logo
الصحافة والثقافة

الصحافة والثقافة

برلمان١٠-٠٤-٢٠٢٥

الخط : A- A+
إستمع للمقال
إذا كانت الصحافة منتوجا ثقافيا بامتياز، فلإنها تستخدم أدوات تشبه ما يستعمل في الثقافة من كتابة وصوت وصورة، بالإضافة إلى المحتوى الذي تقدمه للجمهور، الذي قد تكون له كذلك أبعاد ثقافية، رغم أن هذه العلاقة، بالنسبة لعدد من الباحثين، تبدو معقدة، وليست بهذه البساطة، إذ هناك من يعتبر أن الصحافة لا يمكنها أن تشابه الحقل الثقافي، نظرا لما تتعرض له من ضغوطات، خاصة اقتصادية، مما يعرض منتوجها لإشكالات حقيقية بسبب هذه الإكراهات الخارجية.
غير أن ما يهمنا في هذا المقال، هو البحث في التراكم الثقافي الذي من المفترض أن يساهم في الارتقاء بالمنتوج الصحافي. ويمكن استلهام التجربة المغربية، في هذا المجال، إذ أن ميلاد الصحافة الوطنية، في بلادنا، تم على يد مثقفين وسياسيين، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حيث مارسوا العمل الصحافي، في إطار النضال الوطني، معتبرين أن الصحافة وسيلة ناجعة في الرفع من وعي الشعب وفي التربية والتثقيف.
ونجد في كتاب 'الحركات الاستقلالية في المغرب العربي'، لعلال الفاسي، تفاصيل غنية عن ارتباط الصحافة، برسالة هادفة، حيث كانت تشكل جزءا أساسيا في بنية تنظيمات الحركة الوطنية وامتدادا لها، في إطار حركة مقاومة الاستعمار.
وكتب الصديق عبد العزيز الطريبق، كتابا باللغة الفرنسية، تحت عنوان 'الصحافة والسياسة في شمال المغرب من 1912 إلى 1956″، يحتوي على معطيات مهمة جدا، حول الارتباط العضوي الذي كان حاصلا، لدى زعماء الحركة الوطنية في هذه المنطقة، بين الصحافة والسياسة والثقافة.
فقد أسس زعماء سياسيون، وهم أيضا مثقفون، أغلبهم درس بالمشرق أو في أوروبا، مثل عبد السلام بنونة وعبد الخالق الطريس ومحمد داود والتهامي الوزاني والمكي الناصري… جمعيات وأحزابا، غير أن الجريدة، كانت هي المحور الذي تدور حوله نضالات هذه الحركة النهضوية، التي كما حصل في العديد من المدن المغربية، أسست أيضا معاهد الدراسة والتعليم ومراكز التربية والتثقيف.
ويقدم الطريبق، في هذا الكتاب، أرقاما مثيرة، نقلا عن المهدي بنونة، حول النسخ التي كانت تطبع، ففي منطقة لا يتجاوز عدد سكانها 700 ألف، خلال مرحلة الثلاثينات، 70 في المائة منهم أمي، كانت الجرائد، وهي كثيرة، تطبع بين 500 و1000 نسخة، بينما كانت جريدة 'الأمة' تطبع حتى 3000 نسخة، تباع كلها، وجريدة 'المهدية' كانت تطبع بين 2000 و2500 نسخة.
وحظيت صورة الذين يكتبون في الصحافة بمكانة خاصة، واستمرت في بلادنا، حيث كانت المهنة تحظى بتقدير خاص، ولها حظوة متميزة، كما هو الشأن في العديد من المجتمعات، فالصحافيون هم أيضا قادة سياسيون وباحثون وروائيون وشعراء… بالإضافة إلى عملهم الصحافي، في تقصي الأخبار والبحث في الملفات الشائكة، وكتابة الراي، وغيرها من المهام المعروفة في المهنة. وقد دافع عالم الاجتماع، ماكس فيبر، الذي كان يكتب في الصحافة، عن هذه المهنة، في خطابه 'السياسة كمهنة'، الذي ألقاه في ميونيخ سنة 1919، وتصدى للانتقادات القوية التي تعرضت لها الصحافة في ألمانيا، حيث قارن الصحافة بمهنة العالِم. فعلى عكس العالِم، يتعين على الصحفي إنجاز عمله بسرعة كبيرة، ويمكن القول إنه يعمل 'حسب الطلب'، مما يمنحه مسؤولية عامة أكبر من تلك التي يتحملها العالِم، بسبب التأثير المباشر الذي قد تُحدثه كتاباته.
وخصص أستاذ علم الإجماع في جامعة كرونوبل، جيل باستن، لإشكالية التكامل أو التنافر، بين الصحافة وعلم الاجتماع، مقالا تحت عنوان ' الصحافة والعلوم الاجتماعية، شغب أم مشاكل؟'، استعرض فيه الجدل الذي أثاره هذا الموضوع بين الصحافيين والمتخصصين في علم الاجتماع، موضحا أن العديد من الدراسات الاجتماعية سجلت التقارب بين المهنتين، نظرا للجوئهما إلى نفس الأدوات في البحث والتقصي والمراجعة والتدقيق، بالإضافة إلى التأثير المباشر للصحافة في الرأي العام والظواهر الاجتماعية.
وهو الرأي الذي لا يتقاسمه عالم الاجتماع بيير بورديو، الذي كانت أحكامه دائما قاسية تجاه العمل الصحافي، نظرا، حسب وجهة نظره، لإكراهات البحث عن الزيادة في أعداد القراء والمستمعين والمشاهدين، بطريقة تجارية، الأمر الذي يجعل الصحافة خاضعة لإكراهات أخرى غير البحث عن الحقيقة. وهو نفس التحذير الذي يشير إليه ماكس فيبر، عندما يعتبر أن الخطر المحدق بالصحافة هو أن ترضخ للإغراءات التي تحيط بها من كل جانب، وهو ما يظل راسخا كصورة لها لدى الجمهور، فالرضوخ للإكراهات التجارية، ينتج صحافة سيئة.
هذا التحدي سيظل يواجه الصحافة باستمرار، وعلى الصحافي أن يختار نموذج المثقف، كما جسدته تجربة الحركة الوطنية في الصحافة، رغم الصعوبات التي يطرحها هذا الاختيار، أو نموذج التاجر، الذي حتما لن يكون صحافيا، بل شيئا آخر.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

تصعيد من منتسبي الوداد للمطالبة برحيل الرئيس هشام آيت منا
تصعيد من منتسبي الوداد للمطالبة برحيل الرئيس هشام آيت منا

WinWin

time١٣-٠٤-٢٠٢٥

  • WinWin

تصعيد من منتسبي الوداد للمطالبة برحيل الرئيس هشام آيت منا

باتت الضغوطات تزداد يومًا بعد آخر، على رئيس نادي الوداد الرياضي هشام آيت منا، من طرف الجماهير وأيضًا من جانب منتسبي الفريق الأحمر، خاصةً في ظل تراجع النتائج وعدم قدرة النادي المغربي حتى اللحظة على ضمان الوجود في النسخة المقبلة من دوري أبطال أفريقيا. وبعد التعادل الأخير الذي حققه "نادي الأمة" بهدف لمثله أمام الرجاء الرياضي، في إطار الجولة 26 من بطولة الدوري المغربي، في المباراة التي أقيمت على أرضية ملعب محمد الخامس بمدينة الدار البيضاء، ارتفعت حدة الغضب بين كافة الفعاليات الودادية. تصعيد من منتسبي الوداد تجاه الرئيس يواصل منتسبو النادي المغربي، مطالبة رئيس الفريق الأحمر هشام آيت منا بالرحيل عن صفوف "القلعة الحمراء"، مؤكدين أن الأخير لم يخدم قط مصلحة فريقهم منذ أن تولى مسؤولية تسيير الفريق المنتمي لمدينة الدار البيضاء. وتحصل موقع winwin اليوم الأحد، على نسخة من بيان لمنتسبي نادي الوداد الرياضي جاء فيه: "في ظل الوضعية الكارثية التي آل إليها نادي الوداد، وبعد توالي النكسات وخيبات الأمل، نسجل -نحن منتسبي النادي- بأسف واستياء ما آلت إليه الأمور من تراجع خطير على كافة المستويات، وتسيير هاوٍ، وسوء تدبير مالي، وتصرفات لا تليق بنادٍ عريق يجسد جزءًا من تاريخ الوطن وهويته الرياضية". وتابع البيان: "لقد بات من الواضح لكل من له غيرة حقيقية على النادي، أن رئاسة المكتب لا ترقى لمستوى تطلعات الجماهير، ولا تجسد قيم وتاريخ النادي حيث طبع إدارتها أسلوب متعجرف واستفزازي، وضرب صارخ بعرض الحائط لمصلحة الفريق". وأضاف البيان: "نطالب برحيل الرئيس وجميع أعضاء مجلس الإدارة، حفاظًا على ما تبقى من كرامة، ولفتح صفحة جديدة يكون عنوانها الشفافية والرؤية الرياضية السليمة". وختم البيان: "يحذر منتسبو الوداد من اتخاذ أيّة قرارات مالية قد تثقل كاهل النادي مستقبلًا، وختامًا نؤكد بكل وضوح إما الاستقالة أو الإقالة". جدير بالذكر أن النادي البيضاوي بات يحتل المركز الثالث على سلم ترتيب الدوري المغربي برصيد 44 نقطة، بفارق 16 نقطة عن نهضة بركان متصدر الترتيب، ونقطة واحدة فقط خلف الجيش الملكي صاحب المركز الثاني.

يونس مجاهد يكتب : الصحافة والثقافة
يونس مجاهد يكتب : الصحافة والثقافة

time١٠-٠٤-٢٠٢٥

يونس مجاهد يكتب : الصحافة والثقافة

كتب / يونس مجاهد إذا كانت الصحافة منتوجا ثقافيا بامتياز، فلإنها تستخدم أدوات تشبه ما يستعمل في الثقافة من كتابة وصوت وصورة، بالإضافة إلى المحتوى الذي تقدمه للجمهور، الذي قد تكون له كذلك أبعاد ثقافية، رغم أن هذه العلاقة، بالنسبة لعدد من الباحثين، تبدو معقدة، وليست بهذه البساطة، إذ هناك من يعتبر أن الصحافة لا يمكنها أن تشابه الحقل الثقافي، نظرا لما تتعرض له من ضغوطات، خاصة اقتصادية، مما يعرض منتوجها لإشكالات حقيقية بسبب هذه الإكراهات الخارجية. غير أن ما يهمنا في هذا المقال، هو البحث في التراكم الثقافي الذي من المفترض أن يساهم في الارتقاء بالمنتوج الصحافي. ويمكن استلهام التجربة المغربية، في هذا المجال، إذ أن ميلاد الصحافة الوطنية، في بلادنا، تم على يد مثقفين وسياسيين، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حيث مارسوا العمل الصحافي، في إطار النضال الوطني، معتبرين أن الصحافة وسيلة ناجعة في الرفع من وعي الشعب وفي التربية والتثقيف. ونجد في كتاب 'الحركات الاستقلالية في المغرب العربي'، لعلال الفاسي، تفاصيل غنية عن ارتباط الصحافة، برسالة هادفة، حيث كانت تشكل جزءا أساسيا في بنية تنظيمات الحركة الوطنية وامتدادا لها، في إطار حركة مقاومة الاستعمار. وكتب الصديق عبد العزيز الطريبق، كتابا باللغة الفرنسية، تحت عنوان 'الصحافة والسياسة في شمال المغرب من 1912 إلى 1956″، يحتوي على معطيات مهمة جدا، حول الارتباط العضوي الذي كان حاصلا، لدى زعماء الحركة الوطنية في هذه المنطقة، بين الصحافة والسياسة والثقافة. فقد أسس زعماء سياسيون، وهم أيضا مثقفون، أغلبهم درس بالمشرق أو في أوروبا، مثل عبد السلام بنونة وعبد الخالق الطريس ومحمد داود والتهامي الوزاني والمكي الناصري… جمعيات وأحزابا، غير أن الجريدة، كانت هي المحور الذي تدور حوله نضالات هذه الحركة النهضوية، التي كما حصل في العديد من المدن المغربية، أسست أيضا معاهد الدراسة والتعليم ومراكز التربية والتثقيف. ويقدم الطريبق، في هذا الكتاب، أرقاما مثيرة، نقلا عن المهدي بنونة، حول النسخ التي كانت تطبع، ففي منطقة لا يتجاوز عدد سكانها 700 ألف، خلال مرحلة الثلاثينات، 70 في المائة منهم أمي، كانت الجرائد، وهي كثيرة، تطبع بين 500 و1000 نسخة، بينما كانت جريدة 'الأمة' تطبع حتى 3000 نسخة، تباع كلها، وجريدة 'المهدية' كانت تطبع بين 2000 و2500 نسخة. وحظيت صورة الذين يكتبون في الصحافة بمكانة خاصة، واستمرت في بلادنا، حيث كانت المهنة تحظى بتقدير خاص، ولها حظوة متميزة، كما هو الشأن في العديد من المجتمعات، فالصحافيون هم أيضا قادة سياسيون وباحثون وروائيون وشعراء… بالإضافة إلى عملهم الصحافي، في تقصي الأخبار والبحث في الملفات الشائكة، وكتابة الراي، وغيرها من المهام المعروفة في المهنة. وقد دافع عالم الاجتماع، ماكس فيبر، الذي كان يكتب في الصحافة، عن هذه المهنة، في خطابه 'السياسة كمهنة'، الذي ألقاه في ميونيخ سنة 1919، وتصدى للانتقادات القوية التي تعرضت لها الصحافة في ألمانيا، حيث قارن الصحافة بمهنة العالِم. فعلى عكس العالِم، يتعين على الصحفي إنجاز عمله بسرعة كبيرة، ويمكن القول إنه يعمل 'حسب الطلب'، مما يمنحه مسؤولية عامة أكبر من تلك التي يتحملها العالِم، بسبب التأثير المباشر الذي قد تُحدثه كتاباته. وخصص أستاذ علم الإجماع في جامعة كرونوبل، جيل باستن، لإشكالية التكامل أو التنافر، بين الصحافة وعلم الاجتماع، مقالا تحت عنوان ' الصحافة والعلوم الاجتماعية، شغب أم مشاكل؟'، استعرض فيه الجدل الذي أثاره هذا الموضوع بين الصحافيين والمتخصصين في علم الاجتماع، موضحا أن العديد من الدراسات الاجتماعية سجلت التقارب بين المهنتين، نظرا للجوئهما إلى نفس الأدوات في البحث والتقصي والمراجعة والتدقيق، بالإضافة إلى التأثير المباشر للصحافة في الرأي العام والظواهر الاجتماعية. وهو الرأي الذي لا يتقاسمه عالم الاجتماع بيير بورديو، الذي كانت أحكامه دائما قاسية تجاه العمل الصحافي، نظرا، حسب وجهة نظره، لإكراهات البحث عن الزيادة في أعداد القراء والمستمعين والمشاهدين، بطريقة تجارية، الأمر الذي يجعل الصحافة خاضعة لإكراهات أخرى غير البحث عن الحقيقة. وهو نفس التحذير الذي يشير إليه ماكس فيبر، عندما يعتبر أن الخطر المحدق بالصحافة هو أن ترضخ للإغراءات التي تحيط بها من كل جانب، وهو ما يظل راسخا كصورة لها لدى الجمهور، فالرضوخ للإكراهات التجارية، ينتج صحافة سيئة. هذا التحدي سيظل يواجه الصحافة باستمرار، وعلى الصحافي أن يختار نموذج المثقف، كما جسدته تجربة الحركة الوطنية في الصحافة، رغم الصعوبات التي يطرحها هذا الاختيار، أو نموذج التاجر، الذي حتما لن يكون صحافيا، بل شيئا آخر.The post يونس مجاهد يكتب : الصحافة والثقافة appeared first on الرباط نيوز.

الصحافة والثقافة
الصحافة والثقافة

برلمان

time١٠-٠٤-٢٠٢٥

  • برلمان

الصحافة والثقافة

الخط : A- A+ إستمع للمقال إذا كانت الصحافة منتوجا ثقافيا بامتياز، فلإنها تستخدم أدوات تشبه ما يستعمل في الثقافة من كتابة وصوت وصورة، بالإضافة إلى المحتوى الذي تقدمه للجمهور، الذي قد تكون له كذلك أبعاد ثقافية، رغم أن هذه العلاقة، بالنسبة لعدد من الباحثين، تبدو معقدة، وليست بهذه البساطة، إذ هناك من يعتبر أن الصحافة لا يمكنها أن تشابه الحقل الثقافي، نظرا لما تتعرض له من ضغوطات، خاصة اقتصادية، مما يعرض منتوجها لإشكالات حقيقية بسبب هذه الإكراهات الخارجية. غير أن ما يهمنا في هذا المقال، هو البحث في التراكم الثقافي الذي من المفترض أن يساهم في الارتقاء بالمنتوج الصحافي. ويمكن استلهام التجربة المغربية، في هذا المجال، إذ أن ميلاد الصحافة الوطنية، في بلادنا، تم على يد مثقفين وسياسيين، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حيث مارسوا العمل الصحافي، في إطار النضال الوطني، معتبرين أن الصحافة وسيلة ناجعة في الرفع من وعي الشعب وفي التربية والتثقيف. ونجد في كتاب 'الحركات الاستقلالية في المغرب العربي'، لعلال الفاسي، تفاصيل غنية عن ارتباط الصحافة، برسالة هادفة، حيث كانت تشكل جزءا أساسيا في بنية تنظيمات الحركة الوطنية وامتدادا لها، في إطار حركة مقاومة الاستعمار. وكتب الصديق عبد العزيز الطريبق، كتابا باللغة الفرنسية، تحت عنوان 'الصحافة والسياسة في شمال المغرب من 1912 إلى 1956″، يحتوي على معطيات مهمة جدا، حول الارتباط العضوي الذي كان حاصلا، لدى زعماء الحركة الوطنية في هذه المنطقة، بين الصحافة والسياسة والثقافة. فقد أسس زعماء سياسيون، وهم أيضا مثقفون، أغلبهم درس بالمشرق أو في أوروبا، مثل عبد السلام بنونة وعبد الخالق الطريس ومحمد داود والتهامي الوزاني والمكي الناصري… جمعيات وأحزابا، غير أن الجريدة، كانت هي المحور الذي تدور حوله نضالات هذه الحركة النهضوية، التي كما حصل في العديد من المدن المغربية، أسست أيضا معاهد الدراسة والتعليم ومراكز التربية والتثقيف. ويقدم الطريبق، في هذا الكتاب، أرقاما مثيرة، نقلا عن المهدي بنونة، حول النسخ التي كانت تطبع، ففي منطقة لا يتجاوز عدد سكانها 700 ألف، خلال مرحلة الثلاثينات، 70 في المائة منهم أمي، كانت الجرائد، وهي كثيرة، تطبع بين 500 و1000 نسخة، بينما كانت جريدة 'الأمة' تطبع حتى 3000 نسخة، تباع كلها، وجريدة 'المهدية' كانت تطبع بين 2000 و2500 نسخة. وحظيت صورة الذين يكتبون في الصحافة بمكانة خاصة، واستمرت في بلادنا، حيث كانت المهنة تحظى بتقدير خاص، ولها حظوة متميزة، كما هو الشأن في العديد من المجتمعات، فالصحافيون هم أيضا قادة سياسيون وباحثون وروائيون وشعراء… بالإضافة إلى عملهم الصحافي، في تقصي الأخبار والبحث في الملفات الشائكة، وكتابة الراي، وغيرها من المهام المعروفة في المهنة. وقد دافع عالم الاجتماع، ماكس فيبر، الذي كان يكتب في الصحافة، عن هذه المهنة، في خطابه 'السياسة كمهنة'، الذي ألقاه في ميونيخ سنة 1919، وتصدى للانتقادات القوية التي تعرضت لها الصحافة في ألمانيا، حيث قارن الصحافة بمهنة العالِم. فعلى عكس العالِم، يتعين على الصحفي إنجاز عمله بسرعة كبيرة، ويمكن القول إنه يعمل 'حسب الطلب'، مما يمنحه مسؤولية عامة أكبر من تلك التي يتحملها العالِم، بسبب التأثير المباشر الذي قد تُحدثه كتاباته. وخصص أستاذ علم الإجماع في جامعة كرونوبل، جيل باستن، لإشكالية التكامل أو التنافر، بين الصحافة وعلم الاجتماع، مقالا تحت عنوان ' الصحافة والعلوم الاجتماعية، شغب أم مشاكل؟'، استعرض فيه الجدل الذي أثاره هذا الموضوع بين الصحافيين والمتخصصين في علم الاجتماع، موضحا أن العديد من الدراسات الاجتماعية سجلت التقارب بين المهنتين، نظرا للجوئهما إلى نفس الأدوات في البحث والتقصي والمراجعة والتدقيق، بالإضافة إلى التأثير المباشر للصحافة في الرأي العام والظواهر الاجتماعية. وهو الرأي الذي لا يتقاسمه عالم الاجتماع بيير بورديو، الذي كانت أحكامه دائما قاسية تجاه العمل الصحافي، نظرا، حسب وجهة نظره، لإكراهات البحث عن الزيادة في أعداد القراء والمستمعين والمشاهدين، بطريقة تجارية، الأمر الذي يجعل الصحافة خاضعة لإكراهات أخرى غير البحث عن الحقيقة. وهو نفس التحذير الذي يشير إليه ماكس فيبر، عندما يعتبر أن الخطر المحدق بالصحافة هو أن ترضخ للإغراءات التي تحيط بها من كل جانب، وهو ما يظل راسخا كصورة لها لدى الجمهور، فالرضوخ للإكراهات التجارية، ينتج صحافة سيئة. هذا التحدي سيظل يواجه الصحافة باستمرار، وعلى الصحافي أن يختار نموذج المثقف، كما جسدته تجربة الحركة الوطنية في الصحافة، رغم الصعوبات التي يطرحها هذا الاختيار، أو نموذج التاجر، الذي حتما لن يكون صحافيا، بل شيئا آخر.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store