
الشهادات فخر ثقافيّ أم زيفٌ مُقنَّع؟
إنها ليست قضية شكليات أو حبر على ورق، بل جرحٌ نازف في جسد الثقافة، ومشهد عبثيّ يُزيّن القبحَ بالألقاب ويُروّج للفراغ باسم العلم، والزيف، حين يُشرعن في الإعلام أو يُتقبّل مجتمعياً، يُحوّل الثقافة من رسالة إلى وظيفة تجميليّة، ومن بناء معرفي إلى تسويقٍ ذاتيّ أجوف. بل إنه يهدم الثقة في المؤسسات العلميّة الحقيقيّة، ويُضعف صورة الباحث الصادق الذي قضى سنوات من عمره في سبيل المعرفة.
والدكتوراه الفخريّة، في أصلها، تكريم معنوي تقدّمه الجامعات العريقة لشخصياتٍ خدمت الإنسانية أو العلم أو الثقافة. غير أن الأمر تحوّل في العقود الأخيرة إلى «أداة علاقات عامّة» تُمنح لرجال الأعمال، والمشاهير، وأحياناً لمجرّد دعمٍ ماليّ أو وجاهة اجتماعية! أو لفتاة تتغنج في حديثها غُنجها في مشيتها، فتُصبح الشهادة، في يد البعض، وسيلة لتضليل الجماهير؛ إذ يبدأ الحاصل عليها بلقب «د.» في كل مناسبة، ويقدَّم للناس بوصفه مفكراً أو باحثاً، دون أن يكون كتب بحثاً علمياً واحداً محكّماً، أو اجتاز أدنى متطلبات العمل الأكاديمي. فيتحول الفخر المعنوي إلى «زيفٍ مُقنَّع»، يعزز النفاق الثقافي ويكرّس الوهم.
ومن المؤلم تزايد سوق بيع وشراء شهادات، على قارعة الإنترنت أو من جامعاتٍ «وهمية» لا وجود لها إلا في خوادم إلكترونية، تُمنَح بمقابل مادي لمن يملك المال لا العقل، والجاه لا الجهد. والمأساة لا تقف عند حدود التزوير، بل تتجاوزها حين يتحوّل صاحب الشهادة المزيّفة إلى «خبير» يُنصَّب على المنابر، يُحلّل ويُنظّر، ويُدرّسُ في الجامعات والمؤتمرات، وهو في حقيقته لم يدخل مكتبة أكاديمية، ولا سهر ليلة واحدة في مختبر علميّ.
إن إفراغ اللقب من معناه وحين تتساوى شهادة الدكتوراه التي نالها باحثٌ جاد مع شهادة اشتراها متسلق أو نالها مُمثّل أو سياسي تكريماً، تُفقد اللقب الأكاديمي معناه، ويضيع التمايز بين الجهد والانتحال.
كما أن هدم المصداقية الأكاديمية، يؤدي إلى انهيار مبدأ الجدارة والاستحقاق، وتُصبح الساحة العلمية مفتوحة للمُدّعين، ما ينعكس سلباً على جودة التعليم، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع، ويشوّه صورة المثقف الحقيقي في ظل هذا التضليل، فيجد المثقف الحقيقي نفسه متهماً بالتنطّع أو التقصير، لأن الزيف «الأنيق» صار أكثر رواجاً وجاذبية، وأكثر قبولاً في أعين العامة.
ومن لوازم التوعية المجتمعية، حول الفروق بين الشهادات الأكاديمية الحقيقية والمزيفة أو الفخرية، وإعادة الاعتبار للجهد العلمي؛ تجريم التزوير العلمي، واعتماد قوانين صارمة تجرّم من يدّعي زوراً حمل شهادات علمية غير حقيقية، وفرض عقوبات واضحة، وفصل الألقاب عن الوظيفة، وتقنين استخدام لقب «دكتور» فلا يُستخدم في الإعلام أو الوثائق إلا لمن حصل على الدرجة العلمية من جهة معترف بها أكاديمياً.
وربما لا تكمن الخطورة في الشهادات المزيّفة أو الفخرية في ذاتها فقط، بل في أثرها التراكمي على الوعي الجمعي، حين تُصبح أدوات لهدم المعايير وتزييف الوعي. إنها ليست مجرد لقب يُنتحل، بل زور ثقافيّ يُمارس باسم المعرفة، وعلينا أن نختار: هل نريد ثقافة حقيقية نزيهة؟ أم زيفاً مُقنّعاً ينهش وجدان الأمة؟
ختاماً «العلم ليس وساماً على الجدران، بل ضميرٌ في الفعل، ونورٌ في الطريق».
أخبار ذات صلة
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة سبق
منذ 4 ساعات
- صحيفة سبق
المسند: توازن اليابس والماء.. سر الاعتدال المناخي على الأرض
أوضح أستاذ المناخ السابق بجامعة القصيم الدكتور عبدالله المسند أن حكمة الله سبحانه اقتضت أن يكون على سطح الأرض توزيع متوازن بين اليابس والماء، بما يحقق اعتدال المناخ ويحافظ على توازن الحرارة بين الليل والنهار. وقال المسند، عبر حسابه على منصة "إكس"، إنه لو كانت الأرض كلها يابسة بلا بحار أو محيطات، كما هو الحال في القمر أو المريخ، لكانت نهاراتها شديدة الحرارة إلى حد لا يُطاق، ولياليها قارسة البرودة بشكل لا يُحتمل، لكن اختلاف الخصائص الفيزيائية بين اليابسة والماء جعل بينهما تبادلاً حرارياً يخفف من حدة المناخ. وبيّن أن من أبرز صور هذا التبادل الحراري ما يُعرف بـ"نسيم البر والبحر"، حيث تهب الرياح من البحر نحو البر نهاراً نتيجة فرق درجات الحرارة، بينما تتجه من البر نحو البحر ليلاً، ويتكرر هذا النمط يومياً وفصلياً ليكون من أسرار اعتدال المناخ على كوكب الأرض، مستشهداً بقول الله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.


الشرق السعودية
منذ يوم واحد
- الشرق السعودية
من "الكاتيوشا" إلى "الباليستية".. قصة سلاح يرسم حدود الهيمنة
تعد صواريخ "أرض-أرض" أكثر من مجرد أسلحة، إنها أدوات استراتيجية قادرة على إحداث دمار هائل وتغيير مسار المعارك دون الحاجة لتدخل بري. من صواريخ "الكاتيوشا" التكتيكية إلى الصواريخ البالستية العابرة للقارات القادرة على حمل رؤوس نووية، شكل هذا السلاح حجر الزاوية في سباق التسلح العالمي ومفتاح الردع والهيمنة بين القوى الكبرى.


صحيفة سبق
منذ يوم واحد
- صحيفة سبق
تناغم علمي في مواجهة المناخ.. 8 حلول عملية للتعايش مع الاحترار العالمي
في إطار التوعية بمخاطر التغير المناخي، قدم أستاذ المناخ السابق بجامعة القصيم الدكتور عبدالله المسند مجموعة من المقترحات للتكيف مع ظاهرة الاحترار العالمي، مؤكدًا أن العودة إلى مناخ ما قبل الثورة الصناعية بات أمرًا صعبًا ومكلفًا. وأوضح المسند عبر حسابه في "إكس"، أن أفضل استجابة لتغير المناخ تتمثل في التعايش الإيجابي معه من خلال إجراءات عملية، شملت: استخدام اللون الأبيض في طلاء المباني والأسطح والممرات لتقليل امتصاص الحرارة. تغيير لون الطرق في الأحياء السكنية من الأسود إلى الرمادي أو درجات أفتح. التوسع في التشجير باستخدام المياه الرمادية أو الآبار المالحة. ابتكار مظلات عملاقة تغطي الأحياء وتخفض درجات الحرارة حتى 15 درجة مئوية، مما يقلل استهلاك الكهرباء ويوفر بيئة أكثر راحة. تعديل مواعيد العمل الصيفية لتبدأ بعد الفجر وتنتهي منتصف النهار، تجنبًا لفترات الذروة الحرارية. دعم المكيفات الهجينة التي تعمل بالطاقة الشمسية نهارًا والكهرباء ليلًا. وأكد المسند أن هذه الحلول، رغم بساطتها، قد تُحدث فارقًا كبيرًا في التكيف مع الظروف المناخية المتغيرة وتخفيف الأعباء الاقتصادية والبيئية.