
درس أردني للبنانيّين
قد يكون مفيداً، لدى تناول العلاقة بين الدول والميليشيات المسلّحة في منطقتنا، استرجاع تجربة بالغة الأهميّة في التاريخ العربيّ الحديث. إنّها تجربة الحرب الأهليّة في الأردن عامي 1970 و1971.
فالحضور الفلسطينيّ الكثيف في شرق الأردن، والموقع الجغرافيّ للبلد الذي يبلغ طول حدوده المشتركة مع إسرائيل 482 كيلومتراً، وكذلك المشاعر المُرّة التي خلّفتها هزيمة 1967 وخسارة الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة، سمحت مجتمعةً بتركّز الفصائل الفلسطينيّة المسلّحة وحديثة الولادة في الأردن. يومذاك أطلق الراديكاليّون العرب وعموم البيئات المولعة بالمسلّحين لقب «هانوي العرب» على البلد المذكور، قاصدين أنّه مجرّد محطّة على طريق «تحرير فلسطين»، مثلما كانت هانوي بالنسبة إلى فيتنام الجنوبيّة.
وكان أن شهد العام 1968 حدثاً مفصليّاً. ففيه نشبت معركة الكرامة التي خاضها الجيش الأردنيّ والمقاومة الفلسطينيّة جنباً إلى جنب ضدّ القوّات الإسرائيليّة. وعلى رغم أنّ جيش الأردن لعب، خصوصاً من خلال سلاحه المدفعيّ، الدور الحاسم في تلك المعركة، فإنّ المقاومة استحوذت عليها وحدها، حتّى أنّها اعتبرتها تأسيساً ثانياً لها، نافيةً كلّ فضل لشريكها في المواجهة.
ولمّا كان بقاء قواعد المقاومة في منطقة الأغوار يشكّل خطراً عليها، وسط ترجيحات شبه مؤكّدة بأنّ الإسرائيليّين سوف يردّون بشراسة، انتقلت الفصائل المسلّحة إلى العاصمة عمّان وباقي المدن. هكذا انتشر سلاحها ومكاتبها بين الأحياء السكنيّة، وانتصبت حواجزها بين الطرقات، وتعاظم تحدّيها للقوانين الأردنيّة وإملاءاتها، كما بات تدخّلها في سائر المسائل السياسيّة والاجتماعيّة حدثاً يوميّاً... وبهذا أمست ازدواجيّة السلاح والدولة واقعاً قاهراً ومُلحّاً.
لكنّ التنظيمات المسلّحة سريعاً ما انتقلت من طور تثبيت الازدواج إلى طور المطالبة بالاحتكار. هكذا، وتيمّناً بشعار لينينيّ شهير إبّان صراع البلاشفة مع الحكومة الانتقاليّة المؤقّتة، رفعت «الجبهة الشعبيّة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين» شعار «كلّ السلطة للمقاومة». وبدورهم ذهب عناصر «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» أبعد، متّبعين استراتيجيّة خطف الطائرات المدنيّة واحتجازها في ما أسموه «مطار الثورة»، وهذا فضلاً عن تفجيرهم إحدى الطائرات المخطوفة على أرض المطار إيّاه. لكنْ بدل أن يؤدّي هذا السلوك إلى إثارة انتباه العالم إلى المأساة الفلسطينيّة، كما توهّم الخاطفون، عُقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدوليّ صدر عنه القرار 286 الذي يطالب بالإفراج عن جميع الركّاب المحتجزين. وتوالت ردود الفعل الحازمة، فاتّخذ الملك حسين قراره بتشكيل حكومة عسكريّة، يرأسها العميد محمّد داوود، باشرت حربها على الميليشيات. ذاك أنّ الملك كان مدركاً استحالة ترك الأمور على حالها، فيما التذمّر الشعبيّ يتّسع ويتصاعد، ورقعة الدولة توالي انحسارها لصالح الأطراف المسلّحة، واحترام العالم للدولة الأردنيّة يتقلّص. والأردن، كما نعلم، ليس بلداً غنيّاً بمصادره، واضطراره إلى الدعم الخارجيّ لا يحتمل التأجيل والتذاكي. وإلى هذا، بدا من شبه المؤكّد أنّ استمرار الأمور على هذا النحو سوف يؤدّي إلى تعريض الأردن، الذي كان لا يزال يئنّ تحت وطأة حرب 1967 ونتائجها، إلى حرب إسرائيليّة مدمّرة أخرى.
لكنّ النظام كان أيضاً على بيّنة تامّة من خطورة ما يفعله ومن أكلافه الباهظة. فبابُ التشهير والتخوين في العالم العربيّ سوف يُفتح على مصراعيه، سيّما وأنّ المدائح التي تُكال للمقاومة الفلسطينيّة بوصفها علامة الأمل والفجر الجديد تهبّ من كلّ صوب، وهذا ما قد يترافق مع تدخّل الجيش السوريّ الذي تدخّل فعلاً ووصل إلى مدينة أربد، قبل أن ينسحب عملاً بامتناع وزير الدفاع حافظ الأسد عن توفير التغطية الجوّيّة له. ومن جهة أخرى، انبثق تنظيم «أيلول الأسود» من جسد «فتح» بهدف «الاقتصاص من العملاء»، وكان أبرز «العملاء» هؤلاء وصفي التلّ، رئيس الحكومة يومذاك وأحد أبرز رؤساء الحكومة الذين عرفهم البلد في تاريخه. ففي 1971، وفي فندق شيراتون بالقاهرة، اغتيل التلّ بطريقة بالغة الوحشيّة.
أبعد من ذلك أنّ تصدّعاً كبيراً ومؤلماً لا بدّ أن يصيب النسيج الوطنيّ، الفلسطينيّ – الشرق أردنيّ، الجامع، وهو أيضاً ما حصل فعلاً، وهذا بعدما شكّلت تجربة الوحدة بين شرق الأردن والضفّة الغربيّة (1950-1967) التجربةَ الوحدويّة الوحيدة الناجحة في المشرق العربيّ (وإن أنكر الراديكاليّون العرب تصنيفها هذا).
لقد عرف الملك حسين أنّ موت البلد هو البديل الوحيد عن المبادرة الشجاعة والخطِرة التي أقدم عليها. وتجنّبُ الموت يدفع صاحبه إلى أمور ليست بالضرورة مستحبّة أو مرغوبة. أولم يكن تجنّبٌ كهذا مصدر القرار الذي اتّخذه مسلّحون فلسطينيّون فرّوا إلى إسرائيل حينما حوصروا، عام 1971، في جرش وعجلون؟
واقع الأمر أنّ التشبّه بحرب أهليّة (كلّفت أكثر من أربعة آلاف قتيل) واعتبارها نموذجاً للتقليد ليسا بالعمل الفاضل. لكنّ ما هو أسوأ من هذا التشبّه أن يجد مجتمع ما نفسه مُخيّراً بين موت بطيء ومبادرة مكلفة توقف ذاك النزف عبر الكيّ بوصفه آخر الدواء.
إنّ في تجربة كهذه درساً يُستحسن باللبنانيّين أن يتأمّلوا فيه.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 20 دقائق
- الشرق الأوسط
بعد استهداف خط «فايبر أوبتك»... انقطاع خدمات الإنترنت بالكامل عن كل غزة
أعلنت السلطة الفلسطينية، الخميس، انقطاع خدمات الإنترنت والاتصالات الثابتة في غزة بعد استهداف «فايبر أوبتك»؛ آخر خط للألياف الضوئية بالقطاع، متهمة إسرائيل بالوقوف وراء الهجوم، وفق «وكالة الصحافة الفرنسية». وأعلنت «هيئة تنظيم قطاع الاتصالات الفلسطينية»، في بيان نقلته وكالة «وفا» الرسمية للأنباء، «انقطاع كل خدمات الإنترنت والاتصالات الثابتة في قطاع غزة، بعد استهداف المسار الرئيسي الأخير لـ(الفايبر)»، متهمة إسرائيل بمحاولة قطع غزة عن العالم. وكانت وكالة «شهاب» الفلسطينية قد أفادت بانقطاع خدمات الإنترنت بالكامل عن جميع أنحاء قطاع غزة، في ظل الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ونقلت الوكالة عن الدفاع المدني بشمال غزة القول إنه يواجه صعوبة كبيرة في تحديد مواقع القصف؛ بسبب انقطاع الإرسال وتعذر تواصل السكان معه. وتشير أحدث إحصاءات وزارة الصحة في غزة إلى ارتفاع إجمالي عدد قتلى الحرب الإسرائيلية على القطاع إلى 55 ألفاً و104، بينما زاد عدد المصابين إلى 127 ألفاً و394. ويواجه قطاع غزة أزمة إنسانية حادة بعد 20 شهراً من الحرب المدمرة التي اندلعت بعد هجوم «حماس» على إسرائيل.


الشرق الأوسط
منذ 20 دقائق
- الشرق الأوسط
الجمعية العامة للأمم المتحدة تصوت الليلة على قرار لوقف فوري لإطلاق النار بغزة
من المتوقع أن تُصوِّت الجمعية العامة للأمم المتحدة، مساء اليوم (الخميس)، على مشروع قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، والإفراج عن الرهائن المحتجزين لدى حركة «حماس» جميعاً، وفتح جميع المعابر الحدودية الإسرائيلية لإدخال الغذاء والمساعدات العاجلة الأخرى، وفق «أسوشييتد برس». وصاغت إسبانيا مشروع القرار، الأربعاء، وينصُّ على «الإدانة الشديدة لاستخدام التجويع ضد المدنيين بصفته أسلوباً من أساليب الحرب». وأكد خبراء وعاملون في مجال حقوق الإنسان أن الجوع بات منتشراً في غزة، وأن نحو مليونَي فلسطيني مهددون بالمجاعة ما لم ترفع إسرائيل حصارها بالكامل، وتوقف حملتها العسكرية، التي استؤنفت في مارس (آذار) بعد انتهاء هدنة مؤقتة مع «حماس». وكان مجلس الأمن أخفق، الأسبوع الماضي، في تمرير قرار يطالب بوقف إطلاق النار ويدعو إسرائيل إلى رفع جميع القيود المفروضة على إيصال المساعدات. واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد القرار؛ لأنه لم يتضمَّن ربطاً بالإفراج عن الرهائن، بينما صوَّت باقي أعضاء المجلس الـ14 لصالحه.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
عشرات القتلى ومئات الجرحى برصاص القوات الإسرائيلية قرب مركز المساعدات بغزة
قُتل 13 فلسطينياً وأُصيب أكثر من 200، اليوم (الخميس)، برصاص القوات الإسرائيلية قرب مركز المساعدات في محيط حاجز «نتساريم» وسط قطاع غزة. ونقلت وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا) عن مصادر طبية في القطاع القول: «استُشهد أكثر من 13 مواطناً وأُصيب نحو 200 آخرين بنيران الاحتلال عند مركز توزيع المساعدات». وكانت الوكالة ذكرت، أمس، أن هناك 28 فلسطينياً قُتلوا، الأربعاء، عند هذا المركز، كما أُصيب العشرات بجروح. ووفق الوكالة، استهدفت القوات الإسرائيلية، على مدار الأيام الماضية، نقاط توزيع مساعدات، سواء في رفح أو وسط القطاع؛ ما أدى إلى مقتل العشرات، ووقوع إصابات، في خطوة تأتي - حسب تأكيدات أممية - لتهجير السكان قسراً، ضمن ما يبدو أنها «استراتيجية للتطهير العرقي».