logo
ممر ترامب" الجديد.. فرصة كبيرة لتركيا وفخ لروسيا وإيران

ممر ترامب" الجديد.. فرصة كبيرة لتركيا وفخ لروسيا وإيران

الجزيرةمنذ 17 ساعات
قبل أشهر كان الحديث متصاعدا بشأن ممر "أراس" المحتمل إنشاؤه لربط الأراضي الأذربيجانية بإقليم نخجوان عبر الأراضي الإيرانية.
لكن فجأة ومثلما يحدث في مباريات الشطرنج، نجحت الولايات المتحدة في قلب الطاولة رأسا على عقب من خلال عدة تحركات مهمة قادت إلى جمع الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، ورئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، في البيت الأبيض، لتوقيع اتفاق سلام، بحضور الرئيس الأميركي، دونالد ترامب.
لم تكن المفاجأة في توقيع الطرفين الاتفاق، إذ سبق أن أعلنت الدولتان نهاية 2023 عزمهما "تنظيم العلاقات وتوقيع اتفاق سلام على أساس احترام مبادئ السيادة ووحدة الأراضي".
لكن الأهمية الحقيقية، تكمن في إعلان ترامب، توصل "بلاده لاتفاق مع أرمينيا قد يمتد حتى 99 عاما من أجل تطوير ممر زنغزور (الواصل بين أذربيجان، وتركيا مرورا بأرمينيا وجمهورية نخجوان ذاتية الحكم)"، مضيفا أنه "في الوقت الذي ستواصل فيه أذربيجان احترام سيادة أرمينيا، ستضمن الوصول الكامل لإقليم نخجوان (التابع لأذربيجان)".
إعادة التموضع الأميركي جنوب القوقاز، أثارت العديد من التساؤلات عن الأهداف الكامنة وراء إلقاء واشنطن بثقلها فجأة في المنطقة وارتباطها بتأسيس النظام العالمي الجديد؟ وكيفية تعامل روسيا وإيران مع هذا الحضور الأميركي؟ إضافة إلى تأثير ذلك على المصالح التركية في المنطقة؟
إعادة رسم الخرائط
تعد منطقة أوراسيا ببعديها الجغرافي والسياسي واحدة من أهم مناطق العالم ذات النفوذ الإستراتيجي، حتى وصفها المستشار السابق للأمن القومي الأميركي، زبغنيو بريجينسكي، بـ "قلب العالم"، و"مركز القوة العالمية الجديد".
من هنا تدرك واشنطن أن سيطرة أي قوة على هذه المنطقة تقودها إلى فرض الهيمنة على العالم سواء بشكل أحادي القطبية، أو حتى متعدد الأقطاب.
وفي هذه المرحلة الانتقالية التي يعيشها العالم ترقبا لولادة نظام عالمي جديد كان لا بد أن تسعى واشنطن لتعزيز وجودها في منطقة أوراسيا، ولتوجيه ضربة جيوستراتيجية لكل من روسيا وإيران.
وليس هناك أفضل من السيطرة على الممرات البرية والبحرية الهامة، لتعزيز هذه المكانة، فكان القرار الأميركي بالسيطرة على ممر زنغزور من خلال اتفاق السلام بين أذربيجان وأرمينيا.
ملامح الإستراتيجية الأميركية الجديدة، عبر عنها سفيرها لدى تركيا، توم باراك، في تصريحات مهمة أدلى بها لتلفزيون خبر تورك في نهاية يوليو/تموز الماضي، لكنها لم تأخذ حقها من الذيوع والتحليل حينها، وإن عادت إلى الواجهة مجددا باتفاق السلام.
باراك في تصريحاته، حدد ملامح الرؤية الأميركية عبر النقاط التالية:
حل قضية غزة وربطها بإعادة هيكلة حقيقية في المنطقة.
ربط تركيا، ودول الخليج، وسوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، إضافة إلى أذربيجان، وأرمينيا مع إسرائيل من خلال اتفاقية "أبراهام".
التأكيد على أن المنطقة التي تمتد من المحيط الهندي جنوبا إلى القوقاز شمالا، ومن البحر المتوسط غربا، إلى آسيا الوسطى شرقا، ستكون نواة لأقوى مناطق العالم نظرا لما ينتظرها من مشاريع تنموية هائلة، وتحولها إلى ممرات آمنة للتجارة العالمية من آسيا إلى أوروبا. وذلك حسب تعبيره.
هذه الرؤية الأميركية تفسر لنا جانبا من السلوك الأميركي في دعم سوريا من بعد الأسد، والإصرار على تجريد الأحزاب والتنظيمات العابرة للحدود، وخاصة المرتبطة بإيران من سلاحها مثل حزب الله في لبنان، والمليشيات العراقية.
كما أن هذا التوجه الأميركي يشرح لنا رؤيتها لوضع تركيا خلال المرحلة المقبلة والتي عبر عنها باراك في ذات الحوار بقوله: " ينبغي ألا تكون تركيا شريكا دفاعيا لحلف الناتو فحسب، بل شريكا إقليميا أيضا. بفضل قدراتها الدفاعية والإنتاجية، يجب أن تكون، إلى جانب الولايات المتحدة، محور هذه الآلية الأمنية، ليس فقط للمنطقة الممتدة غربا، بل للمنطقة بأكملها الممتدة شرقا".
إذن التحرك الأميركي لا يمكن عزوه للرغبات الشخصية لترامب، بالحصول على جائزة نوبل للسلام كما فسره البعض، بل يأتي ضمن حزمة متكاملة لتطويق الغريم الروسي، بوجود أميركي فعال جنوب القوقاز، لتعميق المعاناة الروسية الجيوبولتيكية، إذ من المعروف أن المنافذ التي توصل روسيا إلى المياه الدافئة غربا تخضع لسيطرة دول حليفة للولايات المتحدة، سواء من خلال البحر الأسود، أو بحر البلطيق، وصولا إلى البحر الأبيض شمال روسيا.
كما أن هذه التمظهرات الأميركية في زنغزور والتي ستمتد وفق الاتفاق إلى قرابة مائة عام، ستتطور دونما شك ولن تظل مجرد "شركة" مهمتها رعاية وتشغيل الممر الإستراتيجي.
رسم الخرائط وفق الإستراتيجية الأميركية، لن يقتصر تأثيره على روسيا فقط، بل سيمتد إلى إيران، التي ستفقد عمقها الإستراتيجي الشمالي في أرمينيا التي ترتبط معها بمصالح وعلاقات تاريخية، وتعد ممرا مهما إلى البحر الأسود.
كما يجب الإشارة إلى أن الاتفاق ذكر صراحة إنهاء عمل مجموعة مينسك التي شكلتها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عام 1992، لحل النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، وظلت رئاستها منذ ذلك الحين شراكة بين الولايات المتحدة، وروسيا، وفرنسا، لكن بإلغائها ستتفرد واشنطن بالملف على حساب الدور الروسي والأوروبي.
يمكن القول إن روسيا وإيران تدفعان معا ثمن الحسابات الإستراتيجية الخاطئة، ضمن حزمة من الأخطاء ترتكبها الدولتان ليس في القوقاز وحدها بل في نقاط حيوية أخرى.
فروسيا كان ينظر إليها باعتبارها صاحبة القرار في المنطقة، التي كانت ضمن أملاك الاتحاد السوفياتي المنحل، كما ارتبطت بعلاقات تحالف وثيقة وتاريخية مع أرمينيا، فيما عززت علاقتها بأذربيجان باتفاقيات مهمة.
في موازاة ذلك، كانت رئيسا مشاركا لمجموعة مينسك كما أسلفنا القول، لكن تعاملها مع الأزمة على مدار عقود، كان تعاملا باردا، ربما اطمئنانا إلى النجاح العسكري الذي أحرزته أرمينيا منذ تسعينيات القرن الماضي، واستطاعت بمقتضاه السيطرة على إقليم ناغورني قره باغ.
لكن ومع التطورات التي شهدها الإقليم منذ انتصار أذربيجان في حربي 2020 و2023، لم تطور موسكو من أدائها.
كان يمكن لروسيا أن تلعب دورا فعالا للتوصل إلى اتفاق سلام ناجز ونهائي بين الدولتين، والاتفاق على آلية مقبولة لتشغيل ممر زنغزور، لكن تفلتت الأمور من بين أصابعها، ثم انشغلت بحربها مع أوكرانيا، وربما أصغت إلى حساسيات دول إقليمية مثل إيران، حتى فوجئت بالولايات المتحدة تقتحم عليها مجالها الحيوي، وتضطلع بكل ما عجزت موسكو عن إنجازه.
حتى إنه لم يعد من المعروف ما هو الدور الذي يمكن أن تضطلع به روسيا إزاء الممر بعد اتفاق البيت الأبيض، فوفق اتفاق 2020 كان من المقرر أن يتولى جهاز الأمن الفدرالي الروسي السيطرة على الممر والإشراف على تشغيله!
على مقربة من روسيا، كانت إيران حاضرة بـ "اللاءات" الشهيرة، وبذلت جهدها لمنع تشغيل الممر الإستراتيجي، حتى لا تمنح منافستها التقليدية تركيا، ميزة جيوستراتيجية هائلة بربط أراضيها بالعالم التركي.
كان يمكن لإيران المساومة لو أحسنت قراءة التغيرات المترتبة على انتصارات أذربيجان، لكنها راهنت على تشغيل ممر "أراس" بديلا لـ"زنغزور".
الآن تضيق البدائل على الدولتين، ففيما تبدي روسيا بعض المرونة، تعكس تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين موقفا متصلبا، حيث هدد علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني، علي خامنئي، بأن بلاده ستمنع "إنشاء ممر مزمع في القوقاز بموجب اتفاق إقليمي برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وذلك سواء بالتعاون مع روسيا أو بدونها".، فيما لوّح آخرون بإمكانية إغلاق مضيق هرمز ردا على الاتفاق.
في تقديري أنه من الصعوبة بمكان أن تتحول هذه التهديدات إلى إجراءات تصعيدية على أرض الواقع، في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها الدولتان عسكريا واقتصاديا.
المكاسب التركية
انخرطت تركيا في ملف الأزمة انخراطا كبيرا وواضحا، من خلال الدعم العسكري والسياسي الذي قدمته لأذربيجان حتى حققت النصر واستعادت السيطرة على إقليم ناغورني قره باغ.
منذ ذلك الحين تسعى أنقرة لجني الثمار الجيوستراتيجية لذلك الانتصار، وفي مقدمتها إعادة تشغيل ممر زنغزور.
لذا من غير المستبعد أن تكون أنقرة قد لعبت دورا للتمهيد لاتفاق البيت الأبيض، حيث استقبل الرئيس، رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء الأرميني، في يونيو/حزيران الماضي، حيث تمحور اللقاء حول السلام وكيفية تحقيق الاستقرار في منطقة القوقاز.
كما سارع أردوغان بالاتصال بزعيمي البلدين، لتهنئتهما باتفاق السلام، فيما أكد وزير الخارجية، هاكان فيدان، أن إعادة تشغيل الممر ستعيد ربط تركيا بدول العالم التركي في آسيا الوسطى.
من هنا يمكننا حصر المكاسب التركية في عنوانين رئيسيين، الأول منهما يتعلق بالمكاسب الجيوستراتيجية بربط أراضيها بأذربيجان وصولا إلى دول منظمة الدول التركية، الأمر الذي سيعزز من قدراتها الإستراتيجية في مواجهة منافسيها الإقليميين وخاصة إيران، دون أن تضطر إلى الدخول في مواجهة معها.
إضافة إلى أن المكاسب قد تنسحب إلى ملفات أخرى، تحتاج فيها إلى التنسيق مع الولايات المتحدة، وأهمها إنهاء وجود قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا.
إعلان
أما العنوان الثاني فيرتبط بالمكاسب الاقتصادية التركية المتوقعة من تشغيل الممر، حيث سيعزز من مكانتها ممرا حيويا للتجارة والطاقة من الصين وآسيا إلى أوروبا، الأمر الذي سيدعم، دونما شك، أهميتها الإستراتيجية داخل الكتلة الأوراسية.
ختاما
إن الولايات المتحدة باحتضانها الاتفاق، تكون قد خطت خطوة مهمة صوب ترسيم واقع جديد في نظام عالمي قيد التشكيل، مستغلة الفشل الروسي الإيراني في قراءة سيناريوهات المستقبل.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

إدارة ترامب تدرس تحديد سقف اللاجئين وإعطاء الأولوية للأفريكانيين
إدارة ترامب تدرس تحديد سقف اللاجئين وإعطاء الأولوية للأفريكانيين

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

إدارة ترامب تدرس تحديد سقف اللاجئين وإعطاء الأولوية للأفريكانيين

تناقش إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وضع حد أقصى لقبول اللاجئين عند 40 ألفا، مع تخصيص أغلبه للبيض القادمين من جنوب أفريقيا ، وفقا لمسؤولين أميركيين اطلعا على رسالة داخلية لبرنامج اللاجئين. ويمثل هذا القرار الذي تتم مناقشته تحولا كبيرا لرؤية الولايات المتحدة تجاه وضع اللاجئين والمهاجرين إليها من جميع أنحاء العالم. ووفقا لمخلص اجتماع اطلعت علية وكالة رويترز في الأول من أغسطس/آب الحالي، أبلغت أنجي سالازار -كبيرة المسؤولين في برنامج اللاجئين التابع لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية- موظفي اللاجئين على مستوى الولايات بأنها تتوقع أن يكون السقف 40 ألفا. وفي السياق، قال المسؤولان اللذان تحدثا بشرط عدم الكشف عن هويتهما، إن نحو 30 ألفا من أصل 40 ستخصص للاجئين الأفريكانيين، وهم أقلية بيضاء في جنوب أفريقيا من أصول هولندية ودول أوروبية أخرى. ورغم أن سقف 40 ألفا يمثل انخفاضا حادا عن 100 ألف التي جلبها الرئيس السابق جو بايدن في السنة المالية 2024، فإنه أعلى من المستوى المتدني البالغ 15 ألفا فقط، الذي حدده ترامب في نهاية ولايته الأولى. ويشار إلى أن ترامب أوقف برنامج استقبال اللاجئين فور توليه منصبه في يناير/كانون الثاني الماضي، لكنه أطلق بعد أسابيع مبادرة لاستقبال الأفريكانيين زاعما أنهم يعانون من التمييز العنصري، وهي تهم تنفيها حكومة جنوب أفريقيا. صعوبات إلى جانب الأفريكانيين، تتوقع إدارة ترامب جلب بعض الأفغان الذين عملوا على مساعدة القوات الأميركية في حربها مع القاعدة خلال السنوات الماضية. كما تدرس الإدارة احتمالية مساعدة بعض الأوكرانيين وتوطينهم في الولايات المتحدة بسبب معاناتهم من الحرب الدائرة بين بلادهم وروسيا. وفيما يخص الأفريكانيين بدأت الإدارة الأميركية في إرسال موظفين إلى جنوب أفريقيا لإجراء مقابلات وتحديد اللاجئين الذين سيتم استقبالهم. إعلان ووفقا لمسؤولين أميركيين، فإن اللاجئين الوافدين من جنوب أفريقيا يعانون من صعوبات متعددة، حيث تواصل بعضهم مع برنامج اللاجئين، شاكيا من النقص في المساعدات الإنسانية. وقلّص ترامب مزايا اللاجئين بعد توليه الحكم، بما في ذلك المساعدات النقدية والرعاية الصحية التي تم تخفيضها من 12 شهرا إلى 4 أشهر فقط. ويقول بعض الواصلين حديثا إلى الولايات المتحدة إنهم لم يحصلوا على تصاريح عمل ولا ضمان اجتماعي، رغم أنهم قدموا الكثير من الطلبات للجهات المعنية بوضع اللاجئين.

الحرب على صوت أميركا لم تبدأ مع ترامب فقد سبقه إليها مكارثي
الحرب على صوت أميركا لم تبدأ مع ترامب فقد سبقه إليها مكارثي

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

الحرب على صوت أميركا لم تبدأ مع ترامب فقد سبقه إليها مكارثي

يقارن الصحفي الأميركي دانيل غولدن بين الهجوم الذي تعرضت له إذاعة صوت أميركا من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخرا، وبين ما جرى لها منتصف خمسينيات القرن الماضي. ففي التقرير التالي الذي نشر بمجلة جامعة كولومبيا للصحافة، يورد غولدن التفاصيل التي جرت قبل أكثر من 70 عاما، وما تركته من آثار ونتائج كارثية على كثير من الذين كانوا يعملون في إذاعة صوت أميركا آنذاك. في جلسات استماع بثت على محطات التلفزيون الأميركية، شن أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون هجوما لاذعا على إذاعة صوت أميركا. واتهموا ذراع البث الدولي للإدارة الأميركية بإيواء المخربين، وإهدار أموال دافعي الضرائب، والتغاضي عن معاداة السامية، وتعريض الأمن للخطر بالاعتماد على عاملين أجانب، وتشويه صورة البلد الذي من المفترض أن يخدموه. واستجوب رئيس اللجنة المديرين التنفيذيين في صوت أميركا، والمديرين المتوسطين، وحتى محرري النصوص، وركز على صلاتهم المزعومة باليسار وعلى النصوص والكلمات التي يعتبرها غير أميركية. واعلن: "نعتزم.. الكشف عن حالات التكرار والهدر وعدم الكفاءة والتخريب، وبعبارة أخرى، وضع الصورة الكاملة على الطاولة". انتحار أحد المهندسين تلك الجلسات التي شغلت الرأي العام في أميركا لم تكن جزءا من الحملة الأخيرة التي شنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب ضد إذاعة صوت أميركا، فقد عقدت في عام 1953، وكان رئيس اللجنة الذي أدارها هو السيناتور جوزيف مكارثي من ولاية ويسكونسن، الذي كان آنذاك في ذروة سلطته. وعلى الرغم من أن مزاعمه كانت في الغالب غير مدعومة بأدلة، فإن الخوف من غضبه كان شديدا لدرجة أن قادة الوكالة التي تتبع لها صوت أميركا استقالوا، وطُرد العديد من الموظفين، وانتحر أحد المهندسين. وتعد جلسات الاستماع، التي عقدها مكارثي بشأن إذاعة صوت أميركا والتي استمرت 5 أسابيع وشملت إفادات 60 شاهدا، والتي كادت أن تُنسى اليوم، فصلا مبكرا ومزعزعا في تاريخ هذه الإذاعة الذي يمتد لـ83 عاما. ورغم نجاح صوت أميركا، الذي يتجلى في حجم جمهورها -361 مليون شخص أسبوعيا في جميع أنحاء العالم حتى فبراير/شباط الماضي- والجهود التي بذلها خصومها السابقون والحاليون مثل الاتحاد السوفياتي والصين وإيران وكوريا الشمالية لتشويش إشارتها، فقد كانت دائما هدفا للانتقادات الداخلية التي تفضل رسالة وطنية أكثر صراحة. فقد قام الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان بما سماه حملة تطهير استهدفت كبار مديري صوت أميركا، وحاول ترامب السيطرة على تغطيتها في ولايته الأولى قبل أن يقرر هذا العام إسكات ما سماه "صوت أميركا المتطرفة" وتخفيض عدد موظفيها بنسبة 85%. وبحسب الصحفي غولدن، تبدو النصوص التي تزيد على 1200 صفحة من جلسات الاستماع التي أجراها ماكارثي، معاصرة بشكل لافت، وتظهر مدى ضآلة التغيير في الخطاب المحيط بصوت أميركا. جواسيس وأكاذيب وسوء إدارة في جلسة استماع بالكونغرس في 25 يونيو/حزيران الماضي بعنوان "جواسيس وأكاذيب وسوء إدارة"، اشتكت كاري ليك، المسؤولة في إدارة ترامب المكلفة بتفكيك صوت أميركا، من أن المحطة ابتعدت عن "أيام مجدها" خلال الحرب الباردة ، قبل أن تصبح "معادية لأميركا". في الواقع، منذ عام 1947، كان أحد أعضاء الكونغرس الجمهوريين يشوه سمعة الشبكة بوصفها "صوت اليسار المتطرف "، وبالنسبة لمكارثي، كانت "صوت موسكو". إذ قال لاري تاي، كاتب سيرة ماكارثي، "كان من الواضح في عهد ماكارثي أنه كان يصفق لأي شيء معاد للشيوعية، سواء كان صحيحا أم لا. ولم يكن ما ذكر صحيحا عن واحدة من أكثر وسائل الإعلام فعالية في مكافحة الشيوعية ونقل الحقيقة، وهي صوت أميركا". ويعتقد غولدن أن ما أزعج منتقدي صوت أميركا حقا -في ذلك الوقت والآن- هو الحياد الصحفي لوسيلة الإعلام الممولة من الحكومة، والذي يعود إلى تأسيسها في عام 1942 لمواجهة الدعاية النازية. إذ بدأ بثها الأول إلى ألمانيا بوعد: "قد تكون الأخبار جيدة لنا. قد تكون الأخبار سيئة. لكننا سنقول لكم الحقيقة". وعلى مر السنين، تعزز استقلالها بفضل جدران الحماية، فقد تعهد ميثاقها، الذي صيغ في عام 1960 وأُدرج كقانون في عام 1976، بتغطية إخبارية "دقيقة وموضوعية وشاملة"، وحماها قانون البث الدولي لعام 1994 من التدخل السياسي. وقال دونالد ريتشي المؤرخ الفخري في مجلس الشيوخ "شعر بعض المحافظين أن صوت أميركا يجب ألا يقول أي شيء سلبي عن الولايات المتحدة. بينما رأى الطرف الآخر أنه يجب تقديم الأخبار بموضوعية.. واستمر هذا الجدل حتى يومنا هذا". مصدر موثوق كانت صوت أميركا أحد أوائل أهداف ماكارثي بعد فوز الجمهوريين بالسيطرة على مجلس الشيوخ في انتخابات عام 1952، مما جعله رئيسا للجنة مجلس الشيوخ المعنية بالعمليات الحكومية ولجنتها الفرعية الدائمة للتحقيقات. وروي كوهن، كبير مستشاري اللجنة الفرعية، الذي بلغ السادسة والعشرين من عمره أثناء جلسات الاستماع، والذي أصبح بعد عقود مرشدا لمطور عقاري صاعد يدعى دونالد ترامب، اختبأ في فندق والدورف أستوريا في مانهاتن وأجرى مقابلات مع موظفين ساخطين من مكتب صوت أميركا في نيويورك ، أطلقوا على أنفسهم اسم "الموالون السريون"، واتهموا زملاءهم الذين اشتبهوا في تعاطفهم مع الشيوعية. وتلاعب مكارثي بالجلسات، التي بدأت في منتصف فبراير/شباط 1953، لصالحه. إذ قام بفحص الشهود المحتملين في جلسات تنفيذية، واستبعد المبلغين والمعارضين الأقل إقناعا. ثم سرب أبرز ما جاء في هذه "البروفات" إلى الصحفيين الموالين له، وفقا لكتاب تاي، "الديماغوجي: حياة وظلال طويلة للسيناتور جو مكارثي". واستجوب مكارثي وكوهن الشهود حول عرائض وقعوا عليها قبل عقود، أو خلال حفلات عشاء حضروها وكان من المفترض أنها برعاية جبهات شيوعية. وشهد أحد الشهود أن أحد موظفي اللجنة سلمه مذكرة استدعاء في منتصف الليل. وقال هوارد فاست، وهو كاتب يساري كان يحرر أخبارا لصوت أميركا قبل عقد من الزمن خلال الحرب العالمية الثانية: "كان هناك طرق على الباب ورنين بالجرس، مما أيقظ أطفالي وأرعبهم". وقد بثت محطة إن بي سي جلسات الاستماع العامة على الهواء مباشرة من الساعة الثانية بعد الظهر حتى الرابعة مساء. لا جواسيس في صوت أميركا ورغم كل التهديدات، لم يعثر مكارثي على أي جواسيس في صوت أميركا. ووفقا لنيكولاس كول، المؤرخ في جامعة جنوب كاليفورنيا المتخصص في دور وسائل الإعلام الجماهيرية في السياسة الخارجية الأميركية، فمع تحول البلاد لمواجهة التهديد الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية، كان العديد من موظفي صوت أميركا يميلون بالفعل إلى التساهل مع الاتحاد السوفياتي. ولكن بحلول عام 1953، أدت سنوات من التطهير السياسي في صوت أميركا إلى إقصاء معظم اليساريين. وأوضح كول: "لم يكشف مكارثي عن أي شيوعي يحمل بطاقة عضوية داخل صوت أميركا، بدلا من ذلك، الأشخاص الذين كانوا يشعرون بالحرج هم مجرد أشخاص مختلفين اجتماعيا". ومن بين هؤلاء، على سبيل المثال، مدير البرامج الدينية في صوت أميركا الذي اتهمه مكارثي بأنه ملحد، واقترح أنه "قد يؤدي عمله بشكل أفضل إذا كان من رواد الكنيسة بانتظام". وقد أدلى المدير، الذي كان يحمل درجة الدكتوراه في الدين من جامعة كولومبيا ، ودرس مع الطبيب النفسي كارل يونغ واللاهوتي بول تيليش، بشهادته أنه يؤمن بالله، وأنه ما كان ليقبل الوظيفة لولا ذلك. ولقد فحص مكارثي نصوص صوت أميركا وطريقة اختيار الكلمات بدقة شديدة مثل أي مصحح لغوي. فعلى سبيل المثال، أراد أن يعرف ما إذا كان أحد المحررين في مكتب أخبار صوت أميركا، الذي استبدل كلمة "ديمقراطي" بكلمة "مناهض للشيوعية" لوصف الحشود في غواتيمالا التي كانت تهتف لتنصيب الرئيس أيزنهاور، كان "يخفف" من حدة الخبر لأنه متعاطف مع الشيوعية. ونفى المحرر هذه المزاعم، قائلا إنه يستخدم كلمة "مناهض للشيوعية" كثيرا، لكنه غيرها في هذه الحالة ليعبر عن "رد الفعل العفوي للشعب الغواتيمالي". إهدار ملايين الدولارات كانت العديد من الشكاوى حول صوت أميركا عادية وتقنية، لكن مكارثي عززها بغموض شرير. وخصص جزءا كبيرا من الجلسات الافتتاحية لجلسات الاستماع، في فبراير/شباط 1953، لادعاءات مهندس سابق في صوت أميركا، لويس ج. ماكيسون، بأن الشبكة تهدر ملايين الدولارات من خلال وضع محطة إرسال في منطقة سياتل، حيث الظروف الجوية تعطل موجات الراديو، بدلا من وضعها في شمال كاليفورنيا ( ). وبعد أيام، أوقفت الحكومة المشروع، مما يؤكد نفوذ مكارثي. وفي عام 2003، بعد نصف قرن من جلسات الاستماع التي عقدها مكارثي، نشرت اللجنة الفرعية التي كان يرأسها محاضر جلسات الاستماع المغلقة. وكتب السيناتوران كارل ليفين وسوزان كولينز، في ما بدا في ذلك الوقت أنه الحساب النهائي لتلك اللحظة التاريخية: "أدى حماس السيناتور مكارثي لكشف التخريب والتجسس إلى تجاوزات مقلقة". "تكتيكاته التخويفية دمرت حياة أشخاص لم يكونوا متورطين في التسلل إلى حكومتنا.. هذه الجلسات جزء من ماضينا الوطني لا يمكننا أن ننساه ولا أن نسمح بتكراره".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store