
كزافييه كوبولاني وصناعة الفراغ الجغرافي: في تفكيك الخرائط الاستعماريّة وإعادة إنتاج المجال السياسي المغاربي
* الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه
– مدخل تأسيسي: حين يتحوّل الخط المستقيم إلى قدر جيوسياسي
هل ترسم الخرائط الدول، أم أن الدول تفرض خرائطها بأثر رجعي لتُخفي عنف التأسيس؟ وما الذي يجعل من ترسيمٍ استعمارٍي بسيطٍ على ورق الجيوش، أساسًا لشرعيّة سياسيّة لاحقة؟
ليست هذه أسئلة تاريخيّة محضة؛ بل محاولة لكشف اللحظة التي تحوّلت فيها المعرفة إلى استعمار ناعم، والمجال إلى فراغ مُفترض وجب ملؤه بسلطة جديدة.
في هذا السياق العام، يظهر اسم (كزافييه كوبولاني)، ليس فقط كضابط ميداني فرنسي، بل كمهندس لنموذج جغرافي سياسي يعيد تشكيل المجال المغاربي على أنقاض أنماط سيادة تقليديّة.
– أولًا: كوبولاني وهندسة 'الفراغ' الرمزي: الزوايا الصوفيّة كمجال سيادة مستهدف
إلى أي مدى يمكن اعتبار بناء الكيان الموريتاني فعلًا استعماريًا محضًا لا يعكس تحوّلًا ذاتيًا في البنية السياسيّة للمنطقة؟
منذ حلوله بالسودان الفرنسي سنة 1898، لم يتصرف كوبولاني كموظف إداري، بل كمخطط جيو-أنثروبولوجي مسكون بهاجس السيطرة على شبكة الزوايا الصوفيّة، باعتبارها النسيج المؤسِّس لامتداد السيادة الرمزيّة للمخزن المغربي جنوب الأطلس.
في كتابه المرجعي (Les confréries religieuses musulmanes)، لم يكتف بجمع المعطيات حول التصوُّف، بل رسم خريطة استخباراتية دقيقة للبنى الاجتماعيّة والروحيّة التي كانت تقاوم التشظي السياسي. فما قام به، بحسب المؤرخة (جنيفيف فيويومان)، هو تحويل الزوايا من فاعل ديني-اجتماعي إلى 'قضية أمنيّة' ينبغي ضبطها معرفيًا قبل تطويعها عسكريًا.
لكن، هل كانت هذه المعرفة الإبستيمولوجيّة بريئة؟ أم أنها شكّلت الحاضنة النظرية لتفكيك السيادة الترابيّة، عبر نزع الشرعيّة عن البنيات التقليديّة غير المُمركزة؟
– ثانيًا: الزوايا الصوفيّة والبيعة: سيادة شبكيّة في مواجهة هندسة الخطوط
هل تمثّل الزوايا نمطًا بديلًا من السيادة خارج منطق الدولة الترابيّة؟
قبل أن تُرسم الحدود بالمسطرة فوق خرائط القيادات العسكريّة الفرنسيه، كانت السيادة في الجنوب تُمارس عبر شبكات ولاء ديني وبيعة رمزية، تتجاوز منطق المركز وتعيد تعريف المجال من الداخل.
الزوايا الصوفيّة الكبرى، وعلى رأسها زاوية الشيخ ماء العينين، لم تكن مجرد طرق صوفيّة دينيّة، بل مراكز إشعاع سياسي واجتماعي عابر للقبيلة.
لقد شكّلت امتدادًا عضويًا للمخزن المغربي، من دون أن تذوب فيه كليًا، مما منحها موقعًا رماديًا بين الدولة والمجتمع. وهذا ما جعلها مستهدفة بالضبط: إذ لا يمكن استيعابها ضمن النموذج الكولونيالي إلا عبر تفكيك منطقها وتمفصلاتها الداخليّة.
فهل كان انهيار هذا النمط الزوايي ناتجًا عن ضعفه الهيكلي؟ أم عن تحوّل الخرائط نفسها إلى أدوات لإلغاء التمثّل الرمزي للسلطة في المجال؟
– ثالثًا: خرائط من ورق: من التخطيط العسكري إلى إنتاج الدولة
هل يمكن لدولة أن تُولد من خريطة؟ سنة 1904، تلقى كوبولاني أوامر من رئيس الحكومة الفرنسية بإعادة هندسة جنوب المغرب سياسيًا. فكان أن رسم على مكتبه في سان-لويس حدود كيانين: 'موريتانيا الغربية' و'الصحراء الغربية'. خطوط مستقيمة بدت وكأنها تُبتر الذاكرة لا الأرض فحسب، وتُعلّق سيادة الخرائط على مشجب الدولة المقبلة.
هذا الترسيم لم يكن فعلاً إداريًا عابرًا، بل لحظة تأسيس ميتافيزيقية لكيانات لم تكن موجودة قبل تدخل القلم الكولونيالي. فهل يمكن بعد ذلك الحديث عن 'سيادة' تتجاوز من أنشأها؟ وكيف نتعامل مع واقع سياسي نشأ على أساس خطوط لا على أساس شعوب؟
– رابعًا: مقاومات رمزيّة بلا تراب: حين تصبح البيعة فعلًا جيوسياسيًا
هل كانت مقاومة الزوايا فعلاً دفاعيًا أم مشروعًا سياسيًا موازيًا؟
لقد واجه مشروع كوبولاني مقاومة من ثلاثة مراكز زوايا:
1. الشيخ ماء العينين،
2. الشيخ سعد بوه،
3. والشيخ سيدي بابا.
هذه القوى لم تعتمد السلاح وحده، بل شرعت في حشد الرمزية، وإعادة تأويل البيعة كوسيلة لتوحيد القبائل على قاعدة ولاء سياسي عابر للجغرافيا الاستعمارية.
لقد مثّلت الزوايا شكلًا متقدّمًا من المقاومة الرمزية، غير أن مفعولها السياسي ظل محصورًا في بعدها القيمي، مما جعلها عاجزة عن مجاراة آليات التفتيت الإداري الحدودي.
فهل خسرت الزوايا المعركة لأنها لم تكن تُدرك منطق الدولة الحديثة؟ أم لأنها كانت تُراهن على ذاكرة مشتركة لم تعد تكفي أمام سلطة الخريطة المدعومة بالبندقية؟
خامسًا: حين تُصبح الخريطة قدرًا: في منطق السيادة المؤجلة
هل يمكن اليوم تحرير الجغرافيا من الذاكرة الاستعمارية؟ يبدو أن ما فعله كوبولاني لم يكن مجرد ترسيم حدود، بل تفكيكًا منهجيًا للسيادة المغربية التاريخيّة في الجنوب، عبر نزع الشرعيّة الرمزيّة التي مثّلتها الزوايا.
وحتى حين تنازلت فرنسا عن 'الصحراء الغربية' لصالح إسبانيا، ظلت الحدود الكولونياليّة قائمة، تُربك كل محاولات إعادة بناء المجال ضمن منطق وطني موحّد. أليس هذا تأكيدًا على أن الجغرافيا قد تُصاغ خارج إرادة سكانها، وتُحوّل إلى معطى فوقي تُبنى عليه السياسات والسرديات؟
– سادسًا: بين فقه الدولة وفقه الجماعة: الفتوى حين تُغفل السياق العام
هل يُطلب من الفقيه أن يُفتي بمنطق الجماعة العابرة للحدود، أم ضمن الدولة الحديثة بصفتها الحاضن الشرعي للأمة؟ تصريح الشيخ محمد الحسن ولد الددو حول الصحراء المغربية يكشف تناقضًا بين تصور فقهي كلاسيكي وتمثل حديث للسيادة.
ففي حين ترتكز الدولة الوطنيّة المعاصرة على منطق السيادة القانونية والاعتراف الدولي، لا يزال بعض الفقهاء يتعاملون مع الجغرافيا الإسلامية كجسد رمزي موحد، متجاهلين أن ذلك التصور يُفضي إلى فوضى سياسية، ويُبرر دون قصد، تدخلات خارجيّة باسم التضامن الديني.
فهل ما زال الفقيه معفيًا من فهم التوازنات الجيوسياسية؟ أم أن فقه المرحلة يقتضي إعادة تأهيل الخطاب الديني بمنطق الدولة لا بمنطق الجماعة؟
– سابعًا: نحو فقه بذاكرة سياسية: بين البيان الشرعي وإدراك المآل السيادي
ما الحاجة اليوم إلى فقه يُدرك التاريخ ولا يتجاهله؟ إن ما صدر عن الشيخ الددو، رغم مقامه العلمي، يكشف غيابًا مقلقًا للوعي بالمآلات. إذ كيف يمكن لفقيه أن يُصدر فتوى في قضيّة ذات حساسية سيادية دون معرفةٍ معمقة بالجذور الجغرافية، والمسارات القانونيّة، والتراكمات الرمزية التي رسخت مغربية الصحراء؟
أليس هذا تغافلًا عن مسؤولية الكلمة، وتفريطًا ضمنيًا في وحدة المجال المغاربي، الذي لا يزال ضحية لمشاريع تفتيتيّة تُدار باسم تقرير المصير، بينما تُنتج مزيدًا من الانقسام والتبعيّة؟
– خلاصة مفتوحة: حين تُفقد الفتوى شروطها: أي دور للفقيه في زمن الخرائط؟
هل تظل الفتوى حجة إذا فُقدت شروطها المعرفية والسياسية؟ وهل يُعقل أن يستمر الفقيه في إصدار أحكامه خارج سياق الدولة، ودون إدراك لتعقيدات الجغرافيا السياسية؟ إن تصحيح الزلة الفقهية لا يكون بالخصومة، بل بإعادة توجيه الخطاب نحو المقاصد الكبرى: صون السيادة، حفظ المجال، وتثبيت الشرعية بمفهومها المركب.
ربما يكون السؤال الأعمق هو: هل نحتاج إلى فقه جديد لا يُقدّس الخرائط، ولكن أيضًا لا يتجاهلها؟ فقه لا يُنتج الانقسام باسم المبادئ، بل يُعيد وصل ما قُطع، بوعي تاريخي، وضمير استراتيجي، وعقل سياسي يميّز بين الشرعي والمشروع، وبين البيان والانحياز.
***************
(*) – نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّهِ؛ مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).
إيطاليا تلغراف
التالي
صرخة فلسطينية في غزة جراء المجاعة التي تفتك بأهالي القطاع

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ 4 أيام
- إيطاليا تلغراف
كزافييه كوبولاني وصناعة الفراغ الجغرافي: في تفكيك الخرائط الاستعماريّة وإعادة إنتاج المجال السياسي المغاربي
إيطاليا تلغراف * الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه – مدخل تأسيسي: حين يتحوّل الخط المستقيم إلى قدر جيوسياسي هل ترسم الخرائط الدول، أم أن الدول تفرض خرائطها بأثر رجعي لتُخفي عنف التأسيس؟ وما الذي يجعل من ترسيمٍ استعمارٍي بسيطٍ على ورق الجيوش، أساسًا لشرعيّة سياسيّة لاحقة؟ ليست هذه أسئلة تاريخيّة محضة؛ بل محاولة لكشف اللحظة التي تحوّلت فيها المعرفة إلى استعمار ناعم، والمجال إلى فراغ مُفترض وجب ملؤه بسلطة جديدة. في هذا السياق العام، يظهر اسم (كزافييه كوبولاني)، ليس فقط كضابط ميداني فرنسي، بل كمهندس لنموذج جغرافي سياسي يعيد تشكيل المجال المغاربي على أنقاض أنماط سيادة تقليديّة. – أولًا: كوبولاني وهندسة 'الفراغ' الرمزي: الزوايا الصوفيّة كمجال سيادة مستهدف إلى أي مدى يمكن اعتبار بناء الكيان الموريتاني فعلًا استعماريًا محضًا لا يعكس تحوّلًا ذاتيًا في البنية السياسيّة للمنطقة؟ منذ حلوله بالسودان الفرنسي سنة 1898، لم يتصرف كوبولاني كموظف إداري، بل كمخطط جيو-أنثروبولوجي مسكون بهاجس السيطرة على شبكة الزوايا الصوفيّة، باعتبارها النسيج المؤسِّس لامتداد السيادة الرمزيّة للمخزن المغربي جنوب الأطلس. في كتابه المرجعي (Les confréries religieuses musulmanes)، لم يكتف بجمع المعطيات حول التصوُّف، بل رسم خريطة استخباراتية دقيقة للبنى الاجتماعيّة والروحيّة التي كانت تقاوم التشظي السياسي. فما قام به، بحسب المؤرخة (جنيفيف فيويومان)، هو تحويل الزوايا من فاعل ديني-اجتماعي إلى 'قضية أمنيّة' ينبغي ضبطها معرفيًا قبل تطويعها عسكريًا. لكن، هل كانت هذه المعرفة الإبستيمولوجيّة بريئة؟ أم أنها شكّلت الحاضنة النظرية لتفكيك السيادة الترابيّة، عبر نزع الشرعيّة عن البنيات التقليديّة غير المُمركزة؟ – ثانيًا: الزوايا الصوفيّة والبيعة: سيادة شبكيّة في مواجهة هندسة الخطوط هل تمثّل الزوايا نمطًا بديلًا من السيادة خارج منطق الدولة الترابيّة؟ قبل أن تُرسم الحدود بالمسطرة فوق خرائط القيادات العسكريّة الفرنسيه، كانت السيادة في الجنوب تُمارس عبر شبكات ولاء ديني وبيعة رمزية، تتجاوز منطق المركز وتعيد تعريف المجال من الداخل. الزوايا الصوفيّة الكبرى، وعلى رأسها زاوية الشيخ ماء العينين، لم تكن مجرد طرق صوفيّة دينيّة، بل مراكز إشعاع سياسي واجتماعي عابر للقبيلة. لقد شكّلت امتدادًا عضويًا للمخزن المغربي، من دون أن تذوب فيه كليًا، مما منحها موقعًا رماديًا بين الدولة والمجتمع. وهذا ما جعلها مستهدفة بالضبط: إذ لا يمكن استيعابها ضمن النموذج الكولونيالي إلا عبر تفكيك منطقها وتمفصلاتها الداخليّة. فهل كان انهيار هذا النمط الزوايي ناتجًا عن ضعفه الهيكلي؟ أم عن تحوّل الخرائط نفسها إلى أدوات لإلغاء التمثّل الرمزي للسلطة في المجال؟ – ثالثًا: خرائط من ورق: من التخطيط العسكري إلى إنتاج الدولة هل يمكن لدولة أن تُولد من خريطة؟ سنة 1904، تلقى كوبولاني أوامر من رئيس الحكومة الفرنسية بإعادة هندسة جنوب المغرب سياسيًا. فكان أن رسم على مكتبه في سان-لويس حدود كيانين: 'موريتانيا الغربية' و'الصحراء الغربية'. خطوط مستقيمة بدت وكأنها تُبتر الذاكرة لا الأرض فحسب، وتُعلّق سيادة الخرائط على مشجب الدولة المقبلة. هذا الترسيم لم يكن فعلاً إداريًا عابرًا، بل لحظة تأسيس ميتافيزيقية لكيانات لم تكن موجودة قبل تدخل القلم الكولونيالي. فهل يمكن بعد ذلك الحديث عن 'سيادة' تتجاوز من أنشأها؟ وكيف نتعامل مع واقع سياسي نشأ على أساس خطوط لا على أساس شعوب؟ – رابعًا: مقاومات رمزيّة بلا تراب: حين تصبح البيعة فعلًا جيوسياسيًا هل كانت مقاومة الزوايا فعلاً دفاعيًا أم مشروعًا سياسيًا موازيًا؟ لقد واجه مشروع كوبولاني مقاومة من ثلاثة مراكز زوايا: 1. الشيخ ماء العينين، 2. الشيخ سعد بوه، 3. والشيخ سيدي بابا. هذه القوى لم تعتمد السلاح وحده، بل شرعت في حشد الرمزية، وإعادة تأويل البيعة كوسيلة لتوحيد القبائل على قاعدة ولاء سياسي عابر للجغرافيا الاستعمارية. لقد مثّلت الزوايا شكلًا متقدّمًا من المقاومة الرمزية، غير أن مفعولها السياسي ظل محصورًا في بعدها القيمي، مما جعلها عاجزة عن مجاراة آليات التفتيت الإداري الحدودي. فهل خسرت الزوايا المعركة لأنها لم تكن تُدرك منطق الدولة الحديثة؟ أم لأنها كانت تُراهن على ذاكرة مشتركة لم تعد تكفي أمام سلطة الخريطة المدعومة بالبندقية؟ خامسًا: حين تُصبح الخريطة قدرًا: في منطق السيادة المؤجلة هل يمكن اليوم تحرير الجغرافيا من الذاكرة الاستعمارية؟ يبدو أن ما فعله كوبولاني لم يكن مجرد ترسيم حدود، بل تفكيكًا منهجيًا للسيادة المغربية التاريخيّة في الجنوب، عبر نزع الشرعيّة الرمزيّة التي مثّلتها الزوايا. وحتى حين تنازلت فرنسا عن 'الصحراء الغربية' لصالح إسبانيا، ظلت الحدود الكولونياليّة قائمة، تُربك كل محاولات إعادة بناء المجال ضمن منطق وطني موحّد. أليس هذا تأكيدًا على أن الجغرافيا قد تُصاغ خارج إرادة سكانها، وتُحوّل إلى معطى فوقي تُبنى عليه السياسات والسرديات؟ – سادسًا: بين فقه الدولة وفقه الجماعة: الفتوى حين تُغفل السياق العام هل يُطلب من الفقيه أن يُفتي بمنطق الجماعة العابرة للحدود، أم ضمن الدولة الحديثة بصفتها الحاضن الشرعي للأمة؟ تصريح الشيخ محمد الحسن ولد الددو حول الصحراء المغربية يكشف تناقضًا بين تصور فقهي كلاسيكي وتمثل حديث للسيادة. ففي حين ترتكز الدولة الوطنيّة المعاصرة على منطق السيادة القانونية والاعتراف الدولي، لا يزال بعض الفقهاء يتعاملون مع الجغرافيا الإسلامية كجسد رمزي موحد، متجاهلين أن ذلك التصور يُفضي إلى فوضى سياسية، ويُبرر دون قصد، تدخلات خارجيّة باسم التضامن الديني. فهل ما زال الفقيه معفيًا من فهم التوازنات الجيوسياسية؟ أم أن فقه المرحلة يقتضي إعادة تأهيل الخطاب الديني بمنطق الدولة لا بمنطق الجماعة؟ – سابعًا: نحو فقه بذاكرة سياسية: بين البيان الشرعي وإدراك المآل السيادي ما الحاجة اليوم إلى فقه يُدرك التاريخ ولا يتجاهله؟ إن ما صدر عن الشيخ الددو، رغم مقامه العلمي، يكشف غيابًا مقلقًا للوعي بالمآلات. إذ كيف يمكن لفقيه أن يُصدر فتوى في قضيّة ذات حساسية سيادية دون معرفةٍ معمقة بالجذور الجغرافية، والمسارات القانونيّة، والتراكمات الرمزية التي رسخت مغربية الصحراء؟ أليس هذا تغافلًا عن مسؤولية الكلمة، وتفريطًا ضمنيًا في وحدة المجال المغاربي، الذي لا يزال ضحية لمشاريع تفتيتيّة تُدار باسم تقرير المصير، بينما تُنتج مزيدًا من الانقسام والتبعيّة؟ – خلاصة مفتوحة: حين تُفقد الفتوى شروطها: أي دور للفقيه في زمن الخرائط؟ هل تظل الفتوى حجة إذا فُقدت شروطها المعرفية والسياسية؟ وهل يُعقل أن يستمر الفقيه في إصدار أحكامه خارج سياق الدولة، ودون إدراك لتعقيدات الجغرافيا السياسية؟ إن تصحيح الزلة الفقهية لا يكون بالخصومة، بل بإعادة توجيه الخطاب نحو المقاصد الكبرى: صون السيادة، حفظ المجال، وتثبيت الشرعية بمفهومها المركب. ربما يكون السؤال الأعمق هو: هل نحتاج إلى فقه جديد لا يُقدّس الخرائط، ولكن أيضًا لا يتجاهلها؟ فقه لا يُنتج الانقسام باسم المبادئ، بل يُعيد وصل ما قُطع، بوعي تاريخي، وضمير استراتيجي، وعقل سياسي يميّز بين الشرعي والمشروع، وبين البيان والانحياز. *************** (*) – نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّهِ؛ مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي. له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020). إيطاليا تلغراف التالي صرخة فلسطينية في غزة جراء المجاعة التي تفتك بأهالي القطاع


إيطاليا تلغراف
منذ 6 أيام
- إيطاليا تلغراف
بين أخلاقيّات التقاعد ومآزق ما بعد الوظيفة: سؤال المواطنة في الدول المتقدمة والناميّة
إيطاليا تلغراف * الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه (*) هل يرتبط التقاعد بانتهاء الدور أم بانبثاق مسئوليّة جديدة؟ وهل تمثل نهاية الوظيفة في الدول الوطنيّة المتعثرة انفكاكًا من الواجب، أم تعبيرًا عن خلل عميق في تصور الدولة لمواطنيها وأدوارهم التاريخيّة حيث ربطتها بالنهايات؟ ثم، ما الذي يجعل من المتقاعد، في بعض السياقات العامة، خطرًا محتملاً على الوطن، بدل أن يكون حارسًا لذاكرته وخبرته؟ لا تخطئ العين الرّاصِدة والفاحصة، للفوارق الجوهريّة بين ما يُنتظر من المتقاعد في السياقات المتقدمة، وما يُنتج عنه في فضاءات الدول المتأخرة أو المتعثرة في مشروعها الحداثي الوطني. ففي الأولى، يُنظر إلى التقاعد لا بوصفه ختامًا، بل امتدادًا وظيفيًّا لدور الفرد، في إطار مدني متماسك، قائم على استمراريّة المساهمة في إنتاج المعنى والخبرة والمعرفة. أما في الثانية، فغالبًا ما يتحول التقاعد إلى مسلك انكفاء، أو إلى منصة موازيّة للتسفيه والتشكيك والتبخيس والعدميّة والتواطؤ أحيانًا. – أولًا: ما بعد الوظيفة… هل هو فراغ أم استدعاء للخبرة المتراكمة؟ في الدول التي بلغت قدرًا معتبرًا من الوعي المؤسساتي والسيادة الرمزيّة، لا يُسمح بأن تتحول الخبرة الوطنيّة إلى مادة للنسيان أو التبديد. فالمتقاعد؛ خاصة إن كان من الأطر العليا، أو من الشخصيّات العسكريّة أو التكنوقراطيّة؛ يُعاد دمجه في دوائر البحث، أو الاستشارة، أو التأطير الاستراتيجي. يُعاد تدوير تجربته في شكل حيويٍّ جديد، يضمن حفظ الذاكرة المهنيّة، ويمنع الفجوات السياديّة التي قد تَنتج عن انقطاع سلاسل ومسارات المعرفة والتجربة. لكن السؤال المحرج يظل قائمًا: لماذا تفشل بعض الدول في تحويل التقاعد إلى طاقة إستراتيجيّة، بدل أن تُفرغه من أي مضمون؟ وهل يعود ذلك إلى اختلال في البنية السياسيّة، أم إلى خلل في تمثل الأفراد لأدوارهم ما بعد الوظيفة؟ – ثانيًا: من خدمة الوطن إلى نقد الزملاء الإساءة إليهم… أين تتسرب الأخلاقيّات؟ في بيئات غير مستقرة سوسيو-مؤسساتيًّا، يُلاحظ بوضوح ميل بعض المتقاعدين إلى الانتقال من خانة 'الفاعل' إلى خانة 'الناقد المهووس' أو حتى 'المتربص السلبي'، بل قد يتحول البعض إلى مصادر تحريض وتبخيس تجاه رفاقهم الذين مايزالون في قلب العمل الوطني أو الإداري. ومن المفارقات المؤلمة أن بعض هؤلاء يستنزفون ما تبقى من حضورهم الرمزي في إنتاج الأكاذيب ونسج الشائعات، أو الاصطفاف ضمن شبكات تآكل الثقة داخل الدولة. هل هو تعبير عن خيبة نفسيّة؟ أم عن تراكم استياء مكبوت لم يجد مخرجًا مؤسساتيًّا راشدًا؟ أم أن المشكل أعمق، ويتعلق بغياب ثقافة 'التقاعد الإنتاجي' نفسها، كجزء من البناء القيّميّ للدولة والمجتمع؟ ثالثًا: بين خيانة الذاكرة وخيانة الوطن… أين تنتهي حرية المتقاعد؟ لا يخفى أن في بعض الحالات المتطرفة، تتحول خبرة بعض المتقاعدين إلى مصدر تهديد مباشر، عبر تسريبات حسّاسة، أو تخابر مع جهات خارجيّة، أو اصطفاف في محاور إقليميّة معاديّة. وهي ظاهرة تطرح أسئلة مقلقة حول حدود الانتماء بعد الوظيفة: هل الانتماء للوطن مشروط بالراتب والترقيّة والموقع والتمديد في مسار العمل؟ وهل يتحول بعض الأفراد، حين يخرجون من دائرة الضوء، إلى مشاريع انتقام رمزي وسياسي؟ قد يبدو هذا السؤال صادمًا، لكنه ضروري في مجتمعات ما تزال تعاني من ضعف المؤسسات الرقابيّة الأخلاقيّة، ومن غياب سياسات واضحة لحكامة وإدارة وتدبير مرحلة ما بعد الوظيفة. فالوظيفة، في هذه السياقات، لا تُعدّ التزامًا وطنيًّا طويل الأمد، بل أحيانًا 'صفقة وقتيّة'، ما إن تنتهي حتى ينكشف وجه آخر للفرد، أقل التزامًا وأكثر هشاشة أخلاقيّة. – رابعًا: التقاعد كأزمة معنى في الدول المتعثرة تنمويّاً تكشف هذه الانحرافات عن إشكال مركّب في دول الجنوب: أين يتوقف 'الفرد الوطني' ويبدأ 'الفرد المتسيِّب'؟ وما الذي يمنع استمرار الدولة في مرافقة رموزها وكفاءاتها حتى بعد مغادرتهم المؤسسات؟ إن غياب مشروع حقيقي لإدماج المتقاعدين في شبكات الدعم المعرفي أو الاستشاري، هو ما يجعل منهم أحيانًا ضحايا للتمدد في الفراغ، أو بيادق في يد أطراف لها مصلحة في خلخلة الدولة من داخلها. وهذا ما يبرز الحاجة إلى تصور جديد لتدبير مرحلة ما بعد التقاعد، لا بوصفه خروجًا من الخدمة، بل بوصفه انتقالًا إلى نمط جديد من العطاء، تُراعى فيه شروط الكرامة، وتُبنى فيه جسور التقدير، وتُستثمر فيه التراكمات. – خامسًا: نحو إعادة تأطير المواطنة ما بعد الوظيفة ثمة حاجة ماسّة اليوم إلى تجاوز النمط التبخيسي ونشر الفكر العدمي والتشكيك والتحريض والإساءة والوشاية؛ لمفهوم التقاعد، والتأسيس لثقافة جديدة تدمج الكفاءات المتقاعدة ضمن إستراتيجيّة الدولة في التخطيط والاستباق والتوجيه العام. فالعقل الاستراتيجي لا يُحال على التقاعد، والخبرة لا تنتهي بقرار إداري، والوفاء للوطن لا يُقاس بنهاية المرتب أو الزي الرسمي. من هنا، فإن الإشكال الحقيقي ليس في المتقاعد كفرد، بل في الثقافة التي تفرغه من أي وظيفة بعد الوظيفة، وتتركه إما نهبًا للعدميّة أو حطبًا لصراعات جانبيّة. والمفارقة أن الدول التي تربط مشوار موظفيها بالنهايات؛ ولا تعرف كيف تُكرّم أبناءها في وقت العطاء، غالبًا لا تعرف كيف تحميهم في وقت العزلة. – خلاصة واستنتاجات مفتوحة: هل يمكن أن نعيد للتقاعد معناه السيادي؟ إن السؤال العميق الذي ينبغي أن يُطرح اليوم ليس عن تقاعد الأفراد، بل عن تقاعد الدولة نفسها عن مسؤولياتها في التأطير والاحتواء والمواكبة. هل تستطيع الدولة أن تخلق منظومة 'وفاء مؤسساتي' للمتقاعدين؟ وهل يمكن تحويل هذا الرصيد البشري الضخم إلى خط دفاع رمزي واستراتيجي عن الوطن، بدل أن يصبح بعضه مادة للفتنة والتفكك والتسريبات؟ هكذا، يصبح التقاعد في الدول المتقدمة استمرارًا للمواطنة، وفي الدول المتعثرة اختفاءً لها، إلا إذا أعيدت هندسة العلاقة بين الدولة وذاكرتها البشريّة بما يليق بتاريخها وسيّادتها. * إدماج المتقاعد: من الاستكانة إلى العطاء في مواجهة الأزمات المتعددة التي تعيشها الدول الناميّة، لم يعد التقاعد نهاية وظيفة، بل بات اختبارًا لمقدار ما تحتفظ به الدولة من ولاء رمزي وخبرة إستراتيجيّة. فبدل أن يتحول المتقاعد إلى عبء أو كائن عدمي، ينبغي التفكير فيه كفاعل اجتماعي-معرفي، لا يزال قادرًا على الإسهام في التنميّة والتوجيه والاستشراف. في هذا الإطار، نقترح تسعة مسارات عملية مبتكرة، قابلة للتطبيق والتنزيل: 1. استغلال بنك الذاكرة الوطنيّة: تأسيس منصة رقميّة وميدانيّة تستقبل شهادات المتقاعدين وفق ملفاتهم المهنيّة، تُحوَّل إلى وثائق معرفيّة ومناهج داخليّة تُفيد الأطر الجديدة، وتُحصّن الذاكرة المؤسسيّة من التبديد. 2. اللجوء إلى عقود استشاريّة ما بعد التقاعد: اعتماد نظام مباريات دوريّة تمنح المتقاعدين عقودًا مؤقتة في الاستشارة والتأطير، وفق معايير الابتكار والخبرة، بدل ربط الفعاليّة بالمنصب فقط. 3. منح جواز المتقاعد الوطني: بطاقة امتياز تُمنح بناءً على المساهمة الفعلية بعد التقاعد (تأطير، مقترحات، عمل تطوعي)، تُخول لمستحقيها خدمات خاصة، تحفيزًا وتكريمًا مبنيًا على الجدوى لا على العمر. 4. إحداث حاضنات المتقاعدين للمشاريع الناشئة: فضاءات جامعيّة وتنمويّة يُدمج فيها المتقاعدون كموجّهين لتجارب الشباب الرياديّة، بما يخلق تفاعلًا بين الأجيال ويمنح المتقاعد دورًا تربويًا مواكبًا. 5. تأسيس شبكات علاقات الحكماء المحليّين: تأسيس مجالس غير تنفيذيّة من متقاعدين خبراء، تُدلي بآرائها الاستشاريّة حول القضايا المحليّة، ما يُضفي شرعيّة رمزيّة على القرار ويعزز الحكامة التشاركيّة. 6. إنشاء منصّات التقاعد المقاولات: دعم المتقاعدين الراغبين في إطلاق مشاريع إنتاجيّة أو مجتمعيّة، عبر توفير التأطير القانوني والتقني والتمويل الجزئي، وتحويلهم من مستهلكين للمعاش إلى فاعلين اقتصاديّين. 7. التأثير في مسلسل ومسارات الإبداع المتأخر: برنامج لدعم المتقاعدين في إنتاج أعمال ثقافيّة وفنيّة وتوثيقيّة، تعبيرًا عن أن العطاء لا يتحدد بزمن الوظيفة، بل قد يزدهر بعدها. 8. برنامج الاعتراف المعكوس: تكريم سنوي للمؤسسات التي تحافظ على صلات وظيفيّة أو استشاريّة مع متقاعديها، تشجيعًا لثقافة الوفاء المهني والتقدير الممتد. 9. نوادي التأمل الاستراتيجي: مختبرات فكرية يقودها متقاعدون لتحليل التحديات الوطنيّة، واقتراح حلول ورؤى، تُنشر في تقارير دورية موجّهة لصناع القرار. * خاتمة: لم يعد السؤال: كيف ندير المتقاعد؟ بل: كيف نستثمره؟ ففي كل متقاعد وطني إمكانية مستقبل، وفي كل ذاكرة مهنيّة طاقة إستراتيجيّة كامنة مهدورة. الدولة القادرة على تحويل التقاعد من انسحاب إلى امتداد، هي الدولة التي تحسن حفظ ذاكرتها، وصيانة كفاءاتها، وتثمير رأسمالها البشري حتى الرمق الأخير. ____ (*)- نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّهِ؛ مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي. له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020). إيطاليا تلغراف السابق رسالة من داخل غزة عن معركة ما بعد انتهاء الحرب


الشروق
٠٨-٠١-٢٠٢٥
- الشروق
أما لهذا الليل الداجي من آخر؟
الرأي لقد طال هذا الليل الصهيوني الداجي في غزة العزة، وفي فلسطين عموما، فاحلولكت ظلمته، وتضاعفت محنته، وضاقت بأهوال جرائم، أرض فلسطين، وحجارته، وتربته. تجردت هذه العصابة الصهيونية الغازية، من كل أنواع القيم، وكفرت –جهرة- بكل الذمم، وتحدت بطغيانها وجبروتها، كل الأمم. إنها تهدم الأرض على ساكنيها، فلا يوقفها وازع، ولا يحول بينها وبين جرائمها رادع، فهي تحرق المستشفيات، وتُغير على المخيمات، وتتباهى بما تفعل، أمام وسائل الإعلام، وأجهزة الكاميرات. وأين تنظيم الأمم المتحدة على الباطل، من هذا الذي يحدث في وضح النهار؟ وأين مجلس الأمن من كل هذا الظلم والحيف؟ من أين يستمد الصهاينة كل هذه القوى، وهذا الطغيان والجبروت؟ ألم يعد في الأرض عدل، أو حق، يتصدى لهذا الطاغوت؟ من يحل لنا لغز هذه العصابة الوافدة على أرض فلسطين، والتي كانت بمثابة الطائفة المهاجرة التي تطلب الحماية، فتحولت إلى مالكة، تزرع الموت والدمار؟ نريد ضليعا بفقه السياسة، يشرح لنا سر هذا التواطؤ، وهذا الصمت الذي يلوذ به أصحاب النفوذ والرئاسة، وذوو السماحة والقداسة، أمام ما يأتيه الصهاينة المتوحشون من مجازر؟ أين غاب القوم الجبارون، الذين كان اليهود يخشون دخول الأرض، لأنهم فيها موجودون؟ هل يمكن تعليل هذا، بقوة اليهود في العالم؟ ولكن أين هي نسبة العبرية من العربية في العالم؟ وأين هي نسبة الديانة اليهودية، مقارنة بالديانة الإسلامية في الكون؟ وماذا يمثل الصهاينة عددا، مقارنة بعدد المسيحيين، والعلمانيين، واللادينيين؟ وكيف تغلبت الأقلية على الأغلبية؟ وكيف سادت الصهيونية على الأديان بجميع مذاهبها وطوائفها؟ إذا عُرف السبب بطل العجب. إن الصهيونية تملك الذهب المسكوك، وتملك الأورو والدولار في كل البنوك، وتملك الحاخام السياسي الذي يعمل على تشويه الديانة والسلوك. إن هذه العناصر، هي التي ملكت العالم، بملء الجيوب، وتحويل الإنسان من مؤمن بإنسانيته، وربوبيته، محبوب ومرغوب، إلى حيوان اقتصادي، تحكمه غرائزه، ويستبدُّ به الهوى المقلوب. هذه التصريحات المساندة للصهاينة، وتشجيعهم على ارتكاب جرائمهم الوحشية، في غزة، وجنين، والفيحاء، وفي لبنان، والعراق وصنعاء، إن هي إلا دليل على الانسلاب الذي أصاب الساسة في أقطار العالم من الحكام والأمراء. ولو احتكم العالم إلى منطق السماء، لأدرك الفرق بين من يؤمن بكل الأنبياء، ومن يقتل الأنبياء، ويكفر بقوانين السماء. أليس أحق الناس بقدس الأنبياء، من يؤمن بجميع الأنبياء؟ ولو احتكم العالم إلى قانون حق الإنسان في الحياة، لوقف مع ضحايا القتلى من الأطفال والنساء، والشيوخ والضعفاء، ولانتقم من قتلة الأبرياء. ولكن العالم المادي الغربي، بجميع إيديولوجياته، لا يؤمن إلا بالمادة، فحاد بذلك عن الجادة، وصار يزوّد المعتدين بكل أنواع الأسلحة الفتاكة. يطالب الساسة الغربيون بتحرير الأسرى الصهاينة وهم بضع عشرات، ولا ينبسون ببنت شفة عن الآلاف من السجناء الفلسطينيين والفلسطينيات. ويموت العشرات من الفلسطينيين يوميا، من جميع الأعمار، بالقصف، والاغتيال، والبرد، والجوع، والعطش، والمرض، فيعتبر المتواطئون مع إسرائيل، ذلك من 'حق إسرائيل في الدفاع عن وجودها'. هل وجود إسرائيل وجود مقدس، ووجود الفلسطينيين في أرضهم، وهم المعتدى عليهم، هو وجود مدنّس؟ إنّ الضربات التي تكيلها المقاومة للمعتدين، والآلام التي يتجرّعونها، من كل الجهات، وفي كل حين، والبسالة التي يظهرها أبطالنا في اليمن، وفي غزة، وفي جنين، لهي خير دليل على صدق الحق المبين، ﴿إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾[سورة النساء، الآية 104]. إنه المنطق السياسي الجائر، الذي يسوّي بين المعتدى عليه، وبين المعتدي الغائر، ويمالئ في المنابر الدولية، الظلم، والعنجهية، والعدوانية، على ما ألحق الذي تدافع عنه بعض الدول كالجزائر. وليت الأمر اقتصر على الغرب الذي يكيل بمكيالين، ويصب الزيت في طاحونة الصهاينة المعتدين، بل تعالوا بنا إلى مواقف المتخاذلين في خندقنا المشين. على الصعيد الفلسطيني هناك قمع وتنكيل مستمرّ بالمقاومين في جنين. وعلى الصعيد العربي الإسلامي، هناك شماتةٌ بالجهاد والفداء، وتطبيع وتصالح مع الأعداء، ومباركة الاعتداء بدل التضامن مع الأشقاء.. فالله نشكو إليك زيف الإخاء وجبن العلماء، وطعن الأقرباء. ونحمد الله على كل حال، فليلُ الصهاينة مهما طال، فإن الفجر الصادق، هو المآل، والعدو الصهيوني –حتما- إلى زوال، والحق هو المنتصر على الباطل في كل مجال. إنّ الضربات التي تكيلها المقاومة للمعتدين، والآلام التي يتجرّعونها، من كل الجهات، وفي كل حين، والبسالة التي يظهرها أبطالنا في اليمن، وفي غزة، وفي جنين، لهي خير دليل على صدق الحق المبين، ﴿إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾[سورة النساء، الآية 104]. وكما يقول الشاعر السوري نزار قباني: لن تجعلوا من شعبنا في هذه الأرض التي تلبس في معصمها أسوارة من زهر فهذه بلادنا فيها وُجدنا منذ فجر العمر من ورق المصحف نأتيكم من السطور والآيات لن تفلتوا من يدنا فنحن مبثوثون في الريح، وفي الماء، وفي النبات ونحن معجونون بالألوان والأصوات لن تفلتوا لن تفلتوا فكل بيت فيه بندقية ومن ضفة النيل إلى الفرات لن تستريحوا معنا كل قتيل عندنا يموت آلافا من المرات [الأعمال الكاملة ص229]. فيا بني أبناء أمتي! إن الزمن زمن ابتلاء، واستشهاد، وفداء، وإن الصحف التاريخية قد نُشرت، وإن الأقلام قد بريت، وإن الأسلحة قد شُحذت، فويل لمن لم يع التاريخ، ولم يستخلص منه العبر، ففي غزة اليوم، يكمن المبتدأ والخبر. إن أبواب التوبة مفتوحة، خصوصا بعد أن أصبحت معالم وطرق العمالة والخيانة مفضوحة ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[سورة الممتحنة، الآية 8-9]. ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح، وما الإصباح منك بأمثل. شارك المقال