
عصر السرعة بقشورها وبذورها ودموعها
كتبت عشرات السيناريوهات السينمائية عن حبكة مشوّقة هي انطلاق مركبة بلا مكابح، وبأقصى سرعة، وعليها مسافرون. نشهد مثلها منذ 18 شهراً في غزّة، بالقطار الذي يقوده نتنياهو، المعطّل المكابح. وثمّة حيلة للقتل قديمة في السينما، هي تعطيل مكابح مركبة البطل لقتله. أقرأ بعض المقالات جملة، وبعضها كلمة كلمة، وكذلك الكتب، حتى إنيّ ليغان على قلبي فأتابع فيلماً وأخباراً معاً، وأحياناً فيلمَين. "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه"، لعل قلبي مشطور، غير عاجل الأخبار.
وأجد في وسائل التواصل عشرات المتطوّعين يرشّحون أفضل عشرة أفلام بوليسية أو عاطفية أو تاريخية، فأجد صانع القائمة غرّاً، وقد زهدتُ في الأفلام، لكني أدوس بنزين السرعة في فيديوهات اليوتيوب على السرعة القصوى، بسبب غنى المائدة البصرية المفتوحة، وأكبح مركبتي البصرية أحياناً، وقلّما أتوقّف وأنا أقلّب الأقنية في وسائل التواصل، فقد شاهدت معظم مشاهد الحياة البرية الشهيرة: هجرات الثيران والحمير الوحشية وثيران النو، وهجرات أهلي السوريين وعودتهم، وتربص أمم التماسيح بهم والليوث الضاريات، وكنت مذهولاً يوماً بقصّة الأسد كريستيان، والأسد الأحمر، وشاهدت أفلاماً قصيرةً عن ذكاء الحيوان. يقال: إن ذكاءه مستجد، وشاهدت فيلماً يقارن بين حركات توم (صاحب جيري) وحركات الهرّة، فوجد الفيلم أنها مطابقة للحال، وليست خيالاً من ديزني.
لا رحمة في العجلة، فكلها عذاب، وسرعان ما يصيبني الملل والسأم، وإنّ إرسال مقطع فيديو برابط لصديق أمر غير محمود، فكأنك تكرّم حلوانياً بتقديم قطعة حلوى له (نقيض كالعيس في البيد يقتلها الظمأ) وأعاني من كثرة المحلّلين السياسيين حتى ليقتلني الظمأ (وكلّهم طارئون)، ومن كثرة الظرفاء أيضاً، يقال إنّ سبب قصر عمر العصفور هو تسارع وجيب قلبه، وطول عمر السلحفاة معقود بوجيب قلبها البطيء، وليس بصَدَفتها. يربط العلماء السرعة بالذاكرة، وقد ادّخرت نحو ألفي مقطع ورابط على صفحتي مؤونة لساعة الشدّة والحاجة، فلم أعد إليها قط، لأنّ الحياة متسارعة، وسمعت أعلاماً كباراً يجمعون القول إنّ شهر رمضان الذي ولّى هارباً هو أسرع رمضان مشهود، وهو شهر بطيء عادةً، فالجوع بطء، والشبع سرعة، ولا بد أنّ شعبان أيضاً كان سريعاً، فالأشهر قطار وقد عُطِّلت مكابحه، وأخشى ما أخشاه أن يقع ذو الحجة في أرض ذي العقدة، وقد اختلفنا في غرّة هلال رمضان وغرّة شوال. أما أشدّ ما يكون فهو أن يظهر عابد مُستجِدّ، حدث الأسنان، يبشّرنا بدعاء لم يسبقه إليه أحد، يجعل التراب ذهباً، ما إن ينطق به المرء حتى تنهمر عليه الأموال، ثمّ يطيل الديباجة تشويقاً لنا، ومن طال لسانه بطل إحسانه، وننتظره طويلاً (يعني نصف دقيقة أطول من قرن بتعبير إيتماتوف) حتى تضعف الحجة وتتلف المهجة، ثمّ يقول في آخر المقطع مخيّباً آمالنا: إلى الحلقة الثانية.
غالباً ما أشاهد الأفلام بسرعة، لكن ثمّة أفلاماً تشاهد بسرعتها العادية لكثافة الأحداث أو دقّة المشاعر، مثل فيلم "303" (الألماني)، وهناك فيلم شاهدتُه سبع مرّات بسرعة هريرة الأعشى: لا ريث ولا عجل، وثمّة حواجز وسواتر للإعلانات لها أثمان تبطئ الوصول إلى الثمرة البصرية، وكان الطاغية يعاقب خصومه بسرقة أوقاتهم بحبسهم، فكأنّه يعيش بأعمارهم، وتجميد أوقاتهم في ثلاجة السجن. قيل إنّ المسافة زمن جامد، والزمن مسافة سائلة، وهما في الإعراب مفعول فيهما، ونحن لا نفعل شيئاً سوى الكلام، وإنّ الانقلاب السياسي حرق للمراحل، فالطاغية من "أصحاب الخطوة" تطوى له المراحل، وكان جميع المنقلبين يبشّروننا بحرق المراحل للوصول إلى العالم الأول في آلة زمنهم، فوجدنا أنفسنا عند متاعنا، بل لم نجد حتى متاعنا فارتددّنا على آثارنا قصصاً.
السكوتر دراجة سائقها واقف، ليس عنده وقت للاسترخاء، وكوميدان الستاند أب مستعجل، ليس لنقص في الكراسي، وإنما لإيهام المستمع بالسرعة. قال عبد الوهاب المسيري للجنة امتحان أميركية رسب فيه: أنتم تقيسون السرعة وليس العقل. وقيل في تحديث مقولة دارون إن البقاء للأسرع، وليس للأصرع.
جرّبنا طائرات نتنياهو النارية، ونجرّب عربات جدعون الحديدية، عسى أن تكون أسرع سقوطاً من يقظة الضمير العالمي الذي استيقظ من بلهنيته.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 3 أيام
- العربي الجديد
عصر السرعة بقشورها وبذورها ودموعها
كتبت عشرات السيناريوهات السينمائية عن حبكة مشوّقة هي انطلاق مركبة بلا مكابح، وبأقصى سرعة، وعليها مسافرون. نشهد مثلها منذ 18 شهراً في غزّة، بالقطار الذي يقوده نتنياهو، المعطّل المكابح. وثمّة حيلة للقتل قديمة في السينما، هي تعطيل مكابح مركبة البطل لقتله. أقرأ بعض المقالات جملة، وبعضها كلمة كلمة، وكذلك الكتب، حتى إنيّ ليغان على قلبي فأتابع فيلماً وأخباراً معاً، وأحياناً فيلمَين. "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه"، لعل قلبي مشطور، غير عاجل الأخبار. وأجد في وسائل التواصل عشرات المتطوّعين يرشّحون أفضل عشرة أفلام بوليسية أو عاطفية أو تاريخية، فأجد صانع القائمة غرّاً، وقد زهدتُ في الأفلام، لكني أدوس بنزين السرعة في فيديوهات اليوتيوب على السرعة القصوى، بسبب غنى المائدة البصرية المفتوحة، وأكبح مركبتي البصرية أحياناً، وقلّما أتوقّف وأنا أقلّب الأقنية في وسائل التواصل، فقد شاهدت معظم مشاهد الحياة البرية الشهيرة: هجرات الثيران والحمير الوحشية وثيران النو، وهجرات أهلي السوريين وعودتهم، وتربص أمم التماسيح بهم والليوث الضاريات، وكنت مذهولاً يوماً بقصّة الأسد كريستيان، والأسد الأحمر، وشاهدت أفلاماً قصيرةً عن ذكاء الحيوان. يقال: إن ذكاءه مستجد، وشاهدت فيلماً يقارن بين حركات توم (صاحب جيري) وحركات الهرّة، فوجد الفيلم أنها مطابقة للحال، وليست خيالاً من ديزني. لا رحمة في العجلة، فكلها عذاب، وسرعان ما يصيبني الملل والسأم، وإنّ إرسال مقطع فيديو برابط لصديق أمر غير محمود، فكأنك تكرّم حلوانياً بتقديم قطعة حلوى له (نقيض كالعيس في البيد يقتلها الظمأ) وأعاني من كثرة المحلّلين السياسيين حتى ليقتلني الظمأ (وكلّهم طارئون)، ومن كثرة الظرفاء أيضاً، يقال إنّ سبب قصر عمر العصفور هو تسارع وجيب قلبه، وطول عمر السلحفاة معقود بوجيب قلبها البطيء، وليس بصَدَفتها. يربط العلماء السرعة بالذاكرة، وقد ادّخرت نحو ألفي مقطع ورابط على صفحتي مؤونة لساعة الشدّة والحاجة، فلم أعد إليها قط، لأنّ الحياة متسارعة، وسمعت أعلاماً كباراً يجمعون القول إنّ شهر رمضان الذي ولّى هارباً هو أسرع رمضان مشهود، وهو شهر بطيء عادةً، فالجوع بطء، والشبع سرعة، ولا بد أنّ شعبان أيضاً كان سريعاً، فالأشهر قطار وقد عُطِّلت مكابحه، وأخشى ما أخشاه أن يقع ذو الحجة في أرض ذي العقدة، وقد اختلفنا في غرّة هلال رمضان وغرّة شوال. أما أشدّ ما يكون فهو أن يظهر عابد مُستجِدّ، حدث الأسنان، يبشّرنا بدعاء لم يسبقه إليه أحد، يجعل التراب ذهباً، ما إن ينطق به المرء حتى تنهمر عليه الأموال، ثمّ يطيل الديباجة تشويقاً لنا، ومن طال لسانه بطل إحسانه، وننتظره طويلاً (يعني نصف دقيقة أطول من قرن بتعبير إيتماتوف) حتى تضعف الحجة وتتلف المهجة، ثمّ يقول في آخر المقطع مخيّباً آمالنا: إلى الحلقة الثانية. غالباً ما أشاهد الأفلام بسرعة، لكن ثمّة أفلاماً تشاهد بسرعتها العادية لكثافة الأحداث أو دقّة المشاعر، مثل فيلم "303" (الألماني)، وهناك فيلم شاهدتُه سبع مرّات بسرعة هريرة الأعشى: لا ريث ولا عجل، وثمّة حواجز وسواتر للإعلانات لها أثمان تبطئ الوصول إلى الثمرة البصرية، وكان الطاغية يعاقب خصومه بسرقة أوقاتهم بحبسهم، فكأنّه يعيش بأعمارهم، وتجميد أوقاتهم في ثلاجة السجن. قيل إنّ المسافة زمن جامد، والزمن مسافة سائلة، وهما في الإعراب مفعول فيهما، ونحن لا نفعل شيئاً سوى الكلام، وإنّ الانقلاب السياسي حرق للمراحل، فالطاغية من "أصحاب الخطوة" تطوى له المراحل، وكان جميع المنقلبين يبشّروننا بحرق المراحل للوصول إلى العالم الأول في آلة زمنهم، فوجدنا أنفسنا عند متاعنا، بل لم نجد حتى متاعنا فارتددّنا على آثارنا قصصاً. السكوتر دراجة سائقها واقف، ليس عنده وقت للاسترخاء، وكوميدان الستاند أب مستعجل، ليس لنقص في الكراسي، وإنما لإيهام المستمع بالسرعة. قال عبد الوهاب المسيري للجنة امتحان أميركية رسب فيه: أنتم تقيسون السرعة وليس العقل. وقيل في تحديث مقولة دارون إن البقاء للأسرع، وليس للأصرع. جرّبنا طائرات نتنياهو النارية، ونجرّب عربات جدعون الحديدية، عسى أن تكون أسرع سقوطاً من يقظة الضمير العالمي الذي استيقظ من بلهنيته.


العربي الجديد
منذ 6 أيام
- العربي الجديد
غزة في "كانّ" وتارانتينو أيضاً
مَن أعلن افتتاح مهرجان كان السينمائي هذا العام كان كونتين تارانتينو وهو ليس غريباً عن المهرجان الذي منحه السعفة الذهبية عام 1994 عن تحفته "بالب فيكشن". ورغم ذلك فإن حضور تارانتينو هذه المرة كان غريباً على نحو ما، فالرجل القادم إلى "كانّ" من تل أبيب على الأغلب، حيث يعيش مع زوجته المغنية الإسرائيلية دانييلا باك، وجد نفسه في بيئة غير صديقة إذا صح الوصف، فثمة من يتحدث عن قطاع غزة هنا، وثمة من يوقّع رسالة تعتبر الصمت على استمرار حرب الإبادة عليها عاراً. وبينما يزداد عدد الموقّعين وليس من بينهم تارانتينو على الإطلاق، تحضر إحدى ضحايا المقتلة أمام عينيه لو رغب بأن يرى، وهي الصحافية الفلسطينية الشابة فاطمة حسّونة (25 عاماً) التي قُتلت بصاروخ إسرائيلي أتى على كل أسرتها باستثناء والدتها (عشرة شهداء بينهم شقيقتها الحامل). قُتلت حسّونة بعد يوم واحد فقط من إعلامها بأن فيلم "ضع روحك على كفك وامشِ" للإيرانية سبيده فارسي، ويتناول حياتها (حسّونة) خلال المجزرة المفتوحة على صمت العالم كله، قد اختير للعرض ضمن فعاليات المهرجان. وقُتلت بصاروح وليس جراء وقوعها في حفرة ممتلئة بالورود خلال تنزهها في الجوار، وليس في حادث سير أو حتى بسبب مرض مفاجئ وخطأ طبي في التشخيص. لقد قُتلت بصاروخ يُوجّه عن بُعد وبدقة بحيث يعرف هدفه تماماً ويمضي إليه، لإبادة الأعداء، وحسّونة منهم رغم أنها مصوّرة فوتوغرافية، وشقيقتها منهم أيضاً رغم أنها رسّامة ولا تعمل في منشأة لتخصيب اليورانيوم أو تصنيع القنابل. هل يعرف تارانتينو هذا؟ الأمر لا يعنيه، فقد اختار معسكره، وخلال الأيام الأولى من العدوان الإسرائيلي الوحشي، غير المسبوق، على قطاع غزة، هرع المخرج (الأميركي) من شقته في تل أبيب إلى منطقة غلاف غزة، لا ليعرف الأمور عن كثب ويرى الوجه الآخر من الصورة، بل ليكون مع الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يستعدون لقتل أطفال غزة، ونساء غزة، وعجائز غزة ونعناع بيوتهم المدمّرة، ولم يكتفِ تارانتينو بذلك، بل التقط صوراً مع جنود أمام مروحية قتالية كانت جاهزة لقصف أهالي غزة وبيوتها. هذا الرجل لا سواه لا يجد حرجاً في أن يكون تحت سماء واحدة مع جولييت بينوش وسوزان ساراندون وريتشارد غير (لم يحضر المهرجان على الأغلب) وعشرات غيرهم ممن وقّعوا رسالتهم التضامنية مع غزة، والمندّدة بالصمت على مجزرتها. لم تكن فاطمة حسّونة الصحافية الوحيدة التي قتلها أبشع احتلال على وجه الأرض، بل ثمة آخرون: 217 صحافياً قتلوا وبعضهم قضى حرقاً وتفحمت جثته، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى يوم الخميس الماضي (15 مايو/أيار الجاري) بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، كثير منهم آباء تركوا خلفهم أطفالاً لا يعرف تارانتينو أسماءهم ولا يريد أن يعرف أيضاً، فقد اختار معسكره وانتهى الأمر. كل واحد منهم قصة مختلفة، مشحونة بالدراما العالية، بالمآسي الصغيرة، بالآمال التي كان سقفها سماء الله، فانخفضت على أمل مجرد البقاء على قيد الحياة على هذه الأرض التي خلقها ربنا جميعاً، رب تارانتينو وفاطمة حسّونة. كلهم قُتلوا. كلهم قتلتهم إسرائيل التي يقيم فيها تارانتينو دون أن يتجشم عناء المعرفة، مجرد معرفة ما إذا كان قتلهم جريمةً أم لا. موقف التحديثات الحية متى سنعبُر "شارع طلال"؟ دعك من هوليوود، من شركات الإنتاج، من الشهرة والجوائز، من منظر البحر من نافذة شقة في الطوابق العلوية في تل أبيب، دعك من كل شيء، ألست إنساناً في نهاية المطاف؟ أليس ثمة فضول لديك أو بقايا شعور أخلاقي؟ في الأمثال العربية أن "الضرب في الميت حرام"، وهذا لا علاقة له بالسينما والدراما ومهرجان كانّ، بل بالخبرة الإنسانية الممتدة من قابيل إلى نتنياهو، إذ إرث القتل والدم يجد من يتغاضى عنه إما إعجاباً وعبادةً للقوة كما قد تكون حالة تارانتينو، أو خوفاً وخشية من البطش، وما بينهما ثمة من لا يخشى بل يصغي إلى أصوات الضحايا من هابيل إلى فاطمة حسّونة، وينحاز إلى قوافل القتلى ويسرد سيرتهم، في الرواية والسينما وبقية الفنون. تارانتينو اختار ألّا يكون من بين هؤلاء، فلقد اختار معسكره وانتهى الأمر.


العربي الجديد
١٦-٠٥-٢٠٢٥
- العربي الجديد
أخطاء "كانّ" فادحة: لماذا يتغاضى عربٌ عنها؟
عاملون وعاملات عرب في النقد والصحافة السينمائيّين يُفضّلون التغاضي عن أخطاء، بعضها مُكرّر، ترتكبها إدارة مهرجان "كانّ" السينمائي ( تييري فريمو مندوبه العام) في دورات سابقة (يُقال إنّ الارتكابات، كي لا تُستخدم مفردة "أخطاء"، حاصلة منذ تفشّي كورونا مطلع عام 2020)، والمهرجان نفسه يصفه هؤلاء غالباً بكل ما في خانة "أفعل التفضيل" من أوصافٍ إيجابية وتبجيلية. يرون في التغاضي "راحة بال"، أو يظنّونه دافعاً لإدارة المهرجان إلى اهتمامٍ أكبر بهم/بهنّ، علماً أنّ أقصى ما يحصلون عليه منها "بطاقةَ اعتماد"، تُخوّلهم مشاهدة أفلامٍ، والمشاركة في مؤتمرات صحافية، وطلب إجراء مقابلات، لن يكونوا فيها لوحدهم، فكلّ جلسة (مدّتها: 15 ـ 20 دقيقة) تضمّ خمسة/سبعة مُحاورين/محاورات، ذوي جنسيات مختلفة. بطاقة الاعتماد تلك تُمنح بألوان متنوّعة، لكلّ لون مرتبة معيّنة في أولويات المُشاهدة، فيبدو المشهد غير منصفٍ وغير عادل، كما يشعر زملاء وزميلات عرب، يُتابعون الدورات السنوية للمهرجان رغم كلّ شيء. فالأبيض (قلّة من النقاد تحصل عليه، ويتردّد أنّه "مُختفٍ" في أعوامٍ قليلة ماضية، علماً أنّ الناقدين السينمائيين المصريين الراحلين سمير فريد ويوسف شريف رزق الله حاصِلان عليه دون سائر العرب) يعني الدخول أولاً قبل الجميع، يليه الوردي مع نقطة صفراء، ثم الوردي من دون نقطة، فالأزرق والبرتقالي والأصفر والأحمر. هذا يعني أنّ حامل الألوان الأخيرة (بدءاً من الأزرق) ربما لن يعثر على مقعدٍ له في صالات العروض الصحافية. هذا غير موجود في "مهرجان برلين" . بينما "مهرجان فينيسيا" يعتمد هذا التقليد، مع أنْ لا أفضلية للون على آخر في حجز بطاقات المشاهدة. أمّا "السوق"، المعنية بالتوزيع والإنتاج (أي "بيزنيس")، فلها بطاقات خاصة، يندر حصول ناقد أو صحافي/صحافية سينمائي عليها. رغم هذا، يتجاهل عربٌ عديدون ما يُشبه الفوضى في مسائل إدارية وتنظيمية، تعمّ دورات سابقة عدّة. يتجاهلون كذباً وعدم مساواة في تعامل إدارة "كانّ" مع مسائل دولية، في السياسة والحروب، فتُتيح لسياسي (فولوديمير زيلينسكي) مساحة لكلمة في حفلة افتتاح، لخوضه حرب بقاء ضد دولة جارة (ما علاقته بالسينما أصلاً، رغم أنّه ممثل تلفزيوني سابق، غير مشهور كثيراً خارج بلده؟)، لكنّها تنفضّ عن جريمة ترتكبها دولة (حرب الإبادة الإسرائيلية الأخيرة)، أقلّه بتحاشيها ذكرها وذكر جرائمها، خاصة مع اختيارها فيلماً "فلسطينياً"، تُقتل شخصيته النسائية الأساسية بغارة إسرائيلية يتردّد أنّها متعمّدة ( فاطمة حسونة، وفيلم "ضع روحك على كفّك وامشِ" للإيرانية زبيدة فارسي ). مع هذا، يندر العثور على "رأي" لناقد أو صحافي/صحافية سينمائي عربيّ إزاء المسألة هذه، عشية الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025). سينما ودراما التحديثات الحية أكذوبة مهرجان كانّ في السياسة والحريات يستخدم هؤلاء العرب مفردات تبجيلية في وصف المهرجان، مع أنّها غير لائقة بمهنةٍ، وغير متوافقة مع نقدٍ. هناك بينهم/بينهنّ من "يشتم" زملاء وزميلات، قلائل للغاية، لهم/لهنّ كتابات نقدية تطرح تساؤلات مشروعة. يقولون، مواربة أو علناً (ويفخرون بذلك)، إنّ المهمّة الأولى كامنةٌ في مشاهدة أفلام والكتابة عنها فقط، والبعض يهرع إلى غرف المؤتمرات الصحافية، وإنْ يُكلّفه هذا خسارة فيلم، "ربما" يشاهده لاحقاً في يوم آخر، أو ينساه كلّياً. فالحوارات نفسها، رغم ضيق الوقت، فرصةٌ بالنسبة إليهم/إليهنّ لاقتناص صورة والحصول على إجابات، يُقال إنّ عرباً (يندر مشاركتهم/مشاركتهنّ في حوارات كهذه أصلاً) غير متردّدين عن "سرقة" أسئلة زملاء وزميلات أجانب، لنشرها مع الإجابات في ما يسمّونه "حواراً خاصاً" بهذه المطبوعة، أو بذاك الموقع. لا نقاش حول ضيق الوقت، فهذا مفهوم، لأنّ من يوافق على حوارات كهذه (الغالبية الساحقة لممثلين/ممثلات ومخرجين/مخرجات) يأتي إلى مهرجان "كانّ" لأيامٍ قليلة، والحوار، الذي يُنظَّم قبل عرض الفيلم أحياناً، وهذه مشكلةٌ نقدية وصحافية كبيرة (للحوار الإعلامي مدّة أطول بقليل، فالجهات الإنتاجية تُفضّله لرواجه الشعبيّ)، جزءٌ من ترويجٍ مطلوب. قول هذا كلّه يُشير إلى أنّ المهرجان غير مانح إياهم/إياهنّ ميزات، "تفرض" تغاضياً عن قراءات نقدية سوية لأخطاء وارتباكات وخديعة وكذب وادّعاء، ترتكبها إدارة المهرجان وتتصرّف وفقاً لها. مهرجان كهذا غير مكترثٍ أصلاً بكتابات نقدية عربية، رغم إصراره على إرسال المكتوب عن كلّ دورة إلى مكتبه الصحافي، لـ"الاطمئنان" على أنّ من يُمنَح "بطاقة اعتماد" يُتابع يوميات دوراته، ويكتب عن أفلامها ونشاطاتها. لكنْ، أهناك من يقرأ فعلياً؟ ألن يكون عربيّ/عربيّة مسؤولاً عن القسم العربي في المكتب الصحافي، مع ما يعنيه هذا من تلبية مصالح شخصية، أحياناً؟ لذا، ما الداعي إلى تجنّب الكتابة النقدية السوية عن أخطاء مرتكبة منذ أعوام قليلة، في مسائل إدارية وتنظيمية: الخوف من أنْ يُرفض طلب الحصول على "بطاقة اعتماد" في دورة لاحقة؟ ألن تكون الكتابة هذه جزءاً من المهمة النقدية والصحافية على الأقلّ، فللإعلام المرئي/المسموع مهمات غير نقدية إطلاقاً؟ أيظنّ هؤلاء أنّ تجنّب التعليق النقدي السوي عن أخطاء سيمنحهم ميزات إضافية، لن يحصلوا عليها لأنهم/لأنهنّ غير حاصلين على شيءٍ أساساً، باستثناء "بطاقة الاعتماد" تلك، التي يُروى أنّ علاقات عامة تفرض تبديلاً بألوانها وفقاً لمصالح شخصية متبادلة؟ تساؤلات كهذه ربما تدفع عربٌ إلى مزيدٍ من الشتم والتقريع، بدلاً من إثارة نقاشٍ صحّي وعلني وواضح. لكنّها (التساؤلات) أحد أسس المهنة.