السيبرانية المتقدمة التي قد تستهدف منشآت حيوية، مما يرفع من مستوى التهديد الأمني.
ويقول عطير في حديثه للجزيرة نت إن التداول السريع وغير الخاضع للمراقبة يضعف ثقة المؤسسات العالمية في قدرة الدول على حماية معلوماتها السيادية، مما يؤثر سلبا على العلاقات الدولية والاستقرار السياسي.
والخطورة الحقيقية لا تكمن فقط في عملية التسريب نفسها، بل في سرعة تداول هذه المعلومات في فضاءات الويب المظلم المجهولة الهوية ومن الصعوبة تتبعها ومساءلتها، مما يضاعف من التحديات الأمنية، وفقا لعمير.
وتكشف بيانات وتحليلات حديثة نشرتها شركة "بوستيف تكنولوجي" المتخصصة في مجال الأمن السيبراني للعام 2024 أن الويب المظلم أصبح ساحة رئيسية لتسريب وتداول المعلومات الحساسة المتعلقة بالأمن الوطني والبرامج النووية في إيران.
فقد نفذت مجموعات هاكتيفيست سياسية (الجماعات التي تستخدم تقنيات وتقنيات الاختراق كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية) مثل "آرفن كلب" "Arvin Club" و"غونجيشكي داراندي" (Gonjeshke Darande) و"وي ريد إيفلز" (WeRedEvils)، هجمات إلكترونية استهدفت مؤسسات حيوية تشمل البنوك والمنشآت الصناعية والبنية التحتية للطاقة والاتصالات والوزارات الحكومية، مع نشر قواعد بيانات مسروقة على منصات الويب المظلم، وفقا للشركة.
وأظهرت إحصائيات نشرها الموقع ذاته بين عامي 2023 و2024 أن حوالي 47% من الحالات شهدت إعلانا عن خروقات للمؤسسات، حيث عرض 24% منها بيانات مسروقة للبيع، و22% بشكل مجاني، مما يعكس تصاعدا كبيرا في نشاط المجرمين الإلكترونيين لتحقيق أرباح من خلال خصخصة هذه المعلومات.
وقد اتخذت الحرب الخفية بين إيران من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى أشكالا متعددة، وفقا لما أكده الخبير والمحلل العسكري اللواء المتقاعد هلال الخوالدة في حديثه للجزيرة نت، إذ تنوعت بين الاختراق البشري، عبر اتهامات متكررة بزراعة عملاء داخل المنشآت النووية الإيرانية، والاغتيالات الممنهجة لعقول البرنامج النووي الإيراني.
ويضاف إلى ذلك، وفق الخوالدة، عمليات المراقبة الجوية والفضائية باستخدام طائرات مسيرة وأقمار اصطناعية لجمع البيانات، وعمليات التضليل الإعلامي من خلال تسريب أو نشر معلومات استخباراتية مدروسة تهدف للتأثير الدبلوماسي والسياسي.
تصاعد الحرب السيبرانية
اتخذت الحرب السيبرانية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران في بعض الأحيان طابعا غير مباشر، حيث يُعتقد أن إسرائيل كانت تنفذ هجمات سيبرانية بالوكالة عن الولايات المتحدة، ضمن تنسيق أمني واستخباراتي مشترك بين الجانبين.
يظهر ذلك بوضوح في عملية "ستاكسنت"، التي كشفت تقارير استخباراتية غربية لاحقا أنها كانت نتاج تعاون بين وكالة الأمن القومي الأميركية (إن إس إيه) ووحدة الاستخبارات الإسرائيلية " 8200"، ضمن عملية سرية حملت اسم " الألعاب الأولمبية" حيث ضرب فيروس "ستاكسنت" منشأة نطنز النووية الإيرانية، مخلِّفا أضرارا بالغة.
ويزعم تحقيق استقصائي أجرته صحيفة "دي فولكس كرانت" الهولندية أن المهندس الهولندي إريك فان سابين الذي كان يعمل في شركة "تي تي إس" (TTS) في دبي، والتي كانت تنقل معدات ثقيلة إلى إيران، تم تجنيده من قبل المخابرات الهولندية، وكان جزءا من عملية سرية نفذتها المخابرات المركزية الأميركية والموساد الإسرائيلي استهدفت محطة نطنز.
وفي إطار هذه الحرب السيبرانية المتصاعدة، فقد شهد شهر يونيو/حزيران 2025 تصعيدا نوعيا تمثل في اختراق مجموعة القراصنة المرتبطة بإسرائيل "بريداتوري سبارو" لأنظمة بنك "سبه" الإيراني في 17 من الشهر نفسه، مما أحدث شللا شبه كامل في أنظمة الدفع والتحويلات المالية.
وفي اليوم التالي، استهدفت المجموعة منصة العملات الإيرانية "نوبيتيكس" ونجحت في سرقة ما يعادل 90 مليون دولار تم توزيعها عبر محافظ إلكترونية غير قابلة للتتبع.
ولم يقتصر الهجوم على القطاع المالي فقط، بل شملت العمليات أيضاً تعطيل مئات محطات الوقود في عدة مدن إيرانية، حيث وصفت المجموعة هذه العمليات بأنها "رد سيبراني إسرائيلي على التهديدات الإيرانية"، مما يعكس تعقيد وتنوع ساحة القتال السيبراني بين الطرفين، وتأثيره المباشر على البنية التحتية الحيوية والاقتصاد الإيراني.
ووفقا لتحليل صادر عن شركة تتبّع البلوكتشين "إليبتيك" (Elliptic)، تصف الشركة هذه الخطوة بأنها "حرق للأصول الرقمية"، مما يشير إلى أن الهجوم لم يكن بدافع الربح، بل يحمل أهدافا سياسية صريحة.
ويمكن أن نعزو ذلك إلى أن العملات الرقمية تعلب دورا مركزيا في الحروب السيبرانية الحديثة، إذ يتم استخدامها كوسيلة دفع رئيسية في الهجمات نظراً لصعوبة تتبعها، وفقا للخبير في تكنولوجيا وأمن المعلومات عبيدة أبو قويدر.
ويقول أبو قويدر في حديثه للجزيرة نت إن صعوبة التتبع تجعل منصات التداول وأنظمة الدفع هدفا إستراتيجيا للمهاجمين، فاستهداف البنى الرقمية ليس فقط لإحداث خلل اقتصادي، ولكنه أيضا يمنع الخصم من الوصول إلى موارد مالية تستخدم لاحقا لتمويل هجمات مضادة، مما يضفي بعدا اقتصاديا جديدا على الصراع السيبراني المتعدد الأطراف.
وكان مركز بحوث ودراسات الأمن القومي الإسرائيلي (آي إن إس إس) قد نشر في الثالث من يونيو/حزيران 2020 مقالا بعنوان: "مستوى جديد في الحرب السيبرانية بين إسرائيل وإيران"، قال فيه إن هذه الهجمات السيبرانية تنفذ بسرية تامة، وغالبا ما تنكر الأطراف المتحاربة مسؤوليتها، مما يصعّب تحديد مصدر الهجوم بدقة.
وتعتبر العمليات السيبرانية "حربا بين الحروب" تتيح تنفيذ هجمات دقيقة عن بعد، مع تجنب الخسائر البشرية والتصعيد المباشر، كما توفر فرصا لجمع المعلومات، وشن حرب معلوماتية، والضغط على الأنظمة العسكرية والمدنية لتحقيق أهداف سياسية ودفاعية، وفقا للمركز.
هاكرز مجهولون.. أدوات أم لاعبون مستقلون؟
في السنوات الأخيرة، برزت مجموعات اختراق غامضة تتحرك خارج الأطر الرسمية للدول، بعضها على صلة بأجهزة استخبارات، وأخرى تعمل بشكل مستقل، لتتحول إلى لاعبين مؤثرين في ميدان الأمن السيبراني النووي.
ومن أبرز الأمثلة، مجموعة بلاك ريوورد التي أعلنت في أكتوبر/تشرين الأول 2022 مسؤوليتها عن اختراق بريد إلكتروني تابع لإحدى الشركات المرتبطة بمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، وأسفر الاختراق عن تسريب معلومات حساسة تخص محطة بوشهر النووية، تضمنت جداول تشغيل، وبيانات سفر لخبراء إيرانيين وروس، وعقود تطوير نووي.
وجاءت العملية -بحسب بيان المجموعة على منصة "إكس"- دعما للاحتجاجات في إيران، ومشروطة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، موقّعة بعبارة: "باسم مهسا أميني ومن أجل المرأة، الحياة، الحرية".
وقد اعتبرها محللون عسكريون سابقة تظهر قدرة فاعلين غير حكوميين على التأثير في معادلات حساسة، خارج أطر الصراع التقليدي بين الدول.
ويعلق الباحث أبو قويدر على هذا التحول بأن المعلومات النووية لم تعد حكرا على الدول، بل باتت تتداول عبر منصات مشفّرة وسوق سوداء رقمية، مما يقلّص من فاعلية الرقابة الدولية ويضاعف من خطر تسرب بيانات إستراتيجية نتيجة تداخل المجال السيبراني بالجغرافيا السياسية.
في مقابل السوق السوداء التي تباع فيها أسرار إيرانية، تشير بعض الروايات إلى أن إيران نفسها باتت تمتلك وثائق نووية إسرائيلية، مما يعكس تداخل أدوار "المسرب" و"الضحية" في هذا الصراع الرقمي، وفق رويترز.
وكانت وسائل إعلام رسمية إيرانية قد نقلت عن مصادر لم تسمها، أن "وكالات الاستخبارات الإيرانية حصلت على كمية كبيرة من الوثائق الإسرائيلية الحساسة"، يعتقد أن بعضها يتصل بـ"الخطط النووية ومرافق إسرائيلية حساسة".
وذكرت قناة "برس تي في" الإيرانية أن العملية تمت منذ مدة، لكن حجم المواد تطلّب وقتا طويلا لمراجعتها ونقلها بشكل آمن إلى داخل إيران، مما استدعى "حالة تعتيم إعلامي مؤقت" لضمان سلامة العملية.
وتبرز مجموعة "إيه بي تي 34" أو "أويل ريغ"، بأنها واجهة تهديد متقدمة مرتبطة بالحكومة الإيرانية، وتنشط منذ 2014 في شن هجمات إلكترونية متطورة تستهدف قطاعات إستراتيجية مثل الطاقة والاتصالات، وتستخدم تقنيات مثل التصيد الموجه، واستغلال ثغرات يوم الصفر(استغلال نقاط الضعف في برمجيات وثغراتها الأمنية خاصة غير المعروفة منها للعامة أو حتى مطوريها في شن هجومات إلكترونية) والبرمجيات الخبيثة التي تتيح لها التسلل والبقاء داخل الشبكات لفترات طويلة، وفقا لتقارير شركات الأمن السيبراني مثل "فاير آي" و"كراود ستريك".
تشير التحليلات إلى أن هجمات "بلاك ريوورد" و"إيه بي تي 34″ ذات أدوات متقدمة وتخطيط طويل، تستهدف مؤسسات حساسة بدوافع استخباراتية أو تجارية، مع احتمالية استخدامها للضغط السياسي، وفقا لمحمد عطير الذي يؤكد أن النمط الاحترافي يصعب فصله عن أجندات أكبر رغم غياب دليل مباشر.
ويؤكد أن هناك ظهورا لما يعرف بـ"خصخصة الهجمات السيبرانية"، حيث أصبحت مجموعات قرصنة مستقلة تمتلك أدوات متطورة تُنافس ما كانت تملكه الحكومات قبل سنوات قليلة، هذا التحول يفرض تحديات رئيسية على مؤسسات الأمن القومي، من أبرزها:
صعوبة التمييز بين الفاعلين.
تضاؤل قدرة الردع التقليدي، بسبب عدم وضوح الجهة المسؤولة.
صعوبة تتبع التسريبات أو وقف تداولها بعد عرضها في الأسواق السوداء الرقمية.
أطراف ثالثة تشعل الصراع من الخلف.
اللاعبون الخفيون ومعركة النووي
لسنوات، قادت إسرائيل حربا غير معلنة ضد إيران، لكن النزاع تحول في 13 من يونيو/حزيران الجاري إلى مواجهة علنية، إذ أعلنت إسرائيل شنها ضربة "استباقية" على أهداف داخل إيران، مما اعتبر بداية التصعيد العسكري بين الطرفين.
ومع ذلك، لا يقتصر الصراع على هذين الطرفين، إذ تتحرك قوى كبرى كروسيا والصين في الظل، مستغلة التسريبات النووية لتعزيز أوراقها التفاوضية دوليا.
يتفق الخبير الأمني ضيف الله الدبوبي مع ذلك، ويقول إن الصين لعبت دور الوسيط الأساسي في محادثات فيينا لإحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، وتسعى لتثبيت نفسها كلاعب إقليمي ودولي رئيسي. ليس فقط لتحقيق السلام النووي، بل لتعزيز مصالحها الإستراتيجية الأوسع مثل توسيع نفوذها الجيوسياسي وتأمين إمدادات الطاقة، خصوصا النفط الإيراني الذي تحتاجه لتشغيل مصانعها ومحطاتها الكهربائية.
أما روسيا، فيقول الدبوبي في حديثه للجزيرة نت إنها تستخدم الملف النووي الإيراني كورقة ضغط سياسية وعسكرية في مواجهة الغرب، وتظهر موقفا موحدا مع بكين في مجلس الأمن الدولي، حيث تدعمان مواقف إيران وتعارضان الضغوط الغربية.
ووفقا لتقارير مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (سي إس آي إس) بواشنطن، لا يقتصر دور روسيا والصين على احتواء إيران فقط، بل يمتد إلى تقديم غطاء سياسي وتقني لطهران لتعزيز شراكة إستراتيجية تتقاطع مع الطموحات النووية الإيرانية.
فقد صوتت كل من روسيا والصين ضد قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر في 12 يونيو/حزيران 2025، الذي خلص إلى أن إيران خرقت التزاماتها بموجب معاهدة عدم الانتشار النووي (إن بي تي). ويُنظر إلى هذا الموقف على أنه امتداد لتحالف أوسع يضم أيضا كوريا الشمالية، يعيد رسم توازنات النظام العالمي الخاص بمنع الانتشار النووي.
وتؤكد هيذر ويليامز مديرة "مشروع قضايا التسلح النووي" في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية أن الدعم الروسي الصيني لإيران لا يقتصر على الجانب السياسي والدبلوماسي، بل يشمل مساعدات فنية وتقنية مباشرة، مشيرا إلى أن الصين زوّدت إيران بمفاعلات صغيرة في تسعينيات القرن الماضي، في حين استكملت روسيا بناء وتشغيل مفاعل بوشهر النووي.
ويكشف الصراع النووي الإيراني الأميركي أو الإسرائيلي بالوكالة، عن وجه جديد لا يدار بالصواريخ والدبلوماسية فحسب، بل تتحكم فيه البيانات والهاكرز والعملات المشفرة، ووسط كل هذا التعقيد تصبح الحقيقة أن الأمن لم يعد شأنا عسكريا فقط، بل معكرة داخل شبكة لا تنام يتحرك فيها اللاعبون الرسميون والظلال على حد سواء.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

حتى نتجنب مصير مُجير أم عامر
حتى نتجنب مصير مُجير أم عامر

الجزيرة

timeمنذ 32 دقائق

  • الجزيرة

حتى نتجنب مصير مُجير أم عامر

لم يكن القصف الأميركي للمواقع النووية الإيرانية أمرًا مفاجئًا لكل ذي بصيرة. في مؤتمره الصحفي صبيحة القصف قال وزير الدفاع الأميركي إن العملية استغرقت شهورًا طويلة من التخطيط والإعداد، وهذا يعني أن قرار القصف كان متخذًا حتى من قبل عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض، وأن الغارات الجوية الإسرائيلية على إيران التي سبقت القصف بحوالي أسبوع، لم تكن إلا تمهيدًا ودكًا قويًا للأهداف الإيرانية وافقت عليه واشنطن، بل قل هي التي أمرت به، حتى لا يتخلل القصف ما يضر بترامب كما حدث مع الرئيس الراحل جيمي كارتر إثر فشل عملية "مخلب النسر" في صحراء لوط الإيرانية التي أمر بها كارتر لتخليص الرهائن المحتجزين في السفارة الأميركية بطهران في أبريل/ نيسان عام 1980. أما وقد تم وقف إطلاق النار فهل يصمد؟ أم إن واشنطن وحلفاءها الغربيين سيطالبون إيران بأمور جديدة يرقى القبول بها إلى مستويات الاستسلام والرضوخ، وأولها العودة عن قرار وقف عمليات التفتيش على المنشآت النووية الذي أعلنه مجلس الشورى الإيراني مشروعَ قرار، وقالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنها لن تقبل به. وقد يكون هذا هو الذريعة لمطالب أخرى ربما تصل حد المطالبة بتسليم البرنامج النووي برمته، كما طالب وزير الدفاع البريطاني، أو ربما يطالبون بنسفه من قواعده، وكذلك تفكيك برنامج الصواريخ الإيرانية. لا أريد أن أخوض في المآلات النهائية، فثمة أسئلة كثيرة تطرحها الأقلام والشاشات، وكل كاتب ومتحدث يجيب وكأنه من أصحاب القرار، أو المطلعين على خفايا الأمور. لم يعد أحد يتحدث عن غزة ودمائها تهرق أغزر من ذي قبل، الكل يخوض في مآلات الحرب على إيران، ومعظم ما يطرح ليس إلا تكهنًا لا يقارب اليقين كثيرًا. وفي غمرة التكهن عادة ما نغفل عن تفاصيل هامة، لو تنبّهنا لها لاستخلصنا منها عبرًا ودروسًا سنكون- نحن العربَ والمسلمين- بحاجة ماسّة لها في قادم الأيام والسنين، حتى لا نؤخذ على حين غرة، وتنزل بنا كالصاعقة الصدمات الإسرائيلية- الغربية المفاجئة. الاختراق الأمني الاستخباراتي طالبت إيران مواطنيها المتعاونين مع المخابرات الإسرائيلية "الموساد" بتسليم مسيّراتهم وأجهزتهم التي استعملوها في ضرب الأهداف في طهران وغيرها من المدن مقابل العفو. وأعلنت كذلك مرات عديدة أنها اعتقلت مئات من هؤلاء الجواسيس، كما كشفت سيارة نقل كانت محملة بشحنة من تلك المسيرات في طهران، بل قالت أنباء إن بعض مَن اغتيلوا من العسكريين والعلماء قتلوا برصاص الجواسيس في مساكنهم أو أماكن عملهم، وما تزال إسرائيل تعلن عن اغتيل قادة آخرين. وأعلنت السلطات الإيرانية كذلك اكتشاف ورشٍ لتجميع المسيرات وتصنيعها. ولا يكاد المرء يصدق هذا لولا اعتراف الإيرانيين أنفسهم! واضح أن هذا الاختراق الأمني مضى عليه سنوات طويلة من التخطيط والإعداد للقوة البشرية اللازمة من الشارع الإيراني ومن داخل أجهزته الأمنية، وكذلك لتوفير الأدوات وقواعد البيانات والمعلومات. ومن دون ذلك ما كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والغربية لأن تفاجئ القيادات الإيرانية العليا بتلك الاغتيالات المؤلمة. لماذا حدث ذلك؟ الأسباب عديدة إن خضنا فيها من دون معلومات مؤكدة فقد ننزلق في مربع التكهن، ولكن ربما يكون من المفيد العودة إلى واقع العلاقات بين إسرائيل وإيران زمن الشاه ونظامه الإمبراطوري. اعترفت إيران بإسرائيل عام 1953 إثر عودة الشاه للحكم بعد انقلاب "مصدق"، وبلغت العلاقات بين الجانبين مراقيَ عالية، وخاصة في التعاون الأمني بين جهاز المخابرات الإيرانية آنذاك "السافاك"، و"الموساد" الإسرائيلي. ألقى الشاه آنذاك بكل أوراقه في السلة الأميركية الإسرائيلية، وكان الموساد يسرح ويمرح في كل إيران إلى أن أطاحت الثورة بالشاه عام 1979. ويبدو أن النظام الجديد في إيران انشغل كثيرًا بامتداداته في الإقليم من حوله، خدمة لمصالحه السياسية والأيديولوجية والمذهبية، ناهيك عن انشغاله بأوضاعه الداخلية، والحصار الذي فرض عليه، والحرب التي كانت بعض تصرفاته المعلنة سببًا في اندلاعها مع العراق، ليجد اليوم مدنه ساحة حرب تشنها إسرائيل وعملاؤها الكُثر في الداخل الإيراني. كما أن التفوق التكنولوجي الإسرائيلي عامل مهم آخر في تحقيق تلك الاختراقات الأمنية ليس لإيران فحسب، بل لكل المحيط من حولها، ولمن هم أبعد من الدول الإسلامية التي تتوجس منها إسرائيل مثل باكستان، ولا يستثنى من ذلك إلا تركيا بجهازها الاستخباري المتمرس والقادر على مقارعة الموساد وبتقدمها التكنولوجي المتعاظم سنة بعد أخرى. وربما كان النظام الجديد في إيران قد جنى على نفسه، حين غض الطرف عن وقوع العراق جاره التاريخي والجغرافي في القبضة الأميركية، بعد الإطاحة بالرئيس الراحل صدام حسين، ظنًا منه أن تحقيق بعض المكاسب الطائفية أفضل له من إبعاد "الشيطان الأكبر"، كما كان يسمي أميركا، عن حدود إيران. فأجواء العراق اليوم مفتوحة أمام الطائرات الإسرائيلية، وكأنه لا توجد دولة في العراق تقول لا. رغم كل شيء فلا يمكن لنا أن ننفي أن إيران استعادت توازنها بعد اليومين الأوّلين من الحرب، وردت على إسرائيل بضربات مؤلمة كما تألمت هي، وستظل صور الدمار في تل أبيب ماثلة في الأذهان باعتبارها المرة الأولى التي تمتلئ فيها بعض شوارع المدينة وشوارع غيرها من التجمعات الاستيطانية بالردم والخراب، فكل حروب العرب السابقة لم تسجل لها عدسات الكاميرات مثل ذلك أبدًا. وكيف للمهزوم، حتى قبل أن تبدأ الحرب، أن يفعل ما فعلته صواريخ إيران؟! ماذا عن الساحات العربية؟ هل ساحاتنا العربية مختلفة عن ساحة إيران زمن الشاه وبعد ذلك؟ ألم يضع العرب كلهم تقريبًا كل أوراقهم في السلة الأميركية الغربية زمن الشاه وحتى اليوم؟ لا أحد يستطيع أن ينكر أن أجهزة الاستخبارات العربية تنسق تنسيقًا تامًا مع "السي آي إيه" وتتلقى منها الأوامر والتعليمات. إذن فساحاتنا مفتوحة أمام الأميركيين ثم بالضرورة للموساد تنسيقًا استخباراتيًا وعملياتيًا، خاصة منذ أن أسقط العرب كل الحواجز المادية والنفسية، واعترفوا بإسرائيل وأقاموا معها علاقات تكامل أمنية واقتصادية وسياسية، بدأت تمتد إلى البعد الاجتماعي، فنرى عربًا يتنصلون من عروبتهم ودينهم وينحازون لإسرائيل ويهبون لنجدتها إن ضُيِّقَت عليها السبل. الفرق بين ساحاتنا والساحة الإيرانية أن تلك الساحة انقلبت على إرث الشاه لكنها قَصَّرَتْ في تنظيفه تمامًا لتجد اليوم نفسها مخترقة اختراقًا أمنيًا قلّ نظيره في التاريخ. أما ساحاتنا فهي على حالها منذ أن قامت الدولة العربية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. اليوم لا يحتاج الموساد، ولا "السي آي إيه"، إلى بذل جهد كبير في ساحاتنا؛ لأن نظائرهما لدينا تقوم بالمهمة على خير وجه، ولأن بعض بلداننا تعتمد في مرافقها الاقتصادية على عمالة وافدة من دول تتعاون أجهزة استخباراتها تعاونًا وثيقًا مع الموساد الإسرائيلي. الاطمئنان للعلاقة مع أميركا والغرب قد يجادل البعض بأن العلاقات التاريخية الطيبة بين معظم بلداننا وبين أميركا ودول الغرب تختلف عن علاقة إيران مع تلك الدول، وعليه فيمكننا الاطمئنان الدائم إلى المستقبل. لكن التاريخ وتقلباته تقول غير ذلك. فكيف يكون وضع تلك العلاقات مع الغرب لو أن دولًا عربية، ومنها حتى تلك التي طبّعت مع إسرائيل تطبيعًا عضويًا، رأت في لحظة فارقة من الزمن أن مصالحها ومستقبلها يستوجب تطوير برنامج صاروخي مثل البرنامج الصاروخي الإيراني، ولا أقول برنامجًا نوويًا كالبرنامج الإيراني، لأن الخيال لا يقبل حدوث هذا من العرب المطبعين، هل تقبل إسرائيل بذلك وتسمح به ومعها الغرب كله؟ والأمر نفسه ينطبق على الدول المسلمة كلها. فهل يسمح لتركيا يومًا بتطوير سلاح نووي مع أنها عضو في حلف شمال الأطلسي، وتاريخ علاقاتها العسكرية مع الغرب ظل حافلًا بالثقة حتى عهد قريب؟ اليوم أصبحت تركيا وباكستان، أكثر من ذي قبل، هدفًا لوسائل الإعلام الغربية تحرض عليهما، وتحذر من التعاون القائم بين البلدين في المجال النووي. وهذا ليس بالأمر الجديد، فنتنياهو قال في مقابلة مع القناة الرابعة عشرة البريطانية عام 2011 إن النظامين في تركيا وباكستان يهددان وجود إسرائيل، كما هو حال إيران، ويجب التصدي لهما لهندسة الشرق الأوسط كما يريد له نتنياهو أن يكون. حتى لا يكون مصيرنا مصير مُجير أم عامر! ومنْ يصنع المعروفَ في غير أهله.. يلاقي الذي لاقَـى مجيرُ أمِّ عامرِ.

إيران وإسرائيل والشرق الأوسط الجديد
إيران وإسرائيل والشرق الأوسط الجديد

الجزيرة

timeمنذ 37 دقائق

  • الجزيرة

إيران وإسرائيل والشرق الأوسط الجديد

مدخل لا بدّ منه منذ أكثر من أربعة عقود، وتحديدًا بعد قيام "الجمهورية الإسلامية" في إيران بقيادة آية الله الخميني وانتهاء حكم الشاه، بدأت ملامح سياسة جديدة في التبلور. إذ سرعان ما أعلن الخميني، في أكثر من مناسبة، أن "إسرائيل" تُعدّ غدة سرطانية في قلب العالم الإسلامي، ولا بدّ من استئصالها. وكانت أولى خطوات تغيير السياسات هي تحويل السفارة الإسرائيلية في طهران إلى سفارة لفلسطين، وتسليمها إلى الراحل ياسر عرفات. وهذا يشير، بغض النظر عن أي تحليلات حول نوايا الجمهورية الإسلامية، إلى أنّ لفلسطين حضورًا قويًا في السياسة الإيرانية. ولم يتوقف الأمر لإثبات ذلك عند الشعارات، فقد شرعت الجمهورية الإسلامية منذ أواخر السبعينيات في بناء علاقات مع حركات التحرر الفلسطينية، بما في ذلك حركة فتح بقيادة ياسر عرفات. وقد شهدت شوارع طهران حينها أضخم التظاهرات المؤيدة لفلسطين خلال زيارة عرفات. وتطوّرت شبكة العلاقات بين الجمهورية الإسلامية وحركات التحرر الفلسطينية تدريجيًا لتأخذ طابعًا مميزًا، ولا سيما مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي. ولم يكن خافيًا أنّ الجمهورية الإسلامية أصبحت الداعم الرئيسي لحركات المقاومة في فلسطين، وخصوصًا هاتين الحركتين. انطلاقًا من هذا المدخل، يمكن فهم أن علاقة الجمهورية الإيرانية بفلسطين، في عهد الخميني ومن بعده خامنئي، تختلف جذريًا عن علاقتها بفلسطين في عهد الشاه، حين كانت إيران من أبرز الحدائق الخلفية للموساد الإسرائيلي، وعملاء الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط. ويساعدنا هذا المدخل على فهم ما يجري اليوم، وربما ما سيجري مستقبلاً، بين الجمهورية الإسلامية ودولة إسرائيل، باعتبار الأخيرة دولة احتلال لفلسطين، التي تُعدّ أرضًا محتلة يجب تحريرها، حسب العقيدة الإيرانية الراسخة، ولا سيما لدى المرشد الأعلى والحرس الثوري في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لماذا الحرب على إيران الآن؟ فكرة مهاجمة الجمهورية الإسلامية ليست حديثة العهد. فنتنياهو لم يستيقظ فجأة على حلم قرر إثره مهاجمة إيران. بل إنّه كان يطرح هذه الفكرة منذ ما لا يقل عن خمسة عشر عامًا، محذرًا في كل محفل من أن "إيران قاب قوسين أو أدنى من امتلاك السلاح النووي"، وهو ما اعتُبر في العقل الإسرائيلي التهديد الأكبر لدولة إسرائيل. لكن التردد الإسرائيلي في الإقدام على هذا الهجوم كان نابعًا من القلق من ردّة فعل حلفاء الجمهورية الإسلامية في المنطقة، إذ كان من المحتمل، في حال نشوب حرب، أن تُفتح جبهات عديدة على امتداد ما يسمى بـ"محور المقاومة". فكان التريث، بانتظار الفرصة الأنسب للهجوم على إيران، هو سيدَ الموقف لدى إسرائيل دون أن تتخلى عن طموحاتها في التمدد الإقليمي. إسرائيل والطوفان وعنصر المباغتة! لم يكن سرًا أن كتائب القسام أعلنت مرارًا امتلاكها معلومات استخباراتية، أقرّ بحقيقة مضمونها بعض القادة العسكريين والأمنيين في إسرائيل، تشير إلى أن الاحتلال كان يخطط لشنّ هجوم واسع ومباغت على حركات المقاومة، في محاولة لإضعاف النفوذ الإيراني، يبدأ من غزة، عبر استهداف حركتي حماس والجهاد، والقضاء على قياداتهما. غير أن المقاومة، وخصوصًا حركة حماس، استبقت الهجوم بهجومٍ مفاجئ أسمته "الطوفان"، لا تزال تداعياته ممتدة إلى اليوم. ومع تصاعد الصدمة الإسرائيلية من هذه الضربة، بدأ المشروع الصهيوني يتكشّف علنًا، بإعلان نتنياهو المتكرّر أنه ماضٍ في "تغيير الشرق الأوسط" باتجاه "شرق أوسط جديد". وكان قد كشف ملامحه في كلمته أمام الأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2023، قبل "الطوفان" بأسابيع، متحدثًا عن "إسرائيل الكبرى الجديدة". وكانت الولايات المتحدة تقف خلف هذا التوجه، مدعومة ببعض الحلفاء الفاعلين في الإقليم. الشرق الأوسط الجديد! فكرة "الشرق الأوسط الجديد" ليست جديدة. فقد تحدّث عنها شيمون بيريز، رئيس الوزراء السابق لدولة الاحتلال، في كتابه المعروف بهذا الاسم. وكان بيريز يرى أن تحقيق السلام والرخاء الاقتصادي مع الدول المجاورة، وبشكل عام في الإقليم، هو السبيل لتحقيق هذه الرؤية. لكن هذه الفكرة تعثرت لأسباب عدّة، أهمها وجود حركات مقاومة، خصوصًا في فلسطين، التي تبنّت نهج "وحدة الساحات" كإستراتيجية في نضالها ضد الاحتلال. ومع مرور أكثر من قرن على اتفاقية سايكس بيكو، واهتراء أنظمة التجزئة في المنطقة، ظهرت رغبة إسرائيلية قوية في فرض "شرق أوسط جديد" يمنحها قرنًا آخر من السيطرة. ومضى الأمر لتحقيق ذلك فيما يشبه توزيع الأدوار: أميركا تركز على جبهتي أوروبا وروسيا، وتراقب صعود الصين، بينما تتولى إسرائيل مهمة مواجهة حركات المقاومة في المنطقة. لكن السؤال: هل سينجح مشروع الشرق الأوسط الجديد؟ لنجاح هذه الفكرة، لا بد من تحقق أربعة محددات أساسية: وجود رغبة حقيقية لدى أميركا وإسرائيل. توافر أنظمة فاعلة لدعم وتحقيق الفكرة. القضاء على حركات المقاومة في الإقليم، إلى جانب مناصريها. غياب الوعي الشعبي العربي والإسلامي، إضافة إلى دعم الأحرار حول العالم. وعند تأمل هذه المحددات، يتبين أن الأول منها فقط هو المتحقق، أما البقية، وخصوصًا القضاء على المقاومة، فهي مستبعدة. فالمقاومة، رغم كل ما تعرّضت له خلال العامين الماضيين، ما تزال حيّة، وتخوض حرب استنزاف تؤلم الاحتلال. فهل يعقل أن يعجز الاحتلال عن القضاء على مقاومة صغيرة في غزة، ثم ينجح في القضاء على دولة بحجم إيران؟ هل ستنتهي إيران الآن؟ الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يكن أبدًا بعيدًا عن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بشكل أو بآخر، فسياساته ساهمت في تشكيل مناخ وظروف المنطقة.. فقد اختار الانسحاب من الاتفاق النووي في ولايته الأولى، وكان أبرز الداعمين لإسرائيل، بنقل سفارة بلاده إلى القدس، والاعتراف بالجولان كجزء من إسرائيل. ولكنه في ذات الوقت، رفع في الأشهر الأخيرة شعار الدبلوماسية والحوار مع الجمهورية الإسلامية ووضع سقفًا زمنيًا مدته شهران للوصول إلى اتفاق على المقاس والمعايير الأميركية. وفيما خفي من الصورة، ظل التنسيق بين واشنطن وتل أبيب قائمًا بشأن مفاوضات إيران، التي اعتُقد أنها ستكون هدفًا سهلًا يمكن الانتهاء منه خلال أيام قلائل، كما حدث مع حزب الله في لبنان. لكن هذا التصور أغفل أن إيران، التي ترفع شعار تدمير إسرائيل منذ أكثر من أربعة عقود، لا يمكن أن تكون نائمة طوال تلك العقود لتصبح "لقمة سائغة". ومع انقضاء المهلة التي منحها ترامب، وجّهت إسرائيل ضربة مباغتة ومكلفة لإيران، كشفت عن اختراق أمني خطير داخل الجمهورية الإسلامية. لكنها، رغم ذلك، استوعبت الضربة سريعًا وبدأت بالرد، فوجدت إسرائيل نفسها في مأزِق، طالبةً التدخل الأميركي. ودخلت أميركا الحرب! اندلعت الحرب، وبدأت جولات قتالية متعددة بين إسرائيل والجمهورية الإسلامية. لم تستطع إسرائيل تنفيذ ضربة فعّالة على المنشآت النووية الإيرانية دون دعم مباشر من الولايات المتحدة، التي لم تكن غائبة منذ البداية، بل شاركت سياسيًا، إعلاميًا، أمنيًا، ولوجيستيًا. وتحقّق التدخل العسكري المباشر، الذي سبقته خدعة "مهلة الأسبوعين". فجاءت الضربة المفاجئة فجر السبت على مفاعلات فوردو ونطنز وأصفهان، والتي تنوّعت التقارير بشأن مدى الضرر الفعلي الذي أصابها. ورد ترامب بالدعوة للسلام والعودة إلى طاولة المفاوضات، على طريقة: "السلام بالقوة". وردّت إيران مساء الاثنين بقصف محدود على قاعدة العديد في قطر، التي كانت قد أُخليت مسبقًا. لكن إيران لم توسّع نطاق ردّها ضد أميركا، وركّزت في المقابل على مواصلة قصف إسرائيل، دون أن تلمّح إلى نية وقف الحرب. وهنا، أتصور أن هناك مجموعة من الأسباب جعلت الإيراني لا يتجه إلى توسيع مساحة الرد على القواعد الأميركية في المنطقة، وهذه الأسباب هي: عدم رغبة إيران في الدخول في مواجهة مباشرة مع أميركا، لإدراكها حجم الرد المحتمل. عدم استعداد القوى الصديقة لإيران لخوض مواجهة مع أميركا، مما أضعف موقفها. تراجع قدرة بعض حلفاء إيران، الذين كانت تعوّل عليهم. اختراق أمني محتمل داخل إيران حال دون اتخاذ قرار بالمواجهة المفتوحة. صباح الثلاثاء، أعلنت قطر عن وساطة بطلب أميركي، للضغط على إيران لوقف إطلاق النار مع إسرائيل. وأظن هنا أن إسرائيل بحاجة أكبر من إيران لوقف إطلاق النار، لأسباب منها: عجز إسرائيل عن تحمل خسائر الضربات الإيرانية المتكررة. عدم رغبتها في خوض حرب طويلة، بينما تقول إيران إنها مستعدة لها. بقيت نقطة ما بعد وقف إطلاق النار، فهل سيذهب الإيرانيون للمفاوضات أم لا؟ من المرجّح أن إيران ستقبل الذهاب إلى المفاوضات، ولكن ليس بمنطق المستسلم كما أراد ترامب، بل كطرف يشعر بالنصر لصموده في وجه إسرائيل وأميركا معًا، وأفشل محاولة إسقاط النظام عبر خلايا داخلية دُرّبت لهذا الغرض. ستتفاوض إيران، لكنها ستُبقي طلقة رصاص جاهزة في مسدسها، تحسّبًا لأي تصعيد تقوم به دولة الاحتلال. هذه جولة من جولات الصراع بين دولة الاحتلال والجمهورية الإسلامية، وهي ليست نهاية الحرب. بل سيتبعها جولات عديدة قادمة، لا أظن أن المسافات ستطول بينها. وهي جولات تهدف إلى مشاغلة العدو، والوقوف في وجه فكرة الشرق الأوسط الجديد.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store