
مسنة في غزة تستذكر 77 عاما قضتها بين النكبة وأهوال الحرب
غزة- على مدخل خيمتها المقامة على أنقاض منزلها المدمر في مخيم جباليا للاجئين شمالي قطاع غزة ، تعيش المسنة عزيزة أبو سعدة مرة أخرى المشهد ذاته المحفور في ذاكرتها عندما وضعت قدميها في المخيم نفسه قبل 77 عاما، بعدما اضطرت للرحيل مع ذويها من بلدتها الفلسطينية الأصلية التي احتلتها إسرائيل.
وفي الخيمة ذاتها، وجع أكبر تتحمله المسنة التي هجرتها العصابات الصهيونية برفقة عائلتها عندما كانت طفلة في العاشرة من عمرها، حيث قطعت مسافات طويلة رغم صغرها آنذاك هربا من النيران والقذائف المدفعية.
ورغم ما خطه الزمن من تجاعيد على وجهها، فإن ذاكرة المسنة عزيزة تحتفظ بتفاصيل ما حل بالشعب الفلسطيني زمن النكبة ، وكيف انتقلت من قرية كرتيا إلى بلدة حمامة ومن ثم المجدل، وصولا إلى مدينة غزة.
وتقع كرتيا شمالي شرق غزة، على بعد كيلومتر واحد شمالي غرب الفالوجا، وهي واحدة من 530 قرية فلسطينية دمرتها العصابات الصهيونية عام 1948، مما أدى لتهجير ما يزيد على 700 ألف فلسطيني، من بينهم 200 ألف لجؤوا إلى قطاع غزة.
خط الزمن
من قرية لأخرى انتهت محطات نزوح عائلة أبو سعدة في حي الشجاعية شرق غزة، قبل أن ينتقلوا إلى غرب المدينة ومن ثم اتخاذ مخيم جباليا للاجئين مكانا لإقامتهم، بعدما هيأت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين " أونروا" خياما كانوا يعتقدون أنها مؤقتة لحين العودة.
وبدأت حياة الطفلة عزيزة في ذلك الوقت بالاعتماد على المعونات التي تقدمها وكالة الأونروا، واليوم تعود وهي في سن الـ87 من عمرها، تنتظر المعونات في المخيم المدمر ذاته، بينما تمنعها عنها قوات الاحتلال.
وبلسان مثقل تتحدث المسنة الفلسطينية عن ما عاشته منذ صغرها، بدءا بالنكبة بكل تفاصيلها، و العدوان الثلاثي عام 1956، ومن ثم احتلال قطاع غزة عام 1967، ومرورا ب الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية، و الحروب الإسرائيلية على القطاع ، وصولا لحرب الإبادة الدائرة هذه الأيام.
ولم تجد أقسى من هذه الحرب طوال عقود عمرها الثمانية -كما تقول عزيزة- ولم تر في حياتها مثل كثافة القذائف والصواريخ التي تتساقط على غزة، ولم تمر أمامها فظاعة مثل الجرائم الإسرائيلية المتواصلة في غزة.
ورغم أنها عاشت مشاهد قاسية في صغرها وهي تهرب مع ذويها بالقليل من احتياجاتهم على أمل العودة، لكن فقدان عزيزة لحفيدها في هذه الحرب، واضطرارها للنزوح من مكان لآخر كان أشد قساوة.
وتشير عزيزة إلى تطور الحياة داخل مخيم جباليا، أحد مخيمات اللاجئين الخمسة داخل قطاع غزة، والذي تبلغ مساحته 1.4 كيلومتر ويقطنه أكثر من 100 ألف لاجئ، وتذكر حين تحولت المعيشة من الخيمة لمنازل تلفها حجارة رملية وتغطيها ألواح من القرميد، ثم توسعها لمنازل بحجارة إسمنتية تسقفها ألواح من الأسبست، ومن ثم إعادة بنائها بطبقات إسمنتية.
"الحرب هدتنا"
منذ بداية العدوان الإسرائيلي، رفضت عزيزة الاستجابة لتهديدات جيش الاحتلال بالنزوح من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، وبقيت صامدة في منزلها داخل أزقة المخيم الذي تعرض للتوغل البري 3 مرات خلال الحرب، حتى اضطرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي للخروج عبر الممر الذي حدده جنود الاحتلال للنزوح تجاه مدينة غزة.
ولم يشفع لها كبر سنها أمام الجنود المدججين بالسلاح، الذين تمركزوا بالقرب من المستشفى الإندونيسي شمالي قطاع غزة، وطلبوا منها السير لمسافات طويلة وحيدة دون مرافق يساعدها، مما اضطرها للزحف على ركبتيها علها تتمكن من الوصول لمكان آمن.
وتقول المسنة الفلسطينية إنها لأول مرة في حياتها تشاهد أعدادا كبيرة من الدبابات والجرافات الإسرائيلية والجنود الذين يصوبون سلاحهم تجاه كل متحرك، في حين تعلو أصوات الطائرات في سماء المنطقة.
لقد كانت المشاهد المخيفة كما تصفها الحاجة عزيزة الأصعب عليها منذ احتلال فلسطين، بسبب الدمار الهائل الذي خلفه جيش الاحتلال في مخيم جباليا، والجثث التي تناثرت في الشوارع دون أن يتمكن أحد من انتشالها.
وبعد أيام قليلة من مغادرة عزيزة شمال غزة، تعرضت لجلطة قلبية كادت أن تودي بحياتها، في ظل عجز المستشفيات عن تقديم الخدمات الصحية، وعلى إثرها لم تعد تقوى على الحركة.
"الحرب هدتنا" تقول عزيزة، فقد أعادتها الحرب الإسرائيلية القاتلة على قطاع غزة إلى الخيمة من جديد، بعدما دمرت الطائرات الحربية منزلها خلال اجتياح شمال قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
وتجزم المسنة الفلسطينية بأن خيمتها التي عاشتها في طفولتها عقب النكبة لم تكن أسوأ من خيمتها الحالية التي تعيش فيها هذه الأيام، حيث لم تجد ما تأكله بعدما منعت قوات الاحتلال إدخال المساعدات الغذائية لأكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، وتقول "بعد النكبة، كانت الأونروا تصرف لنا القليل من الغذاء، لكن الآن لا نجد من يقف معنا أمام إسرائيل".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
خسائر قطاع البناء في إسرائيل تتجاوز 36 مليار دولار بسبب الحرب
القدس المحتلة- قدمت جمعية اتحاد مقاولي البناء في إسرائيل، الثلاثاء، دعوى قضائية إلى المحكمة العليا، تطالب فيها الحكومة بتحمل مسؤولية الأضرار الجسيمة التي لحقت بقطاع البناء والبنية التحتية نتيجة تداعيات الحرب على قطاع غزة. وبحسب ما جاء الدعوى، فإن الخسائر الاقتصادية التي تكبدها قطاع البناء في إسرائيل تقدر بنحو 131 مليار شيكل (36.5 مليار دولار) منذ بداية الحرب، مع تأخيرات متوسطة في تسليم الشقق تصل إلى نحو 6 أشهر لكل وحدة سكنية. وقالت جمعية اتحاد مقاولي البناء في كتاب الدعوى إن "سلوك الحكومة الإسرائيلية يتسم بالإهمال والتقصير، ويمثل خرقا لواجباتها في أداء مهامها بنزاهة ومعقولية، إذ ألحقت الدولة ضررا جسيما وغير مبرر بحقوق الملكية وحرية العمل للمقاولين ورجال الأعمال". وتربط الدعوى القضائية التأخيرات الحادة في تسليم المشاريع السكنية والإنشائية مباشرة بالظروف التي فرضتها الحرب، والتي أدت إلى إغلاق المعابر الحدودية، ومنع دخول العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية الذين يشكلون جزءا كبيرا من القوى العاملة في قطاع البناء. هذا بالإضافة إلى استدعاء عدد كبير من العمال الإسرائيليين والمعدات والآليات الهندسية لخدمة قوات الاحتياط بالجيش الإسرائيلي، وفرض قيود أمنية صارمة على مواقع البناء، بحسب ما أفاد الصحفي يوفال نيساني، مراسل صحيفة "غلوبس" المتخصص في شؤون البناء والعقارات. أرقام الخسائر وتأخيرات التسليم وبحسب البيانات التي وردت في الدعوى، بلغ متوسط التأخير في تسليم الشقق السكنية حتى نهاية الربع الأول من 2025 نحو 283 يوما في المواقع التي يعمل فيها عمال من أماكن مختلفة، و297 يوما في المواقع التي تعتمد فقط على العمال الفلسطينيين. وأظهرت بيانات مكتب الإحصاء المركزي أن خسائر قطاع البناء في عام 2024 وصلت إلى 98 مليار شيكل (27.5 مليار دولار)، أي ما يعادل 4.9% من الناتج المحلي الإجمالي ، وقرابة 45% من إجمالي إنتاج قطاع البناء. ومع إضافة خسائر نهاية 2023، ترتفع الخسائر الإجمالية إلى 131 مليار شيكل. مطالب قانونية وتعقيدات تشريعية وفي الدعوى التي قدمها محامو جمعية اتحاد المقاولين طالبت الجمعية المحكمة العليا بإلزام الحكومة بتقديم تفسير رسمي لجملة نقاط رئيسية: لماذا لم تشكل الحكومة لجنة وزارية أو فريق عمل مشترك لمعالجة الأزمة الناجمة عن إغلاق المعابر ومنع دخول العمال الفلسطينيين؟ لماذا لم يُسنّ قانون مؤقت يعترف بالحرب ظرفا قاهرا يسمح بإعفاء المقاولين من المسؤولية عن التأخيرات؟ لماذا لم تعدّ الحكومة خطة تعويضات شاملة لقطاع البناء تغطي الخسائر الفادحة التي تكبدها؟ لماذا لم تصدر الحكومة ورقة موقف واضحة تتناول أزمة التأخير في تسليم الشقق بسبب ظروف الحرب؟ وذكر اتحاد المقاولين في كتاب الدعوى أن التعديل التاسع لقانون بيع الشقق، الذي دخل حيز التنفيذ في 2022، يحمّل المقاولين المسؤولية الكاملة عن أي تأخير في تسليم الوحدات السكنية، ويلزمهم بدفع تعويضات للمشترين تبدأ من الشهر الثاني للتأخير. وإذ إن متوسط التأخير الحالي يتجاوز 9 أشهر، فإن الأعباء المالية على المقاولين ضخمة للغاية. وتزيد الأمور تعقيدا، كما يضيف نيساني، بعد قرار المحكمة العليا الأخير الذي أكد وجوب دراسة كل حالة تأخير بشكل فردي، وعدم قبول حجة "الظروف القاهرة" المرتبطة بالحرب من دون تقديم أدلة موثقة، مما يجعل المقاولين عرضة لمطالبات تعويضات مستمرة من دون ضمانات. اتهامات بالفشل الحكومي وجهت جمعية اتحاد المقاولين انتقادات شديدة للحكومة، مشيرة إلى تقاعسها عن اتخاذ أي خطوات فعلية رغم المناشدات المتكررة التي استمرت أكثر من عام ونصف. وأكدت الجمعية أن الأزمة في القطاع ناتجة عن فشل الدولة في تنظيم العمالة الأجنبية، وعدم توفير بدائل مناسبة لعمال البناء الفلسطينيين، بحسب ما نقلت عنهم صحيفة "يديعوت أحرونوت". ووفقا لتقرير هيلا تسيون، محررة الشؤون الاقتصادية في الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن قطاع البناء يواصل معاناته وسط تجاهل حكومي مستمر، رغم الأضرار الاقتصادية الكبيرة التي تكبدها. وذكرت تسيون أن الجهات الحكومية لا تزال تفرض على المقاولين الالتزام بالجداول الزمنية الأصلية في العقود، رغم الظروف الاستثنائية. وعند التأخير، يواجه المقاولون غرامات مالية وتأخيرا في دفع المستحقات، بالإضافة إلى إمكانية مصادرة الضمانات، مما يزيد من الأعباء المالية عليهم بشكل كبير. تصريحات رسمية وتحذيرات وقال رئيس جمعية اتحاد مقاولي البناء في إسرائيل، روني بريك، في مؤتمر صحفي عقب تقديم الدعوى القضائية "منذ بداية الحرب ونحن نطالب الحكومة مرارا بتقديم حل تشريعي يعترف بأن الحرب تمثل ظرفا استثنائيا وقوة قاهرة تبرر تأخير التسليم، ولا تحمّل المقاولين وحدهم المسؤولية. لكن لم نجد أي تجاوب، وهذا يضع القطاع في وضع كارثي". وأشار بريك إلى أن القطاع يعاني من نقص حاد في اليد العاملة، إذ لا يزال ينقصه حوالي 30 ألف عامل أجنبي، رغم الموافقات الرسمية لاستقدام 5 آلاف عامل في مجال البنية التحتية لم يصل منهم أحد حتى اليوم. وأضاف "لا يمكن للحكومة التملص من مسؤوليتها تجاه الأزمة التي خلقتها. ما نطلبه ليس معجزة، بل حل عادل يضمن استمرار القطاع الحيوي". ولفت إلى أن النقص الكبير في العمالة أدى إلى تأخيرات متفاقمة في مراحل التخطيط والبناء والترخيص، وهو ما أدى إلى تعطيل تسليم الوحدات السكنية لفترات تصل إلى أكثر من 9 أشهر في بعض الحالات. ويرى أن الحل الشامل والعادل هو السبيل الوحيد لإعادة الاستقرار إلى سوق البناء والعقارات في إسرائيل، وضمان توزيع المسؤوليات والأضرار بشكل منصف بين جميع الأطراف، بما يتيح استمرار تنفيذ المشاريع من دون أعباء مالية غير منطقية على المقاولين والمشترين على حد سواء. تداعيات اقتصادية عميقة لم تقتصر الأزمة على قطاع البناء السكني فقط، بل طالت البنية التحتية العامة التي تكبدت خسائر كبيرة أيضًا. فحسب الدعوى القضائية، بلغت خسائر شركات البنية التحتية نحو 6.3 مليارات شيكل (1.75 مليار دولار) خلال السنة الأولى من الحرب، بمعدل نحو 520 مليون شيكل شهريا (145 مليون دولار). تواجه هذه الشركات فجوة مالية متزايدة بسبب تراجع حجم الأعمال والإيرادات، إذ تصل النفقات الشهرية لشركات البنية التحتية إلى حوالي 580 مليون شيكل (161.1 مليون شيكل)، مما يهدد استمرار عملها بشكل جدي. وأشار نمرود بوسو، محرر منصة "مركاز هندلان" المتخصصة في العقارات، إلى أن الالتماس المقدم للمحكمة يعكس استياء واسعا داخل قطاع البناء من غياب التفاعل الحكومي، وذلك قد يؤدي إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية كبيرة إذا لم يعالج الوضع سريعا. ولفت إلى أن الحكومة لم تنجح حتى الآن في تقديم حلول عملية أو تشريعية للأزمة، رغم حجم الأضرار الاقتصادية المتراكمة والضغوط التي يواجهها القطاع. وأكد أن الحكومة تعترف بفشلها في إدارة ملف العمال الأجانب وعدم قدرتها على توفير بدائل، إذ أعلنت أن الحصص المخصصة للعمال الأجانب لم تستنفد بالكامل رغم الحاجة الملحة. ويعتقد نمرود بوسو أن في ظل استمرار الأزمة أكثر من عام ونصف منذ بداية الحرب، ومع غياب أي مبادرات حكومية واضحة، من المتوقع أن تتصاعد دعاوى المقاولين أمام المحاكم، مما يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي ويهدد استقرار سوق العقارات والبنية التحتية في البلاد.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
رسالة غارقة في الدماء من أميركا
الإبادة الجماعية في غزة ليست أمرًا غريبًا. إنها توضح شيئًا أساسيًا عن الطبيعة البشرية، وهو نذير مرعب للمكان الذي يتجه إليه العالم. يبعد معبر رفح الحدودي إلى غزة، حوالي 200 ميل عن مكاني الحالي في القاهرة. ترقد في الرمال القاحلة لشمال سيناء بمصر نحو 2000 شاحنة، محملة بأكياس الطحين، وخزانات المياه، والطعام المعلّب، والإمدادات الطبية، والأغطية البلاستيكية، والوقود. تقف هذه الشاحنات خاملة تحت الشمس الحارقة. على بعد أميال قليلة في غزة، يُذبح عشرات الرجال والنساء والأطفال يوميًا بالرصاص والقنابل، والغارات الصاروخية، وقذائف الدبابات، والأمراض المعدية، وذلك السلاح الأقدم في الحصار: المجاعة. واحد من كل خمسة أشخاص يواجه خطر المجاعة بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من الحصار الإسرائيلي على الغذاء والمساعدات الإنسانية. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أطلق هجومًا جديدًا يقتل أكثر من 100 شخص يوميًا، أعلن أن لا شيء سيعيق هذه "الضربة النهائية" التي أطلق عليها اسم "عربات جدعون". وقال إنّه "لا يوجد أي سبيل" لوقف الحرب، حتى لو أُعيد الرهائن الإسرائيليون المتبقون. وأضاف: "إسرائيل تدمر المزيد والمزيد من المنازل" في غزة. والفلسطينيون "ليس لديهم مكان يعودون إليه". وفي اجتماع مغلق تم تسريبه مع مشرعين، قال نتنياهو: "النتيجة الحتمية الوحيدة ستكون رغبة الغزيين في الهجرة خارج قطاع غزة. لكن مشكلتنا الرئيسية تكمن في إيجاد دول تقبلهم". لقد تحوّل الشريط الحدودي البالغ طوله تسعة أميال بين مصر وغزة إلى خط فاصل بين الجنوب العالمي والشمال العالمي، خط يقسم بين عالم عنف صناعي وحشي، وصراع يائس يخوضه من تخلّت عنهم الأمم الأغنى. يمثل هذا الخط نهاية عالم تُحترم فيه القوانين الإنسانية، والاتفاقيات التي تحمي المدنيين، وأبسط الحقوق الأساسية. لقد دخلنا كابوس هوبزي (نسبة إلى توماس هوبز)، حيث يسحق الأقوياء الضعفاء، ولا يُستبعد فيه أي فظاعة، حتى الإبادة الجماعية، حيث تعود العرقية البيضاء في الشمال العالمي إلى وحشية استعمارية منفلتة من كل قيد، تكرس قرونًا من النهب والاستغلال. إننا نعود زاحفين إلى أصولنا، الأصول التي لم تغادرنا قط، بل اختبأت خلف وعود جوفاء عن الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان. النازيون هم كبش الفداء المريح لتراثنا الأوروبي والأميركي المشترك من المجازر الجماعية، كما لو أن الإبادات الجماعية التي نفذناها في الأميركتين وأفريقيا والهند لم تحدث قط، مجرد هوامش غير مهمة في تاريخنا الجماعي. في الواقع، الإبادة الجماعية هي عملة الهيمنة الغربية. بين عامي 1490 و1890، كانت الاستعمارية الأوروبية، بما في ذلك أعمال الإبادة الجماعية، مسؤولة عن مقتل ما يصل إلى 100 مليون من السكان الأصليين، وفقًا للمؤرخ ديفيد إي. ستانارد. ومنذ عام 1950، وقعت قرابة عشرين إبادة جماعية، بما في ذلك في بنغلاديش، وكمبوديا، ورواندا. الإبادة الجماعية في غزة ليست استثناء، بل هي جزء من نمط متكرر. إنها نذير لإبادات جماعية قادمة، خاصة مع انهيار المناخ واضطرار مئات الملايين إلى الهرب من الجفاف والحرائق والفيضانات، وتراجع المحاصيل، وانهيار الدول والموت الجماعي. إنها رسالة غارقة في الدماء منّا إلى بقية العالم: لدينا كل شيء، وإذا حاولتم أخذه منا، فسوف نقتلكم. غزة تدفن كذبة التقدم البشري، وتدحض الأسطورة القائلة إننا نتطور أخلاقيًا. وحدها الأدوات تتغير. حيث كنا نضرب الضحايا حتى الموت، أو نمزقهم بالسيوف، نحن اليوم نُسقط قنابل تزن 2000 رطل على مخيمات اللاجئين، نرشّ العائلات بالرصاص من طائرات مسيّرة عسكرية، أو نسحقهم بقذائف الدبابات والمدفعية الثقيلة والصواريخ. الاشتراكي في القرن التاسع عشر لويس أوغست بلانكي، على عكس معظم معاصريه، رفض الفكرة المحورية لدى هيغل وماركس بأن التاريخ البشري يسير في خط تصاعدي نحو المساواة والأخلاق الأعلى. حذّر من أن هذه "الإيجابية الساذجة" تُستخدم من قبل الظالمين لسحق المظلومين. وقال بلانكي: "جميع فظائع المنتصر، وسلسلة هجماته الطويلة، تتحوّل ببرود إلى تطور دائم وحتمي، كما لو كان تطورًا طبيعيًا. لكن تسلسل الأمور البشريّة ليس حتميًا كالعالم الطبيعي. يمكن تغييره في أي لحظة". وحذّر من أن التقدم العلمي والتكنولوجي، بدل أن يكون دليلًا على التقدم، يمكن أن يتحوّل إلى "سلاح رهيب في يد رأس المال ضد العمل والفكر". وكتب: "الإنسانية لا تقف في مكانها أبدًا. إما أن تتقدم أو تتراجع. إذا تقدمت، تتجه نحو المساواة. وإذا تراجعت، فإنها تمرّ بكل مراحل الامتياز حتى تصل إلى العبودية، الكلمة الأخيرة في حق الملكية". وأضاف: "لست من أولئك الذين يزعمون أن التقدم أمر مفروغ منه، أو أن البشرية لا يمكن أن تتراجع". يُعرف التاريخ الإنساني بفترات طويلة من الجفاف الثقافي والقمع الوحشي. سقوط الإمبراطورية الرومانية أدّى إلى بؤس وقمع في أوروبا خلال العصور المظلمة، من القرن السادس إلى القرن الثالث عشر. ضاعت المعرفة التقنية، بما في ذلك كيفية بناء وصيانة القنوات المائية. قاد الفقر الثقافي والفكري إلى فقدان جماعي للذاكرة. طُمست أفكار العلماء والفنانين القدماء. ولم تبدأ النهضة إلا في القرن الرابع عشر، وكانت إلى حد كبير بفضل ازدهار الثقافة الإسلامية التي، عبر ترجمة أرسطو للغة العربية وسواها، حفظت حكمة الماضي من الزوال. كان بلانكي يعرف ارتدادات التاريخ المأساوية. شارك في سلسلة من الانتفاضات الفرنسية، منها محاولة تمرد مسلح في مايو/ أيار 1839، وانتفاضة 1848، وكومونة باريس – الانتفاضة الاشتراكية التي سيطرت على العاصمة الفرنسية من 18 مارس/ آذار إلى 28 مايو/ أيار 1871. حاول العمّال في مدن مثل مارسيليا وليون تنظيم كومونات مشابهة، لكنها فشلت قبل أن تُسحق كومونة باريس عسكريًا. نحن ندخل عصرًا مظلمًا جديدًا. لكن هذا العصر المظلم يستخدم أدوات العصر الحديث من مراقبة جماعية، وتعرّف على الوجوه، وذكاء اصطناعي، وطائرات بدون طيار، وشرطة مُعسكرة، وحرمان من الإجراءات القانونية، واعتداء على الحريات المدنية، ليفرض حكمًا تعسفيًا، وحروبًا لا تتوقف- ولا أمان- وفوضى، ورعبًا، وهي السمات المشتركة للعصور المظلمة. الثقة في خرافة "التقدم الإنساني" لإنقاذنا تعني الخضوع للقوة الاستبدادية. وحدها المقاومة – من خلال الحشد الجماهيري، وتعطيل ممارسة السلطة، خاصة في وجه الإبادة الجماعية – قادرة على إنقاذنا. تطلق حملات القتل الجماعي الصفات الوحشية الكامنة في كل البشر. فالمجتمع المنظم، بقوانينه وآدابه وشرطته وسجونه وتنظيماته، هي أدوات قسرية تحاصر هذه الوحشية الكامنة. لكن إذا أزيلت هذه العوائق، يصبح الإنسان- كما نرى مع الإسرائيليين في غزة- حيوانًا قاتلًا مفترسًا، يفرح بنشوة الدمار، حتى لو شمل النساء والأطفال. ليت هذا مجرد افتراض. لكنه ليس كذلك. هذا ما شهدته في كل حرب غطيتها. نادرون من يكونون بمنأى عنه. الملك البلجيكي ليوبولد، في أواخر القرن التاسع عشر، احتل الكونغو باسم "التحضر" و"مكافحة العبودية"، لكنه نهب البلاد، متسببًا بموت نحو 10 ملايين كونغولي نتيجة الأمراض والمجاعة والقتل. جوزيف كونراد التقط هذا التناقض بين ما نحن عليه وما نزعم أننا عليه، في روايته "قلب الظلام" وقصته "موقع للتقدم". في "موقع للتقدم"، يروي قصة تاجرين أوروبيين، كايرتس وكارلييه، أُرسلا إلى الكونغو. يدّعيان أنهما في أفريقيا لنشر الحضارة الأوروبية. لكن الملل، والروتين الخانق، والأهم غياب أي ضوابط خارجية، يحوّلهما إلى وحوش. يتاجران بالعبيد مقابل العاج ويتشاجران على الطعام والمؤن القليلة. في النهاية، يقتل كايرتس رفيقه الأعزل كارلييه. كتب كونراد عن كايرتس وكارلييه: "كانا شخصين تافهين وعاجزين تمامًا، لا تستقيم حياتهما إلا بفضل التنظيم العالي لحشود المجتمعات المتحضرة. قليلون من يدركون أن حياتهم، وجوهر شخصيتهم، وقدراتهم وجرأتهم، ليست سوى تعبير عن إيمانهم بأمان محيطهم. الشجاعة، والاتزان، والثقة؛ المشاعر والمبادئ؛ كل فكرة كبيرة أو تافهة لا تنتمي للفرد، بل للحشد: الحشد الذي يؤمن أعمى بقوة مؤسساته وأخلاقه، بسلطة شرطته ورأيه العام. لكن التماس مع الوحشية الصافية، والطبيعة البدائية والإنسان البدائي، يزرع اضطرابًا عميقًا ومفاجئًا في القلب. فمع شعور المرء بأنه وحيد في نوعه، ومع إدراكه وحدة أفكاره ومشاعره، ومع نفي المألوف الذي يمنحه الأمان، يبرز حضور غير المعتاد -المجهول والخطير- باقتحام يربك الخيال ويختبر أعصاب المتحضّر، أكان ساذجًا أم حكيمًا". لقد فجّرت الإبادة الجماعية في غزة كل الأقنعة التي نخدع بها أنفسنا ونحاول بها خداع الآخرين. تسخر من كل قيمة ندّعي التمسك بها، بما في ذلك حرية التعبير. إنها شهادة على نفاقنا وقسوتنا وعنصريتنا. لا يمكننا، بعد تقديمنا مليارات الدولارات من الأسلحة، واضطهادنا من يعترضون على الإبادة الجماعية، أن نواصل إطلاق مزاعم أخلاقية يمكن أخذها على محمل الجد. من الآن فصاعدًا، ستكون لغتنا هي لغة العنف، ولغة الإبادة، وعواء الوحشية في هذا العصر المظلم الجديد، عصر تجوب فيه الأرض قوة مطلقة، وطمع لا حدود له، وهمجية لا رادع لها.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
الأونروا: القانون الدولي يطبق بكل العالم وفشل في قطاع غزة
قال المستشار الإعلامي لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) عدنان أبو حسنة إن القانون الدولي الإنساني ومواثيق الأمم المتحدة واتفاقية جنيف الرابعة تطبق في العالم كله إلا في قطاع غزة، مؤكدا أن المجتمع الدولي والنظام القانوني العالمي يظهران فشلًا ذريعًا في حماية المدنيين في قطاع غزة. وفي تصريحات للجزيرة نت، أضاف أبو حسنة أن "هناك ازدواجية معايير واضحة الآن"، متسائلًا: "كيف يمكن للعالم أن يتفرج على هذا القتل والتجويع واستخدام المساعدات كسلاح؟" ولفت إلى أن استخدام المساعدات الإنسانية كأداة ضغط يعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني. يأتي ذلك في وقت تطبق فيه إسرائيل الحصار على نحو 2.2 مليون فلسطيني في قطاع غزة منذ 11 أسبوعا على التوالي. وكان المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني قال -في تصريحات سابقة اليوم- إن إسرائيل تستغل الجوع والغذاء لأغراض سياسية وعسكرية، مؤكدا أن غزة بحاجة لدعم هائل ومن دون عوائق أو انقطاع لضمان مواجهة الجوع المتفاقم الذي يعاني منه سكان القطاع. وأمس الاثنين، أعلنت إسرائيل أنها سمحت بدخول 100 شاحنة من المساعدات إلى غزة، لكن المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية جينس لاركي أشار إلى أن 5 شاحنات فقط دخلت فعليًا إلى غزة. الخطة الإسرائيلية وتعقيبا على الخطة الإسرائيلية التي تهدف إلى تهجير سكان غزة إلى جنوب القطاع، قال المستشار الإعلامي للأونروا إنها تمثل "عملية تهجير قسري لشعب كبير"، محذرًا من أنها قد تقود إلى ارتكاب جريمة حرب. وأشار أبو حسنة إلى أن قطاع غزة يعاني من مجاعة، وأن "الوضع لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل، فهناك مجاعة حقيقية والمشاهد والصور والتقارير توثق الكارثة في غزة". حتى أن هناك اعترافات رسمية إسرائيلية على لسان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأن هناك مجاعة في غزة، حسب ما قاله عدنان أبو حسنة. وكان مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي قال أمس -في بيان رسمي- إن السماح بدخول "كمية أساسية" من الغذاء إلى القطاع جاء بـ"دافع الحاجة العملياتية لتوسيع نطاق القتال"، وليس لأسباب إنسانية، مضيفا أن المساعدات تهدف إلى منع تفاقم أزمة الجوع في غزة، إذ إن تدهور الأوضاع الإنسانية قد يعرّض العملية العسكرية للخطر. تحولات غربية وفي الأيام القليلة الماضية، طالبت عدة دول أوروبية -من بينها فرنسا وإسبانيا وأيرلندا وهولندا- بإجراء تحقيق عاجل فيما إذا كانت الهجمات الإسرائيلية على غزة تنتهك الاتفاقيات التجارية الموقعة مع الاتحاد الأوروبي، التي تتضمن بنودا تتعلق بحقوق الإنسان. ودعا أمس الاثنين وزير الخارجية الفرنسي إلى مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل على خلفية استمرار جيش الاحتلال في حرب الإبادة الجماعية ضد سكان قطاع غزة ومنعه إدخال المساعدات إلى القطاع. ولذلك يقيّم المستشار الإعلامي للأونروا التحولات في المواقف الغربية بأنها تحمل أهمية متزايدة لزيادة الضغط على الحكومة الإسرائيلية، لكنه شدد في الوقت نفسه على ضرورة حدوث تحول حقيقي في الموقف الأميركي، قائلًا: بإمكان الرئيس دونالد ترامب أن يوقف المجاعة والحرب في غزة". وهذه التحولات الغربية يؤكدها أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بباريس زياد ماجد، مشيرا إلى أنه يلاحظ تغيرًا في اللهجة والمصطلحات الأوروبية، خاصة بعد إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نيته الاعتراف بدولة فلسطينية في يونيو/حزيران المقبل، وأن توقيعه بيانًا مع رئيسي وزراء بريطانيا وكندا يعكس هذا الاتجاه. لكن ماجد لا يتماهى تماما مع هذه التحولات، ويشكك في حدوث تغيير جذري، مؤكدًا أن التحالف مع إسرائيل لا يزال قائمًا رغم الانتقادات. وقال أستاذ العلوم السياسية إن "الاختبار الفعلي هو في مدى اعتماد عقوبات وليس فقط تصريحات، وهو ما طلبت به المحكمة الجنائية الدولية منذ ديسمبر/كانون الأول 2023″، مشيرًا إلى أن الإجراءات الاحترازية لمنع الإبادة الجماعية لم يُتعامل معها بجدية حتى الآن، وهو دليل على ضعف الإرادة السياسية في العواصم الأوروبية. الضغط القانوني وأشار ماجد -في تصريحات للجزيرة نت- إلى جدية الأوروبيين في تنفيذ مذكرات التوقيف التي طالبت بها الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت ، متسائلا: "هل سيمنعون زيارات نتنياهو أو حتى تحليقه في الأجواء الأوروبية إذا قرروا تطبيق القانون الدولي ؟" وكانت منظمات حقوقية هددت بمقاضاة حكومات أوروبية بتهمة التواطؤ في الإبادة الجماعية التي يتعرض لها سكان غزة بسبب استمرار التعاون الاقتصادي بين أوروبا وإسرائيل رغم توثيق جرائم الحرب هذه. ودخلت اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل حيز التنفيذ في يونيو/حزيران 2000، وتمنح إسرائيل العديد من الامتيازات في سوق الاتحاد الأوروبي ، وبلغ حجم التجارة بينهما 46.8 مليار يورو عام 2022، مما يجعل الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لإسرائيل. وقال أستاذ العلوم السياسية في باريس"إذا كان مصطلح الإبادة الجماعية لا يزال مرفوضًا حكوميًا، فإن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا يمكن إنكارها، وعدم التصرف حيال ذلك هو شكل من أشكال التواطؤ". وشدد على أن الامتحان الحقيقي يكمن في اتخاذ قرارات بتجميد الاتفاقات أو فرض العقوبات أو التمسك بتنفيذ قرارات المحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدولية، مؤكدًا أن ما يجري حتى الآن هو محاولات كلامية بلا أثر ملموس على أرض الواقع. إعلان وبالإضافة إلى الحصار المطبق الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، فإن عدد الشهداء في القطاع وصل اليوم إلى أكثر من 53 ألفا، ونحو 122 ألف إصابة نتيجة عدوان جيش الاحتلال، فضلا عن أعداد غير معلومة تحت ركام منازلهم، وفق أحدث إحصاء لوزارة الصحة في قطاع غزة.