
كيف تكون الطاقة المتجددة نظيفة وموثوقة في نفس الوقت؟
وعلى الرغم من الانخفاضات الكبيرة في التكاليف وانتشارها على نطاق واسع، تواجه مصادر الطاقة المتجددة، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية، تحديا جوهريا، فهي لا تُنتج الطاقة إلا عند سطوع الشمس أو هبوب الرياح. وما لم نُعِد النظر في كيفية إدارة أنظمة الكهرباء، فإن انقطاع هذه المصادر للطاقة يُهدد بعرقلة التقدم في مجال إزالة الكربون.
وضمن مصطلحات الطاقة، يشير التقطع إلى العرض المتغير من مصادر معينة. أو بعبارة أخرى، الطاقة التي لا تتوفر عند الطلب ولكن فقط عندما تسمح الظروف بذلك.
وبخلاف محطات توليد الطاقة التي تعمل بالغاز أو الفحم، والتي يمكن تشغيلها أو خفضها بما يتناسب مع الاستهلاك، لا تنتج مزرعة الطاقة الشمسية الكهرباء إلا عند سطوع الشمس، بينما لا تنتج توربينات الرياح الكهرباء إلا عند حركة الهواء.
وتتبع الطاقة الشمسية دورة يومية واضحة، إذ يرتفع الإنتاج صباحا، ويبلغ ذروته عند الظهيرة، وينخفض إلى الصفر ليلا. وحتى منتصف النهار، يمكن لسحابة عابرة أن تُخفّض إنتاج الطاقة الشمسية لفترة وجيزة.
وقد تُخفّض السحب الخفيفة الإنتاج بنحو 24%، بينما يُمكن لطبقات السحب الكثيفة أن تُخفّضه بنسبة تصل إلى 67% حسب الدراسات.
وتخضع طاقة الرياح أيضا لتغيرات في أنماط الغلاف الجوي. وتكون بعض الفصول والمناطق أكثر رياحا من غيرها (في العديد من المناطق، تهب الرياح بقوة أكبر خلال ليالي الشتاء مقارنةً بأيام الصيف) مما قد يُعوّض أنماط الطاقة الشمسية إلى حد ما.
وهذا يعني أن طاقة الرياح والطاقة الشمسية تُكمّلان بعضهما البعض بشكل طبيعي إلى حد ما، فغالبا ما تنشط الرياح عند انحسار الطاقة الشمسية، والعكس صحيح. ومع ذلك، يمكن أن تفشلا في توفير الطاقة في نفس الوقت.
تحدي الموثوقية
يُغيّر دمج كميات كبيرة من الطاقة المُرتبطة بالطقس في شبكة الكهرباء آلية عمل الشبكة، وتتطلب شبكات الطاقة توازنا ثابتا بين العرض والطلب في الوقت الفعلي.
إعلان
وتقليديا، كان يُحافظ على هذا التوازن باستخدام مولدات قابلة للتحكم، فإذا ارتفع الطلب كان بإمكان مشغلي الشبكة ببساطة توزيع المزيد من الطاقة من محطة تعمل بالفحم أو الغاز أو الطاقة الكهرومائية.
أما مع انقطاع مصادر الطاقة المتجددة، فإن تحكم المشغلين المباشر أقل بكثير. ولا يمكن توزيع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح حسب الرغبة، لذلك عندما لا توفر الطبيعة الطاقة، يجب على الشبكة إيجاد طاقة بديلة بسرعة أو خفض الطلب. وهذا يُشكل تحديات جديدة للموثوقية ولطريقة تصميم أنظمة الطاقة على مدى عقود.
ومن التحديات الرئيسية أيضا التعامل مع التقلبات السريعة في العرض والطلب. فمع ارتفاع وانخفاض إنتاج الطاقة الشمسية، يتعين على محطات توليد الطاقة الأخرى زيادة أو خفض إنتاجها بسرعة فائقة لسد الفجوات، وهو ما قد لا يتوفر دائما.
وقد يؤدي سوء التقدير أو النقص الطفيف في الطاقة إلى انخفاض الجهد أو انقطاعه عند غروب الشمس. كما يُمكن أن تكون طاقة الرياح غير مُستقرة بالقدر نفسه مع هبات أو فترات هدوء مفاجئة تتطلب موارد أخرى للاستجابة الفورية.
وهناك مشكلة فنية أخرى تتمثل في الحفاظ على استقرار الشبكة (التردد والجهد) عند الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة. فمحطات الطاقة التقليدية ذات التوربينات الدوارة الكبيرة تُوفر بطبيعتها القصور الذاتي، وهو زخم استقرار يُحافظ على ثبات تردد الشبكة في مواجهة الاضطرابات الطفيفة.
وتتصل الألواح الشمسية والعديد من توربينات الرياح الحديثة عبر محولات كهربائية، ولا تُساهم في القصور الذاتي. ونتيجة لذلك، تكون الشبكة التي تُهيمن عليها مصادر الطاقة المتجددة أكثر حساسية للاختلالات، نظرًا لانخفاض المقاومة الفيزيائية للتغيرات المفاجئة في التردد.
ومع ارتفاع نسبة العرض المتغير، قد ينحرف تردد النظام بسرعة في حال مرور سحابة أو انخفاض سرعة الرياح، ما لم تُفعّل مصادر أخرى فورا. وتُظهر الدراسات أن زيادة نسبة توليد طاقة الرياح والطاقة الشمسية تُقلل من قصور النظام الذاتي، وتتطلب إستراتيجيات استجابة أسرع للحفاظ على استقرار التردد والجهد.
ويعتمد مشغلو الشبكات بشكل متزايد على احتياطيات الاستجابة السريعة، مثل البطاريات، لإدارة هذه التقلبات لحظة بلحظة. كما يستثمرون في دراسة التقلبات للتنبؤ بانخفاضات وذروات إنتاج الطاقة المتجددة والاستعداد وفقا لذلك.
حلول الاستدامة
يمكن لمجموعة متنوعة من الحلول، بعضها قيد الاستخدام بالفعل والبعض الآخر لا يزال ناشئا، أن تخفف من عدم موثوقية مصادر الطاقة المتجددة وتعزز استقرار الشبكة.
ومن بين الحلول المطروحة عملية التخزين، إذ تُستخدم البطاريات (عادةً بطاريات ليثيوم أيون) على نطاق الشبكة لامتصاص فائض الكهرباء عند ارتفاع إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وإطلاقها عند انخفاض الإنتاج.
ويمكن لمزارع البطاريات الكبيرة تخزين فائض الطاقة الشمسية عند الظهيرة، ثم إعادة ضخه إلى الشبكة بعد غروب الشمس.
إعلان
ومع انخفاض تكاليف البطاريات بشكل كبير، يمكن أن تكون حلا جيدا لتحقيق التوازن على المدى القصير (كل ساعة). وتعتمد خرائط طريق الطاقة -لتحقيق صافي انبعاثات صفري- على التوسع الهائل في تخزين البطاريات لإدارة التقلبات الساعية واليومية لمصادر الطاقة المتجددة، مع الحفاظ على استقرار الشبكات.
كما تُشجّع برامج الاستجابة للطلب المستهلكين -من الصناعات الثقيلة إلى المنازل- على تحويل استهلاكهم للكهرباء إلى أوقات توفر الطاقة المتجددة أو تقليله خلال فترات الذروة.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال حوافز سعرية أو إشارات آلية، مثل خصومات على تشغيل الأجهزة أو شحن السيارات الكهربائية منتصف النهار بدلا من المساء. وتُساعد هذه الإستراتيجيات على استقرار مستويات الطلب بين فترات الذروة والانخفاض، مما يُسهّل توفير الكهرباء بإمدادات متغيرة.
وهناك أيضا طريقة أخرى لمواجهة الانقطاع المحلي وهي ربط الشبكات عبر مناطق جغرافية أكبر، حيث يتم تقاسم الطاقة. فإذا كانت منطقة ما هادئة أو غارقة في الظلام، فيمكنها استيراد الطاقة من أماكن أخرى لديها فائض. وتربط خطوط نقل الجهد العالي الآن العديد من البلدان والمناطق.
ويعمل الباحثون والمهندسون أيضا على تطوير طرق لمعالجة مشكلة التقطع طويل الأمد الذي يستمر لأيام أو أسابيع، وأحد الأساليب هو تخزين فائض الطاقة المتجددة على شكل وقود كيميائي لاستخدامه لاحقا.
وعلى سبيل المثال، يمكن تشغيل فائض الكهرباء في أسبوع عاصف باستخدام أجهزة التحليل الكهربائي لإنتاج الهيدروجين الأخضر من الماء. ويتم تخزين هذا الهيدروجين تحت الأرض أو في خزانات، لاستخدامه لاحقا في توليد الكهرباء (عبر خلايا الوقود أو التوربينات) خلال فترات انقطاع الطاقة الشمسية أو الرياح لفترات طويلة.
ولا يمكن حتى الآن استبدال جميع محطات الوقود الأحفوري بمصادر الطاقة المتجددة دون تغيير الشبكة نفسها. ويُشكّل تنوع طاقة الرياح والطاقة الشمسية تحديا للتصميم التقليدي لأنظمة الكهرباء التي اعتمدت طويلا على إمداد ثابت وقابل للتحكم.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
انقراض صامت.. الصيد الجائر يهدد الزرافات بأفريقيا
في سهول السافانا في أفريقيا، يتجه أطول حيوان ثديي في العالم بهدوء نحو الانقراض، ليس بسبب فقدان موائله فقط، بل بسبب الشهية التي لا تشبع للجوائز التي تحول جلود تلك العمالقة اللطيفة إلى سجاد وذيولها إلى طارد للذباب. لا يتسللون إليك. لا يهربون أو يفزعون. في الواقع، عندما تنعطف عند زاوية وتجد زرافة تسد الطريق، تميل الزرافة إلى الوقوف هناك، وتنظر إليك ببرود وخيلاء. بأرجل تشبه العصي والرموش التي تنتمي إلى دروس فن المكياج، يبدو أن الزرافة جاءت من عصر آخر تماما، مثل بعض عروض ما قبل التاريخ الغريبة التي تعكس الأناقة والغرابة، ورغم ضخامتها، تكاد تطأ بصمت، أقدامها مُريحة وخطواتها مُتأنية، تطفو في الأدغال كمراقب صامت. ووفقا للاستطلاعات، تُعدّ الزرافات أكثر الحيوانات تصويرا من قبل الزوار في حديقة كروغر في جنوب أفريقيا، متفوقة حتى على الأسد. ويبدو أن الحيوانات الأخرى تُدرك طبيعتها الهادئة، فالحمر الوحشية والحيوانات البرية غالبا ما ترعى برفقتها. يبدو صيد مثل هذا المخلوق الرائع غريبا. فما الفائدة من اصطياد أحد أكثر الحيوانات البرية ودا في أفريقيا؟ لكن الأمر أنه لا يُقاوم بالنسبة للبعض من صائدي الجوائز والتجار الشرهين للكسب غير المشروع. في يونيو/حزيران الماضي، نشرت مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها أرقاما جديدة تكشف عن حقيقة صارخة، ففي عام 2023 وحده، تم شحن ما يقرب من 1800 "جائزة" زرافة حول العالم، مما أدى إلى تغذية سوق عالمية مستترة، باتت تشكل تهديدا خطيرا لبقاء الأنواع. وفي هذا السياق، أصدر البروفيسور فريد بيركوفيتش، الخبير الرائد في مجال دراسة الزرافات والمدير التنفيذي السابق لمنظمة "أنقذوا الزرافات" تحذيرا صارخا، حيث يقول "لقد شهدنا انخفاضا بنسبة 40% في أعداد الزرافات خلال العقود الثلاثة الماضية، إذا استمر هذا المعدل من الانخفاض، فستنقرض الزرافات قريبا". انقراض صامت لم يتبقَّ اليوم سوى أقل من 100 ألف زرافة في جميع أنحاء أفريقيا، وهي نسبة ضئيلة من إجمالي عدد الفيلة التي تُقدَّر بنحو 450 ألف فيل تتشارك البيئات نفسها. ولكن بينما يُثير اصطياد الفيلة من أجل العاج استنكارا عالميا، لا ينطبق الأمر على الزرافات، التي تُربَّى أحيانا في الأسر فقط لإطلاق النار عليها وشحنها كغنائم. في أوائل القرن الـ20 كانت الزرافات تُصاد بلا هوادة في لوفيلد بجنوب أفريقيا. لم تكن تُقدّر من أجل لحمها أو عاجها، بل من أجل ذيولها، التي كانت تُستخدم لهش الذباب وصنع زينة احتفالية، وجلودها التي كانت تُصنع منها سياطا وعصيا (غالبا لضرب العبيد). أما عظامها فكانت تُسحق لاستخدامها سمادا. وتعد أرقام الصيد الحالية صادمة. فوفقا لبيانات التجارة الدولية بأنواع الحيوانات والنباتات البرية المهددة بالانقراض (CITES)، استوردت الولايات المتحدة وحدها أكثر من ألف "جائزة" زرافة في عام 2023، وهو ما يمثل 60% من الإجمالي العالمي. كما أن الدول الأوروبية منخرطة بقوة في هذه التجارة، حيث سُجلت واردات في المملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، من بين دول أخرى. وحتى في أماكن بعيدة كالصين والإمارات العربية المتحدة وكندا، تجد أجزاء الزرافة -جلودها وجماجمها وعظامها، بل أقدامها وذيولها- طريقها إلى المنازل كرمز للمكانة الاجتماعية. بالنسبة لبيركوفيتش، الذي أمضى عقدين من الزمن في دراسة الزرافات في البرية، لا تقتصر المشكلة على الصيد غير القانوني فحسب، بل تشمل أيضا غسل الأموال الناتجة عن عمليات الصيد غير القانونية من خلال التجارة المشروعة في الجوائز. رسميا، تزعم صناعة صيد الجوائز أن حوالي 300 زرافة تُقتل بشكل قانوني كل عام. وفي المقابل، تشير بيانات الحكومة الأميركية إلى أن ما يقارب 400 جائزة تدخل البلاد سنويا. ويوضح بيركوفيتش: "إذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فهذا يعني أن 25% منها على الأقل تأتي من الزرافات التي تُقتل بشكل غير قانوني. إذ يُتيح صيد الجوائز فرصة للتجارة غير المشروعة". وتُظهر البيانات أن أعداد الزرافات تتزايد فقط في المتنزهات الوطنية والمحميات، وهي الأماكن التي يُحظر فيها صيد الجوائز، ففي منتزه شلالات مورشيسون الوطني بأوغندا، ارتفعت أعداد الزرافات من حوالي 200 إلى 1200 زرافة خلال العقدين الماضيين. وفي منتزه إيتوشا الوطني في ناميبيا ومنتزه كروغر، استقرت الأعداد ثم ازدادت. إرث استعماري تشير بعض الادعاءات إلى أن صيد الجوائز يُغذي الاقتصادات المحلية، ويُحسّن المجتمعات الريفية في أفريقيا، وهي مجرد ذريعة، فبينما يدرّ صيد الجوائز دخلا على التجار والصيادين، تشير دراسات مستقلة إلى أن 3% فقط من إيرادات صيد الجوائز تصل إلى الأسر التي تعيش بالقرب من امتيازات الصيد. وفي هذا السياق، يقول بيركوفيتش لـ"موقع دايلي مافريك" "إذا بلغت إيرادات صيد الزرافات مليون دولار، فقد يذهب ما يصل إلى 99% منها إلى المسؤولين الحكوميين وملاك الأراضي، بينما يُترك الباقي للمجتمع المحلي". ويشير تقرير مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها إلى أن المستفيدين الحقيقيين ليسوا القرويين الذين يُعانون من الفقر، بل الصيادون الأجانب الأثرياء، وغالبيتهم من الرجال البيض المسنين من الولايات المتحدة وأوروبا، والمشغلون الذين يُرشدونهم إلى آخر معقل للزرافات تحت شمس أفريقيا. وتُظهر الصور المنشورة حتى على وسائل التواصل الاجتماعي هؤلاء الصيادين وهم يبتسمون بجانب جثث زرافات ضخمة مُمتدة، بعضها رُبّي في حظائر مُسيّجة فقط ليتم إطلاق النار عليه من مسافة قريبة. ويقول بيركوفيتش: "عندما يقتل مواطن محلي فقير حيوانا للحصول على لحومه لإطعام عائلته، يُمكن أن يُزج به في السجن. لكن يُمكن لصياد ثري أن يدفع عشرات الآلاف من الدولارات لإطلاق النار على الحيوان نفسه، ويأخذ رأسه إلى وطنه. هذا هو الاستعمار الحقيقي". وتدعو منظمات الحفاظ على البيئة إلى الإمكانات الهائلة للسياحة البيئية لمقاومة الصيد الجائر، مشيرة إلى أن سياحة الحياة البرية تدر دخلا أكبر بكثير، وتخلق فرص عمل أكثر، وتمنح المجتمعات المحلية دافعا لحماية الحيوانات الحية. ومع ذلك، لا تزال فكرة أن بعض المناطق النائية "متاحة للصيادين فقط". تُقدّم السوابق التاريخية أيضا تذكيرا قاتما بما يحدث عندما يُبيد البشر الأنواع حتى النسيان. ويقول بيركوفيتش: "طائر الدودو، والكواغا، وبقرة البحر ستيلر، جميعها تُدفع إلى الانقراض بفعل البشر. لا يُمكننا تعويض الأنواع بعد انقراضها". من جهتها، تؤكد مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها أن حظر استيراد جوائز الزرافات سيسد ثغرة قانونية بالغة الأهمية في عمليات الصيد غير المشروعة، وتشير إلى أن حياة الزرافات التي جابت أفريقيا لملايين السنين أثمن من أن تكون سجادا ناعما يطأه الأثرياء، أو مكنسة، أو رأسا معلقا على حائط.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
مهندس المعجزات.. كيف يتمكن النمل الأبيض من بناء مدن فائقة الدقة؟
قد لا يتجاوز حجم النملة البيضاء الواحدة حجم ظفر الإصبع، وهي مخلوق هش، شفاف الهيكل، وشديد الحساسية لأشعة الشمس، بل يكفي أن يطأها شخص بقدمه دون أن يشعر لينهي وجودها. ومع ذلك، حين تجتمع ملايين من هذه الكائنات الدقيقة فإنها تتحول إلى مهندس معماري بارع، قادر على بناء تلال طينية شاهقة. وبعض هذه التلال يرتفع حتى 5-8 أمتار، أي ما يعادل بالنسبة لحجم النمل الأبيض بناء ناطحات سحاب أو مدن تمتد لكيلومترات، إذا ما قورنت بجسم الإنسان. إنها ليست مجرد كتل ترابية ضخمة، بل هي مدن بمعنى الكلمة، تحتوي على شبكة معقدة من الغرف والأنفاق والقنوات التي تعمل على تنظيم درجة الحرارة والرطوبة وتدفق الهواء، بما يضمن بقاء المستعمرة والفطريات التي تزرعها لتقتات عليها. لكن ما يثير الذهول حقًا أن كل هذا يُبنى دون مخطط هندسي أو قائد مركزي. ولا توجد "نملة معمارية" ترسم التصاميم أو توزّع الأوامر على العمال، بل تُبنى هذه التلال عبر قواعد بسيطة مطبقة محليًا من كل فرد، وتترابط تلك التصرفات الفردية الصغيرة لتشكل في النهاية أنماطًا معمارية مذهلة. هندسة بلا عقول مركزية تبدأ العملية بمزيج من التربة واللعاب والروث، حيث تبني النملة الواحدة كرة صغيرة من الطين، وتضعها في مكان مناسب. وقاعدة البناء هنا بسيطة "إذا رأيت نملة قد وضعت كرة طينية، ضع أنت الأخرى فوقها أو بجانبها" ومن هذه التكرارات الصغيرة ينشأ مع مرور الوقت برج شاهق ومعقد. ولكن النمل الأبيض لا يكتفي بتكرار أعمى، فهو حساس للغاية لتغيرات بيئته، ويستجيب لها لحظة بلحظة. فالرطوبة، مثلًا، تلعب دورًا رئيسيًا في توجيه عمليات البناء، ففي دراس ات حديثة أجريت على النمل الأبيض، اكتشف الباحثون أن عاملات البناء في النمل الأبيض تستشعرن الفقاعات الرطبة المتسربة من شقوق العش، فإذا شعرن بفقاعة رطوبة، تضعن كرات طينية عند حافتها، مما يدفع الفقاعة إلى الامتداد تدريجيًا، فيواصلن البناء للأعلى. أما إذا تسرب هواء جاف أو هبت رياح قوية فجأة، تتلاشى الفقاعة الرطبة ويتوقف البناء فورًا. وإذا ارتفع مستوى ثاني أكسيد الكربون داخل التل بشكل خطير على الفطريات (التي تتغذى عليها قطعان النمل الأبيض) تهرع العاملات لفتح فتحات تهوية جديدة أو توسيع الأنفاق لتجديد الهواء. وإذا ارتفعت درجة الحرارة، بنى النمل الأبيض أبراجًا تعمل مثل المداخن لتسريب الهواء الساخن للخارج. وإذا كان الجو باردًا، أغلق الفتحات وعزل الجدران بالطين للحفاظ على الدفء. وتمثل تيارات الهواء أيضًا إشارات، فإذا شعر الأفراد بتدفق قوي مفاجئ، تعاملوا معه كإشارة خطر وسدوا الفتحة على الفور. أما التيار اللطيف فيستغلونه لإنشاء نظام تهوية طبيعي أشبه بمكيف هواء ذاتي التشغيل، بحسب دراسة نشرت عام 2024 بدورية "إي-لايف". المستعمرة ككائن حي فائق يظهر ما سبق أنه حينما نراقب سلوكيات النمل الأبيض، يبدو كما لو أننا أمام كائن واحد ضخم وليس ملايين الكائنات الصغيرة. ولا تعرف أي نملة بشكل فردي التصميم النهائي للتلة، تمامًا كما لا تعرف أي خلية عصبية في دماغك أنك تفكر الآن. لكن عبر شبكة معقدة من التفاعلات المحلية، يظهر ذكاء جماعي يسمح للمستعمرة بحل مشاكل معقدة مثل تنظيم التهوية والدفاع عن النفس وبناء الهياكل. ويطلق علماء الأحياء على هذا النوع من الكائنات اسم "الكائنات الفائقة" فالمستعمرة، بكل أفرادها، تعمل كأنها جسد واحد، والتلة هي "جلدها ورئتها". والفطريات المزروعة بداخلها تمثل جهازها الهضمي، أما النمل الفردي فهو مثل خلايا متناثرة داخل هذا الكائن الأكبر. وبحسب هانتر كينغ الباحث من مختبرات ل. ماهاديفان بجامعة هارفارد، يمكننا تخيل التل ككائن حي ضخم، يتكون من ملايين النمل، لكل فرد وظيفة مثل عضلة أو خلية دم. ويعد ذلك، في علوم التعقد، نموذجا مثاليا على ظاهرة الانبثاق، فنحن أمام أفراد يعملون بقوانين بسيطة وبشكل مستقل، لكن هذه القوانين تجعلهم يتفاعلون مع الجيران، بشكل يؤدي لنشوء نظام معقد يحمل صفات أكبر من مجموع أفراده، ويطور ذلك ما نسميه سلوكا أو ذكاء جمعيا. سؤال البشر إن ما يفعله النمل الأبيض لم يعد يثير إعجاب علماء الأحياء فقط، بل أصبح مصدر إلهام للهندسة والروبوتات. فقد طوّر مهندسون معماريون مباني ذكية بنظام تبريد سلبي مستوحى من تلال النمل الأبيض، وتبنى خبراء الروبوتات خوارزميات بناء جماعي مستوحاة من هذه الحشرات لبناء منشآت بلا حاجة لتوجيه مركزي. وعلى سبيل المثال، يمكن أن تتأمل مشروع "ترمس" وهي روبوتات صغيرة صممتها مجموعة بحثية من جامعة هارفارد لتقليد الطريقة التي يبني بها النمل الأبيض مساكنه. والفكرة الأساسية بسيطة، فكما أن النمل الأبيض يبني أعشاشًا ضخمة دون قائد أو خطة مركزية، كذلك تتم برمجة هذه الروبوتات لتعمل بشكل جماعي وتبني هياكل معقدة دون الحاجة إلى التحكم عن بُعد أو أوامر مباشرة من البشر. ولا يعرف كل روبوت بسيط جدًا شكل البناء النهائي لكنه يعتمد على قواعد محلية بسيطة مثل "إذا وجدت حجارة في مكان معين، ضع فوقها لبنة جديدة، وإذا كان المكان مزدحمًا، انتظر حتى يفرغ الطريق، وإذا لاحظت فراغًا في مستوى معين، ابدأ بتعبئته". وإلى جانب ذلك، فكل روبوت يحتوي على حساسات لرؤية البيئة القريبة جدًا منه (مثل مستشعرات الحركة) وذراع ميكانيكي لحمل ووضع الطوب، إلى جانب برنامج يتحكم بخطواته وفق القواعد البسيطة السابقة. وقد لاحظ الباحثون أنه عندما يعمل عشرات الروبوتات معًا، يظهر شكل معقد تدريجيًا مثل أقواس أو جدران أو أبراج. وقد صمم العلماء هذه التجارب لفهم كيف يبني النمل الأبيض مجتمعاته بشكل ذاتي التنظيم، ولاستخدام الفكرة في مشاريع حقيقية مثل بناء هياكل في أماكن يصعب وصول البشر إليها (مثلا على القمر أو المريخ) وعمليات الإنقاذ بعد الكوارث (بناء ممرات أو جسور بسرعة) وطبعا تطوير تقنيات الذكاء الجماعي في الروبوتات. وإلى جانب التطبيق العملي لهذه الهندسة المدهشة، يبقى سؤال فلسفي يلوح في الأفق: هل النمل الأبيض "ذكي" لأنه يبني تلالًا متقنة ؟ أم أنه مجرد منفذ لقواعد غريزية بسيطة؟ ربما تكمن الإجابة في أن الذكاء لا يحتاج إلى وعي بالضرورة، بل قد يكون خاصية ناشئة عن تفاعل مكونات بسيطة جدًا، كما يتصور بعض الباحثين إنه ما يحدث في عقولنا البشرية. وفي النهاية فإن هذه التلال ليست مجرد أكوام طين، بل هي كتب مفتوحة تخبرنا عن عالم لم نكن لنتصور وجوده في حياتنا، وعن إمكانية ظهور أنماط معقدة من أبسط القواعد، وعن قوة التعاون التي تتجاوز حدود الأفراد لتصنع عقولًا جماعية تفكر وتخطط وتبني.


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
كارثة علم الفيزياء.. هل نعيش في "فقاعة كونية" كبيرة؟
على مدى عقود، ظل ما يسمى "توتر هابل" أحد أعقد الألغاز التي تؤرق علماء الكونيات أثناء محاولتهم قياس سرعة تمدد الكون. وتعتمد هذه قياسات التي يجريها العلماء لحساب سرعة الكون على تقنيتين رئيسيتين: الأولى تستند إلى بيانات مأخوذة من المراحل المبكرة جدا لتاريخ الكون، مثل إشعاع الخلفية الكونية، في حين ترتكز الثانية على رصد المجرات القريبة والنجوم المتغيرة في الكون المحلي (القريب من مجرتنا). أصل التوتر المدهش والمثير لانتباه العلماء دوما كان أن نتائج الطريقتين تختلف بشكل واضح رغم تكرار التجارب وتحسين دقتها، إذ يقاس تمدد الكون بما يُعرف بـ"ثابت هابل-ليميتر"، وهو مقياس يحدد السرعة التي تتباعد بها المجرات عن بعضها البعض. وعند حساب هذا الثابت استنادا إلى البيانات الكونية القديمة، تُقدّر القيمة بنحو 244 ألف كيلومتر في الساعة لكل مليون فرسخ فلكي (ما يعادل نحو 3.2 ملايين سنة ضوئية). أما إذا استُند إلى قياسات المجرات الأقرب إلينا في الزمان والمكان، فإن القيمة ترتفع إلى 264 ألف كيلومتر تقريبا لنفس المسافة. هذا الفارق -الذي لا يمكن تفسيره بسهولة- يفتح باب التساؤلات حول ما إذا كنا نواجه حدودا في فهمنا لطبيعة الكون أم أننا على أعتاب اكتشافات جديدة تغير قواعد الفيزياء كما نعرفها. فقاعة كونية وتقدم دراسة جديدة، عُرضت خلال اجتماع الجمعية الفلكية الملكية لعام 2025 في مدينة دورام البريطانية، فرضية جريئة، تقول إننا، نحن والكوكب الأرضي، بل مجرتنا درب التبانة، نعيش داخل "فقاعة كونية" ضخمة، قد تكون السبب في أننا نُلاحظ توسعا أسرع للكون محليا مقارنة بما يُحسب من النموذج الكوني التقليدي. ويفترض الباحثون أن قُطر هذه الفقاعة يساوي حوالي مليار سنة ضوئية، وكثافتها أقل بنحو 20% من متوسط كثافة الكون ككل. وبحسب الدراسة، يؤدي وجودنا في مركز الفراغ إلى تدفق المادة خارجه نحو الخارج، وهذا يجعل سرعتنا النسبية (أي السرعة داخل الفقاعة مقارنة ببقية الكون) أكبر، فيعطي ذلك انطباعا بتوسع محلي أسرع، إلا أن السرعة في الأصل متطابقة بين الكون المبكر والمحلي. يوضح الدكتور إندرانيل بانيك، من جامعة بورتسموث في تصريح حصلت الجزيرة نت عليه نسخة منه: "أحد الحلول المحتملة لهذا التناقض (يقصد توتر هابل) هو أن مجرتنا قريبة من مركز فراغ محلي كبير". ويضيف: "سيؤدي ذلك إلى سحب المادة بفعل الجاذبية نحو الجزء الخارجي عالي الكثافة من الفراغ، وهذا يؤدي إلى أن يصبح الفراغ أكثر فراغا مع مرور الوقت، ومع هذا التوجه، ستكون سرعة الأجسام بعيدا عنا أكبر مما لو لم يكن الفراغ موجودا. وهذا يُعطي انطباعا بمعدل تمدد محلي أسرع". ويوضح بانيك أنه من تلك النقطة، فإن "توتر هابل ظاهرة محلية إلى حد كبير". أصداء الانفجار العظيم وجدت هذه الفرضية الجديدة دعما بسبب الاتفاق مع ما يسميه العلماء "التذبذبات الصوتية الباريونية"، ولفهمها تخيل الكون في لحظاته الأولى (قبل 13.8 مليار سنة) كـ"حساء ساخن وكثيف" مليء بالجسيمات دون الذرية، بما في ذلك فوتونات الضوء. في ذلك الوقت، كانت هناك موجات صوتية تنتشر عبر هذا الخليط بسبب التفاعلات بين المادة والضوء، مثل التموجات في بركة ماء. وبعد حوالي 380 ألف سنة من الانفجار العظيم، برد الكون بما يكفي لكي يطلق الضوء بحرية (وهو ما نراه اليوم كالخلفية الإشعاعية الكونية)، وعند هذه اللحظة، توقفت هذه الموجات الصوتية، لكن "الأصداء" أو الآثار المتبقية لهذه التموجات بقيت محفوظة في توزيع المجرات. ويستخدم العلماء هذه الأصداء الكونية لمقارنة المسافة بين المجرات لأنها تترك ما يشبه البصمة في العلاقة بين المسافة وما يسمى بالانزياح الأحمر، لكن إذا كنا داخل فراغ كوني ضخم، فإن ذلك يجعل بيانات لتذبذبات الصوتية الباريونية "منحنية" قليلا مقارنة بالتوقعات العادية. وبحسب الدراسة، فإن هذا الانحناء في البيانات قد لوحظ بالفعل في دراسات الكون المحلي، وبدراسة قياسات لتذبذبات الصوتية الباريونية المتاحة على مدار الـ20 عاما الماضية، أظهر الفريق البحثي أن نموذج الفقاعة أكثر احتمالا بحوالي 100 مليون مرة من نموذج اللافقاعة. كارثة علم الكونيات توتر هابل هو كارثة علم الكونيات الحالية، لأن ثابت هابل يسري حكمه على كل ما هو كوني، فهو يحدد المعدل الذي يتوسع من خلاله الكون، وبالتالي يرشدنا إلى معرفة عمره، ويرسم الجدول الزمني لتتالي الأحداث فيه وصولا إلى حجمه الحالي والمستقبلي. كما أنه يساعد العلماء على تقدير المسافات إلى الأجرام الأخرى في جميع أنحاء الكون. إلى جانب ذلك، فإن قيمة ثابت هابل تساعد العلماء على فهم خصائص الطاقة المظلمة والمادة المظلمة، وهما مكونان غامضان يمثلان 95% من تركيب هذا الكون، لا يعرف العلماء عنهما إلا أقل القليل. والخلل في ذلك معضلة، حيث أدى إلى انقسام في المجتمع العلمي بين مَن يرى أن المشكلة في البيانات أو الإحصاءات أو الأساليب المستخدمة لقياس الثابت، وبين مَن يعتقد أن الخلل امتد إلى النظرية نفسها أو قُل النموذج والأساس النظري الذي تعتمد عليه تلك القياسات أو حتّى فيزياء الكونيات من الأساس، التي تبني نفسها على نتائج النظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين. ويعد "بافيل كوروبا"، الأستاذ بمعهد هيلمهولتز للإشعاع والفيزياء النووية بجامعة بون الألمانية، واحدا من أولئك الذين يعتقدون أن الخلل يكمن في الأساس النظري، وبالتالي هو أحد العلماء الذين يكرسون أنفسهم لحلٍّ لهذه الكارثة، عبر وضع نظرية بديلة. وأوضح كوروبا في تصريحات للجزيرة نت أنه "يمكن تفسير توتر هابل عبر دراسة اختلاف كثافة المجرات، فمجرتنا توجد في منطقة من الكون ذات كثافة مجرية منخفضة نسبيا". وتأتي فكرة كوروبا التفسيرية هذه في إطار دراسة نشرها في 2023 بصحبة فريق من الباحثين في دورية "مونثلي نوتيس" التابعة للجمعية الفلكية الملكية، وتشير الورقة إلى أننا نسكن داخل فقاعة كونية هائلة، بما يتفق مع افتراض الدراسة الأخيرة. تحديات ليست بالسهلة الفرضية الجديدة التي تعتمد عليها الدراسة الجديدة تواجه لا شك تحديات كبيرة، فهي تتعارض مع مبدأ أساسي في النموذج القياسي لعلم الكونيات، أو اختصارا "لامدا سي دي إم". ويفترض هذا النموذج أن الكون أشبه ما يكون بحساء متجانس، موزع بشكل متساو ومتشابه في كل الاتجاهات إذا نظرنا له على مقاييس ضخمة جدا (مليارات السنين الضوئية)، بمعنى أنه لا يوجد مكان "خاص" أو منطقة فارغة تماما وأخرى ممتلئة جدا. وبالتالي، لو كان هناك فراغ ضخم جدا حولنا، فهذا يعني أن الكون غير متجانس على مقياس كبير، ومن ثم فإذا صحت الفرضية الجديدة، فإن العلماء بالتبعية سيكونون بحاجة لإعادة النظر في أسس علم الكونيات، التي بنيت عليها النظريات المعاصرة، وهذا ما يؤكد علماء مثل كوروبا ضرورة حدوثه.