logo
لقد آن أوان للنخب لتأسيس الدولة بمنطق داخلي يتصالح مع الذات

لقد آن أوان للنخب لتأسيس الدولة بمنطق داخلي يتصالح مع الذات

تقدم٠٩-٠٤-٢٠٢٥

الدكتور باب ولد سيد أحمد لعلي: من أزمات السلطة في موريتانيا
الدكتور باب ولد سيد أحمد لعلي
'إن تناول السياسة يجب أن يجد منطلقه من مجتمعات اللادولة التي ظلت لا تعرف الدولة ليس لعجزها وقصورها وتخلفها على الوصول إلى مجتمع الدولة بل لرفضها الدولة أصلا' بيير كلاستر.
1
ذلك أن تناول السياسية قديما عند الأنثربولوجيين الذين انكبوا على دراسة نظم اجتماعية مختلفة تماما عن خلفياتهم الفكرية والمجتمعات التي أسست رؤاهم، شكل أهم الموضوعات التي وجهت معظم دراساتهم، لأن السياق الذي يمكن أن يدرس فيه الباحث المجتمع في ظل نظامٍ دولاتي وضعي يحتكم إليه الجميع، فضلا عن مظاهر التفاعل وحقوله، لا يمكن أن يتماهى أو يتساوى مع سياق قبلي انقسامي- حسب تعبيرات أغلب الدارسين الذين درسوا مجتمعات اللادولة- يرفض السلطة ويحتكم في علاقاته للأعراف أو بتعبير آخر تُعتبر القرابة الأساس الذي يمكن أن تشكل نواة فهمه وتحليله.
ثم إن الفهم الجديد الذي ثبّته جيل كلاستر كان يستثمر في قول مختلف عما ذهبت إليه الدراسات والأبحاث السابقة والتي تأثرت بشكل أو بآخر بخلفيات فلسفة العقد الاجتماعي ومنطلقاتها الحتمية التي رأت أن المجتمعات التي تفتقد للدولة لا تعرف السياسية لتحكم أنظمة القرابة بها، وقد شكل جورج بلاندييه أول المخالفين لذلك التوجه عندما ربط بين القرابة والسياسية في هذه المجتمعات حيث أن القرابة منحت السياسة لغتها وقيمتها في هذه المجتمعات ولم يكن تواجد أحدهما يخالف الآخر وهكذا.
لقد كانت رؤية كلاستر لهذه المجتمعات مبنية على طبيعتها الداخلة في مقابل إيديولوجية التحديث التي قادتها الآلية الغربية في هذه المجتمعات، لذلك أنتج كتابه 'محتمعات ضد الدولة' معتبر أنها ترفضها في قيمها وعاداتها فهي مجتمعات مفيأة ضدها، ولسنا بصدد إثبات ذلك من خلال تبيّان الفروق بين كلا النظامين، لكن اختلاف الوضعين والسياقين والعقليتين يُحتمان من حيث المنطلق والمنطق اختلاف الحكم والتسيير والتدبير.
2
لم يخلف المستعمر إبان مغادرته كرها في هذه المجتمعات نظام دولاتي واضح منبثق من طبيعة اجتماعية داخلية، في أغلب الحالات، رغم أن قوض جميع البنايات الاجتماعية الموجودة، وهمش حضورها لصالح تحكمه، فمنطلقات المقاومة التي ظهرت في كل ركن من أركان العالم المُستعمَر لم تكن تسعى في أغلبها إلى تحرير تلك الشعوب وإقامة الدولة القطرية بقدر ما كان محركها الرئيسي رؤية دينية بحتة، تستحضر صراع الحضارتين أكثر من استحضار أي قيم وطنية أخرى إلا في مراحل متأخرة جدا من تاريخها، أي بعد الصراع المحتدم بين المعسكرين الذي ظهر نهاية الحرب العالمية الثانية، لذلك لم تكن السيطرة عسكرية فقط بل كانت متعددة الأوجه بتعدد الأهداف من أضيقها ممثلا في خلق كادر قابل للتعامل، مرورا بتوسع الأسواق إلى التبعية المطلقة التي كانت هدفا مقدسا لتلك الهيمنة.
لذلك لم تكن الدولة بمفهومها وبتغلغلها في القيم والثقافات موجودة ويستحيل أن تلد إلا في حالات نادرة من سياق كهذا، ولمّا فرض الصراع القطبي الاستقلال ودفع نحوه القوى الاستعمارية كان ينوي خلق سُلط مركزية في هذه الدولة والتحايل على تاريخها بجغرافيا محددة لتستمر الهيمنة الناعمة بشكل مختلف وتستحيل تبعا لتلك المتغيرات ولادة الدولة المركزية.
وإذا أخذنا بالنظر رؤية العالم الإنجليزي لمفهوم السلطة، فإن السلطة في اللغة الإنجليزية تحيل إلى مصطلح (power) وقد يحدث خلط من حيث الدلالة مع مصطلح آخر للسلطة ( Authority) حيث أن هاتان الكلمتان تستخدمان في اللغة الإنجليزية بمعنى السلطة لذا ينبغي إيضاح دلالة كل منهما، حيث إن استخدام كلمة (سلطة power) هو للدلالة على السلطة في نطاقها العام والشامل، إذ تعني أيضا (القدرة، والاستطاعة، والقوة) بينما يقتصر استخدامنا لكلمة (سلطة Authority) على ما هو تخصصي (سلطة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية..)، ويبقى المفهومين حبيسي سياق ضيق لا يمتد إلى مفهوم الدولة التي لا تشكل السلطة إلا جزءا منها
3.
غير أن تطور الفكر الثقافي وتمازجه أكثر مع الحداثة ومع القيم التي باتت تفرضها العولمة كواقع أثر كثيرا في طبيعة الانسجام والتناغم المسيطر – وإن شكلا – على طبيعة المجتمع بتخصيص الأدوار أو التمايز الداخلي، ذلك أن الأيديولوجيات الغربية الكبيرة التي تأسست على مقتضى أفكارها دول العالم الثالث حسب المفكر الأمريكي 'دانيل بيل' قد شاخت وانتهت والمجال الآن مفتوح للأيديولوجيات القادمة من العالم الثالث والتي تسود فيها الهويات الجماعية وخطابها داخل بنية الدولة الوطنية نظرا لعوامل عدة تتمثل في الغبن والتهميش والإقصاء وعجز الدول عن القيام بمهامها.
انطلاقا من ذلك فإن سلطة التأسيس التي حملت على عاتقها إنشاء المجتمع لم تكترث لثقافته وقيمه حتى الاقتصادية التي يمكن أن يؤسس عليها بل ضربت بها عرض الحائط متجهة إلى التصنيع والاعتماد على القطاع الثانوي بدل القطاع الأول الدارج في الثقافة والقيم، وبذلك كانت عتبة التأسيس تصطدم أولا بالقيم وتدفع إلى الاستلاب أكثر من دفعها للتأسيس، وإن كان تصرفها مع الحقل السياسي أكثر عقلانية من أي شيء آخر، عندما أممت سلطة التأسيس الميدان السياسي وأدمجت كل الكيانات السياسية في حزب الدولة لغرض تهميش سلطة المرجعيات الاجتماعية على حسابها، إلا أن التاريخ السياسي الذي توالت أحداثه على الدولة بعد ذلك لم يسعفها بشكل صحيح ولم يدفع لولادة الدولة أيضا، فقد مرت الدولة الإسمية حسب تعبيرات فكو ياما على ثلاث سلط منذ تأسيسها إلى حد الساعة، مرحلة الحكم الشمولي (تأميم الدولة للمجال السياسي)، ثم مرحلة الحكم الاستثنائي والتي بدأت مع انقلاب 1978، وأخيرا مرحلة الحكم المودمقرط[1]
ومن هذه المرحلة الثالثة التي تعرف بديمقراطية لابول دخلت الدولة الموريتانية واقعا جديدا أصبح الاستقطاب فيه القبلي والشرائحي سيد الموقف، على حساب أي شيء آخر، وإن كانت متطلبات بناء الدولة حسب الفقه القانوني المعاصر تتطلب الإيمان بها أولا على حساب أي انتماء آخر، فإن هشاشة السُلط التي تعاقبت على الحكم جعل الفاعلية تزكى انطلاقا من الشعبية والتأثير، وهو ما أحيى النعرات وجعل الساحة السياسة تفتقد لأي رؤية سياسية وطنية إلا في حالات جد نادرة، بل إن الأحزاب الكبيرة التي نافست السلطة منذ 1992 والتي كانت منبثقة من رؤية الحركات الإيديولوجية التي أطّرت الفعل السياسي منذ 1966 إلى تلك اللحظة، ارتبطت فاعلية تأثيرها بمستوى تبنيها أو تأثرها بالطرح القبلي أو الفئوي، أو في الاستثمار فيها بطريقة أو بأخرى، مثل ما فعل الناصريون مع مسعود وكما فعل البعثيون مع حركة إيرا ..!
وكأن القاعدة الأساسية التي تحكم المنطق السياسي هو التغلب والمناصرة ثم المنافرة وتلك قيم تم استنباطها واستحضارها في المشهد السياسي الحالي للدولة منذ تأسيسها ضمن غياب رؤية تنظيمية وسقف ثابت يؤطر الفعل السياسي بموريتانيا، فتجسدت ثنائية التنافر والمناصرة في المجال السياسي بالترحال السياسي والخروج من تنظيم وخلق آخر بديل عنه من أجل تصدر المشهد داخله، إلا وصلت الأحزاب سنة 2018 إلى ما يربو على المائة، وبعد حلّ جلها، وسعيّ الدولة لتنظيم تأسيس المرجعيات الحزبية تتزاحم حاليا على عتبات طلب الترخيص ما يزيد على 60 حزبا رغم أن المرخص حاليا يزيد على 20، في مجتمع لم يبلغ بعد 5 ملايين نسمة.!
4
لقد منحت التهدئة التي أصل لها هذا النظام منذ وصوله للسلطة عاملا مهما كان يمكن استثماره لتصحيح الشوائب التي عاقت وعرقلت التأسيس، غير تحكم النُخب واستفادتهم من الواقع القائم شكل أكبر حجر عثرة أمام أن تحقق التهدئة الطارئة على الحياة السياسية في موريتانيا أي شيء يذكر، ورغم أن الحوارات التي نُظمت في كل حقبة لم تأتي إلا بما يرضي النخب لأن الفعل السياسي يمتزج في البعد الوظيفي قديما وهو ما اعتبر الأنثربولوجيين استحالة فهمه إلا من خلال تحليل بُنية القرابة في النظم اللادولاتية، مع المعاصرة والحزبية، إلا أنه تماما كانت السياسية تجد منطق قوتها من القرابة، وبالتالي المنطق السياسي مختلف تماما عن أي منطق آخر، لذلك وجب أن تكون الأهداف متفاوضة مع الواقع وعاكسة له.
لقد آن الأوان أن تسعى النخب إلى أن تؤسس الدولة بمنطق داخلي يتصالح مع الذات وينتصر لها، وأن تؤطر الحياة السياسية بسقف جامع يحد كل الخلافات وينظمها، فمن غير المقبول أن يرتبط مفعول السياسي فينا بتحقيق واقع 'الحظرة' وإن لم يجد ريعه يغاضب ولا يمنعه سقف أن يضر الدولة الهشة أصلا في بنائها، كما أنه من غير المقبول عندما تتعامل السلطة مع أي سياسي ويستفيد من ريعها أن ينسى المشاكل الجوهرية بتحقيق مطالب شخصية.
وتظل فرصة نجاح الحوار المرتقب مرتبطة بمدى قدرة النخب على التخلي عن جزء من مصالحهم للصالح العام، فعندما يكون حوارا لأجل تحقيق أغراض شخصية فإن الخلل سيظل قائما، فالدولة تجمع ولا تخص، ولعل أقرب احتمال للتنبؤ بهشاشته هو ربطه بالميدان السياسي، والتنكر أو تحييد الأبعاد التي تشكل عمق المشكل الحقيقي وتقف حاجزا أمام الدولة التي بات الجميع يحلم بها، لكن لا يعرف كيف
حفظ لله موريتانيا
[1] – اخترنا عبارة 'المودمقرط' لأن التعددية الحزبية التي نتجت عن دستور 1991 لم تفرزها طبيعة سياسية واجتماعية داخلية، وإنما تمت نتيجة لإملاءات خارجية في الغالب، وهو جعل السلطة تحاول تكيف الواقع مع متطلبات الاقتراع والتعدد ، يمكن العودة في ذلك لمقال لنا منشور في مجلة الأنثربولولوجيا بعنوان: الحركة السياسية في موريتانيا دراسة أنثروبولوجية لملامح التشيؤ والتوتر السياسي بموريتانيا، دسيمبر 2022 .
كاتب موريتاني

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

لقد آن أوان للنخب لتأسيس الدولة بمنطق داخلي يتصالح مع الذات
لقد آن أوان للنخب لتأسيس الدولة بمنطق داخلي يتصالح مع الذات

تقدم

time٠٩-٠٤-٢٠٢٥

  • تقدم

لقد آن أوان للنخب لتأسيس الدولة بمنطق داخلي يتصالح مع الذات

الدكتور باب ولد سيد أحمد لعلي: من أزمات السلطة في موريتانيا الدكتور باب ولد سيد أحمد لعلي 'إن تناول السياسة يجب أن يجد منطلقه من مجتمعات اللادولة التي ظلت لا تعرف الدولة ليس لعجزها وقصورها وتخلفها على الوصول إلى مجتمع الدولة بل لرفضها الدولة أصلا' بيير كلاستر. 1 ذلك أن تناول السياسية قديما عند الأنثربولوجيين الذين انكبوا على دراسة نظم اجتماعية مختلفة تماما عن خلفياتهم الفكرية والمجتمعات التي أسست رؤاهم، شكل أهم الموضوعات التي وجهت معظم دراساتهم، لأن السياق الذي يمكن أن يدرس فيه الباحث المجتمع في ظل نظامٍ دولاتي وضعي يحتكم إليه الجميع، فضلا عن مظاهر التفاعل وحقوله، لا يمكن أن يتماهى أو يتساوى مع سياق قبلي انقسامي- حسب تعبيرات أغلب الدارسين الذين درسوا مجتمعات اللادولة- يرفض السلطة ويحتكم في علاقاته للأعراف أو بتعبير آخر تُعتبر القرابة الأساس الذي يمكن أن تشكل نواة فهمه وتحليله. ثم إن الفهم الجديد الذي ثبّته جيل كلاستر كان يستثمر في قول مختلف عما ذهبت إليه الدراسات والأبحاث السابقة والتي تأثرت بشكل أو بآخر بخلفيات فلسفة العقد الاجتماعي ومنطلقاتها الحتمية التي رأت أن المجتمعات التي تفتقد للدولة لا تعرف السياسية لتحكم أنظمة القرابة بها، وقد شكل جورج بلاندييه أول المخالفين لذلك التوجه عندما ربط بين القرابة والسياسية في هذه المجتمعات حيث أن القرابة منحت السياسة لغتها وقيمتها في هذه المجتمعات ولم يكن تواجد أحدهما يخالف الآخر وهكذا. لقد كانت رؤية كلاستر لهذه المجتمعات مبنية على طبيعتها الداخلة في مقابل إيديولوجية التحديث التي قادتها الآلية الغربية في هذه المجتمعات، لذلك أنتج كتابه 'محتمعات ضد الدولة' معتبر أنها ترفضها في قيمها وعاداتها فهي مجتمعات مفيأة ضدها، ولسنا بصدد إثبات ذلك من خلال تبيّان الفروق بين كلا النظامين، لكن اختلاف الوضعين والسياقين والعقليتين يُحتمان من حيث المنطلق والمنطق اختلاف الحكم والتسيير والتدبير. 2 لم يخلف المستعمر إبان مغادرته كرها في هذه المجتمعات نظام دولاتي واضح منبثق من طبيعة اجتماعية داخلية، في أغلب الحالات، رغم أن قوض جميع البنايات الاجتماعية الموجودة، وهمش حضورها لصالح تحكمه، فمنطلقات المقاومة التي ظهرت في كل ركن من أركان العالم المُستعمَر لم تكن تسعى في أغلبها إلى تحرير تلك الشعوب وإقامة الدولة القطرية بقدر ما كان محركها الرئيسي رؤية دينية بحتة، تستحضر صراع الحضارتين أكثر من استحضار أي قيم وطنية أخرى إلا في مراحل متأخرة جدا من تاريخها، أي بعد الصراع المحتدم بين المعسكرين الذي ظهر نهاية الحرب العالمية الثانية، لذلك لم تكن السيطرة عسكرية فقط بل كانت متعددة الأوجه بتعدد الأهداف من أضيقها ممثلا في خلق كادر قابل للتعامل، مرورا بتوسع الأسواق إلى التبعية المطلقة التي كانت هدفا مقدسا لتلك الهيمنة. لذلك لم تكن الدولة بمفهومها وبتغلغلها في القيم والثقافات موجودة ويستحيل أن تلد إلا في حالات نادرة من سياق كهذا، ولمّا فرض الصراع القطبي الاستقلال ودفع نحوه القوى الاستعمارية كان ينوي خلق سُلط مركزية في هذه الدولة والتحايل على تاريخها بجغرافيا محددة لتستمر الهيمنة الناعمة بشكل مختلف وتستحيل تبعا لتلك المتغيرات ولادة الدولة المركزية. وإذا أخذنا بالنظر رؤية العالم الإنجليزي لمفهوم السلطة، فإن السلطة في اللغة الإنجليزية تحيل إلى مصطلح (power) وقد يحدث خلط من حيث الدلالة مع مصطلح آخر للسلطة ( Authority) حيث أن هاتان الكلمتان تستخدمان في اللغة الإنجليزية بمعنى السلطة لذا ينبغي إيضاح دلالة كل منهما، حيث إن استخدام كلمة (سلطة power) هو للدلالة على السلطة في نطاقها العام والشامل، إذ تعني أيضا (القدرة، والاستطاعة، والقوة) بينما يقتصر استخدامنا لكلمة (سلطة Authority) على ما هو تخصصي (سلطة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية..)، ويبقى المفهومين حبيسي سياق ضيق لا يمتد إلى مفهوم الدولة التي لا تشكل السلطة إلا جزءا منها 3. غير أن تطور الفكر الثقافي وتمازجه أكثر مع الحداثة ومع القيم التي باتت تفرضها العولمة كواقع أثر كثيرا في طبيعة الانسجام والتناغم المسيطر – وإن شكلا – على طبيعة المجتمع بتخصيص الأدوار أو التمايز الداخلي، ذلك أن الأيديولوجيات الغربية الكبيرة التي تأسست على مقتضى أفكارها دول العالم الثالث حسب المفكر الأمريكي 'دانيل بيل' قد شاخت وانتهت والمجال الآن مفتوح للأيديولوجيات القادمة من العالم الثالث والتي تسود فيها الهويات الجماعية وخطابها داخل بنية الدولة الوطنية نظرا لعوامل عدة تتمثل في الغبن والتهميش والإقصاء وعجز الدول عن القيام بمهامها. انطلاقا من ذلك فإن سلطة التأسيس التي حملت على عاتقها إنشاء المجتمع لم تكترث لثقافته وقيمه حتى الاقتصادية التي يمكن أن يؤسس عليها بل ضربت بها عرض الحائط متجهة إلى التصنيع والاعتماد على القطاع الثانوي بدل القطاع الأول الدارج في الثقافة والقيم، وبذلك كانت عتبة التأسيس تصطدم أولا بالقيم وتدفع إلى الاستلاب أكثر من دفعها للتأسيس، وإن كان تصرفها مع الحقل السياسي أكثر عقلانية من أي شيء آخر، عندما أممت سلطة التأسيس الميدان السياسي وأدمجت كل الكيانات السياسية في حزب الدولة لغرض تهميش سلطة المرجعيات الاجتماعية على حسابها، إلا أن التاريخ السياسي الذي توالت أحداثه على الدولة بعد ذلك لم يسعفها بشكل صحيح ولم يدفع لولادة الدولة أيضا، فقد مرت الدولة الإسمية حسب تعبيرات فكو ياما على ثلاث سلط منذ تأسيسها إلى حد الساعة، مرحلة الحكم الشمولي (تأميم الدولة للمجال السياسي)، ثم مرحلة الحكم الاستثنائي والتي بدأت مع انقلاب 1978، وأخيرا مرحلة الحكم المودمقرط[1] ومن هذه المرحلة الثالثة التي تعرف بديمقراطية لابول دخلت الدولة الموريتانية واقعا جديدا أصبح الاستقطاب فيه القبلي والشرائحي سيد الموقف، على حساب أي شيء آخر، وإن كانت متطلبات بناء الدولة حسب الفقه القانوني المعاصر تتطلب الإيمان بها أولا على حساب أي انتماء آخر، فإن هشاشة السُلط التي تعاقبت على الحكم جعل الفاعلية تزكى انطلاقا من الشعبية والتأثير، وهو ما أحيى النعرات وجعل الساحة السياسة تفتقد لأي رؤية سياسية وطنية إلا في حالات جد نادرة، بل إن الأحزاب الكبيرة التي نافست السلطة منذ 1992 والتي كانت منبثقة من رؤية الحركات الإيديولوجية التي أطّرت الفعل السياسي منذ 1966 إلى تلك اللحظة، ارتبطت فاعلية تأثيرها بمستوى تبنيها أو تأثرها بالطرح القبلي أو الفئوي، أو في الاستثمار فيها بطريقة أو بأخرى، مثل ما فعل الناصريون مع مسعود وكما فعل البعثيون مع حركة إيرا ..! وكأن القاعدة الأساسية التي تحكم المنطق السياسي هو التغلب والمناصرة ثم المنافرة وتلك قيم تم استنباطها واستحضارها في المشهد السياسي الحالي للدولة منذ تأسيسها ضمن غياب رؤية تنظيمية وسقف ثابت يؤطر الفعل السياسي بموريتانيا، فتجسدت ثنائية التنافر والمناصرة في المجال السياسي بالترحال السياسي والخروج من تنظيم وخلق آخر بديل عنه من أجل تصدر المشهد داخله، إلا وصلت الأحزاب سنة 2018 إلى ما يربو على المائة، وبعد حلّ جلها، وسعيّ الدولة لتنظيم تأسيس المرجعيات الحزبية تتزاحم حاليا على عتبات طلب الترخيص ما يزيد على 60 حزبا رغم أن المرخص حاليا يزيد على 20، في مجتمع لم يبلغ بعد 5 ملايين نسمة.! 4 لقد منحت التهدئة التي أصل لها هذا النظام منذ وصوله للسلطة عاملا مهما كان يمكن استثماره لتصحيح الشوائب التي عاقت وعرقلت التأسيس، غير تحكم النُخب واستفادتهم من الواقع القائم شكل أكبر حجر عثرة أمام أن تحقق التهدئة الطارئة على الحياة السياسية في موريتانيا أي شيء يذكر، ورغم أن الحوارات التي نُظمت في كل حقبة لم تأتي إلا بما يرضي النخب لأن الفعل السياسي يمتزج في البعد الوظيفي قديما وهو ما اعتبر الأنثربولوجيين استحالة فهمه إلا من خلال تحليل بُنية القرابة في النظم اللادولاتية، مع المعاصرة والحزبية، إلا أنه تماما كانت السياسية تجد منطق قوتها من القرابة، وبالتالي المنطق السياسي مختلف تماما عن أي منطق آخر، لذلك وجب أن تكون الأهداف متفاوضة مع الواقع وعاكسة له. لقد آن الأوان أن تسعى النخب إلى أن تؤسس الدولة بمنطق داخلي يتصالح مع الذات وينتصر لها، وأن تؤطر الحياة السياسية بسقف جامع يحد كل الخلافات وينظمها، فمن غير المقبول أن يرتبط مفعول السياسي فينا بتحقيق واقع 'الحظرة' وإن لم يجد ريعه يغاضب ولا يمنعه سقف أن يضر الدولة الهشة أصلا في بنائها، كما أنه من غير المقبول عندما تتعامل السلطة مع أي سياسي ويستفيد من ريعها أن ينسى المشاكل الجوهرية بتحقيق مطالب شخصية. وتظل فرصة نجاح الحوار المرتقب مرتبطة بمدى قدرة النخب على التخلي عن جزء من مصالحهم للصالح العام، فعندما يكون حوارا لأجل تحقيق أغراض شخصية فإن الخلل سيظل قائما، فالدولة تجمع ولا تخص، ولعل أقرب احتمال للتنبؤ بهشاشته هو ربطه بالميدان السياسي، والتنكر أو تحييد الأبعاد التي تشكل عمق المشكل الحقيقي وتقف حاجزا أمام الدولة التي بات الجميع يحلم بها، لكن لا يعرف كيف حفظ لله موريتانيا [1] – اخترنا عبارة 'المودمقرط' لأن التعددية الحزبية التي نتجت عن دستور 1991 لم تفرزها طبيعة سياسية واجتماعية داخلية، وإنما تمت نتيجة لإملاءات خارجية في الغالب، وهو جعل السلطة تحاول تكيف الواقع مع متطلبات الاقتراع والتعدد ، يمكن العودة في ذلك لمقال لنا منشور في مجلة الأنثربولولوجيا بعنوان: الحركة السياسية في موريتانيا دراسة أنثروبولوجية لملامح التشيؤ والتوتر السياسي بموريتانيا، دسيمبر 2022 . كاتب موريتاني

رئيس الجمهورية أمام قمة الاتحاد الإفريقي: فخور بخدمة القارة الإفريقية وحمل صوتها والدفاع عنها في كل المنابر والمحافل الدولية
رئيس الجمهورية أمام قمة الاتحاد الإفريقي: فخور بخدمة القارة الإفريقية وحمل صوتها والدفاع عنها في كل المنابر والمحافل الدولية

إذاعة موريتانيا

time١٥-٠٢-٢٠٢٥

  • إذاعة موريتانيا

رئيس الجمهورية أمام قمة الاتحاد الإفريقي: فخور بخدمة القارة الإفريقية وحمل صوتها والدفاع عنها في كل المنابر والمحافل الدولية

أعرب فخامة رئيس الجمهورية رئيس الاتحاد الإفريقي، السيد محمـد ولد الشيخ الغزواني، عن اعتزازه وفخره بخدمة القارة الإفريقية خلال رئاسته للاتحاد الافريقي 2024، وبحمل صوتها والدفاع عنها في كل المنابر والمحافل الدولية. وخاطب فخامته، قادة الاتحاد الافريقي خلال افتتاح الدورة العادية الـ38 لمؤتمر قمة الاتحاد، اليوم السبت بأديس أبابا، قائلا: 'إن تجاوز العوائق ورفع التحديات لا يكون إلا بالاتحاد وصهر الجهود الذي تستوجبه قيمنا المشتركة ويمليه إدراكنا لوحدة المصير ويقضي به حجم الرهان ويستلزمه سمو الغاية التي نسعى إليها'، مؤكدا قدرة القارة الإفريقية على تحقيق أهداف أجندة 2063. وفيما يلي نص خطاب فخامة رئيس الجمهورية رئيس الاتحاد الافريقي: – أصحاب الفخامة والمعالي، رؤساء الدول والحكومات؛ – صاحب الفخامة السيد آبي أحمد، رئيس الوزراء لجمهورية أثيوبيا الاتحادية الديمقراطية الأثيوبية، – معالي السيد موسى فاكي، رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي؛ – معالي السيد أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة؛ – فخامة الرئيس محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، – معالي السيدة مايا موتلي، رئيسة الوزراء لجمهورية باربادوسا، – السادة والسيدات رؤساء الوفود؛ – السادة والسيدات السفراء؛ – السادة والسيدات ضيوفنا الكرام؛ أود بداية أن أتوجه بجزيل الشكر للحكومة والشعب الأثيوبيين، على ما اتخذوه من إجراءات لتسهيل التنظيم المحكم لقمتنا هذه، وعلى ما أحطنا به، ونحاط به دائما، من عناية فائقة وكرم ضيافة أصيل في هذه المدينة العريقة، موطن ميلاد منظمتنا التي تشكل التعبير المؤسسي الأسمى عن طموحات الآباء المؤسسين وتطلعات شعوبنا الإفريقية إلى قيام إفريقيا موحدة، آمنة، مستقرة ومزدهرة. كما يطيب لي أن أجدد الشكر لإخوتي رؤساء الدول والحكومات الإفريقية، على ما شرفوني به من رئاسة الاتحاد الإفريقي برسم السنة المنصرمة، مقدرا لهم ما منحوني إياه من قوي الدعم ودائم المساندة خلال تأديتي لهذه المهمة الجليلة. وأتوجه بنفس الشكر الجزيل إلى رؤساء الدول والحكومات والهيئات الدولية الذين حضروا، بدعوة منا، ليشاركونا هذا الحدث السنوي الهام في بداية سنة 2025 التي تؤشر لحقبة تحمل الكثير من الشكوك والقلق والتساؤلات. – أصحاب الفخامة والمعالي؛ – أيها السادة والسيدات؛ لقد صادف تشرفنا باستلام الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي ظرفا دوليا وقاريا بالغ الحساسية والصعوبة، لكنه في الوقت ذاته صادف اعتماد خطتنا العشرية الثانية في سياق تنفيذ أجندة 2063، والتي تمثل الإطار العام للخطط التنموية متوسطة المدى للدول الأعضاء، والمجموعات الاقتصادية الإقليمية، ومختلف أجهزة الاتحاد الافريقي. وفي اعتماد هذه الخطة العشرية دلالة جلية على صلابة إرادتنا المشتركة في تحقيق تطلعات شعوبنا إلى قيام إفريقيا التي نريدها جميعا، مهما كثرت العوائق، ومهما عظمت التحديات، وإنها بحق لعظيمة. وقد كنت أوان تسلمي قيادة الاتحاد على أتم الوعي بحجم المهمة وحساسية الظرف. فعالمنا اليوم تتصاعد فيه الأزمات المتنوعة، وتتسع فيه فضاءات التنازع، وتتكاثر بؤر التوتر بشكل هز علاقات الدول بعضها ببعض كما هز القيم والمبادئ التي تأسس عليها النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فبعد فترة من الهدوء، ومن انتعاش المنظمات الدولية، ومن الإيمان بعالم أكثر سلاما، تصدعت المرجعيات وتلاشت الآمال بعضها تلو البعض الآخر، وبدأت إعادة صياغة تدريجية للنظام الدولي، بنحو لم تتضح بعد معالمه ولا مآلاته. ومنذ سنوات لم تتوقف، مع الأسف، إراقة الدماء، ووجد الكثير من الناس أنفسهم في وضع إنساني استعجالي. وعرف العالم مستوى من العنف والهمجية لم يشهد له نظيرا منذ الحرب العالمية الثانية، وفي ما تعرضت وتتعرض له فلسطين المحتلة أوضح مصداق على ذلك. ويعقد هذا المشهد الدولي العام ويزيده قتامة ما فشا في قارتنا من حروب ونزاعات وعنف وتطرف وإرهاب. وإن لهذه الأزمات كلها، القاري منها والدولي، تأثيرا سلبيا عميقا على الجهود الإنمائية لقارتنا الإفريقية، التي تتشابك فيها أصلا تحديات جسيمة، من قبيل الفقر والبطالة وضعف المنظومات الصحية والتعليمية، وهشاشة البنية الاقتصادية عموما، ناهيك عن الآثار المدمرة للتغيرات المناخية وتفشي الإرهاب والنزاعات المسلحة، التي تنسف الأمن والاستقرار، وتفكك الأنسجة الاجتماعية، وتلحق بالغ الضرر بالظروف المعيشية للسكان. وقد التـــزمنا في خطاب اختتام الدورة 37 لمؤتمر رؤساء الدول وحكومات الاتحاد الإفريقي، بالعمل بجد على رفع مختلف هذه التحديات. فعملنا، طوال فترة ولايتنا، في احترام تام لنظم الاتحاد ولتناسق وتناغم مؤسساته وكذلك في انسجام كلي مع المفوضية والمجموعات الاقتصادية الإقليمية والآليات الإقليمية، على مواصلة وتعزيز جهود السلام وحل النزاعات بالطرق التفاوضية السلمية، بدعمنا ، مثلا، الجهود القيمة التي يقوم بها أخي صاحب الفخامة دنيس ساسو انكيسو على رأس لجنة الاتحاد الإفريقي رفيعة المستوى حول ليبيا، وبالاتصال المنتظم مع صاحبي الفخامة بول كاغامي، وفليكس اتشيكسيدي، سعيا منا إلى وقف العنف والنزاع في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وكذلك باحتضاننا في الجمهورية الإسلامية الموريتانية، في 18 دجمبر 2024، أعمال الاجتماع التشاوري الثالث لتعزيز تنسيق مبادرة جهود السلام في السودان، وباستقبالنا الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان يومي 13 و14 يناير 2025 في نواكشوط، للتداول معه حول ضرورة وقف أعمال العنف في السودان وصون سلامة شعبه وحوزته الترابية. وعلى الرغم من جهود الاتحاد والمجموعات الإقليمية وآحاد الدول الأعضاء، لا يزال قيام السلام الشامل والمستديم بقارتنا هدفا ينتظر التحقق. وإنني إذ أدعو إلى تنفيذ القرارات الجريئة التي اتخذتها قمة مالابو الاستثنائية في مايو 2022 لَمُعْتقدٌ حقا بضرورة مساءلة هيكل السلم والأمن الإفريقي، في اتجاهات أربعة: التناغم، واستدامة التمويل، والتفعيل والشمول، وكذلك من حيث ملاءمته لطبيعة التحديات الأمنية الراهنة والتغييرات اللادستورية الطارئة. فمن شأن ذلك أن يتيح لنا فرصة استكشاف أساليب أكثر نجاعة في مواجهة تحدي السلام والأمن والاستقرار بإيجاد الآليات المناسبة التي تمكن من الحل السلمي للنزاعات، وهو ما يشكل في الوقت ذاته واجبا أخلاقيا ومسؤولية جماعية. ونحن في هذا السياق بحاجة لجهود كل منا وجهودنا مجتمعين في هبّة عامة ضمن جهد جماعي منسق وشامل لرفع هذا التحدي. – أصحاب الفخامة والمعالي؛ – أيها السادة والسيدات؛ لقد أولينا بالغ العناية للأجندة التنموية طوال مأموريتنا بسعينا المستمر لحشد المزيد من التمويلات لتلبية الحاجات التنموية القارية المتعاظمة، وذلك من خلال تنظيمنا أو مشاركتنا في العديد من القمم. فقد نظمنا مع صاحب الفخامة السيد ويليام صمويل روتو، في إبريل 2024، قمة نيروبي لدعم دورة التمويل الحادية والعشرين للمؤسسة الدولية للتنمية، وعززنا عملية الدعم هذه مع صاحب الفخامة الحسن واتارا أثناء القمة الاقتصادية رفيعة المستوى، التي انعقدت بأبيدجان أكتوبر 2024 ومثلت لحظة هامة في عملية التجديد الحادي والعشرين لموارد هذه المؤسسة. وقد أسفرت جهود الدعم والمناصرة هذه عن تجديد موارد المؤسسة الدولية للتنمية بمستوى غير مسبوق وصل 100 مليار دولار. كما شاركنا في أعمال القمة الأفريقية – الكورية، وحصلنا خلالها على زيادة كبيرة من الأموال الكورية الموجهة نحو المساعدة الإنمائية في أفريقيا، والتي ارتفع حجمها من 5.5 مليار دولار إلى 10 مليار دولار علاوة على مبلغ 14 مليار دولار مخصصة لتمويل الصادرات دعما للشركات المستثمرة في قارتنا. ينضاف لذلك ما أسفرت عنه النسخة الرابعة من قمة التعاون الصيني – الإفريقي على مستوى الرؤساء، من إعلان تخصيص جمهورية الصين الشعبية 50 مليار دولار لدفع عجلة التنمية في قارتنا. وبالموازاة مع الجهد المبذول في سبيل تعبئة الموارد، حرصنا خلال مشاركتنا في قمة مجموعة السبع بإيطاليا، في يونيو 2024، وقمة مجموعة ابريكس في روسيا الاتحادية أكتوبر 2024، وقمة مجموعة العشرين G20 في البرازيل نوفمبر 2024، وغيرها من المحافل الأخرى، على تأكيد ضرورة حل مشكل المديونية التي تعيق بقوة جهودنا التنموية، وعلى مراجعة نظام المساعدة العمومية الإنمائية، القائم، لقصوره عن تحقيق الأهداف المبتغاة منه، مطالبين باستحداث ميثاق جديد لتمويل التنمية، يكون أكثر مرونة واستدامة ويضمن للدول الأقل نموا نفاذا سلسا، ومنصفا لتمويلات تناسب أولوياتها. كما دأبنا على المطالبة بتحسين تمثيل القارة في المؤسسات المالية المتعددة الأطراف، لضمان مراعاة حاجاتها الإنمائية الملحة في الأجندة الدولية. وإن الغاية من العمل على تعبئة الموارد هي في الأساس دفع عجلة التنمية لتعزيز قدرة قارتنا على تحويل إمكاناتها ومواردها الهائلة إلى تنمية مستديمة فعلية ترفع التحديات التي تواجهها والتي عمقتها الأزمات الاقتصادية والأمنية والصحية والمناخية. وفي هذا السياق، وعملا بما تقرر من اتخاذ: 'بناء أنظمة تعليمية مرنة لزيادة الوصول إلى التعليم الشامل والمستمر والجيد والملائم في إفريقيا' شعارا للقمة برسم السنة المنصرمة، نظمنا في الجمهورية الإسلامية الموريتانية وبالتعاون مع لجنة الاتحاد الإفريقي، مؤتمرا قاريا حول التهذيب والشباب وقابلية التشغيل في دجمبر الماضي بنواكشوط. وكان الهدف من دمج التعليم والشباب وقابلية التشغيل في إشكالية واحدة: التركيز على فئة تشكل ثلثي سكان القارة، فئة الشباب المعرضة لمخاطر البطالة والعنف والتطرف والانحراف وللهجرة غير النظامية كما لهجرة الأدمغة. وإنني لأدعو القمة لاعتماد إعلان نواكشوط بما يرسمه من آفاق لتعليم يكون دعامة تنموية مستدامة، ورافدا قويا للأمن والاستقرار وخلق فرص العمل الملائمة، تقليصا لدوائر البطالة، والفقر، والهشاشة. وكما يحتاج الشباب الإفريقي إلى نظام تعليمي وتكويني فعال، فإنه يحتاج كذلك مثل كل مواطن إفريقي عموما، إلى منظومات صحية تؤمن نفاذا شاملا لخدمات صحية جيدة وتكون قادرة على الصمود في وجه الجوائح والصدمات الصحية الطارئة، كالتي شهدتها القارة مؤخرا: مثل جدري القردة وماربورغ(Marburg) والكوليرا. وأود في هذا المقام التنويه بالإدارة الاستباقية التي واجه بها المركز الإفريقي لمكافحة الأمراض والوقاية منها في أفريقيا ما استجد مؤخرا من صدمات صحية مفاجئة، مهنئا الدكتور جان كاسيا (Jean Kaseya) وفريقه على العمل الرائع الذي يقومون به في هذا الإطار وسأتشرف اليوم أمامكم بتقديم تقرير مفصل بهذا الخصوص بحول الله وقوته. – أصحاب الفخامة والمعالي؛ – أيها السادة والسيدات؛ انسجاما مع إعلان دكار حول السيادة الغذائية ومع الوثيقة المنبثقة عن قمة إفريقيا والولايات المتحدة، نظمنا قمتين استثنائيتين في سبيل تعزيز المنظومات الزراعية؛ انعقدت أولاهما في نيروبي، في مايو 2024، وتعلقت بصحة التربة والأسمدة، والثانية في يناير 2025 بكامبالا، خصصت لبناء أنظمة زراعية غذائية مرنة ومستدامة في أفريقيا، واعتمدت خلالها استراتيجية وخطة عمل التنمية الزراعية الشاملة في إفريقيا للفترة 2026-2035. وإنني لأوصي القمة بتبني إعلان كامبالا بمكونتيه: الاستراتيجية، وخطة العمل، وكذلك إعلان نيروبي بشأن الأسمدة وصحة التربة لصالح الإنتاج الغذائي المستدام، وتحفيز الاستثمار وبناء زراعة صناعية. ومعلوم أن النهوض بقطاع إنتاجي كالزراعة، خاصة في البعد الصناعي منه، يستلزم توفر طاقة نظيفة بالكمية الكافية وبالتكلفة الملائمة. وسعيا إلى تحقيق هذا الهدف نظمنا في دار السلام مع صاحبة الفخامة سامية صولوحو، وبالتنسيق مع مجموعتي البنك الإفريقي للتنمية والبنك الدولي، في يناير المنصرم، القمة الإفريقية حول الطاقة 'المهمة 300' من أجل ضمان النفاذ إلى الكهرباء لصالح 300 مليون مواطن إفريقي في جنوب الصحراء. وقد تم خلال القمة عرض التعهدات الطاقوية الوطنية للعديد من الدول الإفريقية، وإنني لحريص في هذا الإطار على تقديم التهنئة والشكر الجزيل لرئيس البنك الإفريقي للتنمية السيد أكينويمي أديسينا (Akinwumi Adesina) ، وكذلك لرئيس مجموعة البنك الدولي السيد أدجاي بانغا (Ajay Banga) ، على ما حرصا عليه من توحيد الجهود في إطار هذه الشراكة الطموحة وكذلك على ما دأبا عليه من دعم ومؤازرة الجهد التنموي الإفريقي. ثم إن للطاقة دورا أساسًا في التحديات البيئية التي تلحق بالغ الضرر بمجتمعاتنا الإفريقية على الرغم من ضآلة مساهمتنا في الاحتباس الحراري، وحجم جهودنا الكبيرة في إحراز تحول طاقوي تدريجي وعادل. ولذا ركزنا باسمكم جميعا، خلال الدورة التاسعة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ (كوب 29)، المنعقد في باكو، نوفمبر 2024، على ضرورة تحمل المجتمع الدولي مسؤوليته ولزوم دعمه لقدرتنا على مواجهة الآثار الهدامة للتغيرات المناخية. – أصحاب الفخامة والمعالي؛ – أيها السادة والسيدات؛ إن تحقيق أهداف خطة العمل الثانية لتنفيذ أجندة 2063، يرتبط كثيرا بقوة وعمق التنسيق ما بين الاتحاد الأفريقي والمجموعات الاقتصادية الإقليمية والآليات الإقليمية. ولذا ركزنا خلال اجتماع التنسيق نصف السنوي بآكرا، يوليو 2024، على ضرورة دمج الخطط الوطنية في البرامج القارية توطيدا لتكامل القارة وتعزيزا لوحدة صوتها دوليا. ووحدة الصوت هذه، هي ما سيمكنها من أن تتبوأ المكانة التي تسمح لها بالإسهام الفعال في صياغة جداول الأعمال الدولية على نحو يجعلها أكثر تركيزا على قضايانا الإفريقية الحساسة. ولذا دافعنا في كل المحافل، عن حق القارة في التمثيل المناسب في مجلس الأمن وفي المؤسسات المالية المتعددة الأطراف، وعن ضرورة إعادة صياغة قواعد الحكامة الدولية، وتعزيز التعاون المتعدد الأطراف، وقد لاقت جهود المناصرة هذه أصداء إيجابية والتزامات صريحة بالعمل بمقتضاها في مختلف القمم والمؤتمرات. غير أن النجاعة في متابعة هذه الالتزامات، بل وفي العمل الإفريقي المشترك عموما، تقتضي مواصلة الإصلاح الهيكلي لمنظمتنا. وأنتم تعلمون جميعا ما أثارته قضية تنفيذ الإصلاح الهيكلي من تساؤلات بين الدول الأعضاء بخصوص مسائل كثيرة من قبيل تطبيق مبدأ التناوب وتاريخ دخوله حيز التنفيذ وتوزيع المرشحين للمناصب التنفيذية وغيرها. ونظرا لخطورة وإلحاح الوضع، عقدنا دورة استثنائية للمجلس التنفيذي في مارس 2024، اتخذ خلالها قرار يحدد بشكل دقيق كيفية تطبيق مبدأ التناوب وتحديد المناطق المؤهلة لوظائف القيادة المختلفة، ضمانا للتناوب العادل والمتوازن بين المناطق. وانسجاما مع هذا النفس الإصلاحي عملنا على ملف مراجعة المهارات وتقييم القدرات داخل مفوضية الاتحاد الأفريقي. فتم تنظيم اجتماع استثنائي آخر للمجلس التنفيذي شهر نوفمبر 2024 لاتخاذ القرار بشأن أفضل السبل لإتمام هذه العملية، وبعد مداولات مستفيضة، اعتمد المجلس قرارا يوفر حلا لهذه القضية ويضع خارطة طريق واضحة لاستكمال هذه العملية. -أصحاب الفخامة والمعالي؛ – أيها السادة والسيدات؛ لقد أكدت في خطاب تسلمي للرئاسة على أن تجاوز العوائق ورفع التحديات لا يكون إلا 'بالاتحاد وصهر الجهود الذي تستوجبه قيمنا المشتركة ويمليه إدراكنا لوحدة المصير ويقضي به حجم الرهان ويستلزمه سمو الغاية التي نسعى إليها'. وإنني لأجدد التأكيد على ذات الأمر وأنا أسلم اليوم الرئاسة لأخي صاحب الفخامة جواو لورينسو متمنيا له التوفيق والنجاح في المهمة الجسيمة التي أوكلت إلى فخامته، معربا عن دائم استعدادي لدعمه ومؤازرته. ولا يفوتني، هنا، أن أعرب عن عظيم تقديري لأخي موسى فقي محمد، رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، مشيدا بخصاله القيادية، وشاكرا له دعمه الدائم ومساندته القيمة طيلة هذه المأمورية ومتوجها بذات الشكر والتقدير لكافة أفراد المفوضية ومختلف أجهزة الاتحاد. أنا معتز وفخور لما أتيح لي خلال هذه المأمورية من خدمة قارتنا الإفريقية وحمل صوتها والدفاع عنها في كل المنابر والمحافل. وإنني أختم هذه المأمورية، وأنا أعمق إيمانا بقدرة قارتنا الإفريقية على تحقيق أهداف أجندة 2063، وأقوى عزما وإرادة على المشاركة الفعالة في ذلك. وإذ أجدد التهنئة لأخي صاحب الفخامة جواو لورينسو، لأرجو له ولأعمال قمتنا هذه كل التوفيق والنجاح. عاش الاتحاد الإفريقي، وعاشت إفريقيا حرة شامخة ومزدهرة. أشكركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته'. أنشطة رئاسية الأخبار وطنیا

فلسطين : ميلاد عصر جديد من الدعم العالمي بعد 15 شهرًا من الوحشية
فلسطين : ميلاد عصر جديد من الدعم العالمي بعد 15 شهرًا من الوحشية

تقدم

time٢١-٠١-٢٠٢٥

  • تقدم

فلسطين : ميلاد عصر جديد من الدعم العالمي بعد 15 شهرًا من الوحشية

لم تكن الأشهر الخمسة عشر من الهجوم الوحشي الذي شنّته إسرائيل على غزة مجرد تصعيد في العنف، بل كانت شرارة لتحوّل عميق في الرأي العام العالمي. هذه الأشهر من الوحشية كشفت حجم معاناة الشعب الفلسطيني، إلى درجة أعادت تشكيل علاقة الدول بهذه القضية التاريخية. وكما خرج الشعب اليهودي منتصرًا أخلاقيًا وسياسيًا من أهوال الحرب العالمية الثانية، يبرز الفلسطينيون اليوم كالفائزين الحقيقيين في صراعٍ كلّف آلاف الأرواح لكنه أيقظ الضمير العالمي. تحوّل تاريخي: بروز القضية الفلسطينية كما منحت مأساة المحرقة للشعب اليهودي اعترافًا دوليًا ودعمًا عالميًا لحقه في إقامة وطن، فإن الفظائع التي عانى منها الشعب الفلسطيني في غزة تعيد تشكيل الإدراك العالمي. اليوم، أصبحت نضالات الفلسطينيين من أجل الحرية والكرامة تلقى صدى غير مسبوق، يتجاوز الحدود والثقافات والانتماءات السياسية. القصف العشوائي، الدمار الهائل، والمعاناة التي لحقت بالمدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال، تركت بصمة لا تُمحى في الوعي الجماعي. في كل مكان، ترتفع الأصوات للتنديد بالظلم الصارخ والمطالبة بالحقوق لشعب طالما أُسكت صوته. معاداة مزدوجة للسامية: الاعتراف بمعاناة الشعبين نحن ندخل عصرًا جديدًا حيث تتوسع فكرة معاداة السامية. المصطلح الذي كان تاريخيًا يُستخدم لوصف الكراهية تجاه الشعب اليهودي، قد يشمل الآن واقعًا آخر: معاداة السامية المعكوسة ضد الفلسطينيين، وهم شعب سامي أيضًا، تم إنكار وجودهم وحقوقهم ودهس كرامتهم. هذا الاعتراف المزدوج، رغم مرارته، قد يصبح مفتاحًا لتوحيد الشعبين في إنسانية مشتركة بدلًا من تأجيج العداء الأبدي. يبدو أن العصر الجديد يتسم بعولمة التضامن. الفلسطينيون لم يعودوا يُنظر إليهم كضحايا صراع إقليمي فقط، بل كحاملين لقضية إنسانية شاملة: النضال ضد القمع والاستعمار وإنكار الهوية. موجة عالمية من الدعم: نقطة تحول غير مسبوقة جلبت هذه الأشهر الخمسة عشر من المعاناة للفلسطينيين رؤية غير مسبوقة. عبر العالم، نظمت مظاهرات حاشدة، وتحدثت شخصيات عامة، وأدانت حكومات كانت صامتة سابقًا أفعال إسرائيل. من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا، مرورًا بآسيا وحتى بعض الدول الغربية، يظهر إجماع متزايد: حان الوقت للتحرك والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني. حتى في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث كانت إسرائيل تاريخيًا تحظى بدعم شبه غير مشروط، بدأ يظهر انقسام، خاصة بين الأجيال الشابة. أصبحت إدانة "سياسات الفصل العنصري" و"الاستعمار" الإسرائيلية موقفًا سائدًا في الأوساط الأكاديمية والتقدمية. فلسطين كرمز للصمود والعدالة يصبح الشعب الفلسطيني، من خلال صموده، رمزًا عالميًا للعدالة في العصر الحديث. يتميز هذا العصر الجديد بإشادة عالمية بشجاعتهم في وجه القمع، تمامًا كما أشيد بالشعب اليهودي على صموده في وجه لا إنسانية الهولوكوست. هذا التشابه، القوي وغير المتوقع، يعيد تعريف أطر النقاش ويضع الفلسطينيين في قلب نضال عالمي من أجل الكرامة الإنسانية. إعادة تشكيل التاريخ؟ بينما يدخل الفلسطينيون عصرًا من الدعم والاعتراف العالمي، تواجه إسرائيل أزمة غير مسبوقة في صورتها الدولية. الوحشية التي ارتكبتها في غزة، والتي تم نشرها على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كشفت عن حقيقة طالما تم إخفاؤها. لم تعد إسرائيل تُرى كدولة دفاعية فحسب، بل كقوة قمعية. قد يؤدي هذا التحول في التصورات إلى تغيير جذري في ميزان القوى على المستوى العالمي. في الختام، كانت هذه الأشهر الخمسة عشر من الوحشية في غزة علامة فارقة لولادة حقبة جديدة. تمامًا كما دخل الشعب اليهودي عصرًا من الاعتراف والدعم بعد الحرب العالمية الثانية، يدخل الفلسطينيون الآن مرحلة تُعترف فيها نضالاتهم وتُدعم وتُحتفى بها. هذا التحول العالمي، الذي تقوده صحوة جماعية، قد يكون بداية أمل ملموس لسلام قائم على العدل والمساواة. لم تعد فلسطين تكافح وحدها: لقد أصبحت الآن تجسد قضية عالمية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store