
الصحراء الغربية: هل ينهي ترامب نزاعا منسيا منذ 50 عاما؟
في نهاية فترته الرئاسية الأولى، كتب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تغريدة على تويتر، فجرت قنبلة دبلوماسية، في قضية "مجمدة"، ونزاع عربي، عمره 50 عاما.
أعلن ترامب يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 2020 اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على إقليم الصحراء الغربية، المتنازع عليه بين الرباط وجبهة بوليساريو، التي تكافح من أجل إقامة دولة مستقلة للشعب الصحراوي.
وغيرت تغريدة ترامب الموقف الأمريكي من الحياد إلى مساندة صريحة للمقترح المغربي، بمنح الصحراويين حكما ذاتيا، تحت سيادة المملكة المغربية.
وبعد انتخاب ترامب لفترة رئاسية ثانية، عاد الحديث عن صفقاته، وجدد هو تعهداته بإنهاء الحروب والنزاعات، في أوكرانيا والشرق الأوسط، بطريقته الخاصة.
والمعروف أن ترامب ينظر إلى القضايا السياسية والنزاعات الدولية بمنطق رجل الأعمال. لذلك عرفت مبادرته لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي "بصفقة القرن". وهو يتحدث عن إعادة إعمار غزة، مثلما يتحدث المستثمرون عن مشاريع الترقية العقارية.
وبهذا المنطق، قرر اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، مقابل أن تنضم الرباط إلى "الاتفاقيات الإبراهيمية" الشهيرة، لتطبيع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، رفقة أبوظبي والمنامة والخرطوم.
وتتناقض "صفقة" الرئيس الأمريكي بخصوص السيادة المغربية على الصحراء الغربية مع اعترافه بالقدس كاملة عاصمة لإسرائيل.
فالعاهل المغربي، محمد السادس، هو رئيس "لجنة القدس"، التي أسسها والده الملك، الحسن الثاني، في 1975، وكان رئيسا لها حتى وفاته.
وتقول اللجنة على موقعها الإلكتروني إن مهمتها "التمسك بالحرم القدسي الشريف وجميع الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية"، التي تشكل "جزءا من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967"، وكذلك مواجهة "تهويدها ومحاولات طمس هويتها العربية الإسلامية".
وتجاهل ترامب رأي الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، وقرارات الأمم المتحدة، بخصوص السيادة على القدس الشرقية والجولان ومزارع شبعا.
وكذلك لم يشر في تغريدته عن الصحراء الغربية إلى الصحراويين ومطالبهم، ولا إلى موقف الأمم المتحدة والقانون الدولي.
وقال: "إن مقترح الحكم الذاتي المغربي يتسم بالجدية والمصداقية والواقعية، وهو الأساس الوحيد لحل عادل، من أجل تحقيق السلم والازدهار".
وسجلت الدبلوماسية المغربية نصرا عظيما بتأييد الولايات المتحدة لمقترح الحكم الذاتي، الذي تطرحه منذ 2007. وشجع تحول موقف واشنطن دولا أوروبية، مثل فرنسا وإسبانيا، على الميل الصريح إلى الطرح المغربي لحل النزاع.
وتتسابق باريس ومدريد، عبر شركاتهما، إلى اغتنام فرص الاستثمار المجزية، التي تعرضها الرباط، في الأراضي الصحرواية، الواقعة تحت سيطرتها، مقابل تأييد مطالبها بالسيادة على الإقليم.
وأثار موقف فرنسا وإسبانيا غضب الجزائر، التي تعترف "بالجمهورية الصحراوية"، وتدعم جبهة بوليساريو، ومطلب تقرير المصير، الذي ترفعه أمام الأمم المتحدة، لحل النزاع مع المغرب.
وعندما عرض ترامب خطته لإنهاء الحرب في غزة، تحدث بمنطق المستثمر، فقال للصحفيين "سنأخذ غزة، وسنملكها ونطورها".
واقترح ترحيل أهلها إلى مصر والأردن. وعندما سأله الصحفي عن الجانب الإجرائي للمبادرة، رد عليه: "فكر في الأرض على أنها مشروع عقاري".
ووعد الرئيس الأمريكي بتحويل القطاع، بعد تفريغه من سكانه الفلسطينيين، إلى "ريفييرا الشرق الأوسط". وأثارت تصريحاته إدانة واسعة في العالم، بينما أشاد بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وأنصاره.
وبمنطق "المشروع العقاري"، لا تختلف الصحراء الغربية، عن غزة، فهي إقليم متنازع عليه منذ نصف قرن من الزمن، ولها واجهة بحرية على المحيط الأطلسي تضاهي، بشواطئها ومياهها، السواحل الإسبانية، فضلا عن ثرواتها الطبيعية الهائلة.
وربما يؤهلها هذا لتكون "مشروعا" يغري طموحات الرئيس الأمريكي "بامتلاكها، وتطويرها". وتحويلها إلى "ريفييرا الأطلسي"، على حد تعبير خبير العلاقات الدولية في المجلس الأوروبي، هيو لوفيت.
وقال لوفيت لبي بي سي إنه لن يتفاجأ بأن "يسوق المغرب هذا التصور لترامب سعيا من الرباط لجلب المزيد من الاستثمار في الإقليم".
ولم يكن الرئيس الأمريكي ليقدم للمغرب "اعترافا"، بهذا الحجم، دون أن ينتظر مقابله مصلحة استراتيجية لبلاده.
والواقع أن اعتراف ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية لم يكن نتيجة لتطبيع الرباط لعلاقاتها مع إسرائيل، بل إن العكس هو الذي حدث.
فقد ذكرت القناة 13 الإسرائيلية أن نتنياهو كان يسعى، منذ سنوات طويلة، لإقناع الولايات المتحدة بالاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، وأنه التقى سرا بوزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، في 2018 لمناقشة الأمر.
وأضافت القناة أن رجل الأعمال اليهودي المغربي، ياريف الباز، المقرب من ترامب، هو الذي نظم اللقاء.
وفي يوليو/تموز 2022 نشر جاريد كوشنر، وزوجته إيفانكا ترامب، صورا لهما، على شواطئ الداخلة، في الصحراء الغربية. وكتبا تعليقا على الصور أنهما في المغرب، ربما تأكيدا على التزام الرئيس الأمريكي بقراره.
ماهي الصحراء الغربية؟
الصحراء الغربية إقليم في منطقة المغرب العربي، شمال غربي أفريقيا. وتبلغ مساحة اليابسة فيها 226 ألف كيلومتر مربع (مساحة المغرب 446550 كيلومتر مربع). ولها واجهة بحرية على المحيط الأطلسي، لا تبعد عن جزر الكناري الإسبانية، إلا بنحو 50 كيلومترا.
وتحتوي أراضيها القاحلة على ثروات طبيعية هائلة، منها الفوسفات (المغرب من أكبر مصدري الفوسفات في العالم)، والحديد واليورانيوم والذهب، وربما النفط والغاز، فضلا عن معادن نادرة أخرى، يجري استكشافها أوالتنقيب عنها، في الإقليم.
ويتمد ساحل الصحراء الغربية على المحيط الأطلسي بطول 1200 كيلومتر (ساحل الجزائر طوله 1200 كيلومتر). وتعد مياهها البحرية من أغنى المياه في العالم، من حيث الثروة السمكية.
وتتوافر فيها إمكانيات لتوليد الطاقات المتجددة، تسد احتياجات المغرب العربي كله.
الصحراء الغربية مستعمرة إسبانية سابقة، أدرجتها الأمم المتحدة، منذ 1963، ضمن مجموعة من الأقاليم "غير المتمتعة بالحكم الذاتي". ولا تزال، منذ 1975 إلى اليوم، إقليما متنازعا عليه، بين المغرب والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، بوليساريو.
وتطالب جبهة بوليساريو، منذ تأسيسها في عام 1973، بالاستقلال التام في الصحراء الغربية. بينما شرع المغرب، بعد حصوله على الاستقلال من فرنسا في 1956، في المطالبة بسيادته على الإقليم، الذي كانت تحتله إسبانيا، منذ 1884.
وفي بداية السبعينيات، تضاعفت الضغوط الداخلية والخارجية على إسبانيا، بخصوص وجودها في الصحراء الغربية. فاضطرت الحكومة الإسبانية إلى الرحيل عن الإقليم، وأعلنت في 1974 عن تنظيم استفتاء لتقرير مصير الشعب الصحرواي.
فالبلاد كانت تمر بمرحلة انتقالية صعبة، وحكومة الجنرال، فرانتشيسكو فرانكو، المريض، لم تكن قادرة على التعامل مع تمرد المسلحين الصحراويين، على الأرض، ومطالب المغرب ثم موريتانيا، بالسيادة على الإقليم، بعد اكتشاف الفوسفات فيه.
لكن إعلان إسبانيا عن إجراء استفتاء لتقرير المصير لم يعجب المغرب، فلجأ إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، لإثبات "حقوقه الشرعية" في الإقليم. ولذلك طلبت الأمم المتحدة رأيا استشاريا من المحكمة الدولية في دعاوى المغرب وموريتانيا.
وخلصت المحكمة إلى أن الوثائق والمعلومات، التي قدمت لها، "لا تثبت أي رابطة سيادة إقليمية بين الصحراء الغربية والمملكة المغربية أو موريتانيا". وأنها لم تجد "أي رابطة قانونية" تحول دون تطبيق مبدأ استفتاء تقرير المصير للشعب الصحراوي، وفق مبادئ الأمم المتحدة.
وبعد صدور القرار، دعا العاهل المغربي، الحسن الثاني، إلى "المسيرة الخضراء"، وهي تظاهرة شعبية، شارك فيها 350 ألف مغربي، توجهوا يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1975 نحو الحدود مع الصحراء الغربية، للضغط على الإدارة الإسبانية في الإقليم.
ومما جاء في خطاب الحسن الثاني إلى المغاربة يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1975: "غدا إن شاء الله ستخترق الحدود، غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غدا إن شاء الله ستطالون أرضا من أراضيكم، وستلمسون رملا من رمالكم وستقبلون أرضا من وطنكم العزيز".
وخرج عشرات الآلاف فعلا إلى الشوارع تلبية لنداء الملك، بتأطير من القوات المسلحة، ولكن لم يسمح إلا لعدد قليل منهم بعبور الحدود، رمزيا، حرصا على عدم إحراج السلطات الإسبانية.
وعجلت "المسيرة الخضراء" بمفاوضات، وقعت فيها إسبانيا يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1975 على اتفاق سلمت بموجبه ثلثي أراضي الإقليم (في الشمال) للمغرب، والثلث الباقي (في الجنوب) لموريتانيا، مع احتفاظها باستثمارتها في مناجم الفوسفات هناك.
ورفضت جبهة بوليساريو تقسيم الصحراء الغربية بين المغرب وموريتانيا. وتعهدت بالتصدي "للغزاة" المغاربة والموريتانيين على حد سواء. وفي فبراير/شباط 1976 أعلنت قيام الجمهورية العربية الصحرواية الديمقراطية، في بير لحلو.
وشرعت جبهة بوليساريو، بدعم من الجزائر وليبيا، في شن هجمات على مواقع القوات المغربية، التي انتشرت شمالي الإقليم، وعلى الجيش الموريتاني في المنطقة الجنوبية منه، ودفعت الاشتباكات بآلاف المدنيين الصحراويين إلى النزوح عن ديارهم.
ولجأ قطاع منهم إلى الفيافي النائية، التي تنعدم فيها مظاهر الحياة، وتصل الحرارة فيها إلى درجات لا يحتملها البشر. ونزح آلاف آخرون إلى الجزائر، حيث يقيمون في مخيمات بمنطقة تندوف الحدودية، إلى اليوم. وهناك مقر "الحكومة الصحرواية" المؤقتة.
وفي 1979، قررت موريتانيا، بعد انقلاب عسكري في البلاد، وبسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي كانت تمر بها، التخلي عن مطالبها في الصحراء الغربية، وسلمت المنطقة الجنوبية، من الإقليم، لجبهة بوليساريو، ووقعت على معاهدة سلام معها.
"الجدار العازل"
وأعلنت الرباط، إثر ذلك، عن ضمها للمنطقة الجنوبية من الصحراء الغربية. وشرعت، منذ بداية الثمانينيات، في بناء جدار رملي، يفصل، من الشمال إلى الجنوب، بين المناطق، التي تسيطر عليها القوات المغربية (80 في المئة)، وتلك التي بيد جبهة بوليساريو (20 في المئة).
ويمتد الجدار، الذي أنجزه الجيش المغربي، بمساعدة إسرائيلية، على مسافة 2700 كيلومتر، بارتفاع ثلاثة أمتار. وزرع حوله 10 ملايين لغم مضاد للأفراد، على منطقة بعرض مئات الأمتار. وتحرسه قوات عسكرية قوامها 100 ألف جندي.
وتقول الرباط إن "جدار الدفاع" يهدف إلى "منع تسلل المسلحين" الصحراويين، بينما ترى جبهة بوليساريو أنه "جدار العار"، الذي "يقسم البلاد، ويفصل بين آلاف العائلات". وتشبهه بالجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية.
وقف إطلاق النار وتقرير المصير
وبعد 16 عاما من الحرب المفتوحة بين جبهة بوليساريو والقوات المغربية، في الصحراء الغربية، وافق الطرفان في سبتمبر/ أيلول 1991 على وقف لإطلاق النار، توسطت فيه الأمم المتحدة. ونص الاتفاق على إجراء استفتاء لتقرير مصير الشعب الصحراوي، في السنة التالية 1992.
لكن مسار الاستفتاء توقف بسبب خلاف بشأن تحديد هوية من يحق لهم التصويت. فجبهة بوليساريو أصرت على أن تقتصر المشاركة على المسجلين في إحصاء سكان الصحراء الغربية في 1974، وذرياتهم، وهو ما كان سيضمن لها التصويت بنعم للاستقلال.
أما الموقف المغربي، فكان حريصا على أن تشمل المشاركة في الاستفتاء المغاربة المقيمين في الصحراء الغربية والصحراويين المقيمين في المغرب أيضا. وهو ما كان سيرجح حتما كفة أنصار الانضمام إلى المملكة.
وبعد وفاة الملك الحسن الثاني، تولى العرش نجله، محمد السادس، وأعلن في 2001 رفض بلاده لإجراء استفتاء لتقرير المصير في الصحراء الغربية. وفي 2003 اقترحت الأمم المتحدة الحكم الذاتي لمدة 5 سنوات، يتبعها استفتاء للشعب الصحراوي.
وردا على المقترح الأممي، طرحت الرباط في 2007 فكرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، فرفضتها جبهة بوليساريو في حينها.
وكانت الولايات المتحدة أول دولة في العالم تعترف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية في 2020، ثم تبعتها إسرائيل في 2023.
شعب مشرد على أرضه
يعيش الصحراويون، منذ عشرات السنين، مشردين في بلادهم، أو منفيين في مخيمات منسية خارج الحدود. قطعت الحروب أوصالهم، وتركتهم فريسة للألغام أوالطائرات المسيرة، في غفلة من العالم والإنسانية.
تجاوز عدد اللاجئين الصحراويين في الجزائر 170 ألفا، موزعين على 5 مخيمات بمنطقة تندوف، في جوف الحمادة، التي تعرف بأنها صحراء الصحراء، أو "بوابة جهنم". تبلغ حرارة نهارها 50 درجة مئوية، وليلها برد زمهرير.
أرض لا نبات فيها ولا ماء، وبحر من الرمال والعواصف لجأ إليه الصحرايون، هربا من الحرب في بلادهم، منذ 50 عاما. وفي انتظار العودة إلى مدن العيون والداخلة والسمارة وأوسرد، أطلقوا أسماءها على مخيماتهم.
وتدير جبهة بوليساريو مخيمات تندوف كما تدار الدولة، بمؤسساتها الإدارية وأجهزتها الأمنية، وخدماتها الصحية والتعليمية الأساسية. ولكنها تعتمد على المساعدات الإنسانية في الكثير من المجالات، مثل الغذاء والماء والطاقة.
الحمدي، الذي يعمل مترجما للمنظمات الإنسانية في المخيمات ونزحت عالته من مدينة الداخلة في السبعينيات، قال لي بمرارة إن دولا أوروبية "تتصدق" على اللاجئين الصحراويين بالسمك المعلب، الذي "سرقته" من سواحل الصحراء الغربية.
ويقيم ما يقارب من 30 ألفا من الصحراويين في موريتانيا، و18 ألفا في إسبانيا وإيطاليا وغيرها من دول أوروبا الغربية. وآلاف الشباب المولودين في المخيمات يدرسون في الجامعات الجزائرية والكوبية.
وفي مناطق الصحراء الغربية، التي يسيطر عليها المغرب، تقع المدن الساحلية على المحيط الأطلسي. ويواجه الصحراويون فيها القمع والتمييز بسبب تضامنهم مع بوليساريو، وفق تقارير المرصد الدولي لمراقبة الموارد الصحراوية، واللجنة النرويجية لدعم الصحراء الغربية.
أما في المنطقة التي تسيطر عليها جبهة بوليساريو، فعددهم يترواح ما بين 20 و30 ألفا. لكن الكثيرين منهم نزحوا، في السنوات الأخيرة، إلى مخيمات تندوف بالجزائر أو إلى موريتانيا.
هربوا خوفا من الطائرات المسيرة، التي يستعملها الجيش المغربي، لاستهداف مقاتلي بوليساريو. لكن المسيرات تقتل المدنيين من البدو الرحل والمسافرين أيضا.
كان يسلم من بين الشباب الذين انتقلوا في 2017 من مخيمات تندوف إلى بلدة مهيريز، بتشجيع من بوليساريو، لتعمير "المناطق المحررة". وهي واحة في الشمال الشرقي من الصحراء الغربية، تحولت إلى مدينة صغيرة، في الجهة الشرقية من الجدار الرملي.
لكن منذ عامين، عاد يسلم ومئات العائلات إلى المخيمات، أو نزحوا إلى بير مغرين، على بعد 100 كيلومتر، في الأراضي الموريتانية. ويقول إن "السكان هجروا البلدة، بسبب المسيرات المغربية، التي تكررت غاراتها وتزايد عدد ضحاياها".
ويذكر المكتب الصحراوي لتنسيق الأعمال المتعلقة بالألغام أنه "سجل 73 هجوما للجيش المغربي بالمسيرات من 2021 إلى 2023. وأسفرت هذه العمليات عن مقتل 86 شخصا، بينهم طفلان، وإصابة 170 آخرين بجراح".
وجاء في صحيفة هآرتس أن إسرائيل زودت المغرب، في عام 2021، بطائرات مسيرة انتحارية قيمتها 22 مليون دولار، في إطار توقيعها على الاتفاقيات الإبراهيمية.
وتحمل مسيرات هاروب 20 كيلوغرام من المتفجرات، وتستطيع التحليق لمدة 7 ساعات لمسافة 1000 كيلومتر.
وتنفي الرباط استعمال المسيرات في الجهة الشرقية من الجدار الرملي. ولكن الجزائر اتهمتها في 2021 "باغتيال" ثلاثة سائقين جزائريين في غارة استهدفت، شاحنتين لنقل السلع بين ورقلة (الجزائر) ونواقشوط (موريتانيا)، مرورا بالأراضي الصحراوية.
وانقطعت حركة الناس بين مناطق الصحراء الغربية منذ إقامة الجدار الفاصل، في ثمانينيات القرن الماضي. وأصبحت الزيارات العائلية ضربا من المستحيل. ونشأت أجيال من الصحراويين، في مخيمات اللاجئين أو في المهجر، لا يعرفون عن بلادهم شيئا إلا القصص والأخبار.
عزة عمرها 50 عاما وتعمل في مدينة العيون بالصحراء الغربية. أمامها طريقان لزيارة خالها الشيخ المختار، المريض في مخيمات تندوف، إما أن تسافر بالطائرة إلى الجزائر، عبر فرنسا أو إسبانيا، ثم تقطع مسافة 2000 كيلومتر إلى تندوف، أو عبر موريتانيا، في رحلة تستغرق 5 أيام. وهو أمر فوق طاقتها.
لم تقتصر مطالب المغرب الإقليمية تاريخيا على الصحراء الغربية، فقد اعترضت الرباط في 1960 على استقلال موريتانيا عن فرنسا. وطالبت بضمها للمملكة، باعتبارها إقليما تابعا "للمغرب الكبير"، انتزعه منها الاستعمار الغربي. ولم تعترف باستقلالها إلا في 1969.
وأطلق مفهوم "المغرب الكبير" زعيم حزب الاستقلال،علال الفاسي، في أواخر 1955، ثم تبناه الملك محمد الخامس، بعد ذلك.
ويزعم من خلاله أن سيادة المغرب تمتد إلى الأقاليم، التي "كان فيها ولاء" تاريخي للدولة السعدية في القرن 16، تحت اسم "السلطنة الشريفة".
وهو اعتقاد رفضته محكمة العدل الدولية في لاهاي، في رأيها الاستشاري يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 1975، لأنه يعطي للروايات التاريخية والدينية صبغة توثيقية قانونية.
ويشبه هذا الاعتقاد مفهوم "إسرائيل الكبرى"، الذي تروج له الجماعات اليهودية المتطرفة.
وتقوم فكرة علال الفاسي على أساس أن "السلطنة الشريفة"، المغرب حاليا، تمتد خريطتها من أغادير إلى حدود السنغال. وتضم في طريقها، شمالي مالي، وموريتانيا، ومنطقة تندوف، جنوبي الجزائر، ومستعمرات الصحراء الإسبانية.
لماذا تدعم الجزائر جبهة بوليساريو؟
تقول السردية المغربية إن الجزائر هي التي "صنعت" بوليساريو بهدف إنشاء "دويلة" خاضعة لها على حدود المغرب، من أجل إضعافه. وتفسر موقف جارتها بالبحث عن منفذ بحري على المحيط الأطلسي، يمكنها من استغلال منجم غار جبيلات في تندوف، أحد أكبر مناجم الحديد في العالم.
أما السردية الجزائرية فتقول إن الجزائر تدعم حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وفق قرارات الأمم المتحدة، مثلما تدعم حركات التحرر في أفريقيا والعالم. وإنها لم تطالب أبدا بأي حق لها في إقليم الصحراء الغربية. وتتهم الرباط "بالأطماع التوسعية"، وبتهديد أمن الجزائر.
هل سينهي ترامب القضية؟
يرى الباحث هيثم عميرة هرنانديز، الأستاذ بكلية أمبريسا في مدريد، أن اعتراف الرئيس، دونالد ترامب، بسيادة المغرب على إقليم الصحراء الغربية المتنازع عليه، "لا ينسجم مع القانون الدولي، ولكنه قد يدفع بالطرفين المتنازعين إلى التفاوض والتوصل إلى حل نهائي".
ويعتقد خبير العلاقات الخارجية في المجلس الأوروبي، هيو لوفيت، في تصريح لبي بي سي أن "الولايات المتحدة بمقدروها، بناء على علاقاتها التاريخية مع المغرب، فضلا عن دعم ترامب الهائل، أن تؤثر على الرباط، وتدفعها إلى تقديم تفاصيل وضمانات بخصوص الحكم الذاتي الذي تقترحه".
ويرى من جهة أخرى أن "جبهة بوليساريو مطالبة أيضا بإظهار بعض البراغماتية في موقفها، لأنها لم تفصل أيضا في ردها على المقترح المغربي في 2007، مركزة بدلا من ذلك على الضغط العسكري، لإرغام الرباط على تقديم التنازلات".
ومنذ إعلان ترامب في ديسمبر/كانون الأول 2020، حقق المغرب انتصارات دبلوماسية عززت موقفه لحل النزاع في الصحراء الغربية. ولكن جبهة بوليساريو حققت أيضا انتصارا قانونيا، في أكتوبر/تشرين الأول 2024، في شكواها بخصوص استغلال المغرب لثروات الصحراء الغربية.
فقد قضت محكمة العدل الأوروبية، في قرارها النهائي، بأن "المفوضية الأوروبية انتهكت حق شعب الصحراء الغربية في تقرير المصير، بإبرامها اتفاقيات تجارية مع المغرب". وهو قرار يضع بلدانا مثل فرنسا وإسبانيا أمام إشكالية قانونية، إذا مضت قدما في استثماراتها بالصحراء الغربية.
وتشير أستاذة الانثروبولوجيا في جامعة ساسيكس البريطانية، أليس ولسون، في حديثها لبي بي سي، إلى أن "الناشطين الصحراويين منتشرون في الكثير من دول العالم، خاصة إسبانيا وإيطاليا. ولهم استراتيجيات عديدة لتوصيل صوتهم إلى العالم. فهم يوثقون وينشرون أخبار انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، من خلال التقارير والأشرطة الوثائقية".
ولكن مقترح الحكم الذاتي، الذي يطرحه المغرب، ويدعمه ترامب، ليس خاليا من المخاطر، حسب الخبراء والمراقبين للملف الصحراوي. فهو ليس محدد المعالم. ولا أحد يعرف طبيعة الحكم والسلطات المقترحة للصحراويين، ولا كيفية ضمان التزام المغرب بها، حسب لوفيت.
وهناك من يحذر من أن منح أي نوع من الحكم الذاتي في الصحراء الغربية، من شأنه أن يشجع مناطق أخرى في المغرب، لها "مظالم" تاريخية، مثل الريف، على المطالبة بتدابير سياسية وتنظيمية مشابهة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


موقع كتابات
منذ 4 ساعات
- موقع كتابات
التفكير خارج إطار التاريخ
من السذاجة السياسية، أن نتصوّر استقرار الأنظمة الحاكمة بمعزل عن محيطها الدولي، أو أن نختزل صمود الكيانات السياسية بالتماسك الداخلي وحده، فالتجارب التاريخية السابقة، علّمت الأنظمة أن البقاء لا يُدار من داخل حدودها فقط، بل من بوابات العلاقات الدولية.. القواعد العسكرية، صفقات الأسلحة، وشرايين المصالح العابرة للحدود. كما ان عمق المشهد السياسي العربي، لا سيما في الخليج، لا يختلف عن غيره كثيرا، لكن التاريخ فيها مختلف.. ليس كما كُتب دائماً، نتيجةً لإرادة الشعوب أو لنبض الوعي الجمعي؟! بل غالباً ما كان استجابةً لضرورات البقاء السلطوي، حيث تُبنى الدول لا على قواعد الحداثة، بل على ركائز التقليد الموروثة، تُطعّم تارةً بالدين، وتارةً بالدولار، وتارةً أخرى 'بالبرنو الانجليزية'. الأنظمة الخليجية، منذ نشأتها المعاصرة، استندت إلى شرعيات البقاء، أولها، الشرعية الدينية التي لا تقوم على تمثيل شعبي، بل على تبرير سلطوي للحكم بإسم النص المذهبي أو بإسناد فقهي، لم يكن الخطاب الديني في هذه الدول مجرد خطاب وعظي، بل كان جزءاً لا يتجزأ من هندسة السلطة، حيث تم توظيف المؤسسة الدينية لتكريس نظام الطاعة، وتجميد الأسئلة الوجودية حول شرعية الدولة، في السعودية، اتُخذت 'هيئة الامر بالمعروف' كغطاء يحصّن النظام الملكي من النقد، في حين أن دُول مثل الإمارات وقطر.. تبنّت نموذجا أكثر مرونة، لكنها حافظت على دور الدين بوصفه شرعية رمزية تُستدعى عند الحاجة، وتُوظَّف ضمن هندسة السيطرة الناعمة، وهذا ما بدأ يتلاشى بعد الربيع العربي ٢٠١١. لكن الأمر لا يقف عند الشرعية الدينية، فالدول الخليجية تعيش على اقتصاد ريعي نفطي، لا يتحرك إلا إذا فتحت أميركا باب السوق، أو أغلقته، حيث أن الإيرادات النفطية لم تُستثمر في بناء قاعدة إنتاج وطنية، بل وُزعت في صورة رواتب وخدمات من أجل شراء الولاء السياسي. اذا هل تملك هذه الدول قرار تسعير النفط فعلًا؟ أم أن المعادلة تدار من خلف الستار وفقاً لحاجات الأسواق الغربية، وشروط الطاقة العالمية؟ وماذا عن التحول إلى الاقتصاد غير النفطي؟! ما زال ذلك وهماً تسويقياً أكثر منه مشروعا تحويليا، فحين تُبنى المدن الذكية في قلب الصحراء على أكتاف العمالة الآسيوية، وتُروّج كأنها نهضة كبرى، فإننا لسنا أمام تحول اقتصادي، بل أمام محاولة تجميل وجه الريع بشيء من الحداثة الشكلية. الاقتصاد الريعي النفطي، لم ينتج تنمية حقيقية ولا مجتمعا إنتاجيا مستقلا، بل ربط مصير الدولة بأسعار النفط، التي لا تُحدَّد في الخليج، بل في مراكز المال والطاقة العالمية. كل هذه الأمور شرعيات داخلية، لا تحقق سوى الجزء الضئيل من بقاءهم في السلطة، وحماية النظام يكمن في المعادلة الحقيقية، تحالف الشرعية مقابل البقاء. منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن العلاقة بين الخليج والولايات المتحدة مجرد صداقة دبلوماسية، بل كانت علاقة وجودية، فالدول الخليجية الست، ورغم اختلاف نماذجها في الحكم وتوجهاتها الإقليمية، تشترك في شيء جوهري، أنها كلها تدور في الفلك الأميركي، بطريقة أو بأخرى. الأنظمة الخليجية، التي لم تنبثق عن شرعية ديمقراطية أو عقد اجتماعي حديث، وجدت في دعم واشنطن، جدارا يحميها من رياح الداخل، وعواصف الانتقادات الحقوقية الدولية، وهذا الدعم لا يُمنح مجانًا، بل يُدفع ثمنه نقدا. يكفي أن نعود قليلاً إلى خلفية العلاقات الخليجية–الأميركية، لنجد ان زيارات الرؤساء الأميركيين إلى الخليج، تحولت إلى ما يشبه جولات التحصيل المالي، من جورج بوش الإبن إلى ترامب، كان الخليج يُقابِل الحماية بصفقات تسليح فلكية، بعضها لا يُستخدم، وبعضها لا حاجة له، زيارات ترامب، خصوصا إلى الرياض، كشفت طبيعة الصفقة، الأموال مقابل البقاء. لقد أصبحت العلاقة مع واشنطن علاقة قائمة على 'العقد السياسي الخارجي'، حيث لا تستمد الأنظمة شرعيتها من شعوبها، بل من حماة خارج الحدود. لكن السؤال: إلى متى يبقى هذا النموذج صالح للإستمرار؟ إن موازين القوى الاقتصادية والسياسية الدولية لم تبقى على حالها، والتعامل مع واشنطن كمصدر شرعية وحيدة، أصبح مخاطرة استراتيجية، مع تنامي تحولات الطاقة العالمية، وتراجع الطلب على النفط، فإن قدرة الأنظمة الخليجية على شراء الاستقرار قد دخل مرحلة العجز التدريجي، كما ان هناك دول يجب أن تدخل على خط التغيير، لا بمعنى إسقاط الأنظمة بالثورات، بل بإحداث تصدّعات داخلية تدريجية، تقود إلى نموذج حكم أكثر عقلانية، وشرعية داخلية أقل ارتهاناً بالخارج، وأكثر قدرة على مواجهة المستقبل بتوازن سياسي حقيقي. الزمن القادم ليس للأنظمة التي تحفظ وجودها بالصفقات، بل لتلك التي تعيد بناء مشروعها الوطني من الداخل، وإذا لم تُدرك الأنظمة الخليجية هذا التحوّل، فإن التاريخ، الذي اعتادت أن تُكتب خارج إطاره، سيعود ليكتب نهايتها هذه المرة.


موقع كتابات
منذ 4 ساعات
- موقع كتابات
النص التأسيسي لنقد الحداثة العربية
هرع اللغويون العرب صوب دراسة النص الديني المقدس والنصوص النبوية وما خلفتها من نصوص دينية متلثمين بنظريات اللسانيات المعاصرة التي طفقت تفكك النصوص الدينية المسيحية في الغرب ، وهم في ملحمة ظنية بأنهم يخدمون الدراسات الدينية الإسلامية ، لكن الحقيقة التي تكمن وراء هذه الاجتهادات لا يمكن توصيفها تحت باب التجديد ا, حتى الاجتهاد ؛ ذلك أنهم كانوا يسعون إلى نقد النص الديني بإطلاقهم عليه لفظة خطاب ، الأمر الذي دفعهم حسب مظانهم التي تبدو لنا مريضة بعض الشئ على استحياء الاتهام بالكل ـ إلى إبراز أخطاء ومثالب تكمن بتلك النصوص . ومن باب العجب أن مجمل أعمال الحداثيين العرب رغم اختلاف توجهاتهم وتكوينهم الأيديولوجي الذارب في تشويه الماضي برمته أنهم كانوا ولا يزالون يطالبون بإعادة النظر في النص القرآني المقدس وضرورة تأويله وفق مزاعم نظريات علم اللغة واللسانيات الحديثة التي تعضد تفكيك النصوص اللغوية وإعادة بنائها وتركيبها من جديد ، أو خوض مغامرة إخضاع النص الديني لقراءات متعددة ؛ تاريخية وألسنية ، وأنثروبولوجية ، وسيميائية ، وأخيرا قراءة لاهوتية ، الأمر الذي يخرج النص من قداسته إلى رهانات تأويلية مبتذلة محكوم عليها بفقد رصانة التفسير والتحليل. وينبغي على القارئ العربي أن يفطن إلى ثمة مؤامرات ثقافية استعمارية مفادها أن الغرب لم يعد يحارب بأسلحته التقليدية التي بات العرب يمتلكونها بل يستخدمونها بشراسة أيضا ، لذا فكانت الحرب الراهنة هي حرب تشكيكية زاعمة بأن القوة الآن هي قوة الفكر الحداثي الذي يعطي العقل المكانة الأعلى فقط في نقد النصوص الدينية أو التاريخية أو النصوص التي تتعلق بالموضوعات الدينية الراسخة لدى عموم المسلمين. الكارثة أن حفنة وجملة من المفكرين العرب الذين درسوا المناهج اللغوية الغربية ودرسوا على أيدي كثيرين ممن يطعنون في دياناتهم الأصلية تأثروا جد التأثر بتلك النظريات والمناهج التي يمكن استخدامها وتوظيفها في خطابات شعرية لأدونيس ومحمود درويش وأنسي الحاج وغيرهم أو كتابات روائية معاصرة فهي نماذج نقدية بشرية تصلح لمعالجة نماذج لغوية بشرية أخرى تماثلها في الكفاءة والطرح والتلقي ، لكن لا يمكن استغلالها في تأويل النص الديني الراسخ والثابت والمحفوظ بعهد من الله عز وجل . ومجمل زعم هؤلاء رفض تقليد الأوائل من جهة ، وبث روح التمرد والرفض بل ومقاومة التراث العربي الإسلامي من جهة أخرى ، تماما كما وجدنا ذلك في نص الدراسات اللاهوتية التي تناولت الكتاب المقدس منذ مطلع القرن الثامن عشر في أوروبا . بل إن موجات الهوس لدى بعض الحداثيين العرب وصلت إلى شواطئ بعيدة ترى ضرورة تقييد النص الديني بزمانه وبيئته وجغرافية إنتاجه وكثيرا في حدود ثقافة وجوده أيضا. وبعد دراسة مفهوم الحداثة المزعومة لدى الكتاب العرب الذين هرعوا إلى نقد النص الديني تارة ، ونقد ودحض الخطاب الفكري العربي تارة أخرى من أمثال عابد الجابري ومحمد أركون وغالبا نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي وعبد المجيد الشرفي وأدونيس وقاسم شعيب وغيرهم ممن أصابه قلق الحداثة وتوتر الفكر اللساني المضطرب هوية وجهة وتكوينا يمكن تحديد دلالات الفكر الحداثي العام لدى مؤسسي هذا التيار والتي يمكن استنطاقها من خلال كتاباتهم الضاربة في الانتشار مثل الإيمان المطلق بالإنسان وخبرته وتجربته الفردية الذاتية بل إبراز قدرة هذا الإنسان ـ المكلوم ـ على الخلق والإبداع وتطوير العقل ، وهم بالضرورة يقصود الخلق اللغوي المتمثل في القصيدة والرواية والقصة والمسرحية والطرح النقدي للأجناس الأدبية المختلفة ، لكن هوس القلق المستدام جعلهم ينادون بالإيمان المطلق لاستقلالية المرء ، وسلطة العقل التي لا تفوقها أية سلطة أخرى ، وأن سلطان العقل لن يعتلي سدة الحكم والقوة والسيادة إلا بالقضاء على مرجعيات الماضي والتراث بوصفهما منغصات التجديد والتنوير. وكان أول مشروع يدشنه أي مفكر تبنى فكر الحداثة الغربية الذي فشل بالغرب قبل إعادة إنتاجه بالبيئة العربية هو الثورة المطلقة والمستدامة بغير انقطاع على المرجعية الدينية ، وأن إخضاع الدين وقضاياه لمنهجيات العلم التجريبي والأهواء الفردانية وتجارب الشخص الذاتية أمر لحتمي لا يمكن الفكاك من أسره إذا أردنا ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ التطوير والتحديث لمجتمعاتنا العربية . هذا ما دفع الكاتب المغربي قاسم شعيب في كتابه ( فتنة الحداثة ) المنشور عام 2013 وهو من الكتابات المعاصرة في هذا الميدان إلى إبراز الرؤية الحداثية التي تتمثل في سيادة العقل أو ما أسماه بالعقلانية المادية ، وأن الحقيقة تستمد قيمتها من كونها نتاجا للعقل الإنساني لتصبح الذات مركز العالم . وبالرجوع إلى المكونات الرئيسة للفكر الحداثي الذي ضرب المجتمعات العربية بالحيرة والجنون في انتفاء التطبيق السوي للسانيات الغربية نجد على سبيل المثال التفكيكية التي يشير إليها دين محمد ميراصاحب في كتابه ( الحداثية وتحدياتها للتفسير القرآني) بأنها تمثل مظهرا صادقا لليأس والحيرة الذين أصيب بهما الإنسان في الغرب والتي نتجت عنها الاستهلاكية المتطرفة . وهذه النظريات اللسانية النقدية وغيرها مما تم استيراده من الغرب الأوروبي نجمت عن العطب الذي أصاب الحضارة في تلك المجتمعات وأدت إلى سقوط المرجعيات التي تم توصيفها بالتقليدية البائدة بل والرجعية أيضا ، وتمثلت مظاهر الحداثة الفكرية في تلك المجتمعات في نقد الدين ورموزه وموضوعاته ، ونقد ودحض الفكر الموروث ، ثم إعلان بيان تأسيسي جمعي للقطيعة مع الماضي برمته. هذا الرفض المطلق للأسف أودى بأصحاب تلك النظريات اللسانية والنقدية وبتناولهم للنصوص الدينية المقدسة في الغرب الأوروبي إلى رفض الدين المعادل الموضوعي للإلحاد ؛ ومن ثم إنكار التشريعات الإلهية ورفض سلطة الوحي ، والكارثة هي نقل التجربة النقدية الغربية الصالحة لمجتمعات بعينها إلى بيئاتنا العربية ذات الفكر الأصيل والتكوين اللغوي والديني المتعمق في جذور الإنسان العربي. والمستقرئ لفكر الحداثة أو التيار الحداثي يدرك على الفور للوهلة الأولى أنها مرادفة للعلمانية المتطرفة التي أسهمت عن جهل وزيف وخداع في رفع القدسية عن مدال الأخلاق والقيم . وكما يذكر دين محمد ميراصاحب (2013) في كتابه المذكور سلفا فإن العلمانية في أصلها ظاهرة غربية خالصة سبب ظهورها عوامل تاريخية عاشتها الأمم الغربية على مدى قرون متتالية في ظل ثقافات تلقي بجذورها إلى وثنيات قديمة على الرغم من المسيحية التي لعبت دورا كبيرا في تشكيل الثقافة الغربية في العصور الوسطى وبعدها . والمشهد الذي لا يمكن تغافله هو أن العلمانية التي تأصلت في اللسانيات اللغوية المعاصرة والنظريات النقدية أجبرت المسيحية في أوروبا على التقهقر والابتعاد عن المجال العام ، وصولا إلى تيار الليبرالية الذي بات أحد أصنام فكر الحداثة والذي يعني عند بعض مفكر العرب الحداثيين التحرر من كل قيد معروف أو مأثور . وما إن نجونا مؤقتا من أصنام العلمانية والليبرالية حتى اصطدمنا من خلال ما عرفوا بالمجددين في الفكر العربي المعاصر الراهن بنظرية نقدية مماثلة للحداثة ألا وهي العقلانية المتطرفة . وهي نظرية مفادها إعلاء الفردانية والإيمان المطلق بالعقل في مواجهة نصوص التراث الدينية وأن لا سلطة فوق العقل . والمدهش في هذا الملمح من ملامح فكر الحداثة في الوطن العربي ومن خلال الدراسات النقدية للنص الديني ونصوص التراث وغيرها أيضا من كتابات الأوائل الفقهية والتاريخية أنها ـ العقلانية المتطرفة ـ لا تعترف بما لا يفهمه العقل أو لا يقع تحت سيطرة العقل ، ولا تفرق بين الذي يتناقض مع العقل وبين ما يعلوه على العقل ، بل إن تلك النظرية المهووسة لا تعترف أصلا بوجود ما يعلو على العقل أساسا ، الأمر الذي جعلتها تنظر إلى أساسيات الدين على أنها مجرد مجموعة من الأساطير والخرافات المزعومة . ونحن بحق بحاجة ماسة إلى توظيف العقل واستخدامه بصورة طبيعية فطرية كما أمرنا الشرع بذلك ، الأمر الذي يدفعنا إلى ترتيب بيت النظريات النقدية الحداثية التي باتت تعبث بالتراث العربي الإسلامي ، وأنه من البدهي الآن إدراك هوية وكنه الحداثة الوافدة إلينا من الغرب عبر سياقات لسانية ولغوية ونقدية ودراسات تاريخية نتجت عن تطورات اجتماعية وسياسية استهدفت تهميش الدين ودوره بل إقرار عجزه في مواجهة التطورات والتحديات ، هذا العبث الذي دفع كثيرين من المفكرين العرب المعاصرين إلى نقد الدين بوصفه خطابا لغويا يمكن تناوله بشكل نقدي . ولعل هذا التناول البشري القاصر والمحدود بل والجاهل أيضا في مظان كثيرين وأنا منهم هو الذي دفع بعض الكتاب العرب في النصف الثاني من القرن العشرين وصولا إلى أيامنا الراهنة بالتأكيد على مركزية الإنسان وسطوته في مواجهة مركزية الإله . انتهاء بعبث فكري تحت مظلة حداثة واهية تمثلت في الثورة على التراث الديني وإغفال المصدر الإلهي التشريعي ورفض أية مرجعية . ولنا وقفة عاجلة تحذيرية تؤكد خطورة العبث الحداثي الذي يردده بعض الكتاب العرب والشعراء المعاصرين وبعض دارسي التاريخ الإسلامي ، حيث إنهم تأثروا كثيرا بمزاعم الغرب في نظرياتهم اللسانية والنقدية التي دحضت الكتاب المقدس ونصوصه في الغرب وتعاليم الكنيسة ، فلجأوا تارة إلى تحريف الفكر الديني الإسلامي والتراث العلمي العربي الرصين والمجهودات العلمية لأوائل علماء المسلمين ، وتارة أخرى في تقليد الغرب من خلال توظيف واستخدام النظريات الأدبية ضيقة الرؤية والنفاذ إلى تأويل القرآن الكريم وتفسيره باستغلال تقنيات وآليات تلك النظريات المسكينة بالفعل كما أصحابها. ويكفي أن نسرد بعض النظريات النقدية واللسانية التي نجمت عن بيئات مضطربة في فترات سياسية واجتماعية عصيبة لندرك العوس العربي في توظيفها على كتابات عربية خالصة بدلا من إنتاج نظريات عربية أصيلة كان لنا السبق في إنتاجها وخير دليل كتابات قدامة بن جعفر في نقد الشعر والنثر وغيره ، فنجد رولان بارت الفرنسي الذي يرجع له فضل تأسيس البنائية السميولوجية وهي علم العلامات والذي تأثر كثيرا وطويلا بالسويسري فرديناند دي سوسير الذي يزعم أنه صاحب علم اللغة الحديث ، وهذا لم يحدث 'لا حينما تخلى العرب عن تراثهم ومنتوجهم اللغوي والنقدي رغم أن أبرز النظريات النقدية أنتجتها بيئة العرب . ثم نجد الفرنسي كلود ليفي شتراوس مؤسس الأنثروبولوجيا الاجتماعية والذي طبق نظريته على الكتاب المقدس مثله مثل ميشيل فوكو الفرنسي صاحب أركيولوجيا المعرفة والذي يتغنى بفكره الحداثيون العرب رغم امتلاكهم لنظريات عربية رصينة وجيدة النفع. وصولا إلى أسماء تتبع تيارات الحداثة القلقة والمضطربة أمثال جاك دريدا مؤسس التفكيكية وشلاير ماخر مؤسس الهيرمينوطيقا ، وصولا إلى بول ريكور أبرز من تحدث عن التأويلية التي أفسدت كثيرا من تناول نصوص التراث العربي باستخدامها لأنها تخرج الناقد والقارئ على السواء من فائدة النص إلى دحضه ورفضه والبحث عن بديل آخر يصلح لزمان يوافق هوى المتلقي وعبث مسعاه. الخطير في كتابات الحداثيين العرب من مثل حسن حنفي ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني أنهم خرجوا من سياقات نقد الخطاب اللغوي إلى نقد النص الديني وتعرضه لتفصيلات تاريخانية ونظريات ألسنية باهتة ومناهج تحليلية لم تأت بفائدة في بيئات إنتاجها سوى شيوع موجات التطرف والإلحاد والرفض لكل ما هو ديني . بل إن الأخطر هو التفاوت والاختلاف المرضي ( بفتح المين والراء) في حرصهم على التشكيك بالنص وتفكيكه ومن ثم إعادة بنائه ، وإخضاع القرآن الكريم للمنطق التاريخي المادي وربما لا أريد إطلاق العنان لاتهاماتي بعدم الاعتراف بأصله ومصدره. ومصيبة التفكيكية التي أشرنا إليها سالفا أن معيارها الوحيد هو صحة النص ؛ ودأب النظرية اللغوية والنقدية بعد ذلك أفضت إلى ضرورة أن يكون النص محرفا وهي نتيجة جاهزة منذ البداية كما يذكر ميراصاحب في كتابه ( الحداثية) . ولنا أن نقدم فروقا جلية بين تلقي النص القرآني وتأويل النصوص البشرية التي لا تخرج عن فلك كتابة الشعر ونظمه والقصة والرواية والخاطرة الأدبية ؛ وهنا تجدر الإشارة إلى التّمييزبين نوعين من أنواع قراءة النّصّ الأدبيّ ؛ الأولىقراءة مطابقة وهي قراءةٌ استنساخيّةٌ غير متجاوزةتقتصر على شرح النّصّ وتفسيره بصورة مباشرةملتزمة بحرفيّة اللّغة النّصّيّة داخل الخطاب الأدبيّولا تتجاوزه إلى ما وراء النّصّ أو الأبعاد المكوّنة لهبغير استنباط أو استدلال أو استنطاق لمعان أخرىمستترة . والقراءة الثّانية هي قراءة الإنتاج والتييمكن تسميتها بالقراءة الكاشفة ، وفيها يبحثالقارئ عن المضمر والمخبوء داخل النّصّ الأدبيّكاشفًا مضامينه ومعانيه. وتلك أمور لا يمكن توظيفها في نص حكيم إلهي قاطع التشريع. وقراءة النّصوص الأدبيّة مستوياتٌ ومراق ؛بدءًا من التّرديد وتحريك اللّسان ، مرورًا بالفهمالسطحيّ ، وبحلّ شفرة النّصّ الأدبيّ ومحاولةفهمه وتحليله ، ثم الوصول إلى إعادة تركيبه وسبرأغواره أو إنتاج نصّ مواز للنّص المقروء وهو مايعرف بالقراءة التّأويليّة . وهذه القراءة تقتضي منالقارئ الدّخول مع النّصّ الأدبيّ في عملية تفاعليّةتتناص مع مقروء ومخزون خارج النّصّ. والمنظرين لتأويل النصوص الدينية لم يفرقوا عن انتفاء بصيرة بين تفسير وفهم النص القرآني وتأويل النصوص الأدبية البشرية ، فنجدهم يتحدثون عن القراءة التأويلية بوصفها مرادفا ومعادلا موضوعيا للحرية وبالأحرى إعلاء الفردانية ، فهم يرون أنالقراءة التّأويليّة طبقًا لمفهُوم الحُرّيّة اللغويّة هينظامٌ من المُمارسات التّفسيريّة الضّمنيّة أو المُضمرةالتّي تتّسمُ بالاتّساع والإنتاج القرائيّ الإبداعيّ ،وهي قراءةٌ ترتبطُ باستحضار العلاقة بين النّصّوالمرجع ويعني بصفة خاصّة بالمُعطيات الخارجيّةمثل ظُرُوف إنتاج النّصّ وتلقّيها ، لذا فهي قراءةٌتُركّزُ على السّياق الاجتماعيّ التّاريخيّ. وبذلكفإنّها ـ القراءةُ التّأويليّةُ ـ لا تتوقّفُ عند حًدُودالتّلقّي المُباشر ، بل تًسهم في إنتاج وجهة نظرجديدة يحملها النّص الأدبي بين طيّاته. وجهل الحداثيين المعاصرين أنهم لم يفطنوا للفرق بين قدسية النص القرآني والنصوص الأدبية الإبداعية ؛ لذلك فهم عن جهل مقصود اعتبرواالقراءة التّأويليّةُ ـ كمُنتج لُغويّ ـ انفااحًا إيجابيايرتكزُ على الحوار والسّجال بين القارئ والنّصّوالكاتب ، فضلا عن كونها منهجًا لإماطة اللّثام عنمعنى النّصّ لا عن طريق التّحليل والفهم وإعمالالعقل في صُورته الظّاهريّة فحسب ؛ بل بالنّفاذ إلىعُمق النّصّ وتجاويفه المُضمرة ، لذا يُمكنُ القولُ بإنّالقراءة التّأويليّة هي نتاجُ الوعي بالنّصّ وُحُضُورُالقارئ بقُوّة في خلق وتشكيل النّصّ الأدبيّ وذلكمن خلال ما يُمارسُه من مهارات تأويليّة تستهدفُإعادة تشكيل النّصّ الأدبيّ وبناء معانيه ، وخلقحالة من التّفاوُض والمُعارضة من جانب القارئللنّصّ، وهذا يعني أنّ القراءة هُنا تُصبحُ إبداعًا آخرللنّصّ، بمعنًى أنّها ليست قراءةً سلبيّة، بل إنّالقارئ يُفسّرُ معانّي النّص ويؤوله من خلال حوارمع خلفيّته الثّقافيّة وتجارب الحياة الشّخصيّة لهُ. ومشكلة الحداثيين ونحن نختتم سطورنا عن مخاطر هذا التيار الجارف أنهم لا يفرقون بين النص الديني الإلهي والنصوص البشرية الأخرى ، بل إن كثيرا من الأكاديميين العرب المعاصرين والذين يلهجون وراء الألسنية الغربية يصرون على التعامل مع النص القرآني كنص بشري عادي ، ومن هنا وكما يشير دين محمد ميراصاحب كان تهافتهم على المناهج التأويلية الغربية واستعانتهم بأصولها وقواعدها في فهم الكلام الإلهي. ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية


موقع كتابات
منذ 4 ساعات
- موقع كتابات
أموال صفقات الفساد تُحكم قبضتها على دعاية انتخاب مرشحين أحزاب السلطة لتُطفئ شعلة الأمل بالتغيير؟
في مشهد انتخابي يثير الشك والريبة، تُغرق الأحزاب السياسية الكبرى، وخاصة تلك المنضوية تحت مظلة ((الإطار التنسيقي)) في مستنقع المال السياسي المشبوه. هذه الأحزاب، التي نهبت ثروات البلاد وكرست نظام المحاصصة الطائفية، تُنفق الآن ملايين الدولارات على حملات دعائية باذخة، ليس لخدمة الشعب، بل لضمان استمرار هيمنتها على السلطة وهذا الإنفاق الطائل، الذي يُغذيه تمويل غامض من مصادر مشكوك فيها، لا يهدد فقط نزاهة الانتخابات، بل يُحكم قبضته على أحلام المستقلين والأحزاب الصغيرة، التي تعتمد على تبرعات متواضعة ومدخرات شخصية محدودة، ليُكرس بذلك ديمقراطية زائفة تخدم الأقوياء وتطحن الضعفاء. المال السياسي المشبوه، الذي تُنفقه الأحزاب الكبرى حاليا، ليس مجرد أموال تُستخدم للدعاية الانتخابية فقط، بل هو سلاح مدمر يُستخدم لشراء بطاقات الناخب، التلاعب بإرادة الناخبين، وتكريس الفساد ولان معظم هذه الأموال تأتي من مصادر غير شرعية، وبما في ذلك نهب المال العام ومن خلال الأحزاب المتنفذة، التي تسيطر على معظم الوزارات والمؤسسات والدوائر الحكومية، وتُسيء استخدام الموارد العامة للدولة، مثل عائدات النفط أو الأموال المخصصة للمشاريع التنموية، لغرض تمويل حملاتها الانتخابية ولعلى ابسطها وكمثال ما يزال يتم تداوله في وسائل الإعلام لغاية الآن قضية 'سرقة القرن' التي كشفت اختلاس 2.5 مليار دولار من الأمانات الضريبية، هي مثال صارخ على كيفية تحويل ثروات الدولة إلى أدوات سياسية خدمة لأجندات الدعاية الانتخابية , وبالإضافة إلى عامل آخر مهم وحيوي جدآ وقد يكون غير مرئي حاليا أو لم يتم تسليط الضوء عليه في وسائل الإعلام بالصورة الكافية , وعلى الرغم من خطورته على نزاهة وشفافية العملية الانتخابية يتمثل بالتمويل المادي الذي يأتي من خارج العراق إلى بعض الأحزاب والمرشحين والتحالفات التي تتلقى دعمًا ماليًا من جهات إقليمية، تستخدمه لتعزيز نفوذها في العراق، مما يُهدد السيادة الوطنية ويُحول الانتخابات إلى ساحة للصراعات الإقليمية. في واحدة من أكثر الممارسات خطورةً، تتسرب الأخبار شبه الاسبوعية من خلال القنوات الاخبارية المحلية عن عمليات غسيل الأموال الناتجة عن صفقات مشبوهة وتجارة غير مشروعة، والتي تتسلل بمهارة إلى قلب العملية السياسية في العراق عبر المناقصات والعطاءات الحكومية. هذه الأموال ، التي تُجنَى من خلال إرساء العطاءات والمناقصات على شركات تجارية مشبوهة أو شخصيات متنفذة دون استيفاء الشروط القانونية، تُعاد تدويرها في الحملات الانتخابية تحت ستار الدعاية السياسية. هذه العملية، التي تفتقر إلى أدنى معايير الشفافية والنزاهة، لا تُدمر فقط نزاهة العملية الانتخابية، بل تُكرس نظامًا فاسدًا يُهدد أسس الديمقراطية ويُحوّل ثروات العراق إلى أداة لتكريس هيمنة الأحزاب المتنفذة. مما يُضفي طابعًا قانونيًا زائفًا على هذه الأموال وتُنفق ببذخ على إعلانات ضخمة، ملصقات تملأ الشوارع، قنوات إعلامية مُوجّهة، وحملات على وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى شراء الأصوات مباشرة. هذا الإنفاق الطائل ليس سوى استثمار في الحصانة البرلمانية، حيث تسعى هذه الأحزاب لضمان مقاعد تُمكنها من مواصلة نهب ثروات العراق تحت غطاء الشرعية. أن تأثير المال المشبوه على نزاهة وشفافية الانتخابات يُشكل تهديدًا وجوديًا لنزاهة العملية الانتخابية في العراق، ويُحول الانتخابات من آلية ديمقراطية للتعبير عن إرادة الشعب إلى سوق لعرض أنواع مختلفة تكتلات وأحزاب سياسية قابلة للشراء. وتأثيراته المدمرة تتجلى لتتخذ معها عدة صور قد تكون خافية على الراي العام ونبض الشارع ومنها: *تشويه إرادة الناخبين: من خلال شراء الأصوات، كما في زيارات المرشحين المزيفة للعوائل الفقيرة تحت ذريعة العمل التطوعي، أو إجبار النزلاء في السجون والمنتسبين في الأجهزة الأمنية ووزارة الدفاع والداخلية على التصويت لقوائم معينة كما حدث بالانتخابات البرلمانية السابقة، ويتم التلاعب بإرادة الناخبين، مما يُفرغ الانتخابات من جوهرها ومعناها. *تكريس الفساد السياسي: الأحزاب التي تُنفق ملايين الدولارات على حملاتها لا تهدف إلى خدمة الشعب، بل إلى استعادة استثماراتها عبر الفساد والإثراء غير المشروع. النواب الذين يصلون إلى البرلمان بهذه الطريقة يُصبحون أدوات لتكريس نظام المحاصصة، لا ممثلين لإرادة الشعب. *إضعاف الثقة بالنظام السياسي: في ظل إحباط شعبي متصاعد، حيث بلغت نسبة المشاركة في انتخابات 2021 أقل من 41%، يُفاقم المال المشبوه من عزوف الناخبين، حيث يرى المواطن أن الانتخابات ليست سوى لعبة انتخابية للأثرياء والمتنفذين. *إحباط المرشحين المستقلين: نقص الموارد المالية يُجبر العديد من المستقلين على الانسحاب من السباق الانتخابي، أو يُضعفهم أمام ضغوط الأحزاب الكبرى التي قد تلجأ إلى الترغيب أو الترهيب لإقصائهم، والذين غالبًا يقدمون برامج إصلاحية تركز على مكافحة الفساد، تحسين الخدمات، وتوفير فرص العمل، لكن هذه البرامج تُطمس تحت وطأة الدعاية الممولة بالمال المشبوه، التي تعتمد على الشعارات الرنانة والوعود الكاذبة. *تكريس الاستبداد المالي: من خلال الأحزاب التي تعتمد على المال المشبوه تُحول الديمقراطية إلى نظام استبدادي مقنع، حيث يُصبح المال هو المحدد الرئيسي لمن يصل إلى السلطة مما ينتج بالتالي بتعميق الإحباط الشعبي وعندما يرى المواطن أن الانتخابات تُدار بالمال الفاسد، يزداد عزوفه عن المشاركة، مما يُعزز هيمنة الأحزاب التقليدية ويُضعف أي فرصة للتغيير. أحزاب الإسلام السياسي، وإنفاقها الطائل، لا تكتفي بالتلاعب بالناخبين، بل تُحكم قبضتها على المشهد السياسي لخنق المرشحين المستقلين والأحزاب الصغيرة، التي تُمثل الأمل الوحيد للتغيير في العراق. هؤلاء المستقلون، الذين يعتمدون على تبرعات متواضعة ومصاريف شخصية محدودة، يجدون أنفسهم في مواجهة جائرة مع آلة دعائية مدعومة بملايين الدولارات. هذا الواقع يولد معها الكثير من التحديات وعدم المساواة في التنافس لان المستقلون والأحزاب الصغيرة لا يملكون القدرة على منافسة الحملات الإعلامية الضخمة، سواء في الإعلانات التلفزيونية، الملصقات، أو الحملات الرقمية وهذا يُقلل من فرصهم في الوصول إلى الناخبين، حيث تُهيمن الأحزاب الكبرى على كل وسيلة إعلامية تكون مؤثرة ومتاحة حيث بلغ سعر الإعلان لأحدى القنوات الفضائية العراقية ولمدة دقيقة واحدة ما قيمته 60 ألف دولار. وهذا الظلم الانتخابي يُحرم العراق من فرصة ظهور قيادات شابة جديدة قادرة على تحدي نظام المحاصصة. المستقلون، الذين يُمثلون أمل الشباب والفئات المهمشة، يُتركون ليواجهوا مصيرهم في معركة غير متكافئة، حيث المال المشبوه هو الحكم والجلاد وإن استمرار هذا النهج الخبيث يُهدد بتدمير ما تبقى من أمل في ديمقراطية حقيقية في العراق. إن مواجهة هذا الوباء السياسي تتطلب جهودًا عاجلة وحازمة ودعوة للتصدي لإنقاذ ما تبقى من ديمقراطية من براثن المال المشبوه وذلك يتم عن طريق رقابة صارمة من المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وفرض قيود صارمة على تمويل الحملات الانتخابية، بما في ذلك تدقيق مصادر الأموال ووضع سقف للإنفاق وبمعنى آخر أن أي حزب أو مرشح يثبت تورطه في استخدام أموال مشبوهة يجب تجريده من أهلية الترشح. ودور القضاء والذي ينبغي فتح تحقيقات فورية في مصادر تمويل الأحزاب، خاصة تلك المنضوية في تحالف إدارة الدولة ، مع محاسبة المتورطين في نهب المال العام أو استقبال تمويل خارجي وكذلك العمل على توعية الناخبين ومن خلال منظمات المجتمع المدني والإعلام كشف هذه الممارسات عبر تقارير استقصائية، مع حث الناخبين على رفض الإغراءات المالية والتصويت لمرشحين مستقلين يقدمون برامج إصلاحية ودعم المستقلين حيث يمكن للشباب والمجتمع المدني تنظيم حملات تبرعات شفافة لدعم المرشحين المستقلين، لتعزيز قدرتهم على المنافسة في مواجهة آلة المال السياسي المشبوه وإيجاد تشريعات جديدة ومن خلال سن قوانين صارمة لتنظيم تمويل الحملات الانتخابية، بما يضمن الشفافية والنزاهة ويمنع التلاعب بالمال العام أو الخارجي. إن المال السياسي المشبوه، الذي تُنفقه أحزاب السلطة يؤدي بالنتيجة الحتمية الى إضعاف السيادة الوطنية والتمويل الخارجي المشبوه يجعل العملية السياسية رهينة لأجندات خارجية، مما يُعرض مصالح العراق للخطر بل هو خنجر مسموم يطعن قلب الديمقراطية العراقية. هذا المال لا يُستخدم لخدمة الشعب، بل لشراء أصواته، خنق آماله، وإجهاض أي فرصة لظهور قيادات مستقلة قادرة على التغيير. إن استمرار هذه الممارسات يُهدد بتحويل الانتخابات إلى مسرحية هزلية تُكرس هيمنة الفاسدين وتُطيح بأحلام العراقيين في وطن عادل. فلنقاوم هذا الفساد، ولنُعيد لصوتنا قيمته كسلاح للتغيير، لا كسلعة في سوق الأحزاب … العراق اليوم يستحق برلمانًا يعكس ويجسد إرادة شعبه الحقيقية، لا أداة بيد الأحزاب المتنفذة التي تسعى جاهدةً للحفاظ على سلطتها وترسيخ وجودها عبر نهب المال العام، تاركة المواطن في معاناة يومية لتأمين متطلبات الحياة الأساسية ويكافح لتأمين لقمة العيش. التغيير الحقيقي ينبغي أن ينبع من الشباب الواعي والمؤهل، القادر على مواجهة هذه الأحزاب، محاسبتها، وإعادتها إلى مكانتها المناسبة، عبر ممارسة حقه الديمقراطي من خلال صناديق الاقتراع.