logo
العرب.. الحلقة الأضعف في الحريات المدنية الأميركية

العرب.. الحلقة الأضعف في الحريات المدنية الأميركية

العربية٢٠-٠٤-٢٠٢٥

على مدى عقود، كان العرب، وخاصة الفلسطينيين، وداعمو حقوق الفلسطينيين، الحلقة الأضعف في سلسلة الحريات المدنية بالولايات المتحدة الأميركية. وخلال هذه الفترة، عندما كان الرئيس الأميركي أو الكونجرس يسعيان لاتخاذ تدابير تقيد مجموعة من الحريات المدنية، كانا يستغلان الشعور بالخطر الذي يُشكّله العرب لتبرير هذه التدابير. وكانا يشعران بالراحة في القيام بذلك لأنهما يدركان أن الصور النمطية السلبية المرتبطة بالعرب تجعل هذه التدابير أكثر قبولاً وتقلل من احتمالية ظهور معارضة. والأمثلة على ذلك كثيرة:
في ثلاث مناسبات منفصلة في الثمانينيات، عندما سعت إدارة ريجان لتقليص الحريات المدنية، بدأت هجومها بهجوم على حقوق العرب. وبعد أن رسّخت هوية العربي/الفلسطيني باعتباره إرهابياً، افترضت أنه لن يكون هناك دعم شعبي للدفاع عن الحريات المدنية للعرب. وعلى الجانب الآخر، لو كانت أهدافهم تنتمي إلى عرق آخر، لكانت المعارضة أكثر احتمالاً.
في عام 1981، أصدرت إدارة ريجان أمراً تنفيذياً ألغى جميع الإصلاحات السابقة التي قامت بها إدارة كارتر لحظر التجسس المحلي من قبل وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، مستخدمةً العرب ككبش فداء لتبرير هذا الإجراء. ونتيجة لذلك، وعلى مدى خمس سنوات، قام مكتب التحقيقات الفيدرالي باختراق وتعطيل مجموعات الطلبة الفلسطينيين في جميع أنحاء البلاد، لينتهي الأمر بإلغاء هذه الجهود دون تحقيق أي نتائج تُذكر، سوى إضاعة وقت العملاء وإنفاق ملايين الدولارات.
كما تمكنت وزارة العدل في عهد ريجان من إعادة صياغة قانون تسليم المجرمين الأميركي، مما سهّل تلبية طلبات الدول الأجنبية لتسليم الأفراد دون توفير ضمانات الإجراءات القانونية الواجبة. وتم ذلك من خلال قضية حامل تأشيرة فلسطيني طلبت إسرائيل تسليمه. واستناداً إلى هذه القضية، أعاد الكونجرس صياغة القوانين التي تؤثر على جميع طلبات التسليم.
وفي عهد ريجان أيضاً، أصدرت دائرة الهجرة والتجنيس «خطتها الطارئة للتعامل مع الإرهابيين الأجانب وغير المرغوب فيهم»، والتي تُفصّل الخطوات المتخذة بموجب أحكام قانون «مكارين والتر» لسجن أعداد كبيرة من الأجانب ومحاكمتهم سراً وترحيلهم بناءً على عرقهم أو معتقداتهم السياسية أو ارتباطاتهم. وتماشياً مع النهج المُتبع، تُشير «الخطة» عدة مرات إلى المهاجرين العرب. وقد تم استخدام قضية اعتقال سبعة فلسطينيين وزوجة كينية لأحدهم - دون توجيه تهم سوى معتقداتهم السياسية وانتماءاتهم - كحالة اختبار لوضع أسس هذه الخطة»
وفي عام 1995، أصدر الرئيس كلينتون أمراً تنفيذياً «يحظر التعامل مع الإرهابيين الذين هددوا بتعطيل عملية السلام في الشرق الأوسط»، وأعقبه قانون مكافحة الإرهاب الشامل لعام 1995. وقد أدت هذه الإجراءات إلى إدخال تدابير صارمة تقوّض الحقوق المدنية والسياسية المكفولة للمواطنين والمقيمين في الولايات المتحدة بموجب الدستور والقانون الدولي. على سبيل الامثال، منح القانون سلطات واسعة لأجهزة إنفاذ القانون، وألغى افتراض البراءة لمن يخضعون للتحقيق، وسهّل على الحكومة مراقبة الأشخاص المشتبه في انتهاكهم قوانين التآمر، وسمح بحظر «الدعم المادي الذي يعتبره الرئيس مفيداً للمنظمات الإرهابية»، ووضع إجراءات تسمح للحكومة باحتجاز وترحيل الأفراد بناءً على أدلة سرية، دون إتاحة الفرصة لهم للدفاع عن أنفسهم، وسمح لوكالات إنفاذ القانون بمراقبة الأفراد أو الجماعات، بناءً على معتقداتهم وانتماءاتهم. وباستخدام هذا الأمر التنفيذي والتشريعات الجديدة، أطلقت إدارة كلينتون برنامجاً قومياً للتمييز في المطارات، استهدف المئات من الركاب العرب والعرب الأميركيين بالمضايقة والتحقيق حتى قبل وصولهم إلى مكاتب تسجيل الرحلات، فقط بسبب ملابسهم أو مظهرهم أو أسمائهم العربية.
وبعد أحداث 11 سبتمبر2001، صعدت إدارة بوش والكونجرس من الإجراءات. وعلى الرغم من أن الإخفاقات الاستخباراتية ومتطلبات السلامة الجوية المتساهلة كانت السبب الحقيقي في تمكين الإرهابيين من التدريب في الولايات المتحدة وتنفيذ هجماتهم المروعة، فقد أصدر بوش سلسلة من الأوامر التي أدت إلى اعتقال وترحيل آلاف الطلاب والعمال والزوار العرب الأبرياء. كما أمروا عشرات الآلاف من حاملي التأشيرات العربية والإسلامية بالتوجه إلى مكاتب الهجرة حيث احتُجز عدد أكبر منهم للترحيل. وسمح تشريع مكافحة الإرهاب الذي أقره الكونجرس بتوسيع نطاق المراقبة من قبل جهات إنفاذ القانون، بما في ذلك التنصت على المكالمات الهاتفية دون إذن قضائي، والتوسع في استخدام التنميط. وباستخدام الصلاحيات الموسعة الممنوحة لهم من قبل الإدارة، تسلل عملاء إنفاذ القانون إلى المساجد والنوادي الاجتماعية العربية، ووقعوا في فخ بعض الأفراد السذج في مؤامرات غالباً ما كانت تُدبّرها جهات إنفاذ القانون نفسها.
وهذا مجرد جزء من التاريخ، لكنه يضع الأساس للإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب: التهديدات للحريات المدنية مثل حرية التعبير، وحرية التجمع، والحرية الأكاديمية، وتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية لاستخدام تدابير غير دستورية لاحتجاز وترحيل الأفراد بناءً على عرقيتهم أو معتقداتهم السياسية، وتوسيع تفسير حجة «الدعم المادي»، التي استخدمتها إدارتا ريجان وكلينتون لانتهاك الحقوق المحمية للمواطنين والمقيمين.
لا شك أن هناك اختلافات. فبينما كانت الإجراءات التي اتُخذت في عهد ريجان وكلينتون وبوش تستند إلى مخاوف مبالغ فيها من الإرهاب في الولايات المتحدة، فمن المهم الإشارة إلى أن مراجعة برامج التمييز والمراقبة والهجرة التي أُسست خلال تلك الإدارات لم تُسفر عن كشف أو محاكمة حالات فعلية للإرهاب. وفي نهاية المطاف، وعلى الرغم من إنفاق مليارات الدولارات وإهدار موارد أمنية ثمينة، لم تسفر هذه البرامج عن شيء سوى توسيع سلطات إنفاذ القانون وتقويض الحقوق. أما في حالة أوامر ترامب، فلا يوجد حتى ذريعة لمكافحة الإرهاب - بل مجرد زرع الخوف وإجبار المؤسسات والأفراد على الخضوع.
وما تشترك فيه سياسات إدارة ترامب مع سابقاتها هو استخدام العرب، وخاصة الفلسطينيين، وداعميهم، ككبش فداء لتبرير تقويض الحقوق والحريات. يدرك ترامب أنه في خضم الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن قاعدته المؤيدة له ستدعم جهوده بحماسة. كما يعلم أن الليبراليين في الكونجرس، الذين قد يعارضون سياساته في ظروف أخرى، سيترددون في الدفاع العلني عن العرب ضحايا هذه السياسات إذا بدا أنهم يدافعون عن الفلسطينيين أو المنتقدين لإسرائيل. بالنسبة لترامب، إنها العاصفة المثالية. أما بالنسبة لأولئك الذين يهتمون بالدفاع عن الحقوق والحريات، فهي مجرد مثال آخر على كون العرب، والفلسطينيين، ومن يدافع عنهم، هم الحلقة الأضعف في سلسلة الحريات المدنية.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

منصب رئيس موظفي البيت الأبيض ومهامه
منصب رئيس موظفي البيت الأبيض ومهامه

الشرق الأوسط

timeمنذ 2 أيام

  • الشرق الأوسط

منصب رئيس موظفي البيت الأبيض ومهامه

رئيس جهاز موظفي البيت الأبيض أو كبير موظفيه يعدُّ الموظف الأعلى رتبةً فيه، ويترأس المكتب التنفيذي لرئيس الولايات المتحدة، ويعدُّ أحد كبار مساعديه. تأسس المنصب عام 1946 تحت اسم «مساعد الرئيس» استجابةً للنمو السريع للفرع التنفيذي للحكومة الأميركية، وغُير اسمه إلى الاسم الحالي عام 1961، حيث يُعيِّنه الرئيس ولا يحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ. يتولى رئيس موظفي البيت الأبيض مهام كبيرة لها دور مؤثر في ديناميكية العمل داخل البيت الأبيض، ويمنح صاحبه أيضاً أدواراً إدارية واستشارية، كاختيار موظفي البيت الأبيض الأساسيين والإشراف عليهم، والسيطرة على تدفق الناس إلى المكتب البيضاوي، ومَن سيستقبلهم الرئيس، والإدارة والتحكم في المعلومات الواردة إلى البيت الأبيض. وهو يسدي المشورة والنصح للرئيس بشأن القضايا السياسية الداخلية والخارجية، وكذلك المسائل الإدارية، وحماية مصالح الرئيس، والتفاوض مع الكونغرس، وأعضاء آخرين في السلطة التنفيذية. كارتر (آ ب) أصبح منصب رئيس الموظفين رتبةً مشتركةً بشكل عام إلى جانب كبار مساعدي الرئيس الآخرين مثل مستشار الأمن القومي والسكرتير الصحافي للبيت الأبيض وغيرهم. ولكن لم ينتشر هذا النظام الجديد على الفور، وواصل الرئيسان كيندي وجونسون الاعتماد على تعيينات السكرتيرين بدلاً من ذلك، ولم يتول رئيس الموظفين مسؤولية إدارة جدول أعمال الرئيس إلا في إدارة نيكسون. وأدى تركيز السلطة هذا في البيت الأبيض إبان إدارتي نيكسون وفورد (الذي كان آخر رئيس موظفين له ديك تشيني) إلى تعهد المرشح الرئاسي جيمي كارتر خلال حملته الانتخابية في عام 1976 بألا يعيّن رئيساً للموظفين. وبالفعل، لم يعين أحداً لهذا المنصب خلال أول سنتين ونصف السنة من رئاسته.

رحيل جوزيف ناي مبتكر نظرية «القوة الناعمة»
رحيل جوزيف ناي مبتكر نظرية «القوة الناعمة»

الشرق الأوسط

time١٧-٠٥-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

رحيل جوزيف ناي مبتكر نظرية «القوة الناعمة»

لمع اسم جوزيف صموئيل ناي جونيور، أحد أبرز المفكرين والممارسين الأميركيين في مجال العلاقات الدولية الذي غادر عالمنا هذا الأسبوع عن عمر يناهز 88 عاماً، بعدما صاغ نظريّة «القوّة الناعمة» التي شكّلت أفكار أجيال من صانعي القرار وعلماء السياسة في الولايات المتحدة والعالم، ومنحته مكانة متميزة لا تكاد تدانى في منطقة التقاطع بين النظريّة والممارسة في الدبلوماسية وإدارة العلاقات الدّولية. لكنّ الأقدار لم تكن رؤوفة بالعميد السابق لكلية كيندي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد، الذي خدم في إدارتين رئاسيتين أميركيتين ديمقراطيتين (كارتر وكلينتون)، إذ فقد خلال أيامه الأخيرة شريكة حياته ماري هاردينغ في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وشهد بأم عينه انقلاباً سافراً على أفكاره ونظرياته التي هيمنت طويلاً على فلسفة عمل الدبلوماسية الأميركية، وذلك فور انتقال مفاتيح البيت الأبيض إلى الرئيس دونالد ترمب الذي يقود تياراً سياسيّاً في النخبة الأميركيّة يتبنى أفكاراً مناهضة لكل نظريات ناي، ويوظّف بدلاً منها منهجيّة «القوة العارية». وقد علت المرارة صوته وهو يصرّ في مقابلاته الأخيرة على أن الرئيس ترمب لا يدرك مفهوم «القوّة الناعمة»، وأنّه خلال أشهر قليلة من توليه السلطة بدد معظم مصادرها وفكك أدواتها، وكتب عنه في مقال نشر مؤخراً في صحيفة «فاينانشيال تايمز» اللندنيّة: «أعطته خلفيته في العقارات بنيويورك وجهة نظر مبتورة عن السلطة التي تقتصر على الإكراه والصفقات، وستواجه القوة الناعمة الأميركية لذلك وقتاً عصيباً خلال السنوات الأربع المقبلة». صاغ ناي مفهوم «القوة الناعمة» في كتابه الشهير «ملزمون بالقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية - 1990» ليصف قدرة الأمة في الحصول على ما تريد من خلال وسائل غير قسرية، عبر الجاذبيّة والإغواء بدلاً من الإكراه السافر القوة. وبحسبه - دائماً - فإن هذه القوّة ليست بالضرورة أهم مصادر التأثير في السياسة الخارجية، ولكن إهمالها خطأ استراتيجي وتحليلي، ويقول: «فكر مثلاً في الحرب الباردة: كان الردع النووي الأميركي والقوات الأميركية في أوروبا أمراً بالغ الأهمية. ولكن عندما سقط جدار برلين (1989)، فإنه لم يهوِ تحت وابل من قذائف المدفعية. لقد سقط تحت المطارق والجرافات التي استخدمها أشخاص غيّرت عقولهم (صوت أميركا) و(هيئة الإذاعة البريطانية)». وفي مذكراته «حياة في القرن الأميركي - 2024»، قال إن الولايات المتحدة فقدت قوّتها النّاعمة خلال حرب فيتنام، لكنّها وخلال عقد واحد استعادت جاذبيتها بجهود سلسلة من الزعماء الأميركيين، بدءاً من إصلاحات جيرالد فورد، وانتهاءً بتفاؤل رونالد ريغان، مروراً بسياسات تعزيز التنمية الدّولية وحقوق الإنسان في عهد جيمي كارتر. وتتأتى هذه «القوة الناعمة» لبلد ما في المقام الأول من ثلاثة مصادر: ثقافة جذابة، وقيم سياسيّة ذات صدى مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى سياساتها التعاونية الطابع في العلاقات الدّوليّة، لكن العديد من موارد القوة الناعمة تنشأ أيضاً في أجواء المجتمع المدني، حيث أمكن لأفلام هوليوود التي تعرض تنوعاً ثرياً في حياة الأميركيّين وحريات شخصيّة وافرة أن تلمّع صورة الولايات المتحدة، وكذلك المشاريع الخيريّة للمؤسسات الأميركية في الخارج، وحرية البحث في الجامعات الثريّة المرموقة، وسمعة الشركات الكبرى، والكنائس، وحتى الحركات الاحتجاجية - التي قد تعزز أو تتعارض مع أهداف السياسة الخارجية الرسمية لكنّها تضيف قوة ناعمة للبلد عموماً. لاحقاً روج ناي لمصطلح «القوة الذكية»، وهو نهج متوازن يجمع بين القوة العسكرية الصارمة وجاذبية التأثير الناعم، استخدمته هيلاري كلينتون 13 مرّة في عام 2009، خلال جلسات الاستماع لتعيينها مرشحةً لمنصب وزير الخارجية وذلك أثناء وصفها للمنهجية التي ستتبعها لمواجهة الإرهاب الإسلامي المتطرف في العالم. كما أن كثيرين يعدونه أوّل من نظّر للنيوليبراليّة في كتابه «مع روبرت كوهان»: «القوة والاعتماد المتبادل: السياسة العالمية في مرحلة انتقالية - 1977»، حيث اعتبر أن الدول قد تغدو متشابكة اقتصادياً بحيث لا تعد القوة العسكرية العامل الأكثر أهمية في العلاقات بينها. ويمكن المجادلة اليوم بأنّ هذه المفاهيم الثلاثة شكلت إلى وقت قريب كيفية إدارة الحكومات الأميركيّة لسياستها الخارجية في عصر أصبحت فيه وسائل الإعلام، والصيت الدّولي، والتحالفات العالمية، أكثر أهمية من أي وقت مضى. ولد ناي عام 1937، ونشأ في بلدة زراعية صغيرة بنيوجيرسي وحصل على شهادته الجامعية الأولى من جامعة برينستون المرموقة، ثم كان باحثاً في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة قبل أن يتخرّج بدرجة الدكتوراه من جامعة هارفارد في عام 1964، وانضم حينها إلى هيئة التدريس فيها، وكان أحد المؤسسين لكلية كيندي للإدارة الحكومية - وهي أشبه بمصنع للقادة وصانعي السياسات في النظام الأميركيّ. وقد عينه الرئيس جيمي كارتر مسؤولاً في إدارته عن جهود الحد من الانتشار النووي، وهو موضوع استمر في العمل عليه كرئيس لمركز «بيلفر للأبحاث» بجامعة هارفارد من عام 1989 إلى عام 1993، وعاد تالياً إلى الحكومة في عهد الرئيس بيل كلينتون، الذي عينه رئيساً لمجلس الاستخبارات الوطني ومساعداً لوزير الدفاع، مكلفاً بتطوير استراتيجية للعلاقات الأمنية الأميركية مع العالم بأسره وبخاصة آسيا، حيث كان من أبرز المدافعين عن تحالف أميركي ياباني في مواجهة نمو القوة الصينية في المنطقة. كما اعتبر مرشحاً محتملاً لمنصب مستشار الأمن القومي حال فاز جون كيري بالبيت الأبيض في انتخابات عام 2004، وفكّر الرئيس السابق باراك أوباما في تعيينه سفيراً. ولا شك أن انتقاله المتكرر بين العمل الأكاديمي والممارسة العملية أفاد عمله في المكانين، فاتسمت أبحاثه بواقعية قلّما تتوفر للباحثين الأكاديميين، فيما سمح له العمل الحكومي بوضع أفكاره النظريّة موضع التطبيق. تشمل مساهماته الأكاديمية 14 كتاباً، من أشهرها: «القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة العالمية - 2004»، و«مستقبل السلطة - 2011»، و«هل انتهى القرن الأميركي؟ - 2015»، ومئات المقالات التي أصبحت قراءة الكثير منها مطلوبة في الجامعات والدوائر الدبلوماسية على حد سواء، وقد سعى زعماء ورؤساء الوزراء والمنظمات الدولية إلى الحصول على رؤيته السياسية ومشورته في كيفيّة بناء «القوة الناعمة» لدولهم، وقال عنه أنتوني بلينكن وزير الخارجية في عهد الرئيس جو بايدن: «قلة قليلة ساهمت بنفس القدر في رأس مالنا الفكري، وفهمنا للعالم، ومكانة أميركا فيه كما فعل البروفيسور ناي». واعتبرت وفاته ووفاة زميله ريتشارد أرميتاج الشهر الماضي ضربة قاصمة للنخبة الأميركيّة على خلفية التوترات المتزايدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ مع النقص المتفاقم في الخبراء الأميركيين بالثقافة الآسيوية، ما قد يكون له تداعيات سلبية على المدى الطويل.

القوة الخشنة تشيّع القوة الناعمة
القوة الخشنة تشيّع القوة الناعمة

الشرق الأوسط

time١٥-٠٥-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

القوة الخشنة تشيّع القوة الناعمة

عن 88 عاماً رحل المفكّر الأميركي في العلاقات الدولية جوزيف ناي، صاحب أشهر نظرية ومصطلح سياسي اجتماعي إعلامي في العقود الأخيرة -عقود ما قبل ترمب!- نظرية «القوة الناعمة». في تقريرٍ مُمتع للزميلة ندى حطيط بهذه الجريدة، ورد أن الرجل كان عميداً لكلّية كيندي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد، وهي أشبه بكلية إعداد قادة، وأنه خدم في إدارتين رئاسيتين أميركيتين ديمقراطيتين (كارتر وكلينتون). لكن كل هذا الإرث الأميركي بل العالمي، لناي، تهشّم أمام ناظريه، كما تقول ندى، وشهد الرجل انقلاباً سافراً على أفكاره ونظرياته التي هيمنت طويلاً على فلسفة عمل الدبلوماسية الأميركية، بعد وصول ترمب والترمبية، وهو يصرّ في مقابلاته الأخيرة على أن الرئيس ترمب لا يدرك مفهوم «القوّة الناعمة»، وأنّه خلال أشهر قليلة من توليه السلطة بدد معظم مصادرها وفكّك أدواتها. ناي صاغ مفهوم «القوة الناعمة» في كتابه الشهير «ملزمون بالقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية - 1990» ليصف قدرة الأمة في الحصول على ما تريد من خلال وسائل غير قسرية، عبر الجاذبيّة والإغواء بدلاً من الإكراه السافر القوة. وحسب شرح التقرير فإن هذه «القوة الناعمة» تنبع من: ثقافة جذابة، وقيم سياسيّة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسياسات دولية تعاونية. ألّف ناي نحو 14 كتاباً، من أشهرها: «القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة العالمية - 2004». وأقول إننا درجنا على القول، منذ عقود الحرب الباردة، وما بعدها بقليل، على القول إن قوة أميركا الحقيقية ليست في جيشها الرهيب، الأول في العالم، ولا في مصانعها، بل في أيقونات مثل: «كوكاكولا»، «ماكدونالدز»، «ديزني لاند»، «هوليوود»، مايكل جاكسون، ليدي غاغا، تايلور سويفت... إلخ. وطبعاً، التبشير بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وفرضها على العالم، أو التعامل مع العالم من خلال هذا القسطاس الأميركي الليبرالي الجديد. لكن «الزلزال» الترمبي، الذي تحرّكت طبقاته التكتونية، منذ 2017 وليس اليوم، هزّت كل هذه الأعمدة التي اتكأت السرديات والأدبيات العالمية عليها حيناً من الدهر. في خطاب ترمب قبل أيام، من الرياض، مرّت فقرة شديدة العمق استثنائية الدلالة، وهي حين قال إن تيار «بُناة الأمم» الأميركي، ومن صرفوا عشرات المليارات لفرض ثقافتهم على شعوب العالم، قد خسروا رهانهم، وها هي الشعوب، تصنع نهضتها الشجاعة دون التخلّي عن ثقافتها المحليّة، وكان يضرب المثل بالسعودية. زلزال ترمب ضرب أعمدة الميديا، وفي طريقه لهزّ الأرض الهوليوودية، لكن تظلّ بقية من حقيقة أن القوة الناعمة، وإن بالغت جماعة الأوبامية الجديدة في التعويل عليها، وحدها، ليست كذبة، بل حقيقة فاعلة، وما قوة الكلمة (في البدء كانت الكلمة) إلا خير برهان على إمكانات القوة الناعمة، لكن دون تهميش، فضلاً عن إلغاء، جبروت القوة الخشنة. القوة الحقيقية هي التي تملك وجهاً باسماً وقبضة متوترة، أو العكس، وجهاً عابساً، ويداً حانية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store