
"الاعتراف بفلسطين".. "كرة الثلج" الفرنسية تتدحرج عالمياً
ويرى سياسيون ودبلوماسيون غربيون، في حديثهم لـ"الشرق"، أن الخطوة الفرنسية شكلت ضغطاً سياسياً وأخلاقياً متصاعداً على العواصم المترددة، في وقت بدأت فيه المبادرات الدولية، وعلى رأسها مؤتمر حل الدولتين الذي عقد في نيويورك برئاسة السعودية وفرنسا، تعيد رسم المشهد الدبلوماسي، ما أوجد فرصة لتحريك مسار التفاوض الفلسطيني-الإسرائيلي.
في خطوة وُصفت بالتاريخية، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الخميس الماضي، اعتزام بلاده الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين أمام الأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، لتُصبح فرنسا أول دولة من مجموعة السبع وعضو دائم في مجلس الأمن (باستثناء الصين وروسيا) تتخذ هذه الخطوة، في تحرك دبلوماسي يُعيد تسليط الضوء على حل الدولتين.
دول أوروبية على خطى فرنسا
عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، أوليفيه كاديك قال إن الاتحاد الأوروبي يلتزم بحل الدولتين، مشدداً على ضرورة إقامة دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل على أساس حدود عام 1967، مع إمكانية تبادل الأراضي بالاتفاق بين الطرفين.
وأوضح كاديك (وهو أيضاً نائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في مجلس الشيوخ الفرنسي) أن هناك دولاً أوروبية ترغب بذاتها إعلان اعترافها بالدولة الفلسطينية، ولا يملك الاتحاد الأوروبي كهيئة مؤسسية سلطة التدخل في ذلك.
فيما قال مستشار الرئيس الفرنسي للشؤون الفلسطينية – الإسرائيلية، عوفر برونشتين، في تصريحات لـ"الشرق"، إن عدداً من الدول الأوروبية تعتزم إعلان الاعتراف بفلسطين بحلول سبتمبر، موضحاً أنهم أبلغوا فرنسا بنيتهم السير على خطاها، لكن تلك الدول، وفق برونشتين، تفضل التريث بانتظار تبلور الظروف السياسية الخاصة بهم للإعلان الرسمي.
وأكد برونشتاين أن الاعتراف الفرنسي يفتح ديناميكية جديدة ستلحق بها دولاً كثيرة بحلول سبتمبر، موضحاً أن فرنسا ستتبع مسار تفاوضي جديد يُبنى بعد الاعتراف وليس قبل الاعتراف كما في السابق، لافتاً إلى "أهمية وجود اعتراف عربي وإسلامي بإسرائيل أيضاً لإنجاح عملية السلام وتحقيق التفاهم المرجو".
وفي وثيقة صادرة عن الخارجية الفرنسية ضمن إعلان نيويورك، أطلقت فرنسا و14 دولة أخرى نداءً جماعياً يدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطين، وحثت باريس الدول المترددة على الانضمام.
وذكر وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، على منصة "إكس" أن الدول الموقعة هي: (أندورا، أستراليا، كندا، إسبانيا، فنلندا، فرنسا، أيسلندا، أيرلندا، لوكسمبورج، مالطا، نيوزيلندا، النرويج، البرتغال، سان مارينو، وسلوفينيا).
وبسؤاله عن عزم دول أوروبية وغربية أخرى خاصةً ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وأستراليا، الاعتراف بفلسطين، رجح بروشنتين أن بعضها سيتخذ هذه الخطوة، بينما ستتضح مواقف أخرى خلال الأيام المقبلة.
من جانبه، اعتبر ماريان دوريس، مستشار السياسة الخارجية في المفوضية الأوروبية في حديثه لـ"الشرق"، أن فرنسا تُعدّ الفاعل الأبرز في التحول الرمزي للسياسات الخارجية الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية، وذلك في ضوء موجة الدعم المتصاعد خلال الأشهر الماضية، لا سيما من حكومات يسارية أو تقدمية.
وأوضح دوريس أن الحراك بات مساراً سياسياً لا يمكن للمفوضية الأوروبية تجاهله، مشيراً إلى أن "كرة الثلج" بدأت بالتدحرج فعلياً. وتوقع أن تتبع حكومات ذات ميول يسارية أخرى مثل إيرلندا وإسبانيا هذا الاتجاه، رغم تحفظه على الكشف عن أي معلومات أخرى بحكم موقعه الاستشاري.
بريطانيا وكندا والبرتغال ومالطا
في غضون أسبوع، أعلنت بريطانيا ومالطا وكندا والبرتغال، عزمهم الاعتراف بدولة فلسطين خلال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر المقبل، ولكن لندن اشترطت أن تتخذ إسرائيل خطوات جوهرية لإنهاء الوضع المروع في غزة، فيما اشترطت أوتاوا تنفيذ إصلاحات داخلية فلسطينية في 2026.
فيما دعت ألمانيا إلى بدء مفاوضات فورية لتحقيق "حل الدولتين"، الخميس، معتبرة أنه السبيل الوحيد للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأكدت وزارة الخارجية أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يجب أن يكون نتيجة لتلك المفاوضات، محذرة من خطوات أحادية إسرائيلية، وسط ضغوط داخلية على برلين لمراجعة دعمها تل أبيب.
ودعا الدبلوماسي الألماني السابق أندرياس رينيك، برلين، إلى مواصلة التحرك في هذا الاتجاه خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
وأوضح رينيك (وهو المبعوث الأوروبي السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط)، أنه من الضروري التمييز بين الاعتراف الفرنسي بدولة فلسطين، وبين مؤتمر حل الدولتين في الأمم المتحدة، مشيراً إلى أن الخطوة الفرنسية قد تشجّع بعض الدول الأوروبية على الحذو حذوها، لكنها لن تؤدي إلى موجة اعترافات واسعة، وفقاً لرأيه.
ولفت إلى تمسك ألمانيا بموقف الاعتراف بالدولة الفلسطينية المشروط بالتفاوض، خاصة بعد توافق دول عربية وأوربية لأول مرة في مؤتمر حل الدولتين بنيويورك، مؤكداً أن هذا المؤتمر خلق دعماً وزخماً جديداً للقضية.
وعن اعتراف كندا ، قال مايكل لينك، المقرر الأممي السابق لحقوق الإنسان في فلسطين، إن موقف بلاده من الاعتراف يشبه إلى حد كبير سياسة بريطانيا، موضحاً أن الاعتراف كان جزءاً من السياسة الكندية التقليدية، لكنه كان مشروطاً بالتوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل، إلا أن هذا النهج تغيّر بسبب الواقع السياسي الحالي.
أمن "الدولة الفلسطينية" على الأرض
وفي حديثه عن الحلول المستقبلية لحفظ أمن الفلسطينيين، أعاد أوليفيه كاديك، التذكير بمبادرة جنيف (2003) التي اقترحت نشر قوة متعددة الجنسيات، إما تابعة للأمم المتحدة أو لتحالف دولي في المناطق الحدودية والمطارات ونقاط العبور، بهدف ضمان الأمن والاستقرار للفلسطينيين دون وجود عسكري إسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية، وهو ما يجعله أساساً قابلاً لإعادة النظر في ظل تعقيدات المرحلة الراهنة.
وتابع: "يبدو لي أن هذا المشروع يقدم ضمانات أمنية حقيقية للفلسطينيين، مع مراعاة هواجس تل أبيب الأمنية".
فيما أوضح لينك، وهو أيضاً أستاذ مشارك في القانون الدولي بجامعة ويسترن أونتاريو الكندية، أن بلاده لا تملك أدوات تأثير فعلي على الأرض في غزة أو الضفة أو القدس الشرقية، معتبراً أن الاعتراف يُعد رسالة غضب تجاه إسرائيل وتأكيداً على التمسك بالقانون الدولي والدبلوماسية المسؤولة، لكنه شدد على أن العقوبات الفعلية وحدها هي الكفيلة بإحداث تغيير حقيقي.
خطوة رمزية تحتاج حلاً واقعياً
ورغم ترحيبه بالخطوة، يرى مستشار السياسة الخارجية في المفوضية الأوروبية ماريان دوريس أن "الاعتراف" وحده، دون خطوات عملية، لا يغيّر الواقع الجيوسياسي، معتبراً أن بعض هذه التحركات تحمل طابعاً رمزياً وتستهدف استرضاء الجاليات المهاجرة أو الناخبين الناشطين.
وأشار إلى أن السياسات الأوروبية لا تزال محكومة بمعايير مزدوجة، لافتاً إلى أن بعض الدول الأوروبية ستُبقي على موقف "الحياد الآمن"، مكتفية بالدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة دون التوجه للاعتراف الرسمي.
ولفت دوريس إلى أن مواقف الدول تتأثر بعقلياتها السياسية وظروفها الداخلية، وقد ترتبط أحياناً بالاعتبارات الانتخابية، موضحاً أن المفوضية والاتحاد الأوروبي لا يملكان صلاحية الاعتراف بالدول نيابةً عن الدول الأعضاء، إذ تُعدّ هذه الصلاحية من الشؤون السيادية الخاصة بكل دولة على حدة.
واعتبرت ناديا إيسيان عضوة البرلمان الفرنسي سابقاً، أن اعتراف بلادها بدولة فلسطين يُمثل "نقطة تحول رمزية بالتأكيد، لكنها تحمل أيضاً أبعاداً ملموسة نظراً لما تثيره من ردود فعل متباينة، سواء إيجابية أو سلبية على المستوى الأوروبي".
وأضافت إيسيان أن "السؤال الحقيقي هو ما إذا كانت فرنسا قادرة على تحويل هذا الزخم الرمزي إلى واقع سياسي دولي فعلي على الأرض".
وقالت إيسيان إن الاعتراف جاء في لحظة حرجة يواجه فيها الفلسطينيون خطر الإبادة، معتبرة أنها تمثل التزاماً بالعدالة وأداة ضغط دبلوماسي لا رجعة فيها، وقد تعيد لفرنسا دوراً فاعلاً ومصداقية في الشرق الأوسط، إذا واصلت هذا النهج الشجاع.
ورأت أن غياب سياسة أوروبية موحدة داعمة للفلسطينيين، إلى جانب موقف ألمانيا الرافض للاعتراف، يعكس عجز الاتحاد عن اتخاذ خطوات حازمة ضد إسرائيل التي تتجاهل المجتمع الدولي بدعم أميركي.
واتفق معها رئيس معهد الدراسات الأوروبية للاستشراف والأمن بباريس، إيمانويل دوبوي، ولفت إلى أن قرار فرنسا "رمزي" من حيث التوقيت، لكنه يحمل دلالات سياسية مهمة، ويعيد وضع حل الدولتين على جدول الأعمال الدولي.
وقال دوبوي إنه على الرغم من أن الخطوة الفرنسية جاءت دون استيفاء الشروط التي حددها ماكرون سابقاً (التوافق الأوروبي، ومشاركة ألمانيا، وخروج حماس من غزة، وإصلاح السلطة، ومشاركة عربية أوسع في اتفاقيات أبراهام)، إلّا أنها تحمل وزناً خاصاً لكون فرنسا دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وعضواً في مجموعة السبع إلى جانب بريطانيا وكندا، اللتين تتجهان نحو هذا الاعتراف أيضاً، ما يضفي على قرارها بُعداً استثنائياً مقارنة بسوابق الاعتراف.
وتعترف نحو 144 دولة من أصل 193 في الأمم المتحدة بفلسطين كدولة. وكانت أيرلندا وإسبانيا والنرويج قد اعترفت بها في مايو 2024، تلتها سلوفينيا وأرمينيا في يونيو من العام نفسه.
وتعتزم بريطانيا وكندا ومالطا والبرتغال، إضافة إلى فرنسا، الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر 2025، ما لم يتم التوصل إلى شروط محددة.
وفي عام 2012، حصلت فلسطين وقتها على صفة مراقب عام في الأمم المتحدة، مما عزز حضورها الدولي دون الاعتراف الكامل كدولة عضو وسط اعتراض أميركي دائم.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 2 ساعات
- الشرق الأوسط
إسرائيل... تفاوض جاد أو عزلة دولية
تُعدّ جهودُ المملكةِ العربية السعودية في الدفع بحل الدولتين، من خلال مؤتمر نيويورك الذي رعته بالشراكة مع الجمهورية الفرنسية، خطوةً متقدمة في العمل العربي، أعادت قضية السلام إلى مركز الفعل السياسي الدولي بعد سنوات من الجمود وغياب الأفق. ما حدث في نيويورك ليس فقط لحظة رمزية، بل تحوّل نوعي في مسار الدبلوماسية العربية، وربما يكون بداية «التحول الجيواستراتيجي» الكبير تجاه المسألة الفلسطينية، إن أُحسن استثماره. اعتراف فرنسا المرتقب بالدولة الفلسطينية في سبتمبر (أيلول) المقبل خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا يمكن فصله عن هذا المسار. هذا الاعتراف ليس غاية في ذاته، بل خطوة مقصودة الغرض منها خلق زخم دبلوماسي يفتح الباب أمام موجة اعترافات أخرى متتالية، تشكل ما يمكن وصفه بـ«تأثير الدومينو» الذي يعيد تشكيل المواقف العالمية، ويضعف الموقفين الأميركي والإسرائيلي أخلاقياً وسياسياً أمام المجتمع الدولي. إعلان كندا، ومواقف أستراليا، والتصريحات البريطانية المشروطة كلها تأتي في هذا السياق، حيث تتبلور بيئة دبلوماسية جديدة، قوامها أن حل الدولتين لم يعد ترفاً تفاوضياً، بل ضرورة أمنية واستراتيجية للعالم بأسره، لا سيما لمنطقة الشرق الأوسط. لكن ينبغي عدم التوقف عند هذا الحد. لا يكفي أن يُعترف بالدولة الفلسطينية قانونياً، بل لا بد من نقل هذا الاعتراف إلى واقع عملي، يفرض نفسه على الأرض، ويُجبر إسرائيل على التعامل الجدي مع هذا الواقع. ذلك أن إسرائيل لا تأخذ شيئاً على محمل الجد إلا حين تشعر بأن هناك ثمناً سياسياً ستدفعه إن استمرت في سياساتها، أو أرباحاً ستخسرها إن تجاهلت النداءات الدولية. السؤال الآن: ما الخطوة التالية؟ كيف نحول الزخم السياسي إلى أدوات ضغط حقيقية تُحدث فرقاً في السلوك الإسرائيلي؟ في هذا السياق، تبدو فكرة التوجه نحو «الطرف الثالث» ضرورية. الطرف الثالث هنا لا يعني فقط الاتحاد الأوروبي كمؤسسة، بل يعني كل الدول الفاعلة ذات التأثير السياسي والاقتصادي، من بريطانيا إلى الدول الآسيوية واللاتينية، بل حتى الدول التي اعتادت على الحياد، لكنها تمتلك قدرة على التأثير في الكواليس. هذا الطرف الثالث هو المفتاح الآن؛ لأنه القادر على تحويل الدعم السياسي للقضية الفلسطينية إلى إجراءات عملية ومؤثرة، تشكل تكلفة على الاحتلال واستمراره. إذا خرجت إسرائيل من حرب غزة من دون أن تدفع ثمناً سياسياً أو قانونياً لما ارتكبته من إبادة جماعية موثقة، ولما مارسته من تطهير عرقي وتجويع ممنهج بحق المدنيين، فإننا نكون أمام لحظة خطيرة في النظام العالمي. ذلك أن أحد أعمدة هذا النظام هو الاحتكام إلى القانون الدولي، وإذا تم استثناء إسرائيل من هذا القانون، فإنَّ الرسالة تكون أنَّ العالم يعيش نظاماً مزدوج المعايير، قابلاً للانهيار الأخلاقي في أي لحظة. ومن المفارقات اللافتة أن بعض الأصوات الأميركية والإسرائيلية تتحدَّث عن أنَّ مؤتمر نيويورك مكافأة لـ«حماس» على ما حدث في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بينما الحقيقة التي يحاول كثيرون تجاهلها هي أنَّ إفلات إسرائيل من المحاسبة على جرائمها سيكون مكافأة لها على ارتكاب جرائم حرب، بل يُعد تواطؤاً صريحاً في تقويض النظام الدولي القائم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. القانون الدولي يعترف بأنَّ الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، هي أراضٍ فلسطينية محتلة منذ الخامس من يونيو (حزيران) 1967، وبالتالي فإنَّ كلَّ الاستيطان فيها غير قانوني. ومع ذلك، لا يزال الموقف الأوروبي، وحتى البريطاني، يتَّسم بالتردد والانتقائية. العقوبات التي فرضت حتى الآن على بعض المستوطنين لا تلامس جوهر المشكلة؛ لأنَّ الاستيطان ليس فعلاً فردياً، بل هو سياسة دولة مرخّصة ومدعومة ومُمولة من الحكومة الإسرائيلية نفسها. هنا تحديداً يجب أن يكون الضغط، وهنا تأتي الحاجة إلى صياغة موقف عربي موحد، تقوده السعودية ومصر والإمارات والأردن، يهدف إلى أن يكون هناك ثمن تدفعه إسرائيل مقابل الاستمرار في هذه السياسات. حتى هذه اللحظة، ما زال الاتحاد الأوروبي يُصدق الرواية الإسرائيلية، ويُحجم عن اتخاذ خطوات عملية تُجبر إسرائيل على التراجع. بل إن بعض الدول، وعلى رأسها بريطانيا، لا تزال تزوّد إسرائيل بقطع غيار الطائرات المقاتلة من طراز F-15، إلى جانب تكنولوجيا عسكرية متقدمة. وفي هذا السياق، تصبح الدبلوماسية العربية مطالبة بممارسة ضغط حقيقي ومباشر على هذه الدول، سواء عبر القنوات الرسمية أو من خلال المؤسسات الدولية، من أجل وقف هذا الدعم، أو جعله مشروطاً بانخراط إسرائيل الجاد في مسار سياسي واضح المعالم نحو قيام دولة فلسطينية مستقلة. هناك أدوات كثيرة بيد هذه الدول يمكن تفعيلها، من مراجعة اتفاقيات الشراكة الاقتصادية، إلى تقييد صادرات الأسلحة، وصولاً إلى دعم جهود المحكمة الجنائية الدولية في ملاحقة مجرمي الحرب. كما يمكن طرح فكرة فرض حظر على منتجات المستوطنات، وتوسيع دائرة الضغط الدبلوماسي في المؤسسات الأممية لإعادة الاعتبار للقرار 242 وغيره من قرارات الشرعية الدولية التي أصبحت تُعامل كوثائق أرشيفية لا يُلتفت إليها. إنَّ قيام دولة فلسطينية ليس منحة من أحد، بل ضرورة إقليمية وأمنية واستراتيجية، كما ذكرت مراراً. الأمن الإقليمي لا يمكن أن يتحقق في ظل غياب العدالة، ولا يمكن فصل استقرار المنطقة عن مصير الشعب الفلسطيني. وإن لم يتم إدراك هذه الحقيقة في العواصم الكبرى، فربما تكون المنطقة كلها على موعد مع اضطرابات أعمق وأكثر خطورة في السنوات المقبلة. الدبلوماسية السعودية أثبتت أنها قادرة على تحريك المياه الراكدة، وعلى الجميع ترجمة الاعتراف السياسي إلى وقائع على الأرض. والفرصة سانحة لتحويل لحظة نيويورك إلى نقطة تحول حقيقية، تضع إسرائيل أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التفاوض الجاد نحو حل الدولتين، وإما مواجهة عزلة دولية تجعل منها دولة مارقة ومهددة للأمن والسلم العالميين.


الشرق الأوسط
منذ 2 ساعات
- الشرق الأوسط
فرنسا والدولة الفلسطينية
جاءت المبادرة الفرنسية تبعها الموقف البريطاني الذي يهم هو الآخر لتأييد صيغة الدولتين، تشكِّل اختراقاً غير مسبوق بالنسبة إلى سيف «الفيتو» المسلَّط على القرارات ذات البعد الإنساني في معظمها. لقد شكَّلت المبادرة الفرنسية المستندة في موضوعيتها إلى الموقف السعودي الذي كان بمعزل عن الانفعالات والمزايدات في صدد صياغة خطوة من شأن الأخذ بها إيجاد التسوية المتعادلة للصراع العربي - الإسرائيلي في حال التقى قطب دولي مع الرؤية السعودية، ثم يأتي الموقف الذي اتخذه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يلتقي مع صوابية الحراك السعودي المبدئي والسياسي والدبلوماسي على مدى ثلاث سنوات في مواجهة اندفاع إسرائيل نتنياهو إلى التدمير والتهجير والتجويع وتخريب المستشفيات في قطاع غزة، يثمر تسليم رئيس فرنسا بضرورة الانتقال من الموقف كلامياً تجاه صيغة الدولتين حلاً واقعياً التي هي البادئة قبْل ثلاثة عقود في طرْحها بغرض أن تأخذ القضية «القتيل» حقها، وبتراجع القاتل عن جرمه الذي بلغت ممارسته ثلاثة أرباع قرن من الزمن. كما لا بد من الأخذ في الاعتبار بأن مشاهد التجويع والتدمير، بالذات مشاهد مئات الأطفال الذين يموتون جوعاً مثّلت دافعاً لدى فرنسا، ولقد عرضتْها الشاشات الفرنسية إلى جانب المظاهرات العفوية يشارك فيها رجال ونساء وشبان وشابات، مسنون ومسنات، تجوب شوارع وجادات عاصمة النور باريس وبعض مدن فرنسا، وما كُتب على اللافتات من عبارات ومطالب وكذلك صور الأطفال المُبادين جوعاً. في أي حال لم تكن فقط خطوة الرئيس ماكرون وليدة ما أشرنا إليه، ذلك أن مواقفه السابقة كانت تمهد للموقف الأكثر حسماً. ونتذكر عبارته قبْل سنتين (7 أكتوبر 2023) وهي «إن حل الدولتيْن هو الحل الوحيد الممكن في الشرق الأوسط»، وقبْل ذلك خلال زيارة قام بها عام 2017 إلى القدس عبارته التي أزعجت الإسرائيليين كثير الانزعاج «فرنسا لن تتخلى أبداً عن الدفاع عن حل الدولتين...». وثمة نقطة نظام في هذا الشأن وفحواها أن ماكرون لم يكن فريد رؤساء فرنسا في الموضوع الفلسطيني، ذلك أن «الأب الروحي - السياسي» لهذا الموضوع كان الرئيس الجنرال شارل ديغول، الذي بعد فوزه بالرئاسة عام 1959 أزاح بحساب الستارة الأوروبية الحاجبة لجوهر القضية، وتمثَّل ذلك بعبارة شهيرة له على خلفية حرب 5 يونيو (حزيران) 1967 هي «إن اليهود الذين ظلوا على مر التاريخ شعباً نخبوياً واثقاً بنفسه، ومهيمناً قد غيَّروا طموحاتهم التي تشكَّلت على مدى تسعة عشر قرناً إلى طموحات جامحة بعد أن اجتمعوا في أرض مجدهم التاريخي...». وعندما ثارت ثائرة الإسرائيليين واليهود من كُتَّاب فرنسا على مقصد ديغول من كلامه، ووجَّهوا إليه من الانتقادات أشدها، فإنه بعد نُصحه الذي أشرنا إليه سدَّد إلى إسرائيل سهماً أشد إيلاماً تمثَّل بإعلانه تأييد فرنسا القرار 242 (إنهاء احتلال إسرائيل لأراض سيطرت عليها في حرب 5 يونيو 1967) وفرْض حضْر تصدير أسلحة إلى إسرائيل، وهو مطلب سبق مناشدة أوساط فرنسية وعربية صديقة لفرنسا الرئيس ماكرون الأخذ به. إلى جانب الجنرال ديغول الأب الروحي أو زارع شتلة ضرورة الأخذ بصيغة الدولتين يحْضُرنا موقف الرئيس جورج بومبيدو القائل أمام الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) عام 1973 «لن يتحقق السلام إلا عبْر الاعتراف المتبادَل وانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة»، وموقف الرئيس فاليري جيسكار ديستان عام 1975 المتمثل بالسماح بفتْح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية زمن رئاسة ياسر عرفات لها. وكذلك موقف الرئيس جاك شيراك الذي بعد توليه الرئاسة بسنة زار عرفات (أكتوبر/ تشرين الأول 1996) في مقره، الأمر الذي أزعج الحكومة الإسرائيلية، وزادها انزعاجاً حرصه على زيارة البلدة القديمة من القدس، وكأنما في ذلك يريد القول إنها ستكون عاصمة دولة فلسطين. وحتى الرئيس نيكولا ساركوزي، المتعاطف مع إسرائيل، وإلقاؤه عام 2008 خطاباً في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) سبقه خلال سنته الأولى (2007) رئيساً موقفٌ غير مكتمل الحماسة، تمثَّل بقوله إنه عازم على العمل من أجْل إقامة دولة فلسطينية. والأرجح أنه أراد بخطابه المفعم حماسة لإسرائيل في «الكنيست» إرضاء إسرائيل تعويضاً عن عزمه المشار إليه، وإن كان بعد ثلاثة أعوام (2011) دعَم طلب انضمام فلسطين إلى «منظمة اليونيسكو»، وذلك من باب المزيد من التعويض. وكذلك خلَفه الرئيس فرنسوا أولاند كان له تصريح قبل المغادرة لتسلَّم ماكرون الرئاسة، وهو «إن حل الدولتين ليس حلماً من الماضي بل لا يزال هدفاً للمجتمع الدولي». ما يتمناه العربي من المحيط إلى الخليج، مروراً غير عابر ﺑ«غزة المظلومة»، المزيد من الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية التي لا محالة قائمة.


الشرق الأوسط
منذ 2 ساعات
- الشرق الأوسط
إسرائيل المنتصرة/المهزومة
تثير الحرب، فكرةً وواقعاً، تناقضات عدّة، من أبرزها أنّها فعل إنسانيّ، بمعنى أنّ البشر هم الذين يشنّونها، لكنّها فعل غير إنسانيّ، نعمل غالباً وخطأً على نسبته إلى وحوش. ومنذ الهند واليونان القديمتين جهد الفكر البشريّ للتعاطي مع تلك المسألة وباقي مسائل الحرب، بحيث تغدو اضطراراً ولا يغدو المحارب وحشاً. وقبل قرون على صعود الإيديولوجيّات الحديثة التي افتخرت بالحروب ورفعتها إلى سويّة الفعل المجيد، كان ضبط الحرب مهمّة المفكّرين. وفي القرن الثالث عشر، صاغ توما الأكويني ما اعتبره شروطاً تلازم «الحرب العادلة» التي تُبرَّر أخلاقيّاً، كأنْ تحكمها نوايا سلميّة، وأن تُخاض في ظلّ سلطة شرعيّة، ويأتي ردّها متناسباً مع العدوان الذي تردّ عليه، كما يتوفّر لها حظّ جدّيّ من النجاح، وهذا شريطة استنفاد سائر الوسائل قبل التورّط فيها. وفي أيّامنا، عُدّ عالم السياسة الأميركيّ مايكل ولزر أكثر المنشغلين بالتمييز بين «حرب عادلة» و»حرب غير عادلة»، فوضع قوانينه التي ترسم ذاك التمييز وتشقّ طريقاً ثالثة بين «واقعيّين» يُقبلون بحماسة على أيّة حرب، و»سلميّين» (باسيفيين) ينفرون بالحماسة ذاتها من كلّ حرب. وما يعيدنا إلى المسألة هذه هو السلوك الإسرائيليّ. ذاك أنّ الدولة العبريّة حقّقت على مستوى المنطقة مجموعة انتصارات حربيّة تشكّل في مجموعها قفزة نوعيّة نحو ما يسمّيه البعض «عصراً إسرائيليّاً». بيد أنّها حصدت في غزّة هزيمة أخلاقيّة (وإعلاميّة) معتبرة يرى البعض أنّها قد تقضم، على المدى الأبعد، ذاك الانتصار. وأمام هذا الافتراق نجدنا أمام النقيض الكامل للأفكار كافّة التي حاولت أن تضبط الحرب بالأخلاق وبالقانون. والحال أنّ أوّل «النظريّة» الضمنيّة التي يستند إليها سلوك نتنياهو وحكومته أنّ صاحب القوّة قليل الحاجة أصلاً إلى القانون والأخلاق، وإلى سائر القيم التي راكمها التاريخ للحيلولة دون انفلات التوحّش. ومن يدقّق في الكلام الإسرائيليّ، الرسميّ والمبعثر، يجد حججاً آخرى تلازم الرحلة الطويلة إلى أعماق الغابة. فهناك، بالطبع، هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ودفاع إسرائيل عن نفسها، وعزوف «حركة حماس» عن تسليم باقي الرهائن وإعلان الاستسلام الكامل، و»طبيعة المنطقة» الغارقة في العنف والتي «لا تفهم إلاّ لغة القوّة»... وتجتمع تلك الحجج في تصوّر أعرض يعبّر عنه المتطرّفون الدينيّون بوضوح أكبر، مفاده أنّ الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ الذي استحال حلّه سلماً، لن تُكتب نهايته إلاّ بـ»حلّ نهائيّ» للصراع نفسه عبر جعله مستحيلاً، اليوم وفي كلّ حين. لكنّ هذا كلّه، وبغضّ النظر عن مدى دقّته، لا يفسّر الشهيّة اليوميّة لالتهام عشرات المدنيّين المتضوّرين جوعاً، وفيهم عدد معتبر من الأطفال والمسنّين والمسنّات. أمّا التفنّن في الإهانة والإذلال اللذين يطالان الأجساد كما المقدّسات فيقطع كلّ علاقة مع حسن الجوار في غد أفضل، ومع فكرة الحرب كحدث عارض ومؤسف أنتجه فشل أصاب السياسة والديبلوماسية. فإسرائيل نتنياهو تقدّم الحرب، في المقابل، كطريقة حياة مجيدة بذاتها ولذاتها، تضمن للقطيعة بين البشر خلوداً وجوهريّة لا يزولان. وهذا ذو كلفة مرتفعة على إسرائيل نفسها، على ما حذّر أكثر من إسرائيليّ. فذات مرّة احتفل العالم بانتصار حقّقته الدولة العبريّة على ثلاثة بلدان، ولسوف يكون من الصعب الاحتفال بانتصار على أطفال جائعين. وذات مرّة وُجد من تجذبه كيبوتزاتها الجماعيّة، ومن تجذبه ديمقراطيّتها البرلمانيّة، أمّا اليوم فلا يرد ذكر إسرائيل إلاّ مقروناً بالإبادة. ولئن اضطرّت أقلّيّات عربيّة تشعر بالحصار والتهديد في بلدانها إلى طلب المعونة الإسرائيليّة، فهذا لا يعدو كونه تطلّباً أمنيّاً بحتاً تمليه ظروف مقرفة في هذا البلد العربيّ أو ذاك. وبات واضحاً كذلك أنّ السعوديّة لن تلبّي رغبة إسرائيل في عقد سلام معها ما لم تنشأ دولة فلسطينيّة، أو يبدأ التقدّم نحوها، وهذا فيما العلاقات الإسرائيليّة مع مصر والأردن تتردّى. وإذا كان مطلب الدولتين، في المبادرة السعوديّة – الفرنسيّة، يكسب زخماً في أوروبا والعالم، فالقرف من إسرائيل بدأ يعمّ وينتشر. فرغم صعوبة البناء على ما يعلنه ترمب فإنّه، هو الآخر، بدأ يعبّر عن شكوكه بما يقوله نتنياهو ويفعله. وقبل يومين تراجعت إدارته عن موقفها الذي طالب المدن والولايات بعدم مقاطعة الشركات الإسرائيليّة كشرط للحصول على التمويل الخاصّ بمكافحة الكوارث. ومن المثقفّين والفنّانين والأكاديميّين إلى الرياضيّين والترفيهيّين تتكاثر أعداد الذين يقاطعون كلّ ما يمتّ بصلة إلى إسرائيل، وهذا فيما الأجيال الأميركيّة والأوروبيّة الأصغر تلتقط الدولة العبريّة بأطراف أصابعها، مُعيدةً النظر بالمواقف التي وقفتها الأجيال الأكبر. ولا بدّ لبعض هذا الغضب، وهو ما يحصل راهناً، أن يعزّز مواقف لاساميّة وعنصريّة تهدّد أمن اليهود في العالم. فنتنياهو، الهارب من المحاكم، يعيد تأسيس بلده بوصفه غيتو لُحمته حرب إباديّة لا تداخلها قوانين أو أخلاق. وهو يمضي في خنق غيتو مجاور يسكنه البشر المعرّضون للإبادة، علماً بأنّ الأخير هو تقليديّاً الغيتو اليهوديّ الذي يقيم فيه راهناً الفلسطينيّون.