
بعد وفاة الأمير النائم... ماذا نعرف عن الغيبوبة ومصير العائدين منها؟
تخيلوا أنكم تسمعون من حولكم وتشعرون بوجودهم، لكنكم عاجزون عن رؤيتهم بوضوح أو التفاعل معهم.
تخيلوا أنكم تعيشون شهوراً، وربما سنوات، وأنتم في حالة وعي معلّق، لا تعلمون إن كانت تفاصيل ما تعيشونه خيالاً أم حقيقةً.
غالباً ما نسمع العبارة الشهيرة: استفاق أو استفاقت بعد غيبوبة. عبارة تشبه حكايات الخيال، كقصة الأميرة النائمة التي أيقظتها قبلة بعد سبات طويل.
لكن ما هي الغيبوبة حقاً؟ ماذا يشعر المصاب خلالها؟ هل يعود؟ وكيف تكون حياته بعد الاستفاقة؟
أثارت وفاة الأمير السعودي الوليد بن خالد بن طلال، المعروف إعلامياً بالأمير النائم، بعد 21 عاماً من الغيبوبة إثر حادث سير، هذه الأسئلة من جديد. وحاولت بي بي سي نيوز عربي الإجابة عنها من خلال لقاء مع طبيبة مختصة وناجٍ من غيبوبة.
في عام 2016، وأثناء إحدى موجات أزمة النفايات في لبنان، أصيب طارق زينون، وهو طالب جامعي يبلغ من العمر 18 عاماً، بفيروس ناتج عن استنشاق هواء ملوث.
تدهورت حالته بسرعة، ودخل في غيبوبة استمرت شهراً ونصفاً. لم تكن حالته الوحيدة، إذ يقول لبي بي سي عربي إن تسعاً أو عشراً من الحالات سجلت في تلك الفترة بسبب الفيروس ذاته، من بينها صديق له استفاق بعد ثلاثة أيام.
توضح الدكتورة نانسي معلوف، الأستاذة المساعدة في علم الأعصاب في المركز الطبي التابع للجامعة اللبنانية الأميركية، أن الغيبوبة تعرف طبياً بأنها فقدان تام للوعي نتيجة اضطراب كبير في وظائف الدماغ.
وتشير إلى أن أسباب الغيبوبة متعددة، منها إصابات الرأس كالنزيف أو الجلطات، أو حوادث السير، أو التسمم، أو النقص الحاد في الغذاء، أو الجرعات الزائدة من الأدوية والمخدرات، أو حتى الصدمات النفسية الشديدة.
وتؤكد أن الغيبوبة ليست درجة واحدة، بل تتفاوت من حالة إلى أخرى. "في الغيبوبة العميقة، لا يرى الشخص شيئاً ولا يسمع. أما في الحالات الأخف، فقد يشعر بوخز إبرة مثلاً أو يتخيل أشياء".
وتضيف أن احتمال العودة من الغيبوبة يختلف عن حالة الموت الدماغي، الذي يعني توقف كل وظائف الدماغ بما في ذلك جذعه، وهو حالة لا عودة منها ويصنف قانونياً وطبياً كوفاة.
وكلما طالت مدة الغيبوبة، زادت المخاطر. إذ قد يعاني المصاب من جلطات في الأطراف أو تقرحات جلدية أو ضعف في المناعة.
حين بدأ كل شيء يتلاشى
يروي طارق أنه شعر بألم مفاجئ في مؤخرة رأسه، فخلد إلى النوم مساءً واستفاق بعد نحو 24 ساعة، لكنه لا يذكر إن كان قد استيقظ في ما بينها. تقول والدته إن عينيه كانتا ترتعشان يميناً ويساراً حين أيقظته، وهو لا يزال يصر، حتى في تلك اللحظة، على أنه بخير ولا حاجة لنقله إلى المستشفى.
دخل المستشفى دون أن يفقد وعيه بالكامل، لكنه لا يتذكر شيئاً من تلك اللحظات. وبعد نقله إلى مستشفى آخر، دخل في غيبوبة تامة.
يقول: "بقيت فاقداً للوعي بشكل تام لأسبوعين، فتحت عينيّ في الأسبوع الثالث لكن دون أي تفاعل أو إدراك".
ويتابع: "لا تحدثني عائلتي كثيراً عن هذه المرحلة. يقولون لي إنني لم أكن أتفاعل إلا في لحظات قليلة، حين كنت أحرّك عينيّ دون أن أفتحهما".
Getty Images
في بعض حالات الغيبوبة، قد يشعر المريض بتداخلات مع العالم الخارجي كأصوات أو حركات الأشخاص حول سريره
مرّ أكثر من شهر ونصف حتى بدأ طارق يتعرف من جديد إلى الوجوه والأسماء التي يعرفها. واستعاد وعيه وذاكرته كاملاً مع بدء رحلة إعادة التأهيل في مستشفى آخر.
"أتذكر شيئاً واحداً من مرحلة الغيبوبة، أتذكر أني وقفت على قدمي ومشيت خطوات قليلة لأجد أمامي نحو 40 شخصاً من أصدقائي الذين كانوا يزورون المستشفى يومياً دون أن أعلم، رأيتهم ولكني عانيت حينها من هبوط مفاجئ وفقدت وعيي من جديد لأيام قليلة".
لا يملك طارق صورة واضحة حتى للأشياء التي يتذكرها، ويقول إن الأدوية التي وصفت لعلاجه كانت لها آثار جانبية، من بينها فقدان الذاكرة.
"عائلتي لم تفقد الأمل"
شخص الأطباء حالة طارق بأنه التهاب دماغ ناتج عن فيروس أو عدوى بكتيرية.
يروي طارق أن عائلته لم تفقد الأمل: "الخوف كان كبيراً، وخاصة لدى أصدقائي الذين صدموا عند رؤيتي في المستشفى. الدتي كانت تحاول دائماً أن تتحدث معي خلال غيبوبتي".
خلال فترة التأهيل، خضع لسلسلة من التمارين الخاصة بتنشيط الدماغ من جديد، بالإضافة إلى تمارين للعضلات لأنه خسر 14 كيلوغراماً من وزنه، وتمارين للذاكرة.
قال: "عند خروجي كنت أعاني من ارتعاش شديد في اليدين، لدرجة أنني لا أستطيع الكتابة".
خضع طارق لعلاج فيزيائي وعلاج نفسي واستعاد معنوياته ونشاطه الذهني والجسدي ببطء وبشكل تدريجي.
تعد الغيبوبة من الحالات الطبية المكلفة، فالمكوث في المستشفى ضروري بحسب المدة التي تستغرقها العودة أو الاستفاقة، بالإضافة إلى العلاج والتأهيل ما بعد الخروج من المستشفى. والتكلفة قد تكون ذاتها في حال انتقال المصاب إلى منزله.
تقول الطبيبة نانسي معلوف إن الشخص في الغيبوبة يحتاج إلى التنفس طوال الوقت، وفي بعض الحالات البالغة، يتنفس المريض من خلال القصبة الهوائية.
"عادة لا يسمح للمريض بمغادرة المستشفى، وإن حدث ذلك، فهو بحاجة إلى مراقبة الأوكسيجين يومياً على مدى 24 ساعة".
نوبات هلع
Getty Images
مرحلة التأهيل بعد العودة من الغيبوبة تشملوالعلاج الفيزيائي والنفسي والعمل على استعادة الذاكرة والإدراك
لم يخرج طارق من منزله لفترة بعد عودته من الغيبوبة لأن مناعته كانت ضعيفة.
"بعد انتهاء فترة علاجي وعودتي إلى الجامعة، شعرت مرة بنوبة هلع قوية على شكل دقات قلب قوية".
قالت له طبيبته المعالجة إن ما يمر به لن يكون سهلاً، لكنه أمر طبيعي لأن هذه المرحلة التي يبدأ فيها الدماغ بالاتصال بأصوات وصور شاهدها طارق في مرحلة ما، دون أن يدرك ما هي هذه الأصوات والصور.
يقول طارق إن هذه "المعلومات" التي بدأ الدماغ بتلقيها في ما بعد لم تكن مفهومة، لكنها تتخم الدماغ وتجعله ثقيلاً.
"أصبت أكثر من مرة بعد ذلك بنوبات هلع كانت تأتي في أي مكان وأي وقت ودون أي سبب أو مناسبة".
يروي كيف كان فحص التصوير بالرنين المغناطيسي يصيبه بالهستيريا، ويربط ذلك بوضعية نومه خلال الغيبوبة.
ومع تقدم جلسات العلاج النفسي، شعر طارق بارتياح أكبر
هل نحلم خلال الغيبوبة؟
لا يتذكر طارق أي أحلام أو خيالات من فترة الغيبوبة، لكن طبيبته ربطت بين نوبات الهلع وبين الأشياء التي قد يكون رآها خلال تلك المرحلة.
نشرت "بي بي سي ساينس فوكوس" سؤالاً وجواباً حول الأحلام في الغيبوبة.
وأشار المقال إلى أن أدمغة الأشخاص في الغيبوبة لا تظهر أي علامات على دورة طبيعية للنوم واليقظة، ما يعني أنه من غير المرجح أن يحلموا.
ورغم ذلك، بحسب المجلة، يبلغ بعض الأشخاص عند عودتهم من الغيبوبة عن أحلام تسللت إليها أشياء من العالم الخارجي، أو كوابيس تبدو مستمرة.
وفي مقاطع فيديو لناجين على يوتيوب، يروي البعض أنه يتذكر أحلاماً من فترة الغيبوبة، ويقر بعضهم بأنه قد يخلط بينها وبين خيالات أو هلوسات بسبب شعورهم بشيء ما يجري حولهم. أصوات وأشخاص وحركات.
إحدى الناجيات الأميركيات ربطت بين كابوس تتذكره كانت تعاني خلاله من البرد الشديد في ألاسكا - مع أنها قالت إنها لم تزرها يوماً - وربطت بين ذلك وبين العلاج بوضع الثلج على قدميها للحفاظ على دورة دموية نشطة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوسط
منذ 3 ساعات
- الوسط
مهارات التواصل: خمس نصائح تساعدك في بناء علاقات أفضل مع الآخرين
Getty Images كيف يمكنك تحسين تواصلك وتفاعلك مع الآخرين؟ نلقي الضوء هنا على خمس خطوات مفيدة يمكن أن تساعدك على تقوية الروابط وتجنب الأخطاء. قالت الروائية والناقدة الأدبية ريبيكا ويست في مجموعتها القصصية "الصوت القاسي": "لا يوجد شيء اسمه محادثة، فهذا مجرد وهم، لكن هناك أحاديث فردية (مونولوجات) متقاطعة، وهذا هو كل شيء". وترى ويست أن كلماتنا تمر ببساطة فوق كلمات الآخرين دون حدوث أي تواصل عميق بين الطرفين. فمن منا لم يحس بهذا الشعور في مرحلة ما من حياته؟ فسواء كنا نجري محادثة قصيرة مع نادل في إحدى الحانات، أو نجتمع مع صديق مقرب نأمل في التواصل معه بشكل أفضل، لتنتهي المحادثة ونحن نشعر بأن عقولنا قد فشلت في الالتقاء. لقد زاد وباء كورونا بالتأكيد من وعينا بهذه الأحاسيس. وبعد فترات طويلة من العزلة، أصبحنا أكثر اشتياقاً للتواصل الاجتماعي من أي وقت مضى، بل من المخيب للآمال أن نشعر بوجود فراغ بيننا وبين الآخرين، حتى بعدما ألغيت إجراءات التباعد الجسدي. فإذا كان هذا صحيحاً بالنسبة لك، فقد تستفيد كثيراً من هذه المقالة. فخلال السنوات القليلة الماضية، حدد علماء النفس الذين يدرسون فن المحادثة العديد من الحواجز التي تقف في طريق التواصل بشكل أفضل وأكثر عمقاً، كما حددوا طرق إزالة هذه الحواجز، ونصحوا باتباع خمس خطوات لتحسين المحادثة مع الآخرين، جاءت كالتالي: اطرح أسئلة قد تبدو الخطوة الأولى واضحة، لكننا غالباً ما ننساها: فإذا كنت ترغب في إجراء حوار هادف مع شخص ما، بدلاً من "حوارين فرديين متقاطعين"، فيتعين عليك أن تبذل بعض الجهد لطرح بعض الأسئلة. ويتعين عليك أن تأخذ بعين الاعتبار البحث الذي أجرته كارين هوانغ، الأستاذة المساعدة في جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة. فأثناء دراستها للحصول على درجة الدكتوراه في السلوك التنظيمي من جامعة هارفارد، دعت هوانغ أكثر من 130 مشاركاً إلى مختبرها وطلبت منهم التحدث في مجموعات ثنائية لمدة 15 دقيقة من خلال أحد برامج المراسلة الفورية عبر الإنترنت. ووجدت أنه حتى في هذه الفترة القصيرة من الزمن، تباينت معدلات طرح الأسئلة لدى الأشخاص، لتتراوح من حوالي أربع مرات أو أقل في أقل معدلاتها، إلى تسع مرات أو أكثر في أعلى المعدلات. Getty Images لا تقلل أبدا من أهمية طرح الأسئلة وخلال سلسلة من دراسات المتابعة، وجدت هوانغ أن طرح الأسئلة يحدث فرقاً كبيراً في مدى إعجاب الناس بالآخرين. وعند تحليل المحادثات في لقاءات المواعدة السريعة، على سبيل المثال، وجدت أن عدد الأسئلة التي يطرحها أحد المشاركين يمكن أن يتنبأ بفرصته في الحصول على موعد للقاء آخر. ويجب أن نعرف أن كل الأسئلة ليست ساحرة بنفس القدر: فأسئلة المتابعة التي تسعى للحصول على مزيد من المعلومات حول نقطة سابقة تكون أكثر جاذبية من "أسئلة الانتقال" التي تؤدي إلى تغيير الموضوع الذي يتحدث فيه الطرفان، أو "أسئلة المرآة" التي تنسخ ببساطة ما طرحه عليك الطرف الآخر بالفعل. والأهم من ذلك، تشير النتائج التي توصلت إليها هوانغ إلى أن معظم الناس لم يتوقعوا آثار طرح الأسئلة. إننا نستمتع بالحديث عن أنفسنا، لكننا نقلل من فوائد السماح للآخرين بالقيام بالمثل، على حساب علاقاتنا. احذر من التعاطف غالباً ما يُطلب منا أن نضع أنفسنا في مكان الآخرين، لكن تعاطفنا نادراً ما يكون دقيقاً كما نعتقد. ويتمثل أحد أسباب ذلك في الأنانية أو "التمركز حول الذات". يقول نيكولاس إيبلي، أستاذ العلوم السلوكية بجامعة شيكاغو: "يحدث ذلك عندما أستخدم تجربتي الخاصة، وحالاتي الذهنية الخاصة، كوكيل عن تجربتك. إننا نفشل في التمييز بين الاثنين بشكل كاف". ويمكن رؤية "التمركز حول الذات" في أبسط مظاهره عندما نشير إلى شيء ما في محيطنا المادي ونفشل في إدراك أنه يختلف تماماً من وجهة نظر الشخص الآخر، أو عندما نبالغ في تقدير معرفة شخص ما بموضوع مألوف لنا، ونفشل في شرح وجهات نظرنا بشكل صحيح. قد يقودنا ذلك أيضاً إلى الاعتقاد بأن الشخص الآخر لديه نفس الحالة المزاجية التي لدينا، أو أن لديه نفس الآراء، سواء كان ذلك في شكل تفضيل لمطعم معين أو فيما يتعلق بوجهة نظره حول موضوع مثير للجدل. ومن المثير للاهتمام أن بحث إيبلي قد أظهر أن "التمركز حول الذات" يكون أسوأ عندما نكون مع أحد المعارف، وليس مع شخص غريب، وهي الظاهرة التي يطلق عليها اسم "تحيز التقارب والتواصل". يوضح إيبلي ذلك قائلاً: "غالباً ما نتصور أن الأصدقاء المقربين والشركاء يشبهوننا، لذلك نفترض أنهم يعرفون ما نعرفه". أما فيما يتعلق بالغرباء، فقد نكون أكثر حذراً بشأن وضع هذه الافتراضات. قد ترغب في إيجاد حل لهذه المشكلة من خلال تخيل ما يفكر فيه الشخص الآخر وما يشعر به، بناءً على معرفتك الحالية به. ومع ذلك، تُظهر دراسات إيبلي أنه في كثير من الحالات، تقلل هذه الممارسة من دقة تصورنا الاجتماعي، لأنها لا تزال تعتمد على وضعنا لافتراضات قد لا تكون صحيحة. بشكل عام، من الأفضل بكثير أن تسأل الشخص عما يفكر فيه وعما يشعر به، بدلاً من محاولة التخيل. Getty Images إذا كنت تنقل معلومات جديدة، فابحث عن طريقة لجعلها قابلة للتوافق مع المستمع، وإلا ستفشل في إيصال وجهة نظرك اختر موضوعات مشتركة وليس موضوعات جديدة للمحادثة من الطبيعي أن نفترض أن الناس يفضلون الحديث في موضوعات جديدة، وبالتالي فإننا نحاول دائماً البحث عن شيء جديد ومثير، بدلاً من إخبار الشخص بشيء يعرفه بالفعل. لكن هذه الأشياء التي نرى أنها من البديهيات قد تكون غير صحيحة. فقد أظهر بحث أجراه غوس كوني، عالم النفس الاجتماعي بجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة، أننا نعاني مما أطلق عليه اسم "عقوبة التجديد" عندما نناقش شيئاً جديداً، مقارنة بموضوع مألوف بالفعل للمستمع. وخلال إحدى التجارب، وُضع المشاركون في مجموعات تضم كل منها ثلاثة أشخاص. وشاهد كل شخص، بينما كان بمفرده، مقطع فيديو من مشهدين قصيرين، يصفان ذكاء الغراب أو طريقة تصنيع مشروبات غازية متخصصة. ثم التقى الأشخاص الثلاثة في مجموعتهم، وطُلب من أحد الأفراد -المتحدث- أن يصف الفيديو الذي شاهده، بينما استمع الآخران لمدة دقيقتين. والمثير للدهشة أن المستمعين فضلا سماع المتحدث وهو يصف الفيديو الذي شاهداه بالفعل، بينما ظلا مرتبكين بشكل واضح عندما تحدث عن المقطع الآخر الذي لا يعرفان عنه شيئاً، على الرغم من حقيقة أنه كان يقدم معلومات جديدة لم يسمعا بها من قبل. ويشير كوني إلى أن "عقوبة التجديد" تنشأ من "الفجوات المعلوماتية" في حديثنا. فإذا كنا نتحدث عن شيء جديد تماماً، فقد لا يملك المستمع المعرفة الكافية لفهم كل ما نقوله. وإذا كنا نتحدث عن شيء مألوف بالفعل للمستمع، فيمكنه أن يملأ هذه الفجوات بنفسه. وقد تفسر هذه التجربة سبب فشلك في جذب انتباه زملائك في كثير من الأحيان، وفي وصفك لهم عطلة غريبة قضيتها ما لم يكونوا قد ذهبوا إلى هذا المكان بأنفسهم. يقول كوني: "عندما تكون التجربة نابضة بالحياة في رأسك، ويمكنك شمها وتذوقها ورؤية كل الألوان، فأنت تفترض فقط أن الآخرين يمكنهم فعل ذلك أيضاً". ويشير كوني إلى أنه يمكنك التغلب على "عقوبة التجديد" من خلال رواية القصص بدقة لتكوين انطباع حي عن الأحداث التي تصفها. ويقول: "عندما تكون على دراية بهذا، فإنك قد تبذل جهداً أكبر قليلاً لإحياء هذه التجربة". ومع ذلك، وإلى أن تتقن هذه الطريقة، فقد يكون من الأكثر أماناً اختيار موضوعات المحادثة التي تعتمد على التجارب المشتركة. لا تخف من التعمق في الحديث هذه الحاجة إلى وجود أرضية مشتركة لا ينبغي أن تجعل حديثنا مقتصراً على الأحاديث السطحية الصغيرة. بل على العكس تماماً، يمكن أن تكون العديد من التجارب البشرية المشتركة عميقة بشكل لا يصدق، ويُظهر أحدث بحث أجراه إيبلي أن معظم الناس يقدرون فرصة استكشاف أفكارهم ومشاعرهم العميقة، حتى لو كانوا يتحدثون إلى غرباء عنهم تماماً. طلب الفريق البحثي الذي يرأسه إيبلي من مجموعات ثنائية من المشاركين في البحث -لم يتقابل أفرادها من قبل- مناقشة أسئلة مثل: "إذا كان بإمكان كرة بلورية أن تخبرك بالحقيقة عن نفسك أو حياتك أو مستقبلك أو أي شيء آخر، فما الذي تريد أن تعرفه؟" قبل ذلك، كان معظم المشاركين يخشون أن تكون الأحاديث المتبادلة بينهم محرجة بشكل كبير، ومع ذلك فقد سارت المحادثات بشكل أكثر سلاسة مما توقعوا. لقد شعروا أيضاً بإحساس بالارتباط مع شركائهم في المحادثة أكثر مما كانوا يعتقدون، وكان هذا أيضاً مصحوباً بحالة مزاجية أفضل وأكثر سعادة بعد تبادل الحديث. بشكل عام، كان المشاركون أكثر اهتماماً بالأفكار والمشاعر العميقة لشركائهم في المحادثة أكثر مما كان يتخيله كل منهم في البداية. يقول إيبلي: "في هذه المحادثات العميقة، يمكنك الوصول إلى عقل الشخص الآخر، وستدرك أن الشخص الآخر يهتم بك بالفعل". ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تبادل مؤثر للكلمات، حتى لو افترضت أنك لن تقابل هذا الشخص مرة أخرى. اهتم بالصدق واللباقة وليس بالحديث اللطيف الطائش تخيل للحظة أنك كنت مضطراً للتحدث بصدق تام خلال كل تفاعل اجتماعي، فكيف ستصبح علاقاتك مع الآخرين؟ قبل بضع سنوات، قررت إيما ليفين، الأستاذة المساعدة للعلوم السلوكية بجامعة شيكاغو، وتايا كوهين، الأستاذة المشاركة للسلوك التنظيمي في جامعة كارنيغي ميلون، تحويل هذه التجربة الفكرية إلى حقيقة، فاستعانتا بـ 150 مشاركاً، جرى تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات. وطُلب من المجموعة الأولى أن تكون "صادقة تماماً" في كل محادثة، في المنزل والعمل، خلال الأيام الثلاثة المقبلة، وطلب من المجموعة الثانية أن تكون لطيفة وتهتم بمشاعر الآخرين خلال نفس الفترة، بينما طلب من المجموعة الثالثة التصرف بشكل طبيعي. يتوقع معظم الناس أن المجموعة اللطيفة ستتمتع بأفضل تجربة، بينما ستعاني المجموعة الصادقة وتجد صعوبة في الحفاظ على الأصدقاء. ومع ذلك، سجل أفراد المجموعة الصادقة درجات عالية في مقاييس المتعة والتواصل الاجتماعي على مدار الأيام الثلاثة مثل أولئك الذين طُلب منهم أن يتصرفوا بلطف، وغالباً ما وجدوا الكثير من المعاني الجيدة في الأحاديث. تقول كوهين: "بدا الأمر وكأنه سيكون مروعاً، لكن المشاركين أشاروا إلى أنهم كانوا سعداء بإجراء محادثات صادقة، حتى لو كانت صعبة". وفي تجارب المتابعة، طلبت كوهين من مجموعات ثنائية من الأصدقاء أو الزملاء أو الأزواج الحديث بصدق بشأن القضايا الشخصية، مثل آخر مرة بكوا فيها أو المشكلات المتعلقة بعلاقتهم الحالية. وفي كل حالة، أثبت التواصل الصادق أنه بناء أكثر بكثير مما توقعه الناس، واستمرت فوائد الحديث الصادق على حالتهم العامة لمدة أسبوع على الأقل بعد ذلك. تقول كوهين: "كان لهذه المحادثات تأثيرات إيجابية على العلاقات، لقد كانت تجربة قيّمة للغاية". لكن هذا الصدق يجب أن يكون مقروناً أيضاً بجرعة صحية من الدبلوماسية. تقول كوهين إنه يجب عليك التفكير ملياً في توقيت تعليقاتك وطريقة صياغتها وما إذا كان الشخص سيستفيد من هذه المعلومات أم لا، وتضيف: "قبل خمس دقائق من الزفاف، لا يتعين عليك مثلاً أن تخبر العروس بأنها تبدو فظيعة، أليس كذلك؟" ليس هناك أي عذر لكي تكون متنمراً، حتى لو كنت تعتقد أن إهاناتك تنقل الحقيقة.


الوسط
منذ 2 أيام
- الوسط
كيف تحوّل مشاعر القلق والتوتر إلى طاقة إيجابية تستفيد منها؟
Getty Images "أكاد أكون خبيرة في الشعور بالقلق" بهذه العبارة تصف كيت سويني، الباحثة في علم النفس، علاقتها الطويلة مع القلق. فمنذ سنوات، يلازمها هذا الشعور المرتبط بما لا تستطيع السيطرة عليه. ورغم أن القلق المزمن، حتى وإن كان خفيفاً، يترك أثراً سلبياً على صاحبه، فإن ما يميّز كيت سويني هو أنها حولت معاناتها إلى دافع مهني، فقد دفعتها تجربتها الشخصية مع القلق إلى اختيار مسارها العلمي، فقررت أن تتخصّص في علم النفس، وتحديداً في دراسة أسباب القلق والتوتر، وتعمل أستاذة في جامعة كاليفورنيا – ريفرسايد. تقول سويني: "لا يستغل الجميع حياتهم وما يدور فيها كوقود لأبحاثهم"، وقد استعانت بالفعل بتجاربها الشخصية لتكون نقطة انطلاق لأبحاثها النفسية، التي كشفت بعض نتائجها عن مفارقات لافتة. ومن بين هذه النتائج أن القلق – في بعض الحالات – يمكن أن يكون مفيداً، فهو قد يساعد الإنسان أثناء مروره بمواقف متوترة، كانتظار نتائج اختبار مهم، أو اتخاذ خطوات لحماية صحته. أنواع مختلفة للقلق وتباينت تعريفات العلماء لمفهوم القلق، بين من وصفوه بعبارات محايدة، وآخرين استخدموا مصطلحات تنطوي على دلالات سلبية، فقد لجأ بعض علماء النفس، خصوصاً المتخصصين في دراسة الظواهر المرتبطة بالتغير المناخي، إلى تقديم تعريف محايد للقلق باعتباره "حالة شعورية تحفّز الفرد على اتخاذ سلوكيات تهدف إلى تقليل التهديد"، وفضّل آخرون تعريفه بطريقة أكثر سلبية، على أنه "تجربة شعورية تنطوي على أفكار مزعجة ومستمرة بشأن المستقبل". ويكمن الفارق الجوهري بين القلق والتخوّف العام، في أن الأخير يرتبط بتجربة عاطفية تحفّز الفرد على التغيير، بينما قد يتحول القلق إلى عبء داخلي دائم يصعب التخلص منه. ورغم أن للقلق أضراراً معروفة، إلا أن بعض الباحثين يشيرون إلى أنه قد يكون محدود الانتشار داخل النفس؛ أي أن الشعور بالقلق تجاه أمر معين قد يخفف من احتمالية القلق حيال أمور أخرى. لكن عندما يبلغ القلق مستويات مرتفعة، فإنه غالباً ما يرتبط بتدهور الصحة الجسدية والنفسية، نتيجة أسباب متنوّعة تبدأ من اضطرابات النوم، ولا تنتهي بالخوف المفرط من الخضوع لفحوص طبية، مثل تلك التي تكشف عن أمراض خطيرة كالسرطان. ويزداد الأمر تعقيداً إذا كان القلق حاداً، وعشوائياً، ومتكرراً، ويصعب السيطرة عليه، وهي الخصائص التي تميّز ما يُعرف بـ "اضطراب القلق العام". ويقول إدوارد وتكينز، أستاذ علم النفس السريري في جامعة إكستر البريطانية: "من المرجّح أن يكون القلق المنتشر والمرتبط بمصادر متعددة أكثر إشكالية وأقل فائدة من القلق المركّز على مشكلة واضحة ومحددة". Getty Images ارتبط الشعور بنوع من "القلق البنّاء" بشأن حرائق الغابات في استراليا، باتخاذ إجراءات عملية من شأنها، التحضير الجيد للتعامل مع هذه الحرائق عند اندلاعها فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسات أُجريت في الولايات الأسترالية المعرضة لحرائق الغابات، أن الشعور بما يمكن وصفه بـ"القلق البنّاء" ارتبط بتحضيرات أفضل لمواجهة هذه الكوارث، كما تبيّن أن هذا النوع من القلق يسهم أيضاً في تحسين الأداء الأكاديمي، وزيادة فرص الإقلاع عن التدخين. وفي سياق آخر، كشفت دراسة أن الشعور بالقلق إزاء التغير المناخي كان أقوى مؤشر على دعم الأفراد للسياسات البيئية، وهذا ما دفع بعض الباحثين إلى اقتراح أن إثارة القلق - بدلاً من إثارة الخوف - قد يكون أكثر فاعلية في تحفيز الناس على دعم قضايا البيئة، إذ إنّ القلق يركّز على ما قد يحدث مستقبلاً، لا على اجترار ما فات، ويجعل الفرد أكثر استعداداً للتعامل مع الواقع. ويشرح إدوارد وتكينز، الباحث في اضطرابات الحالة المزاجية، ثلاث آليات رئيسية يمكن للقلق أن يُحدث تأثيره من خلالها: الدافع: القلق يدفع الشخص إلى التفكير في أسباب المشكلة، ويزيد من احتمالية اتخاذه خطوة فعلية لمواجهتها التذكير: الإحساس بالخوف أو عدم اليقين يلحّ على الذهن، ويذكّر صاحبه بالحاجة إلى الفعل التحضير: القلق يحفّز سلوكيات مثل التخطيط، وحل المشكلات، واتخاذ احتياطات مسبقة وتقول كيت سويني إن للقلق وظيفة واضحة، تماماً مثل أي شعور إنساني آخر، فهو بمثابة إشارة تنبّهنا إلى ما قد يكون في طريقه إلينا، وتحثّنا على التحرّك لمنع وقوعه، أو الاستعداد لمواجهته. وقد أكدت الدراسات المتعلقة بوباء كورونا في مراحله الأولى هذه الفكرة، ففي دراسة شملت سكان 10 دول، تبيّن أن القلق شكّل المكوّن العاطفي الأبرز في إدراك خطر الفيروس. وقد استخدم الباحثون مؤشرات من بينها مستوى القلق لدى الأفراد، ووجدوا علاقة قوية بين هذا القلق واتباع سلوكيات وقائية، مثل غسل اليدين، وارتداء الكمامات، والالتزام بالتباعد الاجتماعي. كيف تشعر بـ "القلق بشكل أفضل" إن القلق البنّاء يكون أسهل توجيهاً حين يكون الحدث مؤطراً زمنياً، كما في حالة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، على سبيل المثال، وبالنسبة لكيت سويني، كان اقتراع عام 2016 من بين أبرز الأحداث التي غذّت مخاوفها السياسية. لكن كيت وجدت لاحقاً طريقة لتوظيف هذا القلق بصورة إيجابية؛ فعندما حلّت انتخابات التجديد النصفي في 2018، كتبت أكثر من 50 بطاقة بريدية، دعت فيها الناخبين إلى المشاركة في التصويت، محاولة بذلك تحويل القلق إلى فعل ملموس. Getty Images أظهرت إحدى الدراسات أن المؤشر الأقوى الذي كان يفيد بأن شخصاً ما يدعم السياسات الرامية لمواجهة ظاهرة التغير المناخي أم لا، تمثل في ما إذا كان يشعر بالقلق حيال هذه الظاهرة من عدمه وأجرت كيت سويني دراسة تناولت سبل الحفاظ على السلامة الذهنية وراحة البال خلال فترات الانتظار القلِقة، لا سيما عند ترقّب نتائج قد تكون سلبية. وركّزت الدراسة على مرحلة انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لتبيّن كيف يمكن للقلق أن يؤثر في سلوك الإنسان خلال هذه الفترات. وأشارت سويني إلى أن الشخص يستطيع الحدّ من الآثار السلبية للقلق من خلال تبنّي موقف إيجابي قبل يوم الاقتراع وأثناءه، بشرط أن يُهيّئ نفسه في الوقت ذاته لاحتمال وقوع أسوأ السيناريوهات. وقالت إنها، على المستوى الشخصي، استطاعت أن "تمنح القلق وظيفة" حتى لحظة إعلان النتائج. وبطبيعة الحال، يشعر كثيرون بالقلق في مواجهة قوى خارجة عن سيطرتهم، لكن إدراك أن القلق لا يؤدي وظيفة مفيدة في بعض المواقف قد يساعد على التخفيف من حدّته. وتستعرض سويني في هذا السياق استراتيجية من ثلاث خطوات، يمكن من خلالها تحويل القلق إلى سلوك عملي: 1- حدّد طبيعة القلق الذي يراودك 2- فكّر في الخطوات التي يمكنك اتخاذها لمواجهة المشكلة 3- إذا كنت قد فعلت ما بوسعك، فحاول أن تنغمس في إحدى الحالات الذهنية التي تقلّل التوتر، مثل "اليقظة الذهنية" أو "التدفق" وهي حالة ذهنية يشعر فيها الإنسان بانسجامٍ تام مع ما يفعله، فيفقد الإحساس بالوقت، ويكون تركيزه كاملاً في المهمة التي بين يديه، دون قلق أو تشتيت وتوضح سويني أن حالة "التدفق" تعني انخراط الفرد الكامل في التعامل مع تحديات معتدلة الصعوبة، مع قدرته على تتبع تقدّمه في مواجهتها، وتُعد هذه الحالة مفيدة بشكل خاص في أوقات الضغط. ورغم أن حالة "اليقظة الذهنية" - أي التركيز الكامل على اللحظة الراهنة دون حكم أو تشتت - ترتبط غالباً بتحقيق مستويات عالية من السعادة والاستقرار النفسي والاجتماعي، فإن نتائج الدراسة التي أجرتها كيت سويني على مجموعة من المشاركين في الصين كشفت عن جانب مختلف. فقد تبيّن أن هذه الحالة اقترنت لدى أفراد العينة بزيادة الشعور بالوحدة، وتراجع السلوكيات الصحية. وتعزو سويني هذا التراجع إلى غياب "عنصر الإلهاء" الذي توفّره حالة "التدفّق"، وهي الحالة التي ينغمس فيها الشخص تماماً في نشاط يشغله ذهنياً ويصرفه عن القلق، ما يجعله يشعر بأن الوقت يمرّ بسرعة. أما "اليقظة الذهنية"، فتجعل الإنسان أكثر انتباهاً لحالة الغموض وعدم اليقين المحيطة به، ما قد يزيد من شعوره بالضغط في مواقف طويلة الأمد. وتخلص الدراسة إلى أن اليقظة الذهنية قد تكون أكثر فاعلية في مواجهة المواقف القصيرة والمركّبة التي تتطلب وعياً حاداً باللحظة، بينما يساعد "التدفّق" على التكيّف مع الأوضاع الممتدة التي لا نهاية واضحة لها في الأفق. Getty Images حاول أن تنغمس في إحدى الحالات العقلية التي تقلل التوتر، مثل "التدفق" و"اليقظة أو الوعي التام" ويقول إدوارد وتكينز، الذي عمل على تحديث قائمة النصائح الموجّهة لمن يسعون لتعزيز صحتهم النفسية خلال وباء كورونا، وأشرف على تطبيق إلكتروني أُطلق لخدمة الشباب الأوروبيين في هذا السياق، إن الدراسات أشارت إلى أن الشعور بقدر معتدل من القلق إزاء كورونا، مقروناً بفهم أهمية إجراءات التباعد الاجتماعي والإيمان بفاعليتها، يسهم في رفع مستويات الالتزام بالإرشادات الوقائية. في المقابل، القلق المفرط أو الخوف المشتت لأسباب متعددة قد يعيق قدرة الفرد على اتخاذ أي خطوات فعلية. فبدلاً من الانشغال بالسيناريوهات السلبية، وما قد يحدث بطريقة خاطئة، تنصح الدراسات بوضع خطة واضحة لكيفية تقليل المخاطر أثناء التنقل من وإلى مقر العمل. ويعلّق وتكينز على ذلك قائلاً: "التركيز على وضع خطة، يُشعر الإنسان بالقدرة على الاستعداد والتحكم. أما الاستسلام للقلق والتخيلات الكارثية، فيزيد من شعور الشخص بالعجز والهلع، ويضخّم المخاوف التي تراوده". بشكل عام، توصي الدراسات النفسية، بما في ذلك أبحاث إدوارد وتكينز وآراء باحثين آخرين، بالحفاظ على نوع من الروتين اليومي، والبقاء على تواصل منتظم مع المقرّبين للاطمئنان عليهم، إلى جانب البحث عن وسائل لتحويل القلق إلى اهتمام فعّال وتعاطف مع الآخرين. ففي فيلم الرعب "بادادوك"، يجسّد الوحش الظاهر في القصة حزناً عميقاً متجذّراً في الماضي، وعلى عكس النهايات المعتادة في أفلام الرعب، لا تحاول البطلة تدمير هذا الكائن، بل تدرك أن وجوده - رغم رعبه - يمنحها مساحة للتعبير عن حزنها وتذكّر ما فقدته، لكنها لا تسمح له بالسيطرة، لتصل معه في النهاية إلى ما يشبه "تسوية" بينهما. وبالطريقة ذاتها، ربما يكون التوصل إلى توازن مع القلق هو الهدف الأكثر واقعية بالنسبة للكثيرين منّا، هو توازن قد لا يكون مريحاً تماماً، لكنه أفضل من الإنكار أو الاستسلام الكامل.


الوسط
منذ 4 أيام
- الوسط
متى يتحول الالتهاب من وسيلة دفاع إلى خطر صحي؟
Getty Images "ثلاث علامات تشير إلى أنك تعاني من الالتهاب المزمن"..."10 أطعمة مضادة للالتهاب"..."أفضل مكملات غذائية لمقاومة الالتهاب"..."الالتهاب هو أصل كل الأمراض"... هذه أمثلة على عناوين مقالات ومقاطع فيديو في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي انتشرت بشكل متزايد خلال الأعوام القليلة الماضية مع تصاعد الاهتمام بالالتهاب، رغم أنه ليس مفهوماً جديداً على الإطلاق في مجال الطب. فما المقصود بالالتهاب؟ وهل هو بالفعل بهذه الخطورة؟ الالتهاب الحاد مقابل الالتهاب المزمن يوصف الالتهاب بأنه رد فعل الجهاز المناعي عندما يتعرض الجسم لإصابة أو لعدوى فيروسية أو بكتيرية. فعندما تجرح يدك ويصاب الجرح بالعدوى البكتيرية مثلاً، أو عندما ترتطم ركبتك بمنضدة، فإن الجزء المتأثر يصبح مؤلماً وساخناً عند لمسه ويحمر لونه، وقد يتورم أيضاً. يقول البروفيسور لوك أونيل مدير مجموعة أبحاث الالتهاب بكلية الكيمياء الحيوية وعلم المناعة بجامعة ترينيتي دَبلين بأيرلندا إن "هذه الأشياء تحدث لأن النسيج المصاب بالعدوى أو بجرح يفرز ما يسمى وسائط الالتهاب، والتي تزيد من تدفق الدم إلى المنطقة المتأثرة، ولهذا تصبح ساخنة وحمراء اللون. ثم تغادر كرات الدم البيضاء مجرى الدم وتدخل إلى النسيج المصاب. وأحياناً ما يتسرب سائل البلازما من الوعاء الدموي، وهو ما يسبب التورم. وتبدأ النهايات العصبية في إطلاق إشارات بسبب هذه التغيرات، وهذا هو ما يسبب الألم". الغرض من هذه الآلية هو القضاء على أية عوامل ممرضة تحاول التسلل إلى النسيج المصاب. ثم يتم إصلاح النسيج وتختفي تلك الأعراض وتعود الأمور إلى طبيعتها. وتعمل هذه الآلية بصورة مماثلة عندما نصاب بعدوى مثل الإنفلونزا أو الالتهاب الرئوي. الأمثلة السابقة يطلق عليها مصطلح "الالتهاب الحاد" (acute inflammation)، وهي عملية في غاية الأهمية للدفاع عن الجسم والبدء في التعافي، وبدونها قد تتفاقم الجروح وتصبح العدوى قاتلة. تحدث المشكلة عندما يخرج الالتهاب عن السيطرة، أو يستمر لفترة طويلة، ويواصل الجهاز المناعي ضخ كرات الدم البيضاء وغيرها من المواد الكيميائية لإطالة العملية. الجسم في هذه الحالة يظن أنه معرض للهجوم المستمر، وهو ما يضطر الجهاز المناعي إلى مواصلة المعركة إلى أجل غير مسمى – وهذا ما يطلق عليه "الالتهاب المزمن" (chronic inflammation). Getty Images يزداد تدفق الدم إلى المنطقة المصابة بجرح أو عدوى في الجسم، وتدخل كرات الدم البيضاء إلى النسيج المصاب لكن لماذا يخفق الجهاز المناعي في بعض الأحيان في وقف الالتهاب؟ وما العواقب؟ "هذا سؤال مهم، إجابته هي أننا لا نعرف"، هكذا أخبرني البروفيسور أونيل، مضيفا: "قد يعود السبب جزئياً إلى الجينات الوراثية، بمعنى أن يكون هناك تباين جيني في البروتينات المرتبطة بالالتهاب قد يجعلها مفرطة النشاط، أو في البروتينات المضادة للالتهاب يجعلها لا تؤدي وظيفتها بالشكل الصحيح. وعندما يصبح الالتهاب مزمناً، حينها يصاب الشخص بالأمراض الالتهابية". كيف نفرق بين الالتهاب الحاد والالتهاب المزمن؟ قد يكون عدم زوال الالتهاب بعد تأدية مهمته في الدفاع عن الجسم من سمات الالتهاب المزمن. يقول البروفيسور فيليب كولدر أستاذ علم المناعة الغذائية بجامعة ساوثهامبتون بإنجلترا لـ بي بي سي عربي إن "الالتهاب المزمن الشديد أو "عالي الدرجة" عادة ما يصاحبه ألم وتورم، وأحيانا فقدان في إحدى وظائف الجسم، ومن ثم يدرك الشخص أنه يواجه مشكلة، وقد يحاول التغلب عليها من خلال تناول العقاقير الشائعة المضادة للالتهابات مثل الأسبرين أو الأيبوبورفين وغيرهما من دون استشارة الطبيب"، مضيفا أن الشخص يلجأ إلى الطبيب عندما تكون الأعراض شديدة للغاية، فيصف له الطبيب مضادات التهاب قوية – والتهاب المفاصل مثال على الإصابة بالالتهاب الشديد أو عالي الدرجة. لكن عندما يكون الالتهاب خفيفاً أو "منخفض الدرجة" أحياناً قد لا يدرك الشخص وجوده لعدم تسببه في الألم، "هذا النوع من الالتهاب، الذي قد يستمر لسنوات، يُعتبر ضاراً على المدى البعيد، إذ إنه يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب وتراجع القدرات الإدراكية"، وفق البروفيسور كولدر. هل الالتهاب "سبب كل الأمراض"؟ هناك الكثير من الأبحاث التي تشير إلى وجود ارتباط بين الالتهاب المزمن وعدد من الأمراض، من بينها: مرض القلب النوع الثاني من مرض السكري بعض أنواع السرطان التهاب المفاصل أمراض الأمعاء الالتهابية مثل مرض كرون والتهاب القولون التقرحي أمراض الأيض التدهور الإدراكي فقدان العظام والعضلات المرتبط بالتقدم في العمر الاكتئاب يقول بعض الخبراء الطبيين الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، أو "المؤثرين الطبيين" كما يطلق عليهم، إن الالتهاب هو "سبب كل الأمراض". فهل هذه العبارة صحيحة، أم أنها تنطوي على تبسيط مخل؟ يقول البروفيسور أونيل إن العبارة "ليست غير معقولة، إذ يمكن النظر إلى المرض على أنه اضطراب في الجسم، والجسم يحفز الالتهاب للاستجابة لهذا الاضطراب، لكنه يمكن أن يسهم لاحقاً في تطور المرض. بيد أن هناك ما يمكن وصفه بالأمراض الالتهابية "الكلاسيكية" التي تصاحبها الأعراض الرئيسية للالتهاب مثل الاحمرار والتورم والألم والحرارة. الإصابة بكل هذه الأشياء تعني بالتأكيد وجود التهاب". أما البروفيسور كولدر فيرى أن هذه العبارة من قبيل الخرافات التي يروج لها البعض على وسائل التواصل، ويضيف أنه "لا شك في أن الالتهاب ممكن أن يكون ضاراً، وهو عامل مساهم رئيسي في العديد من الحالات الصحية الشائعة، لكن من غير المرجح أن يكون المساهم الوحيد في اعتلال الصحة". Getty Images حلقة السمنة والالتهاب المفرغة يربط الكثير من الأبحاث والدراسات بين السمنة والالتهاب المزمن. على سبيل المثال، تعريف السمنة وفقاً لدراسة أجراها علماء من جامعة كولونيا الألمانية ونشرت عام 2022 هو أنها "حالة من الالتهاب المزمن منخفض الدرجة يتسبب في العديد من أمراض الأيض". يقول البروفيسور كولدر إن "السمنة هي حالة من تراكم الدهون الزائدة في الجسم، ونطلق على دهون الجسم مصطلح "النسيج الشحمي". وعندما تزداد كمية الدهون في الجسم تصبح ملتهبة. نعرف ذلك من خلال قياس المواد الكيميائية الموجودة في الدم والتي تشير إلى وجود التهاب. وإذا فقد الشخص بعض دهون الجسم، تقل كميات هذه المواد. ولكن عندما تكون أعلى مما ينبغي، فإن أجزاءً أخرى من الجسم، مثل الكبد والبنكرياس والأوعية الدموية، تصبح ملتهبة. وربما يكون هذا هو أحد أسباب أن السمنة تزيد من خطر الإصابة بأمراض الكبد والسكري والقلب". وعادة ما يتم الحديث عن أن العلاقة بين السمنة والالتهاب تشبه الحلقة المفرغة، إذ قد تتسبب زيادة الوزن المفرطة في الالتهاب، والذي بدوره يصعّب من فقدان الوزن ومن ثم يؤدي إلى تفاقم السمنة. يقول كولدر إن "الشخص المصاب بالسمنة ربما يعاني من التهاب في الأنسجة الشحمية، وقد ينتشر هذا الالتهاب فيصيب أنسجة أخرى في الجسم. كما أن الالتهاب من الممكن أن يضعف استجابة الجسم للإنسولين (مقاومة الإنسولين)، وهذا بدوره قد يؤدي إلى الإسهام في تعزيز السمنة. لكن بالعودة إلى نقطة البدء، السمنة هي التي تؤدي إلى الالتهاب وليس العكس. الالتهاب ينخفض إذا فقد الشخص المصاب بالسمنة بعض دهون الجسم". كيف نقلل من الالتهاب؟ تشير المقولة الإنجليزية "you are what you eat" (أنت ما تأكل) إلى الأثر المباشر للطعام الذي نتناوله على صحتنا، وعلاقة النظام الغذائي بالالتهاب ليست استثناءً. ينصح الأطباء دائماً بتفادي الأطعمة فائقة المعالجة أو على الأقل الحد من تناولها، لأنها عادة ما تحتوي على نسب عالية من الملح والسكر والدهون المشبعة والسعرات الحرارية وتفتقر إلى العناصر الغذائية المهمة مثل الألياف والفيتامينات والمعادن. وتضم هذه الأطعمة المشروبات المحلاة ورقائق البطاطا وبعض الوجبات الجاهزة والأيس كريم. وقد ربطت دراسات عديدة بين تلك الأطعمة وبين زيادة خطر الإصابة بحالات مرضية مثل النوع الثاني من مرض السكري والقلب والسمنة. فهل توجد علاقة بين الأطعمة فائقة المعالجة وبين الالتهاب؟ يقول البروفيسور كولدر إن "الدهون المؤكسدة والسكريات المعدلة والدهون المتحولة والمشبعة والسكريات البسيطة من الممكن أن تؤدي إلى تفاقم الالتهاب، أو تهيئ بيئة في الجسم تفضي إلى الالتهاب. الوجبات التي تحتوي على كميات كبيرة من هذه المكونات يرَجح أن تسهم في زيادة الالتهاب في الجسم". انتشر في الفترة الأخيرة مصطلح آخر هو "نظام غذائي مضاد للالتهاب". فهل هناك بالفعل نظام غذائي يمكن أن يحمي الجسم من مخاطر الالتهاب المزمن؟ يرى البروفيسور أونيل أن هذا المصطلح "ربما كان مبالغاً فيه لوصف الدور الذي يمكن أن يلعبه الغذاء. هناك دليل على أن النظام الغذائي غير الصحي (الذي يحتوي على نسبة كبيرة من الأطعمة فائقة المعالجة مثلاً) من الممكن أن يساهم في الإصابة بالأمراض الالتهابية، ومن ثم فإن النظام الغذائي الصحي يمكن أن يساعد في تقليل الخطر". يتفق معه البروفيسور كولدر على أن النظام الغذائي الصحي بشكل عام يرتبط بتقليل الالتهابات. ومن بين الأمثلة التي يعطيها: النظام الغذائي المتوسطي، ونظام داش (DASH) المصمم لخفض الضغط وتعزيز صحة القلب، ونظام مايند (MIND) الذي يجمع بين النظامين السابقين بهدف تعزيز صحة الدماغ، والنظام الغذائي النوردي (Nordic) نسبة إلى دول شمال أوروبا مثل النمارك والسويد والنرويج، والذي يركز على الأطعمة المحلية والموسمية والحبوب الكاملة والأسماك وزيت الزيتون والخضروات والمكسرات والدواجن، فضلا عن الكثير من الأنظمة الغذائية الآسيوية التقليدية. Getty Images بالإضافة إلى اتباع نظام غذائي صحي، يشدد كولدر على أهمية زيادة النشاط البدني والحصول على قسط كافٍ من النوم وتقليل التوتر قدر الإمكان. هناك الكثير من الأشياء التي يتم الترويج لها لمكافحة الالتهاب، وعلى رأسها المكملات الغذائية وبعض العلاجات التي تدخل ضمن نطاق ما يعرف بالطب التكميلي أو البديل. لكن البروفيسور أونيل يقول إن الأدلة التي تدعم فوائد المكملات الغذائية محدودة، مضيفا: "وجهة نظري العامة بشأن الأساليب البديلة هي أنها قد تأتي ببعض الفوائد، ولكن معظم هذه الفوائد ربما يكون نتيجة لتأثير الدواء الوهمي (البلاسيبو)". أما في حالة الإصابة بأمراض التهابية مثل التصلب المتعدد أو التهاب المفاصل، فإن أونيل يشدد على أنه من غير المرجح أن تؤدي تغييرات نمط الحياة وحدها إلى فوائد كبيرة فيما يتعلق بإبطاء تدهور تلك الحالات المرضية، وينصح بالذهاب إلى الطبيب "للحصول على أفضل وسائل لتخفيف حدة المرض وإبطاء تطوره، إذ إن غالبية الأمراض الالتهابية تتدهور عندما تُترك من دون علاج".