
آرثر سي كلارك و 2001: أوديسة الفضاء .. فيلم غير الخيال العلمي للأبد
عندما صدر فيلم '2001: أوديسة الفضاء' عام 1968، لم يكن مجرد فيلم خيال علمي، بل كان ثورة فنية وفكرية غيرت الطريقة التي يقدم بها هذا النوع من السينما.
هذا الفيلم، الذي تعاون في كتابته المخرج ستانلي كوبريك والكاتب آرثر سي كلارك الذي يصادف اليوم ذكرى وفاته ، لم يكن مجرد عمل سينمائي، بل تجربة فلسفية واستشرافية حملت رؤى عميقة عن الإنسان، الذكاء الاصطناعي، والمستقبل.
كيف وُلدت الأوديسة الفضائية؟
بدأت الفكرة عندما قرر كوبريك صناعة فيلم خيال علمي غير تقليدي، تواصل مع كلارك، أحد أبرز كتاب الخيال العلمي في العالم، وعرض عليه التعاون في مشروع يجمع بين الخيال العلمي والرؤية العلمية الدقيقة.
استند الفيلم إلى قصة قصيرة كتبها كلارك بعنوان 'الحارس' (The Sentinel)، لكن العمل سرعان ما تطور ليصبح أكثر تعقيدًا، حيث كتب كلارك وكوبريك السيناريو جنبًا إلى جنب مع تطوير الرواية التي تحمل نفس الاسم.
ثورة بصرية غير مسبوقة
تميز الفيلم بتأثيراته البصرية المتقدمة التي كانت سابقة لعصرها، استخدم كوبريك تقنيات تصوير مبتكرة لمحاكاة الجاذبية الصفرية، مما جعل مشاهد الفضاء تبدو واقعية بشكل لم يسبق له مثيل في السينما، كما قدم الفيلم صورة مبهرة عن السفر الفضائي، مستعينًا بتصورات كلارك حول المركبات الفضائية، والمستعمرات على القمر، والذكاء الاصطناعي المتقدم.
HAL 9000.. هل كان كلارك يتنبأ بالذكاء الاصطناعي؟
من أبرز شخصيات الفيلم كان الكمبيوتر الذكي HAL 9000، الذي يمثل تجسيدًا لفكرة الذكاء الاصطناعي المتطور الذي يمكنه التفكير واتخاذ القرارات بنفسه.
في الفيلم، يتحول HAL من مساعد ذكي إلى خطر قاتل بعد أن يبدأ في التصرف بشكل غير متوقع.
ينظر إلى هذه الفكرة اليوم كواحدة من أوائل التنبؤات حول مخاطر الذكاء الاصطناعي، وهو موضوع يثير جدلاً كبيرًا في عصرنا الحالي.
رسالة فلسفية تتجاوز الخيال العلمي
لم يكن '2001: أوديسة الفضاء' مجرد فيلم عن الفضاء، بل كان رحلة فلسفية حول تطور البشرية، وأصل الحياة، والمستقبل الذي ينتظر الإنسان. المشهد الختامي، حيث يدخل رائد الفضاء ديفيد بومان إلى بعد آخر من الوجود، لا يزال يثير نظريات وتأويلات متعددة حتى اليوم.
تأثير الفيلم على الخيال العلمي
بعد صدور الفيلم، لم تعد أفلام الخيال العلمي كما كانت من قبل.
ألهم '2001: أوديسة الفضاء' أجيالًا من صناع السينما، من جورج لوكاس في 'حرب النجوم' إلى كريستوفر نولان في 'إنترستيلار'.
كما ساعد في تغيير الطريقة التي ينظر بها الجمهور والنقاد إلى الخيال العلمي، حيث أصبح يعتبر نوعًا سينمائيًا قادرًا على تقديم أفكار فلسفية وعميقة، وليس مجرد ترفيه قائم على المؤثرات الخاصة

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

المدن
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- المدن
باسم مغنية لـ"المدن": "بالدم"كرّس الدراما اللبنانية "النظيفة"...وسأظهر بفيلم جديد
يخوض الفنان اللبناني باسم مغنية خطوة فنية جديدة، لكن سينمائية هذه المرة، من خلال فيلم "الحارس" الذي يقوم بتصويره حالياً، وهو عمل يقوم على البطولات العربية المشتركة ويجمع بينه وبين هاني سلامة من مصر ومرام علي من سوريا، ويجسد فيه دور ضابط تدفعه الظروف للتمرّد على رؤسائه. ومشاركة مغنية في هذا العمل، ليست الأولى له مع المخرج ياسر الشامي، إذ سبق أن تعاونا قبل عامين في مسلسل "الأجهر" الذي دارت قصته في إطار اجتماعي إنساني. الفيلم كان يفترض أن يصور العام الماضي في لبنان، لكن ظروف الحرب أرجأت تصويره إلى هذا العام، لأن أحداثه تدور حول مطاردة مجرم خطير في لبنان.. وتهدف فكرته إلى تسليط الضوء على خطورة بعض جوانب السوشيال ميديا وتداعياتها المؤذية على الناس التي تؤدي في بعض الأحيان الى الموت ومحاولات الانتحار. فيلم "الحارس" كما يقول مغنية لـ"المدن"، "يتناول قضية اجتماعية مهمة وهو من تأليف عمر عبد الحليم وإخراج ياسر شامي، ولا شك أن سيكون محطة جديدة في مسيرتي الفنية". تكريس عربي يشيد مغنية بآخر أعماله "بالدم" الذي عُرض في موسم رمضان الفائت، ويؤكد أنه محطة مفصلية في مسيرة الدراما اللبنانية، ليس على مستوى النوع فقط، بل أيضاً على مستوى التمثيل والانتاج والاخراج والكتابة. ويضيف: "قدمت الدراما اللبنانية في السنوات الماضية أعمالاً جيدة وجميلة، لكنها لم تُشاهد عربياً، لكن ما يميز مسلسل "بالدم" ويجعله محطة مفصلية في مسيرة الدراما اللبنانية، أنه أول عمل لبناني يحظى بمشاهدة عربية واسعة على مستوى الوطن العربي كله في شهر رمضان، بسبب عرضه على المنصة الأهم عربية "شاهد"، فضلاً عن أنه برهن بأن الكوادر اللبنانية تملك كل المؤهلات التي تمكنها من تحقيق حضورها عربياً على مستوى المشاهدة، كما على مستوى المنافسة في الموسم الرمضاني". دراما نظيفة ويرى مغنية أنه من خلال مسلسل "بالدم"، "أصبح المشاهد العربي ينظر إلى الدراما اللبنانية على أنها دراما عظيمة ونظيفة، وتملك كل العناصر الجيدة التي تجعلها تضاهي وتتساوى مع أي دراما عربية جيدة". وتوجه مغنية بالشكر إلى كل من اعتبر أن أداءه وأداء سينتيا كرم كانا الأفضل في مسلسل "بالدم"، ويعلق: "سينتيا كرم لم تكن الأبرز في مسلسل "بالدم" وحده، بل في الموسم الرمضاني كله، لكن من دون أن ننسى جهود ممثلي الجيلين الشاب والمخضرم". ويضيف: "بالدم" كان عملاً رائعاً وببيّض الوجه على مستوى التمثيل، وأنا سعيد ومحظوظ جدا لأنني كنت واحداً من بين كوكبة من الممثلين القديرين والجيدين الذين افتخر بهم. وبصرف النظر عن آراء المحبين الذين يعتبرون أنني كنت الأبرز في الموسم الرمضاني من خلال مسلسل "بالدم"، لكن النجاحات فيه كانت متساوية وعبر كل عنصر شارك فيه وهذا ليس رأيي وحدي بل يوجد إجماع حوله". "إيغل فيلمز" إلى ذلك، يعلّق مغنية على التركيبة الجديدة في أعمال شركة "إيغل فيلمز" وإمكانية حصول "خلخلة" في أعمالها المقبلة، بعدما تردد أنها ستتعامل في جديدها مع طارق سويد وليس مع نادين جابر. ويقول مغنية: "90% من خيارات شركة "إيغل فيلمز" بقيادة رئيسها جمال سنان كانت صحيحة منذ بداياتها وحتى اليوم، لأنه يحرص على اختيار النصوص الرائعة"، ويرى أن "وجود طارق السويد في أي عمل يشكل إضافة وفخراً للدراما اللبنانية خصوصا أنه صاحب تجربة كبيرة وعميقة ويتأنى جداً في اختيار أفكاره ونصوصه، تماماً كما نادين جابر التي تتأنى هي أيضاً في صناعة ورسم كل حلقة من حلقات المسلسل، وتقدمها على شكل لوحة جميلة يحبها الناس". ويضيف: "وجود طارق سويد في أعمال "إيغل فيلمز" لن يتسبب بخلخلة بل هو يضخها بدم وأفكار جديدة ومن الطبيعي أن تتعامل الشركة مع مجموعة من الكتّاب وربما يكون بينهم كتّاب جدد وهذه الناحية إيجابية جداً". كما يرحّب مغنية بعدم حصر المنافسة الدرامية في الموسم الرمضاني موضحاً "في الموسم الرمضاني تكون المنافسة حامية لأن الناس يركزون على مشاهدة الدراما ويقارنون بين الأعمال، لذلك تصبح المنافسة أكبر ولكن تقديم أعمال خارجه هو أمر مطلوب وهي ستصل إلى كل الناس خصوصاً إذا كانت جيدة".


النهار
٢٤-٠٤-٢٠٢٥
- النهار
فيديو يُظهر مجسّمات ثلاثية الأبعاد مذهلة يمكن لمسها
قد تبدو المجسمات الهولوغرافية التي يمكن لمسها وكأنها من عالم الخيال العلمي، كما في سلسلة "ستار تريك"Star Trek ، لكن الباحثين نجحوا في تحويل هذا المفهوم إلى واقع ملموس. إذ أتاح اختراق جديد في تقنيات الواقع المختلط للمستخدمين إمكانية التفاعل الملموس مع مجسمات ثلاثية الأبعاد – يمكنهم الإمساك بها، وخزها، وتحريكها في الهواء. ووفقًا لدراسة حديثة نُشرت في أرشيف HAL المفتوح، فإن هذه التكنولوجيا لا تزال في مراحلها التجريبية. فقد استخدم العلماء مواد مرنة وأنظمة إسقاط متزامنة لإنشاء عروض مجسمة حجمية تجعل الأجسام تظهر بأبعاد ثلاثية حقيقية، وفي الوقت ذاته آمنة للتعامل معها. وهذا يعني أنه ولأول مرة يمكن للمستخدم أن يمدّ يده ويمسك بمكعّب هولوغرافي عائم دون أن يلحق ضررًا بالنظام أو بنفسه. وقد اعتمدت الأنظمة السابقة على مكونات صلبة قد تنكسر أو حتى تُسبب إصابة عند لمسها أثناء اهتزازها. أما النهج الجديد فيستخدم ناشراً ضوئياً ناعماً ومرناً يهتز بسرعة عالية ويعرض آلاف الصور على أعماق مختلفة. هذا التراكب السريع يخلق وهم الحجم والمرونة الذي يتيح التفاعل، وهو ما يُعد السمة المميزة لهذه المجسمات الهولوغرافية القابلة للمس. وللحفاظ على دقة الإسقاطات أثناء التفاعل، أدخل الفريق نظام تصحيح يعوض عن التشوهات الناتجة عن ضغط اليد على الصفيحة المرنة. والنتيجة هي مجسمات هولوغرافية لا تبدو فقط ثلاثية الأبعاد، بل تتفاعل أيضًا كأنها أجسام مادية عند لمسها. ويُظهر مقطع فيديو من الفريق البحثي مستخدمًا يتفاعل مع جسم هولوغرافي مضيء في الهواء دون استخدام قفازات أو خوذة واقع افتراضي – تفاعل مباشر مع الضوء فقط. إنها المرة الأولى التي نرى فيها مجسمات ثلاثية الأبعاد قابلة للمس تتصرف بهذه السلاسة والواقعية. ورغم أن هذه التقنية لا تزال في مرحلة النموذج الأولي، فإن تطبيقاتها المحتملة ضخمة. ففي التعليم، يمكن للطلاب استكشاف علم التشريح أو تجميع محركات افتراضية. وفي المتاحف، سيتمكن الزوار من التفاعل مع المعروضات الرقمية دون الحاجة إلى معدات الواقع الافتراضي. أما في بيئات العمل التعاوني، فيمكن للفرق التعامل مع نماذج ثلاثية الأبعاد مشتركة بشكل مباشر وفي الوقت الحقيقي. وسيقدم الفريق نتائج أبحاثه في مؤتمر CHI في اليابان هذا الربيع، وقد بدأ الاهتمام بالتطبيقات التجارية بالفعل في التزايد.


النهار
١٥-٠٤-٢٠٢٥
- النهار
طيف كوبريك يخيّم على حاضرنا أكثر من أي وقت
كلّ ما استشفّه ستانلي كوبريك (1928 – 1999) في أفلامه، يتحقّق أمام أعيننا، حقيقةً بعد أخرى، مشهداً بعد مشهد. وحده، المتابع المشغوف بالسينما والمراقب النهم لأحوال العالم، يدرك كم كان هذا المخرج، المأخوذ بالشرط الإنساني، سابقاً لعصره، وكم حملت رؤاه من نبوءات لم تكن مجرّد خيال سينمائي، بل إشارات مبكرة لعالم ينزلق نحو المصير الذي تصوّره. ما كان يُناقَش في العقود الماضية كفرضيات في أعماله، صار اليوم وقائع نعيشها وننخرط فيها. كوبريك لم يكن مخرجاً فحسب، إنما هو مفكّر تنويري رؤيوي وفيلسوف امتحنته الأيام، ثبت حضوره في الوعي والوجدان. أفلامه، بقدر ما هي فتوحات بصرية وجمالية، هي أيضاً كنوز فكرية وبحوث ميتافيزيقية تُعيدنا إلى جوهر الأسئلة الكبرى. لكن مهلاً، لم يكن كوبريك عرّافاً يتنبأ بالمستقبل من ضباب الغيب، ولا ساحراً يقرأ الطالع، بل كان عقلاً نقدياً نيّراً، يمتلك قدرة استثنائية على التحليل والتركيب، يستقرئ الحاضر بذكاء ويربط بين معطياته السياسية والاقتصادية والفلسفية والعاطفية. نبؤاته لم تنبع من وحي أو خيال جامح، ولكن من قراءة عميقة لميكانيزمات السلطة والمجتمع والتكنولوجيا، ومن فهم دقيق للإنسان في صراعه مع ذاته ومع العالم من حوله. لقد رأى مبكراً إلى أين يمكن أن تمضي الأمور. تحت رحمة الآلة لنأخذ مثال الذكاء الاصطناعي في "2001، أوديسّا الفضاء". الآلة هال، التي تنطق وتُبدي مشاعر وتواجه مخترعها ككائن مستقل له إرادته ومنطقه وسلوكه، لم تكن مجرّد ابتكار خيالي، بل هي سؤال مبكر ومرعب: هل يمكن التكنولوجيا أن تنتزع من الإنسان إرادته؟ سؤالٌ طرحه المعلّم قبل أكثر من نصف قرن، وهو اليوم من أكثر ما يؤرقّنا في ضوء ابتكارات مثل "تشات جي بي تي" و"أليكسا". إلى أين يمكن أن يصل التطوّر؟ وهل سنصبح أسرى أدوات صنعناها بأيدينا؟ الخوف من فقدان السيطرة على التكنولوجيا لم يعد فكرة سوريالية، بل هاجس معاصر. أما الرحلات السياحية إلى الفضاء التي كان علماً خيالاً في الفيلم، فأصبحت خدمة مدفوعة الثمن تقدّمها شركات عدة مثل "سبايس إكس" و"بلو أوريجين" وغيرهما. في رؤياه الطليعية التي تتوقّع صعود الوحشية وانتشار الفوضى من داخل أكثر المجتمعات تحضّراً وتنظيماً، ألمح كوبريك إلى أن اتساع قدرات العقل يقابله ضمور في جوانب أخرى، وانغلاق على الذات شبيه بما يعيشه روّاد الفضاء في عزلتهم. هال ليست شريرة بطبعها، لكنها انعكاس لصراع المصالح البشرية، فتغدو الطرف الثالث الذي يتدخّل حين يعجز البشر عن التفاهم. أما الشاشات التي تتيح لرواد الفضاء التواصل بعضهم مع بعض، فأصبحت في أيدي الجميع، للأفضل… والأسوأ! صناعة إنسان متحضّر دعونا نُعيد النظر أيضاً في "البرتقالة الآلية"، الفيلم الذي أخرجه كوبريك قبل أكثر من نصف قرن، وأثار عاصفة من الجدال عند صدوره، حدّ انه قرر سحبه من الصالات البريطانية بعد اتهام جهات له بالتحريض على العنف. يحكي الفيلم عن محاولة "إصلاح" شخصية أليكس، الشاب الذي سكنه العنف وتجذّر فيه، عبر التسلل إلى وعيه وإعادة برمجته نفسياً وسلوكياً، ليصبح كائناً "أفضل" يمكن اعادته بأمان إلى حضن المجتمع المتحضّر. كان هذا أحدث ابتكارات مجتمع مهووس بالتربية السلوكية. اليوم، ألا يبدو هذا التدخّل مشابهاً لما تفعله بنا وسائل التواصل الاجتماعي؟ معايير المجتمع، القيود، الحظر، الرقابة، وحتى ثقافة الـ"ووك" والصواب السياسي — كلها أدوات تضغط لتصنيع نموذج إنسان "خيّر" ظاهرياً، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة والحرية الفردية، مما أدّى في الكثير من الأحيان إلى نتائج عكسية. طرح كوبريك سؤالاً معقّداً: هل من الأفضل أن نختار الشر بإرادتنا، أم أن يُفرض علينا الخير قسراً؟ الأمر محسوم عند الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي يعتبر ان الإنسان طيب إلى ان يفسده المجتمع. لكن في العالم الافتراضي، تبدو الأمور أقرب إلى الخيار الثاني، أي انه من الأفضل ان يُفرض علينا الخير بالقوة. فنحن نعيش اليوم في مناخ من الإحراج الجماعي، حيث كثيرون يقولون عكس ما يؤمنون به خوفاً من العزل أو الخسارة أو الإلغاء. هكذا يتكرر كابوس كوبريك: عالم يجرّ الإنسان إلى الطاعة والتطويع باسم "التحضّر" والأخلاق، وهو ما كان المخرج يخشاه قبل نصف قرن. رجال يدمّرون العالم هل يمكن رجلًا واحداً أن يتحكّم بمصير البشرية، وأن يُشعل حرباً كونية بكبسة زر؟ سؤالٌ بدا أقرب إلى الكوميديا العبثية حين طرحه كوبريك في "دكتور ستراينجلاف"، حيث سخر بذكاء من فكرة أن العالم قد يُفنى نتيجة نزوة أو جنون جنرال. لكن ما كان آنذاك مادة للتهكّم، أصبح اليوم واقعاً مرعباً مع بروز زعماء تغذيهم النزعة الفردية وشهوة السلطة، أمثال ترامب وكيم جونغ أون وبوتين، ومعهم أنظمة لا تقلّ وحشيةً كالنظام الإيراني وإسرائيل. في هذا الفيلم، حمّل كوبريك "الرجولة الفائضة"، نوعاً ما المسؤولية. ذلك المفهوم الذي لم يكن رائجاً حينها، لكن يبدو انه تنبّه إلى خطره المبكر. الرجال الذين تحكمهم عضلاتهم قبل عقولهم، قد يدفعون العالم إلى الهاوية، مدفوعين بفائض من التهور والغرور، لا تقل خطورته عن الأسلحة النووية الفتّاكة، الرمز الأبدي لنزعة البشر إلى التدمير الذاتي. الخطر النووي لا يزال موضوع تجاذب وقضية وجود لا سيما بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. نظرية كوبريك ان قرارات عبثية يتكفّل بها بعض الرجال، قد تحملنا إلى عواقب وخيمة وصولاً إلى 'القيامة'، لا تزال صالحة أكثر من أي زمن مضى. برمجة الكائن وتدجينه على سيرة الحروب، ماذا يكشف لنا "فول ميتال جاكيت"، أحد أهم الأفلام عن الحرب، سوى أن المعركة الأكثر وحشيةً لا تُخاض في ساحات القتال، بل تبدأ قبل ذلك بكثير، في مرحلة الإعداد؟ كوبريك يخصّص نحو نصف الفيلم لما يشبه ورشة تفكيك الإنسان، ثم إعادة تركيبه على هيئة آلة قتل باردة. التدريب هنا ليس مجرّد تمرين بدني، بل عملية ممنهجة لتجريد الفرد من عواطفه وهويته، كي يُعاد تشكيله جندياً لا يرى إلا الهدف، ولا يعرف إلا الطاعة. هذا ليس تفصيلاً عابراً، بل جوهر الخطاب: الحرب الحقيقية تُخاض في الروح، قبل أن تُخاض في الميدان. وما قدّمه كوبريك في هذا الفيلم كان بمثابة مسودة مبكرة لما سيشهده العالم لاحقاً، من محاولات برمجة الإنسان وتدجينه، عبر المؤسسات والبيروقراطية والتلاعب بالاقتصاد، حيث تتم قولبة الأفراد وتوجيه عقولهم لخدمة أنظمة لا تكتفي بالسيطرة على الجسد، بل تتسلل إلى الداخل، حيث تنشأ المعارك الأكثر صمتاً… والأكثر فتكاً. وهم الصعود الاجتماعي وكيف يمكن أن نشاهد "باري ليندون" من دون أن نلتفت إلى أوجه الشبه بين الشاب الإيرلندي المغمور، ردموند باري، الذي صعد سلّم المجتمع بانتهازية مكشوفة، وبين ما تتيحه اليوم وسائط التواصل الاجتماعي من تلميع للسطحية وتكريس للانتهازية عبر ظاهرة "المؤثرين"؟ هؤلاء، تماماً مثل باري، يتوهّمون أنهم يخترقون كوكباً كان حكراً على النخبة والمشاهير، بينما هم في الواقع وقود لمنظومة لا ترحم: تستهلكهم بسرعة، تستنزفهم حتى آخر ومضة، ثم تلقي بهم على الهامش. ففي عالم النفاق اللامع، كما في القصور التي دارت فيها وقائع فيلم كوبريك، مَن يتوهم أنه في طريق الصعود، كثيراً ما ينتهي مسحوقاً تحت ثقل لعبة أكبر منه. لأن النخبة، في كلّ زمان ومكان، تعرف كيف تحمي امتيازاتها وتصون مصالحها… وتقصي الطارئين عنها بلطف مميت. مجتمعات سرية تيمة النخبة، بما تحمله من سلطة وغموض واستعلاء، هي أيضاً جوهر "أيز وايد شات"، آخر أفلام المعلّم. ما يمكن اعتباره في المستوى الأول انه مجرد قصّة تخبّط زوجين، هو في عمقه رحلة داخل العالم السفلي للسلطة المتخفية خلف الأقنعة. هل للنخب الاجتماعية والأقطاب السياسية صلات خفية بعيدة من أعين العامة وعلمهم؟ سؤال بدا في وقت من الأوقات من مخلّفات نظرية المؤامرة، لكن بات مقنعاً أكثر فأكثر في السنوات الأخيرة. يجب ألا ننسى ان واحداً في المئة من سكّان العالم يملكون نصف ثرواته. حفل التنكّر ليس مجرد مشهد بصري مدهش، بل استعارة لطبقة تحجب وجهها خلف الطقوس، وتمارس سلطتها من وراء ستار من الغموض والإبهار. الدكتور بيل، الذي يظن أنه يسيطر على مجريات ليلته، ينزلق تدريجاً إلى فضاء سري (أشبه بما كُشف لاحقاً في فضيحة جفري إبستين)، أي إلى عالم منغلق لا ينتمي إليه، رغم وهم المعرفة والسيطرة الذي يحمله في داخله. بيل أشبه بكثيرين منّا، في حاضرنا: نعتقد أننا نُمسك بخيوط العالم لأن المعلومات متاحة بنقرة، بينما الحقائق الأعمق تبقى في الظلّ، خلف ظهرنا، حيث تتشكّل القرارات الكبرى وتُصاغ مصائر لا نعرف عنها الكثير. وحش الأفضل والأسوأ الإنسان عند كوبريك هو الكائن المتناقض بامتياز: الأعظم والأحطّ، الأقوى والأكثر هشاشةً، القادر على ارتكاب أسمى الأفعال وأحقرها في الآن ذاته. كما قال الناقد ميشال سيمان ذات مرة: "الكائن في سينما كوبريك، تسعون في المئة وحش، وعشرة في المئة جائزة نوبل. والوحش دائماً متأهّب للانقضاض. لا أحد في منأى منه". الإنسان عند كوبريك هو الكائن المتناقض بامتياز. خطاب كوبريك لا لبس فيه: حين تُبنى الأنظمة على حساب القيم، تصبح الكارثة حتمية. انها مسألة وقت. من التطور البشري، إلى الرغبة فإلى العقيدة، ظلّ هاجسه واحداً: أن لا نسلّم مبتكراتنا إلى سلطة تتجاوز إنسانيتنا، فنُختزَل إلى أقلّ ممّا نحن عليه. كوبريك هو الرؤيوي الذي لم يصف فقط ما أصبحنا عليه، بل استشرف ما يمكن أن نصير إليه، عبر تشريحه العميق لآليات النفس البشرية، وتحذيره ممّا ينتظرنا حين نطلق لها العنان بلا ضوابط. لم يكن أول مَن قرأ الإنسان على هذا النحو، فقد سبقه فلاسفة من أفلاطون إلى روسو، لكنه الوحيد الذي بثّ تلك الرؤية على الشاشة بلغة بصرية مذهلة، تنقش في الذاكرة وتحفر في وعي الثقافة الشعبية بلقطات أيقونية - وعندما أقول "أيقونية"، أعنيها فعلاً، بعيداً من استخدامها المبتذل. ببرودته الأسطورية التي تمسّ الجليد، لم يعكس حالنا، بل عرّى ما رفضنا دائماً أن نراه في دواخلنا.