
«هزيمة» أم «تراجع»؟
أوائل القرن الماضي صدر كتاب من جزأين للمفكر أُوزوَلد شبينغلر بعنوان «تراجع الغرب» أثار جدلاً واسعاً طيلة عقود. وقبل وفاته بأشهر، صدر للكاتب والمفكر الفرنسي إيمانويل تود كتاباً اختار له عنوان «هزيمة الغرب» (دار الساقي) كأنه استكمال أو حسم للكتاب الأول.
لا يُخفي تود، الذي توفي بعد صدور كتابه بقليل، موقفه النقدي من الحضارة الغربية وما آلت إليه. وهو لا يُخفي أيضاً إعجابَه بالتجربة الروسية، وما أدّاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدولة الكبرى، في مقابل التراجع الذي سجله الغرب. حتى في النزاع الروسي - الأوكراني يُحمّل تود أوكرانيا المسؤوليةَ الكبرى، وليس موسكو، ويُبدي إعجاباً شديداً بصمود الكرملين، مع أن موسكو لا تزال تخوض حرباً قاسية في مواجهة الغرب وحليفته أوكرانيا.
يرسم تود هذه اللوحة الإعجابية بالروس استناداً إلى أرقام لا تقبل الشك.
بين عامي 2000 و2017؛ المرحلة الرئيسية في إرساء الاستقرار خلال عهد بوتين، انخفض معدل الوفيات الناجمة عن الكحوليات في البلاد من 25.6 لكل مائة ألف نسمة إلى 8.4، ومعدّل الانتحار من 39.1 إلى 13.8، ومعّدل جرائم القتل من 28.2 إلى 6.2. هذا يعني، بالأرقام الإجمالية، أن الوفيات الناجمة عن الكحوليات قد انخفضت من 37 ألفاً و214 حالة سنوياً إلى 12 ألفاً و276 حالة، وكذلك حالات الانتحار من 56 ألفاً و934 إلى 20 ألفاً و278، والقتل من 41 ألفاً و90 جريمة إلى 9 آلاف و48. هو بلد عاش هذا الارتقاء خلال وقت يُقال لنا فيه إنه في «هبوط مديد إلى الجحيم».
بحلول عام 2020، انخفض معدّل جرائم القتل بصورة أكبر، فبلغ 4.7 لكل 100 ألف نسمة، أي أقل 6 مرّات مما كان عليه عندما تولّى بوتين السلطة. أما معدّل الانتحار فانخفض في عام 2021 إلى 10.7، أي أقل بـ3.6 مرة.
وبشأن المعدّل السنوي لوفيات الرضّع، فقد تراجع من 19 لكل ألف «طفل وُلدوا أحياء» في عام 2000، إلى 4.4 في عام 2020، أي إنه أخفضُ من المعدّل الأميركي البالغ 5.4 (وفق «اليونيسف»). لكن بقدر ما يتعلّق هذا المؤشر الأخير بِأَوْهَنِ أفراد المجتمع، تأتي أهميته، خصوصاً في تقييم الحالة العامة لهذا المجتمع.
يشدد تود أيضاً على انخفاض مُعَدَّلَيْ الوفيات والبطالة في روسيا، وارتفاع مستوى المعيشة، وعلى أن روسيا عثرت على مكانة لها في التقدم الاقتصادي، وحققت نجاحاً مذهلاً في مجال الزراعة، فهي لم تحقق الاكتفاء الذاتي فقط؛ بل أصبحت من أكبر مصدّري المنتجات الزراعية في العالم. إضافة إلى ذلك كله، حافظت على مكانتها بصفتها ثانيَ أكبر مصدّر للأسلحة في العالم. ولم يَقلّ نجاحها في حقل الإنترنت، الذي هو جوهر الحداثة... واللائحة تطول.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


السوسنة
٢١-٠٤-٢٠٢٥
- السوسنة
هزيمة أم تراجع
أوائل القرن الماضي صدر كتاب من جزأين للمفكر أُوزوَلد شبينغلر بعنوان «تراجع الغرب» أثار جدلاً واسعاً طيلة عقود. وقبل وفاته بأشهر، صدر للكاتب والمفكر الفرنسي إيمانويل تود كتاباً اختار له عنوان «هزيمة الغرب» (دار الساقي) كأنه استكمال أو حسم للكتاب الأول.لا يُخفي تود، الذي توفي بعد صدور كتابه بقليل، موقفه النقدي من الحضارة الغربية وما آلت إليه. وهو لا يُخفي أيضاً إعجابَه بالتجربة الروسية، وما أدّاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدولة الكبرى، في مقابل التراجع الذي سجله الغرب. حتى في النزاع الروسي - الأوكراني يُحمّل تود أوكرانيا المسؤوليةَ الكبرى، وليس موسكو، ويُبدي إعجاباً شديداً بصمود الكرملين، مع أن موسكو لا تزال تخوض حرباً قاسية في مواجهة الغرب وحليفته أوكرانيا.يرسم تود هذه اللوحة الإعجابية بالروس استناداً إلى أرقام لا تقبل الشك.بين عامي 2000 و2017؛ المرحلة الرئيسية في إرساء الاستقرار خلال عهد بوتين، انخفض معدل الوفيات الناجمة عن الكحوليات في البلاد من 25.6 لكل مائة ألف نسمة إلى 8.4، ومعدّل الانتحار من 39.1 إلى 13.8، ومعّدل جرائم القتل من 28.2 إلى 6.2. هذا يعني، بالأرقام الإجمالية، أن الوفيات الناجمة عن الكحوليات قد انخفضت من 37 ألفاً و214 حالة سنوياً إلى 12 ألفاً و276 حالة، وكذلك حالات الانتحار من 56 ألفاً و934 إلى 20 ألفاً و278، والقتل من 41 ألفاً و90 جريمة إلى 9 آلاف و48. هو بلد عاش هذا الارتقاء خلال وقت يُقال لنا فيه إنه في «هبوط مديد إلى الجحيم».بحلول عام 2020، انخفض معدّل جرائم القتل بصورة أكبر، فبلغ 4.7 لكل 100 ألف نسمة، أي أقل 6 مرّات مما كان عليه عندما تولّى بوتين السلطة. أما معدّل الانتحار فانخفض في عام 2021 إلى 10.7، أي أقل بـ3.6 مرة.وبشأن المعدّل السنوي لوفيات الرضّع، فقد تراجع من 19 لكل ألف «طفل وُلدوا أحياء» في عام 2000، إلى 4.4 في عام 2020، أي إنه أخفضُ من المعدّل الأميركي البالغ 5.4 (وفق «اليونيسف»). لكن بقدر ما يتعلّق هذا المؤشر الأخير بِأَوْهَنِ أفراد المجتمع، تأتي أهميته، خصوصاً في تقييم الحالة العامة لهذا المجتمع.يشدد تود أيضاً على انخفاض مُعَدَّلَيْ الوفيات والبطالة في روسيا، وارتفاع مستوى المعيشة، وعلى أن روسيا عثرت على مكانة لها في التقدم الاقتصادي، وحققت نجاحاً مذهلاً في مجال الزراعة، فهي لم تحقق الاكتفاء الذاتي فقط؛ بل أصبحت من أكبر مصدّري المنتجات الزراعية في العالم. إضافة إلى ذلك كله، حافظت على مكانتها بصفتها ثانيَ أكبر مصدّر للأسلحة في العالم. ولم يَقلّ نجاحها في حقل الإنترنت، الذي هو جوهر الحداثة... واللائحة تطول.


العرب اليوم
٢١-٠٤-٢٠٢٥
- العرب اليوم
«هزيمة» أم «تراجع»؟
أوائل القرن الماضي صدر كتاب من جزأين للمفكر أُوزوَلد شبينغلر بعنوان «تراجع الغرب» أثار جدلاً واسعاً طيلة عقود. وقبل وفاته بأشهر، صدر للكاتب والمفكر الفرنسي إيمانويل تود كتاباً اختار له عنوان «هزيمة الغرب» (دار الساقي) كأنه استكمال أو حسم للكتاب الأول. لا يُخفي تود، الذي توفي بعد صدور كتابه بقليل، موقفه النقدي من الحضارة الغربية وما آلت إليه. وهو لا يُخفي أيضاً إعجابَه بالتجربة الروسية، وما أدّاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدولة الكبرى، في مقابل التراجع الذي سجله الغرب. حتى في النزاع الروسي - الأوكراني يُحمّل تود أوكرانيا المسؤوليةَ الكبرى، وليس موسكو، ويُبدي إعجاباً شديداً بصمود الكرملين، مع أن موسكو لا تزال تخوض حرباً قاسية في مواجهة الغرب وحليفته أوكرانيا. يرسم تود هذه اللوحة الإعجابية بالروس استناداً إلى أرقام لا تقبل الشك. بين عامي 2000 و2017؛ المرحلة الرئيسية في إرساء الاستقرار خلال عهد بوتين، انخفض معدل الوفيات الناجمة عن الكحوليات في البلاد من 25.6 لكل مائة ألف نسمة إلى 8.4، ومعدّل الانتحار من 39.1 إلى 13.8، ومعّدل جرائم القتل من 28.2 إلى 6.2. هذا يعني، بالأرقام الإجمالية، أن الوفيات الناجمة عن الكحوليات قد انخفضت من 37 ألفاً و214 حالة سنوياً إلى 12 ألفاً و276 حالة، وكذلك حالات الانتحار من 56 ألفاً و934 إلى 20 ألفاً و278، والقتل من 41 ألفاً و90 جريمة إلى 9 آلاف و48. هو بلد عاش هذا الارتقاء خلال وقت يُقال لنا فيه إنه في «هبوط مديد إلى الجحيم». بحلول عام 2020، انخفض معدّل جرائم القتل بصورة أكبر، فبلغ 4.7 لكل 100 ألف نسمة، أي أقل 6 مرّات مما كان عليه عندما تولّى بوتين السلطة. أما معدّل الانتحار فانخفض في عام 2021 إلى 10.7، أي أقل بـ3.6 مرة. وبشأن المعدّل السنوي لوفيات الرضّع، فقد تراجع من 19 لكل ألف «طفل وُلدوا أحياء» في عام 2000، إلى 4.4 في عام 2020، أي إنه أخفضُ من المعدّل الأميركي البالغ 5.4 (وفق «اليونيسف»). لكن بقدر ما يتعلّق هذا المؤشر الأخير بِأَوْهَنِ أفراد المجتمع، تأتي أهميته، خصوصاً في تقييم الحالة العامة لهذا المجتمع. يشدد تود أيضاً على انخفاض مُعَدَّلَيْ الوفيات والبطالة في روسيا، وارتفاع مستوى المعيشة، وعلى أن روسيا عثرت على مكانة لها في التقدم الاقتصادي، وحققت نجاحاً مذهلاً في مجال الزراعة، فهي لم تحقق الاكتفاء الذاتي فقط؛ بل أصبحت من أكبر مصدّري المنتجات الزراعية في العالم. إضافة إلى ذلك كله، حافظت على مكانتها بصفتها ثانيَ أكبر مصدّر للأسلحة في العالم. ولم يَقلّ نجاحها في حقل الإنترنت، الذي هو جوهر الحداثة... واللائحة تطول.

عمون
٢٢-٠٣-٢٠٢٥
- عمون
هزيمة الغرب
من المرجح أن تتواصل التأملات في الأسباب المفسرة لسلوك العهد الأميركي الجديد، ونتائج ذلك، ليس على الولايات المتحدة فحسب، بل على العالم؛ ففي عصر الغرفة الكونية الصغيرة تستعيد نظرية "أثر الفراشة" حضورها الكثيف في الشؤون التفصيلية الدقيقة لكل كائنات الكوكب. القراءات المستقبلية تتنبأ بدخول العالم في أميركا وأوروبا (حصرياً) في العصر العدمي، حيث تتهدم المعايير، وتتصدع القيم، فتتلاشى رويداً رويداً الأهداف النبيلة بعيدة الأثر، لتحل مكانها أهداف مصلحية جشعة لا تقيم وزناً للأخلاق، ولا لمستقبل جيل أو جيلين على الأكثر سيأتون إلى هذا العالم فيرونه بلا روح، ولا ملامح، ولا صوت فيه يعلو على صوت المال والهيمنة وتحطيم إرادات الخصوم، حتى لو كان هؤلاء الخصوم من أهل البيت نفسه. الساكنون في البيت الأبيض وتوابعه من مراكز الإدارة والتنفيذ والتشريع يتعاملون مع السنوات الأربع التي سيقضيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكأنها "جُمعة مشمشية"، لذا يمضون في إصدار القرارات (المفزعة) تلو الأخرى، غير عابئين بما تفوح به من روائح الانتقام والمقامرة بصورة أميركا التي سعت طويلاً إلى التخلص من عقلية "الكاوبوي"، وترسيخ حضور الدولة الأعظم كملهم ومثال يحتذى في النجاح والابتكار والتجاوز، وفي غضون ذلك صهر كل الأعراق والألوان والجنسيات ومساقط رؤوس الآباء والأجداد في بوتقة الروح الكلي، بتعبير هيغل، للإمبراطورية التي كانت جاذبيتها أهم عناصر فرادتها. وحين خاضت الولايات المتحدة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، ونجحت في تفكيك الإمبراطورية الأكبر في العالم في القرن العشرين، وتمزيق جمهورياتها الخمس عشرة، فإن ذلك تم تحت شعار الحرية، وحق الفرد في التعبير والعمل ومعارضة السياسات الحكومية، ما دام ذلك يجري في الإطار السلمي والقانوني. وفي أثناء ذلك برز تمثال "الحرية تنير العالم" المطل على خليج نيويورك كواحد من الرموز الملهمة لمواطني الدول الاشتراكية الذي حلموا بالنموذج الأميركي، وتاقوا للعيش في ظلال السيدة التي تحمل مشعلاً منيراً في يمناها، كتاباً في يسراها. قران الحرية والمعرفة هو ما صنع أسطورة الولايات المتحدة، وصدّر الروح الأميركية بمنتجاتها كافة إلى أربع جهات الأرض، حتى إن كثيرين شعروا بالخشية من "أمركة العالم" وبالتالي ذوبان القيم المحلية في هذا النهر الهادر الذي يجتاح الذائقة والمزاج، ويحدد القيم وطرائق العيش. بيْد أن جناحي الأسطورة الأميركية يتآكلان تحت ضغط "الأوليغارشية الليبرالية الأميركية" كما يصفها ويشخصها ويعرّيها كتاب "هزيمة الغرب" للمفكر الفرنسي إيمانويل تود، الصادر عن دار غاليمار، 2024، والذي صدر أخيراً بالعربية عن دار الساقي بترجمة محمود مروّة. وما يميز هذا الكتاب، الذي أثار وما زال زوابع ونقاشات في أوروبا وأميركا، أن صاحبه يستخدم المنهج الأنثروبولوجي، الذي رسخ أركانه عالما الاجتماع ماكس فيبر وإيميل دوركايم، في تحليل الظواهر السياسية والاقتصادية، مما يمنح جهوده مسحة تنبؤية، لأنه يقرأ الوقائع اعتماداً على معطيات غير تقليدية، وهذا هو الملمح الأبرز في أعماله، حيث يوصف تود بأنه متخصص في "أنثروبولوجيا الأسر"، ويقرأ في العلاقة الوشيجة بين الاقتصاد والديموغرافيا. وتشير مراجعات لأعمال تود إلى أنه استخدم عام 1976، في كتاب بعنوان "السقوط الأخير"، إحصاءات وفيات الرضع للتنبؤ بأن الاتحاد السوفيتي متجه نحو الانهيار. واستطراداً، فإن الكاتب الفرنسي يربط نسبة الخصوبة في المجتمعات بمعدل نموها وتطورها ومعدل الأعمار، كما يحلل في أرقام متصلة بمعدلات الوفاة (وفيات الرضع خصوصاً) والانتحار والقتل. ويستفيد من معدلات دراسة الهندسة وأثرها في الزراعة والصناعة، وهو يميل في كتابه إلى مقارنة هذه الأرقام بين روسيا وأميركا، مؤكداً علو الكعب الروسي في الإطارات الإيجابية لهذا الأرقام، ما يعني التفوق الروسي، لاسيما فيما خص الحرب في أوكرانيا، وحماقة الاعتقاد بهزيمة موسكو في هذه المواجهة. ولعل هذا (ربما) ما حرّك ترامب أخيراً، ودفعه، ببراغماتية فجة، إلى سبيل المصالحة، وتلبية بعض المطالب الروسية، ولو على حساب أوكرانيا. التحليل العميق، الذي يتخلل صفحات الكتاب، يتوصل إلى مجموعة من الخلاصات حول كيف هزمت النزعة التجارية البراغماتية لترامب الأيديولوجيين الليبراليين، حيث حوّل تضخم القطاع المالي السياسة إلى هواية للأغنياء. وبالتالي، يؤكد تود أن بقية العالم لا ينظر إلى الغرب كحامل للنهضة الديمقراطية، بل كمجموعة من الأوليغارشيات الليبرالية التي تحتقر الفقراء. ويفضل "الجنوب العالمي" موسكو وبكين على واشنطن. ويقول إن مؤرخي المستقبل سيُدهشون من تجاهل الغرب النرجسي لهذه الحقيقة. ولا يمكن المرور على الأرقام المفزعة في مستوى التعليم الأميركي، من دون التنويه بالقرار الذي أصدره ترامب، أخيراً، بإلغاء وزارة التعليم، واصفاً إياها بأنها "جهاز بيروقراطي مهدِر للموارد ومُشبع بأيديولوجيا ليبرالية". ولعل ذلك مرتبط بعلاقة (قد تكون بعيدة) بالحريات الأكاديمية وحريات التعبير الطلابية في الجامعات، حيث تمثل قضية الطالب الفلسطيني في جامعة كولومبيا محمود خليل، واحدة من الانتهاكات الخطيرة والفاحشة التي لم يسبق تكرارها في الولايات المتحدة، إذ لم يسبق الزج في السجن بطالب لمجرد التعبير عن آرائه المناهضة لجرائم الإبادة الإسرائيلية في غزة. وهذا يعني أن التعليم الأميركي يمر بأزمة عميقة متصلة بالسياسات وتحويل الجامعات إلى منابر دعائية لمصلحة الخطاب الرسمي المؤيد للقهر والعدوان. وغير بعيد عن هذه الأزمة البنيوية، ما يشير إليه تود، من تراجع الجامعات الأميركية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، إذ تُنتج الصين أكثر من ضعف عدد شهادات الدكتوراه في حقول العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات سنوياً مقارنة بالولايات المتحدة. تراجع الجامعات الأميركية بدأ، وفق الباحث الفرنسي، في أواخر ستينيات القرن العشرين، حيث يستشهد بدراسات تُظهر تراجع أداء الطلاب الأميركيين، وانخفاض متوسط معدل الذكاء، وانخفاض كثافة التعليم، وهو ما يؤدي، في النهاية، إلى انخفاض الفاعلية، وسيادة قيم الاستهلاك، وهذا في نظر تود من أعظم تجليات العدمية الأميركية، فالليبرالية الجديدة دشّنت حقبة من الدمار الذي يصفه بأنه "غريزة كامنة تحت قناع النظرية الاقتصادية". النيوليبرالية، بتضحيتها بالمستقبل لتعظيم الاستهلاك الفوري، أصبحت الأيديولوجية الاقتصادية للانحدار الغربي. كان ينبغي للتطور الاستثنائي لتكنولوجيا المعلومات أن يُشعل شعوراً بروميثيوسياً بالفاعلية في المجتمع وبين النخب في أميركا. لكن بدلاً من ذلك، فقد القادة والشعب، كل بطريقته الخاصة، الثقة بالمستقبل، مع إفساح التفاؤل الواضح المجالَ للسلبية المُنهكة. أميركا، وفق تود، تنزلق نحو ما هو أسوأ من الأوليغارشية الليبرالية. إنها ذاهبة إلى "العدمية"، ولعل ما يؤكد ذلك هو صيحات محمود خليل المهدد بالترحيل من الولايات المتحدة، لأنه كان يعتقد أن الروح السارية في تمثال الحرية ستحميه، لكنّ العدمية، كما قال نيتشه "تدمر القيم العليا" للدولة والمجتمع.