logo
كيف تمكنت إيران من خداع الدفاع الجوي الإسرائيلي؟

كيف تمكنت إيران من خداع الدفاع الجوي الإسرائيلي؟

الجزيرةمنذ يوم واحد

مساء الجمعة 13 يونيو/حزيران، أعلنت إيران إطلاق هجوم واسع على مواقع إسرائيلية ردا على الغارات التي استهدفت طهران ومدنا إيرانية وأدت إلى مقتل العشرات صباح يوم أمس، بينهم مجموعة من قادة الصف الأول من العسكريين والخبراء النوويين.
وأكدت وكالة الأنباء الإيرانية ما وصفته بـ"بدء الرد الإيراني الساحق" عبر إطلاق مئات الصواريخ الباليستية تجاه إسرائيل. ومن جهتها طالبت الحكومة الإسرائيلية المواطنين بدخول غرفهم المحصنة بعد رصد إطلاق صواريخ من إيران وما صاحبه من دوي لصفارات الإنذار في تل أبيب والقدس وعدة مدن أخرى.
وقد أعلن الإسعاف الإسرائيلي -صباح اليوم السبت- مقتل 3 إسرائيليين وإصابة 172 آخرين، في أعقاب وابل من الضربات الصاروخية والطائرات المسيرة الإيرانية على مناطق متفرقة من وسط وشمال إسرائيل.
ونقلت القناة الـ13 الإسرائيلية عن مسؤولين قولهم إن منطقة تل أبيب الكبرى تعرضت لـ"دمار غير مسبوق لم نعهد مثله سابقا".
وفي حين أن الكثير من التحليلات قد كُتبت حول الضربة الإسرائيلية على إيران ومدى تعقيدها، فإن السؤال الذي يجدر أيضا الإجابة عنه هو: كيف تمكنت إيران من اختراق الطبقات المعقدة للدفاع الجوي الإسرائيلي وتحقيق ضربات مؤثرة ومدمرة في عمق إسرائيل؟
لفهم طبيعة الضربة الإيرانية، يجدر بنا الوقوف قليلا عند السلاح الأساسي الذي اعتمدت عليه إيران في هجومها، وهي الصواريخ الباليستية.
إعلان
تعرف الصواريخ الباليستية بأنها تلك التي تتخذ مسارًا منحنيا يشبه قوسا ضخما يتم تحديده منذ لحظة انطلاق الصاروخ حتى يصيب الهدف المحدد.
يبدأ الأمر بتشغيل الصاروخ بواسطة محرك يدفعه إلى الغلاف الجوي العلوي أو حتى إلى الفضاء الخارجي، ثم ينحرف الصاروخ في مسار مكافئ خارج الغلاف الجوي، ومن ثم يعود إلى الغلاف الجوي للأرض ويهبط نحو الهدف، مسترشدًا بالجاذبية.
تمتلك هذه الصواريخ مزايا عدة تجعلها أداة مركزية للعديد من الجيوش المعاصرة بما في ذلك إيران، حيث يمكن أن تصل إلى سرعات كبيرة ما يعطي ميزة في العمليات السريعة المباغتة، كما يمكن تصنيع الصواريخ الباليستية في مديات متنوعة جدا، تبدأ من أقل من ألف كيلومتر، ولكنها تصل إلى مستوى عابر للقارات (11 أو 12 ألف كيلومتر مثلا).
ورغم عدم وجود بيانات رسمية حول أعداد الصواريخ الباليستية الإيرانية، فإن ما نعرفه هو أن إيران أجرت تحسينات كبيرة طوال العقد الماضي في مستوى دقة صواريخها الباليستية، حيث تستخدم بعض الصواريخ الإيرانية، مثل صواريخ "فاتح-313″ و"قيام-1" أنظمة توجيه دقيقة للغاية.
"فاتح-313" تحديدا هو صاروخ باليستي قصير المدى (حوالي 500 كيلومتر) تم تجهيزه بنظام توجيه متقدم يتضمن الملاحة بالقصور الذاتي وربما التوجيه عبر الأقمار الصناعية، مما يسمح بدقة عالية في الاستهداف. في حين يستخدم "قيام-1" نظام توجيه يمزج بين الملاحة بالقصور الذاتي والتوجيه الطرفي، مما يحسن دقته وفعاليته ضد أهداف محددة.
كذلك أولت إيران الكثير من الاهتمام لتطوير الصواريخ التي تعمل بالوقود الصلب، والذي يُسرّع من عملية إطلاق الصاروخ مقارنة بالوقود السائل، ما يجعله مثاليا لسيناريوهات رد الفعل والانتشار السريع، مثل الاستجابة لهجوم قادم أو القيام بضربات مفاجئة.
كما أن الوقود الصلب أكثر استقرارًا ويُسهّل إعداد الصواريخ ونقلها بسرعة، فضلًا عن كونه أكثر قابلية للاستخدام في الصواريخ متعددة المراحل، وهذا يجعله مناسبًا للصواريخ طويلة المدى والعابرة للقارات، حيث الدقة والموثوقية أمران حاسمان.
سياسة الإغراق
لكن تطوير دقة ومدى الصواريخ الباليستية لا يُمكّن وحده من خداع منظومة متعددة الطبقات مثل تلك التي تستخدمها إسرائيل للدفاع الجوي خاصة بعد أن دعمتها واشنطن بنظام "ثاد" الأكثر تطورا.
ولذلك تعتمد إيران على عدد من التكتيكات الإضافية التي يمكن أن تساعد في الضغط على تلك المنظومة وإفشالها، وأول هذه التكتيكات هي إغراق المنظومة الدفاعية بالصواريخ والمسيرات، فمهما بلغ أي نظام للدفاع الجوي من القوة والدقة، فإن لديه سقفا لقدرته على الصد، ويبدأ في فقدان فعاليته عند تجاوز هذا السقف.
لذلك، لاحظنا يوم أمس الجمعة، بالإضافة لما جرى في هجمة أكتوبر/تشرين الأول 2024 في العملية التي أطلقت عليها إيران اسم "الوعد الصادق 2″، أنها لا تطلق صواريخ مفردة، بل تطلق رشقات صاروخية متزامنة تستطيع أن تحقق إشغالا وإغراقا للمنظومة الدفاعية الإسرائيلية، وهو أمر شبيه لما قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية في أوقات سابقة حينما تقرر إطلاق صواريخ على الأراضي المحتلة.
وبالانتقال للحديث التقني، تمتلك كل بطارية من بطاريات القبة الحديدية نحو 60 صاروخا اعتراضيا ويعتقد أن إسرائيل لديها 10 بطاريات أو أكثر قليلا من بطاريات القبة الحديدية العاملة، ما يعني أنها في حدها الأقصى قادرة على اعتراض "مئات الصواريخ" قبل أن يتعين عليها تجديد مقذوفاتها.
ويعني ذلك أنه بالنسبة لهجمات الصواريخ قصيرة المدى، فإن هجومًا مستمرًا يتضمن إطلاق مئات الصواريخ على سبيل المثال في غضون فترة زمنية قصيرة جدًا سيجهد قدرة القبة الحديدية على الصد ومن ثم يضمن مرور الصواريخ إلى أهدافها، ويمكن أن يدعم هذا الزخم إطلاق مجموعة مسيرات مصاحبة للصواريخ الباليستية، مما يزيد من احتمالية وصول عدد أكبر من الصواريخ للمناطق المستهدفة.
وعلى الوتيرة نفسها يمكن لهجوم منسق من عدة مئات من الصواريخ الباليستية متوسطة ​​المدى أن يضع منظومة مقلاع داود في حالة إجهاد، بل ويمكن لعدة عشرات من الصواريخ الباليستية طويلة المدى في وقت واحد أن تتسبب في درجة من الإجهاد لأنظمة "أرو 2″ و"أرو 3" وحتى "ثاد".
في الواقع، لقد سبق أن أعرب مسؤولون في الجيش الإسرائيلي عن مخاوف من تعرض أنظمة الدفاع الصاروخي للإجهاد إذا تم إطلاق عدد كبير من القذائف في وقت واحد، جاء ذلك في سياق توقع إسرائيل أن يتمكن خصومها من إطلاق حوالي 3 آلاف صاروخ وقذيفة كل يوم في خضم حرب شاملة، وهو ما يتجاوز قدرة الأنظمة على اعتراضها.
كل هذا ولم نتحدث بعد عن المشاكل التقنية الكامنة في منظومة الدفاع الإسرائيلية على قوتها، فمثلا يرى ثيودور بوستول من معهد ماساتشوستس للتقنية، أن نِسَب اعتراض القبة الحديدية للصواريخ القادمة من غزة أقل من 10%، ذلك لأن الصاروخ الاعتراضي في الغالب لا يصيب الصاروخ القادم، بل ينفجر إلى جواره في مناورة لا تدمر الرأس الحربي، وبالتالي فإنه يسقط وربما ينفجر على الأرض رغم اعتراضه "تقنيا" بنجاح.
يتفق هذا الرأي نسبيا مع تقييمات ريتشارد لويد، خبير الرؤوس الحربية سابقا في شركة ريثيون، وآخرين من داخل جيش الاحتلال نفسه، مثل روفين بيداتسور، الطيار المقاتل السابق في جيش الاحتلال وأحد مؤيدي الأنظمة الدفاعية القائمة على الليزر، وموردخاي شيفر الحائز على جائزة الدفاع الإسرائيلية، الذين يقدرون الفاعلية الحقيقية للمنظومة بين 5% إلى 40% بحدّ أقصى.
في الحقيقة، فإن صواريخ إيران قادرة على إحداث أضرار موجعة لإسرائيل حال اتخذت القرار السياسي لفعل ذلك كما شاهدنا مؤخرا رغم الاختلال في ميزان القوة الذي يرجح كفة جيش الاحتلال بكل تأكيد من حيث نوعية الأسلحة المتطورة التي يمتلكها من ناحية، والدعم الأميركي والغربي غير المحدود من ناحية أخرى.
يتفق ذلك مع ما جاء في مقال نُشر عام 1994، لأستاذ الفيزياء النووية بيتر زيمرمان، أكد خلاله أن دولًا مثل إيران لا تحتاج إلى "ميدالية ذهبية" من ناحية التكنولوجيا العسكرية لتكون فعالة وجاهزة للمواجهة، ولكن في كثير من الأحيان، تكون تكنولوجيا "الميدالية البرونزية" أكثر من كافية. ما يقصده زيمرمان هو أنه يمكن تكييف التقنية العسكرية بشكل يجعل الأسلحة الأقل دقة أكثر فاعلية.
والواقع أن إيران لا تعتمد فقط على الصواريخ الباليستية، تعمل إيران على تطوير 3 أسلحة هجومية جوية وليس سلاحا واحدا فقط، الأول هو الصواريخ الباليستية سالفة الذكر، والثاني هو المسيرات القتالية، والثالث هو صواريخ كروز الهجومية الأرضية التي تحلّق على ارتفاع منخفض وتتمكن من مراوغة الرادارات.
حققت إيران درجة من التقدم في إنتاج المسيرات القتالية، وليس هناك دليل على ذلك أكثر من مسيرات شاهد 136 الانتحارية، فبحلول الأشهر الأولى من عام 2023 كانت هذه المسيرة جزءا رئيسيا من ترسانة الروس في الحرب الأوكرانية، دل على ذلك تصاعد وتيرة وشدة الهجمات في جميع أنحاء أوكرانيا، التي استطاعت شاهد من خلالها أن تُثبت جدارة واضحة في مهماتها لدرجة أن الروس عملوا على تطويرها إلى نسخة أخرى أكثر تطورا هي "شاهد-238".
إلى جانب ذلك فقد تمكنت إيران من تطوير مجموعة متنوعة من صواريخ كروز المجنحة، التي تمتلك ميزة التخفي بسبب طيرانها على ارتفاع منخفض، كما أن لديها القدرة على المناورة كالطائرات مما يصعّب اكتشافها بواسطة أنظمة الرادار واعتراضها عبر أنظمة الدفاع الصاروخي التقليدية. من هذه الصواريخ سومار، وهو صاروخ كروز هجومي بري بعيد المدى (بين 700 إلى 3 آلاف كيلومتر)، وهويزة (بمدى 1350 كلم).
يعني ذلك أن إيران يمكنها تنفيذ حرب أسلحة مشتركة، وهو أسلوب قتالي يسعى إلى دمج الأسلحة القتالية المختلفة للجيش لتحقيق تأثيرات تكاملية.
على سبيل المثال، يمكن استخدام الطائرات المسيّرة الإيرانية لمهاجمة رادارات الدفاع الجوي في المراحل الأولى من هجوم شامل، هنا ستتحول قدرات الدفاع الجوي الأخرى لصد هجوم المسيّرات، ما يترك الطريق مفتوحا أمام ضربات صاروخية باليستية وأخرى بصواريخ كروز فلا تتمكن الدفاعات من صدها جميعا، خاصة مع اختلاف تكتيكات عمل كل منها.
أضف لذلك أن المسيرات نفسها عادة ما تنطلق في صورة أسراب متنوعة الوظائف والمدى والقدرة، بعضها يضرب مباشرة والبعض الآخر يتسكع جويا بانتظار نقطة ضعف تحددها مسيرات الاستطلاع، ما يزيد تعقيد الضربة.
الصواريخ الفرط صوتية
وإلى جانب تطوير الصواريخ، والإغراق، وتنويع الضربات كما ونوعا، تعمل إيران على دعم قدرتها على اختراق الدفاعات الجوية متعددة الطبقات، عبر تطوير الصواريخ الفرط صوتية كجزء من برنامجها الصاروخي المتنامي.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أعلنت إيران أنها طورت أول صاروخ فرط صوتي لتنضم بذلك إلى ناد شديد الحصرية يُشغّل هذا النوع من الصواريخ، يضم الولايات المتحدة وروسيا والصين فقط.
وبحلول يونيو/حزيران 2023، كشفت إيران رسميًا عن صاروخها الفرط صوتي باسم "فتاح"، بمدى يبلغ 1400 كيلومتر، ورغم أنه ليس بعيد المدى مثل بعض الصواريخ الباليستية الإيرانية، فإنه أكثر من كاف لضرب الأهداف في إسرائيل.
وتعرّف الصواريخ الفرط صوتية بأنها تلك التي تتمكن من تجاوز 5 أضعاف سرعة الصوت. وإلى جانب سرعتها العالية، فإن لديها القدرة على المناورة على طول مسارها عبر تغيير اتجاهها لمسارات منخفضة قريبة من الأرض دون أن تفقد سرعتها.
وبسبب ذلك ينطلق تحذير رادار الإنذار المبكر قبل وقت قصير جدا من الضربة، لدرجة أنه قد لا يوجد حينها شيء لفعله، حيث يكون الوقت بين استشعار اقتراب الصاروخ واستجابة الدفاعات الأرضية أطول من المدة اللازمة لوصول الصاروخ إلى الهدف.
وهناك نوعان معروفان من الصواريخ الفرط صوتية، الأول هو صواريخ كروز المجنحة، والثاني (الذي يشمل فتاح) هو المركبات الانزلاقية، تلك التي تركّب على صاروخ باليستي يصعد بها أعلى الغلاف الجوي، ثم يترك المركبة "لتنزلق" على الهواء فتكتسب السرعة أثناء نزولها، ومن ثم تجري نحو الهدف في مسار منخفض.
لا نمتلك إلى الآن الكثير من المعرفة عن صواريخ فتاح وقدراتها ودرجات دقتها، لكن بشكل عام فإن هذا النوع من الصواريخ يمثل خطورة على أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية متعددة الطبقات، خاصة إذا أُطلق ضمن ضربة شاملة تحتوي على صواريخ متنوعة ومسيرات.
وفي الختام، فإن المواجهة الحالية المباشرة بين إيران وإسرائيل ستفتح الباب مواربا على صفحة جديدة من الصراع الذي لم تعتده إسرائيل، فهي وإن كانت معتادة على مواجهة جماعات مسلحة ما دون الدولة في العقود الأخيرة، فإنها اليوم تواجه دولة تمتلك مخزونا عسكريا كبيرا، وهو ما سيضع كافة المنظومة العسكرية الإسرائيلية في اختبار شديد التركيب والخطورة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع

الجزيرة

timeمنذ 21 دقائق

  • الجزيرة

أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع

في 7 يونيو/حزيران 1997 سقطت الكاتبة المصرية أروى صالح من شرفة في الطابق العاشر، وتركت على الطاولة كتابا وحيدا يحمل عنوانا دالا "المبتسرون.. دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية". لم يكن ذلك مجرد انتحار فردي، بل صدمة ثقافية ما زالت أصداؤها تتردد في وجدان من اختاروا الصدق مع أنفسهم، كانت تلك القفزة الأخيرة خلاصة تجربة فكرية وإنسانية بلغت مداها عندما عجزت الكلمات عن الاحتمال. برزت أروى صالح في أوائل السبعينيات باعتبارها إحدى القيادات الطلابية اليسارية التي واجهت النظام السياسي في واحدة من أعقد لحظات مصر الحديثة، انخرطت في تنظيمات ماركسية سرية، خاصة مجموعة "العمل الشيوعي المصري"، واعتُقلت وتعرضت لما وصفته لاحقا بـ"الخذلان المزدوج"، من الدولة ومن رفاق الطريق، لكنها لم تغادر الفكرة، بل اختارت لاحقا أن تكتب عنها بشجاعة من داخل جرحها. يعد "المبتسرون" واحدا من أكثر النصوص السياسية الذاتية جرأة في المكتبة العربية الحديثة. و"المبتسرون" تعبير يشير إلى الأشخاص الذين لم يكتمل نموهم أو الذين وُلدوا قبل الأوان، وهذا الكتاب نص يعبر حدود الاعتراف إلى تفكيك الذات الثورية، وينقض الخطابات التي طالما تغنّى بها اليسار المصري عن النقاء والتضحية. وقد روت أروى بلغة تتراوح بين السرد والتحليل كيف تحوّل العمل الثوري في التنظيمات اليسارية إلى مجال للمساومة والتسلط الذكوري والنفاق الطبقي، وكيف تم إسكات النساء حتى داخل الحركات التي تزعم الدفاع عن الحرية والعدالة. ربما لم تكن أروى تحاكم أحدا، بل كانت تحاكم نفسها، وحين فعلت ذلك كشفت -دون قصد أو ادعاء- هشاشة البنية الثقافية التي احتضنت جيلها، وأوهام البطولة التي ارتداها كثيرون ممن كانوا في الصدارة، لم يكن كتابها مرافعة ولا مرثية، بل شهادة قاسية من داخل الانهيار. وثيقة لجيل مهزوم تجاهل الإعلام الرسمي الكتاب عند صدوره، ومر الحدث الثقافي كما لو أنه لم يكن، لكن مع مرور السنوات عاد القراء إلى "المبتسرون" باعتباره وثيقة مهمة لجيل مهزوم، ومرآة جريئة تجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها. تعيدنا أروى بعد 28 عاما على رحيلها إلى سؤال لا يكف عن الإلحاح: ماذا تبقّى من الثورات حين تنطفئ؟ وماذا يبقى من المثقف حين يُسكت صوته من الداخل؟ ورغم كل تلك السنوات فإن أروى صالح تعد واحدة من أبرز المثقفات المصريات اللواتي لمع حضورهن، ثم انكفأن على الذات في ما بعد عقب مراجعة فكرية حادة ومؤلمة وصلت بها في النهاية إلى الانتحار. ولعل البعض يخاف من إعادة قراءة أروى صالح، إنهم يخشون أن يرى الجيل الجديد أن اليسار كان أحيانا أكثر قسوة من خصومه، وأن الأحلام حين تتصلب تتحول إلى أدوات تعذيب. يذكر أن أروى صالح ولدت في القاهرة عام 1951، ودرست في كلية الآداب- قسم اللغة الفرنسية بجامعة القاهرة، عُرفت قائدة طلابية في انتفاضة الطلاب عام 1972، واعتُقلت ضمن موجة الاعتقالات التي أعقبت انتفاضة يناير/كانون الثاني 1977 (انتفاضة الخبز)، وقد تعرضت للتعذيب والاعتقال، وخرجت لاحقا من السجن بتجربة نفسية شاقة. صدر كتابها الأشهر "المبتسرون" عن دار ميريت عام 1996، وهو يقدم شهادة ذاتية جريئة وعارية ترصد الانهيار الداخلي لجيل كامل آمن بالثورة واليسار والتغيير، ثم تكسّر على صخور الواقع السياسي والاجتماعي وعلى التناقضات الذاتية والأخلاقية داخل التنظيمات اليسارية نفسها. نقد جذري في كتابها، تنتقد أروى بشراسة رموز اليسار الذين تخلوا عن مبادئهم، ولا تتوانى عن توجيه نقد جذري إلى جيلها من مثقفي اليسار المصري، خصوصا لأولئك الذين انتموا إلى الطبقة الوسطى وعاشوا تناقضاتهم دون مساءلة. تقول "ليس هناك من هو أخطر من البرجوازي الصغير، المتعلم، الخجول، الشريف، الأخلاقي إلى حد التطهر، بالذات لو قرر أن يتدخل ليعدل "مسار التاريخ". وبهذه الجملة الكاشفة تفكك أروى شخصية المثقف الذي يحاول الإمساك بزمام التغيير فيما يتكئ بوعي أو بدونه على ميراث من الامتياز الطبقي والرمزي. إنها تقلب الصورة النمطية عن المناضل التقدمي، لتكشف كيف تتحول الأخلاقية الزائفة إلى قناع للتواطؤ، وكيف يصبح هذا البرجوازي الصغير -لا خصوم الثورة- هو أكثر من يهددها من الداخل. ثم في لحظة أكثر قتامة تكتب "لقد تهاوت الحدود التي كانت واضحة حتى الأمس بين الحقيقة والزور، والخصوم والحلفاء، وأيضا بين الصواب والخطأ". هنا، تتجاوز أروى نقد السلوك إلى نقد البنية الرمزية بكاملها متأملة الانهيار القيمي الذي أصاب جيل ما بعد السجن، ذلك الجيل الذي خرج من التجربة مهزوما لا سياسيا فقط، بل معرفيا وأخلاقيا أيضا. بين الاقتباسين ترسم أروى ملامح انكسار تاريخي لم تصمد فيه الشعارات أمام اختبار الحياة، ولم تصمد فيه النفوس أمام هشاشتها الأصلية. في هذا الكتاب، كشفت الكاتبة الراحلة عن تناقضات جسدية ونفسية وجندرية عاشتها نساء اليسار المصري، حيث كان الرفاق الذكور يرفعون شعارات الحرية فيما يمارسون السيطرة والعنف الرمزي والجنسي على النساء في الواقع. أُهمل كتاب "المبتسرون" إعلاميا في حينه، لكنه أصبح لاحقا مرجعا نقديا مهما في قراءة الحركة الطلابية و"أدب المراجعة"، وفضح استبداد التنظيمات الثورية. وقد نالت أروى صالح تقديرا متأخرا بين المثقفين المصريين والعرب، وأصبحت رمزا لـ"مثقف الخسارة" أو "الانشقاق". وهي تُذكر اليوم باعتبارها إحدى الكاتبات القلائل اللواتي كتبن عن انهيار الحلم الاشتراكي من الداخل، لا بوصفه خيانة فقط، بل كخديعة ذاتية شارك فيها الجميع. ربما لم تنته قصة أروى عند السقوط، بل بدأت حيث تعثّر الآخرون في قول الحقيقة.

توقعات بتصعيد الهجمات الإيرانية والرئيس الإسرائيلي يتفقد بات يام
توقعات بتصعيد الهجمات الإيرانية والرئيس الإسرائيلي يتفقد بات يام

الجزيرة

timeمنذ 23 دقائق

  • الجزيرة

توقعات بتصعيد الهجمات الإيرانية والرئيس الإسرائيلي يتفقد بات يام

قال مصدر في المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابينت) للقناة 15 الإسرائيلية إن إيران ستصعد هجماتها، متابعا "نحن فقط ما زلنا في بداية الحدث"، في حين تفقّد الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ موقع سقوط الصواريخ الإيرانية في بلدة بات يام بتل أبيب. وأضاف المصدر "قد نشهد أمورا تفوق ما رأيناه أمس وسنزيد من ضرباتنا". وقال مسؤول عسكري إن إسرائيل لديها قائمة كبيرة من الأهداف في إيران لم تضربها بعد. في الأثناء، نقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مصادر في الجيش أن التقديرات كانت تشير إلى أن الرد الإيراني سيكون عنيفا. في حين قالت القناة 12 الإسرائيلية إن وزراء الحكومة تلقوا تعليمات بعدم إجراء مقابلات إعلامية بشأن إيران. في الوقت نفسه، أفادت وسائل إعلام إسرائيلية أن الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ ووزيري الدفاع يسرائيل كاتس والأمن القومي إيتمار بن غفير تفقدوا موقع سقوط الصواريخ الإيرانية في بلدة بات يام جنوبي تل أبيب. وقال وزير الدفاع الإسرائيلي خلال زيارته التفقدية إن "الخطة تسير كما هو مخطط لها، بل وأكثر من ذلك"، على حد وصفه. وقد أسفرت الهجمات الإيرانية على بلدة بات يام عن مقتل 6 إسرائيليين وإصابة 200 آخرين، إضافة إلى تضرر عشرات المنازل والمباني، علما بأن وسائل إعلام إسرائيلية تحدثت عن أعداد أكبر.

الحرب الإسرائيلية الإيرانية إلى أين؟ وما أفضل خيارات الأطراف المعنية؟
الحرب الإسرائيلية الإيرانية إلى أين؟ وما أفضل خيارات الأطراف المعنية؟

الجزيرة

timeمنذ 23 دقائق

  • الجزيرة

الحرب الإسرائيلية الإيرانية إلى أين؟ وما أفضل خيارات الأطراف المعنية؟

تتصاعد الضربات الإسرائيلية والإيرانية المتبادلة، وسط تساؤلات تثار بشأن مصير الحرب التي اندلعت، وأفضل الخيارات بالنسبة لكل من تل أبيب وواشنطن وطهران. يقول رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الخليل بلال الشوبكي إن هناك إصرارا إسرائيليا على استمرار العمليات العسكرية، معربا عن قناعته بأن التوقف حاليا يعني "خسارة إسرائيلية". وأوضح الشوبكي -في حديثه للجزيرة- أن التوقف الآن يشكل "معضلة" لإسرائيل والولايات المتحدة، بعد "رد فعل إيران وترميم صورتها وإعادة إنتاج نفسها رغم الخسائر والضربات التي تلقتها". وفي هذا السياق، نقلت القناة 15 الإسرائيلية عن مصدر بالمجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت) قوله "نحن فقط في بداية الحدث وسنزيد من ضرباتنا"، مضيفا "إيران ستصعّد هجماتها، وقد نشهد أمورا تفوق ما رأيناه". وحسب الشوبكي، فإن الولايات المتحدة تسهم في إعطاء "مؤشرات مغلوطة للإيرانيين تربك طهران في اتخاذ المواقف"، كما أن واشنطن تريد إبقاء باب المفاوضات مفتوحا، وهي رغبة إيرانية أيضا. ووصف إبقاء خيار المفاوضات بـ"الحكيم" فالمشهد العسكري غير واضح، لافتا إلى أن دخول واشنطن في مواجهة عسكرية يعني إغلاق باب المفاوضات وضرورة حسم المشهد عسكريا. ويتناقض هذا المشهد -حال حدوثه- مع المبادئ التي أعلنتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب برغبتها في وضع حد نهائي للحروب وإنهائها لا إشعالها والانخراط فيها. وأعرب عن قناعته بأن الدفع نحو إسقاط النظام الإيراني يعني "استماتة طهران بالدفاع عن وجودها وتفعيل كل مقدراتها للإضرار بمصالح أميركا وحلفائها في المنطقة"، في وقت تربط فيه واشنطن مشاركتها في عمليات عسكرية ضد إيران بالإضرار بمصالحها. أفضل الخيارات وخلص رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الخليل إلى أن المفاوضات تبقى الخيار الأمثل للإيرانيين رغم عدم ذهاب طهران إلى جولة مسقط. وقال إن إيران كانت تدرك أن العودة سريعا إلى طاولة التفاوض يعني "انتحارا سياسيا والانتقال من التفاوض إلى إملاءات"، بعد الضربة الإسرائيلية الاستباقية. فكان لزاما على إيران اتخاذ موقف "أكثر تشددا مع رد عسكري يمكنها من تمرير أي تنازلات أمام شريحة واسعة من مواطنيها وحلفائها"، حسب الشوبكي. وأعرب عن قناعته بأن هدف دوائر صنع القرار في واشنطن يكمن في "إجبار إيران على العودة إلى طاولة التفاوض وهي أضعف من قبل، والقبول بما لم تقبل به سابقا". وفي ضوء هذا المشهد، تجد إيران نفسها أمام معضلة الوقت، إذ عليها إجراء حسابات معقدة قبل كل قصف صاروخي ضد إسرائيل، ولا يعرف مدى قدرتها على استمراره، وكذلك مدى تحمل الجبهة الداخلية الإيرانية للضربات الإسرائيلية. في المقابل، لم يعد الخطاب الإسرائيلي بعد الحرب يتحدث عن البنى التحتية الإيرانية بل النظام الإيراني وتدمير مقدراته العسكرية. وتعتقد إسرائيل أن بقاء النظام الإيراني يعني بقاء المشكلة، إذ إنه سيعيد إنتاج مقدراته ومعالجة الأضرار التي طالتها، معتمدا على المعرفة التي اكتسبها، حسب الشوبكي. لكن موقع "جويش إنسايدر" نقل عن مصدر أمني إسرائيلي قوله إنه "ليس من أهدافنا إسقاط النظام الإيراني، لأن هذا لن يحظى بشرعية دولية"، مؤكدا "ضرورة تدمير البرنامج النووي الإيراني وليس فقط إلحاق الأضرار به".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store